في الواجهةمقالات قانونية

نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي – بين رؤية التخلي والفهم الخاطئ للمضمون- “دراسة تحليلية نقدية في ضوء التعديل الأخير10 فبراير 2016”

 

نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي – بين رؤية التخلي والفهم الخاطئ للمضمون-

“دراسة تحليلية نقدية في ضوء التعديل الأخير10 فبراير 2016”

 

 

 

من إعداد: عبد الله لمعقول

طالب باحث في ماستر القانون المدني المعمق بأكادير

 

 

 

مقدمة:

كانت نظرية السبب تتميز حتى عقد قريب بأنها نظرية صعبة ومعقدة وأن الغموض يكتنفها، الأمر الذي أدى إلى اختلاف الرأي فيها اختلافا كبيرا بين مؤيد لها ومدافع عنها، وبين ناقد لها داع إلى هدمها من أساسها لعدم الفائدة منها[1].

ولقد ظهرت هذه النظرية نتيجة ظهور مبدأ الرضائية واستقراره في ميدان العقود، ما جعل الأصوات تنادي بضرورة وضع قيد يحد من هذه الرضائية حتى لا تؤدي إلى الإضرار بالآخرين.

وتم الاعتراف بفكرة أساسية مفادها أن الإرادة العقدية لا تتحقق بصيغتها الصحيحة إلا إذا استندت على سبب مشروع.

وكان السبب في تلك المرحلة يرتكز على الطابع الشخصي أي الباعث الدافع إلى التعاقد، الشيء الذي يقتضي لزوما أن يكون هذا الباعث مشروعا حتى يتأتى له احترام المبادئ الأخلاقية، وإلا سيبطل الالتزام ويبطل معه العقد المنشئ له.

لكن سرعان ما تم التراجع عن هذه النظرية الأخلاقية بحجة كونها ضرب من ضروب استقرار المعاملات وأن المنطق القانوني يقتضي بناءها على أساس موضوعي وليس على أمور نفسية خفية تكاد إرادة المتعاقدين  تكون معيبة نتيجة جهلهم للبواعث المؤدية إلى التعاقد.

الشيء الذي أدى بالفقيه “دوما” في القرن 17 إلى صياغة نظرية السبب على أساس جديد يستند إلى مفهوم موضوعي، ثم بعده الفقيه “بوتييه” متبنيا نفس آراءه، فالسبب عندهم يرتكز على الهدف المباشر الذي يسعى الملتزم في تعاقده الوصول إليه، فتسلم البائع لثمن الشيء المبيع هو سبب نقله للملكية إلى المشتري، وتملك المبيع هو سبب التزام المشتري بدفع الثمن وهكذا.

وبعد أن أخذت هذه النظرية مكانة واسعة في التقنين المدني الفرنسي من حيز النظريات الفقهية إلى حيز التشريع، بدأ يتكون في الفقه القانوني إحساس عميق بأنها نظرية خيالية استعمرت الفكر القانوني زمنا طويلا بطريقة التقليد وبقوة الاستمرار، فقام فريق من الفقهاء نخص بالذكر منهم “بلانيول” يهاجمون هذه النظرية وينتقدونها ووصلوا في ذلك إلى حد فكرة السبب من أساسها، بينما قاموا آخرين يتزعمهم “كابتان” يدافعون عن فكرة السبب[2].

إلا أن تم الأخذ في المواد 1131 و 1132 و 1133 من مدونة نابليون سنة 1804 بكلا المفهومين للسبب، الأول السبب المباشر والثاني السبب الدافع إلى التعاقد.

أما بالنسبة للقضاء الفرنسي فإن رأيه في نظرية السبب لم يخرج عن مقتضيات المذكورة أعلاه،  ويعتبر أن السبب الوارد في نصوص المواد من 1131 إلى 1133 من القانون المدني الفرنسي لا يفسر فيها السبب تفسيرا ضيقا في حدود السبب الموضوعي بل تشمل أيضا الباعث الشخصي أو الدافع الذاتي الذي يؤدي بالمتعاقد إلى تحمل الالتزام.

إلا أن الأمر لم يعد كما كان من قبل، إذ أصبحت المعاملات التجارية والتي غالبا ما تتم بواسطة وسائل الكترونية تفرض نفسها في بداية القرن العشرين، الشيء الذي تطلب من المشرع الفرنسي إعادة النظر في القواعد العامة المنظمة لها حتى تتماشى مع مبادئ أخرى تسعى وراء المبادرة الحرة في ميدان المبادلات التجارية.

وبعد صمود طويل زاد عن قرنين من الزمن أحدث تعديل للقانون المدني الفرنسي بتاريخ 10 فبراير 2016 والذي كانت له رؤية أخرى ومغايرة للمبادئ المتحكمة في إبرام التصرفات القانونية أبرزها السبب كركن كان فعال في مدونة نابليون لسنة 1804، الشيء الذي قيل معه من طرف بعض الفقه أن المشرع الفرنسي تخلى عن الركن واكتفى بالمحل أو ما سمي بمضمون العقد وذلك استنادا إلى المادة 1128.

كل هذا يؤدي بنا إلى طرح إشكالية مفادها:

  • هل فعلا تخلى المشرع الفرنسي عن نظرية السبب في التعديل الأخير للقانون المدني الذي تم بتاريخ 10 فبراير 2016 أم أن الأمر لا يعدوا أن يكون أزمة فهم لمضمون المادة 1128 من القانون المشار إليه أعلاه؟

وقسمت إجابتي للإشكالية المطروحة أعلاه إلى محورين:

المحور الأول: موقع نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي بعد تعديل 10 فبراير 2016

المحور الثاني: دور القضاء في مراقبة وجود السبب في ظل تعديل القانون المدني الفرنسي سنة 2016

 

 

المحور الأول: موقع نظرية السبب في القانون المدني الفرنسي بعد تعديل 10 فبراير 2016

إن إلغاء نظرية السبب في تعديل القانون المدني الفرنسي لسنة 2016 حسب رأي بعض الفقه جاء في وقته، فقد كانت وظيفتها غير واضحة تماما، بالإضافة إلى تداخلها مع مبادئ أخرى في العقد مثل الغلط، وكذلك غياب هذا الركن في مبادئ قانون العقود الأوربي pecl)) ومسودة الإطار المرجعي للشريعة العامة غير المقننة، وأصبحت بذلك فكرة إلغاء السبب هو المظهر الأكثر ثورية في ضمن الإصلاحات التي قام بها المشرع الفرنسي في التعديل الأخير[3].

وتظهر أهمية السبب كركن من أركان الالتزام في خلق التوازن بين الأداءات المقابلة عند إبرام العقد وإعادة هذا التوازن في حالة الإخلال به عند تنفيذ العقد، إذن فالسبب يتمحور في العقد منذ تكوينه إلى مرحلة تنفيذه، بل قد يتعدى دوره لهذه المراحل إلى ما بعد التنفيذ كما هو الحال بالنسبة للتعويض عند إخلال أحد المتعاقدين بالتزامه، فالسبب الذي يبرر المطالبة به يكمن في وقوع الإختلال بين أداءات الطرفين.

إذن كيف للمشرع الفرنسي التخلي عن السبب كركن من أركان انعقاد العقد، في الوقت الذي يشكل فيه أهمية كبيرة في ذات العقد، يدور معه وجودا وينتفي عند عدميته، أم أن الأمر لا يعدوا أن يكون أزمة فهم لمضمون التعديل؟

الواضح أن المشرع الفرنسي فقط تم إعادة النظر في استخدام وظيفة السبب في العقد ولم يتم إلغاءه بشكل كلي، وهذا التغيير كان له ما يبرره، مادام أنه قبل التعديل لسنة 2016 كان للسبب مفهومين، الأول أن يكون حقيقيا، والثاني أن يكون مشروعا، الشيء الذي أدى إلى ظهور مفهومين حتى على مستوى التطبيق[4].

وبالتالي عند النظر في المعنى الأول ( أن يكون السبب حقيقيا ) يتضح أن السبب هنا ذات طابع موضوعي يلتزم به الطرفين معا، فسبب تسليم زيد لعمر ملكية الشيء المبيع هو السبب الذي يبرر أداء عمر للثمن، أما عند النظر في المغزى الثاني من السبب ( والمتعلق بمشروعيته)  فالأمر ينصرف إلى الطابع الشخصي أو الدافع إلى التعاقد فالغرض من شراء السيارة مثلا هو نقل البضائع.

ونفس المقتضى تماشى معه الفصل 1169[5] من القانون المدني الفرنسي المعدل سنة 2016 عندما نص على أن العقد بعوض يكون باطلا عندما يكون المقابل المتفق عليه في العقد وهميا أو زهيدا[6].

وهنا يتضح أن السبب وفق المنظور الشخصي يخص فقط أحد أطراف العلاقة التعاقدية دون الطرف الأخر،فعقد الكراء مثلا عندما ننظر إليه في اتجاه المكري يبقى دائما موضوعيا دون أن يكون شخصيا فالغرض من تعاقده هو تسلم أجرة السكن لا غير، لكن عندما ننظر إليه من طرف المكتري نجده يتغير من طابع موضوعي عندما يكون غرضه من العقد هو الانتفاع بالعين المكتراه على وجه المشروعية ويتحول إلى مفهوم شخصي إذا صار ذلك الانتفاع مجرد سبب صوري وراءه دافع غير مشروع، وهذا مايبطل العقد حسب الفصل 1169 من القانون المشار إليه أعلاه.

وتجدر الإشارة هنا أن تقدير وجود المقابل أو السبب يتعين أن يتم وقت إبرام العقد بكيفية مستقلة عن تنفيذ الالتزام من عدمه المضمن بالعقد[7].

وهنا تظهر أهمية السلطة الرقابية للقاضي عند تقديره للسبب من الناحية الموضوعية حيث أن وقت إبرام العقد هو الذي يحدد مصلحة الأطراف منه، وبالتالي إذا تحقق السبب عند إبرام العقد وتخلف عند تنفيذه فلا يمكن للقاضي تفسير مرحلة انتفاء السبب في التنفيذ بناء على وقائع سابقة تمتد إلى وقت إبرام العقد ، والعلة في ذلك أن استناده بناء على وقت إبرام العقد يكون مصيره البطلان، أما إذا تخلف السبب في مرحلة التنفيذ فقد يكون المجال مفتوحا لتعديله.

ولا شك أن التداخل بين الالتزامات المتبادلة للطرفين هاما يجعل فكرة السبب من الناحية الموضوعية أو المقابل يتجاوز نطاقه مرحلة إبرام العقد إلى مرحلة تنفيذه، وبالتالي إذا تم فسخ العقد بالنظر إلى تعذر تنفيذه، ولنفترض أن الفسخ كان نتيجة تخلف محل الالتزام أحد الأطراف فإن سبب التزام كذلك يتعلق أيضا بكون التزامات الطرفين متقابلة[8].

وفي ظل الرقابة القضائية دائما نتساءل عن تدخله في السبب، هل تقتصر هذه الرقابة فقط عندما يكون سببه وهميا و زهيدا، أو أن للقضاء الفرنسي حرية تامة في التدخل بغض النظر عن قيمة السبب في العقد؟

المحور الثاني: دور القضاء في مراقبة وجود السبب في ظل تعديل القانون المدني الفرنسي سنة 2016

الأصل في القانون المدني الفرنسي أن دور القاضي ينحصر في مراقبة وجود السبب بغض النظر عن قيمته وهذا ما نص عليه الفصل 1168[9] من القانون المدني الفرنسي لسنة 2016، حيث أشار إلى أن في العقود التبادلية لا يعد انعدام التوازن بين الأداءات سببا لإبطال العقد إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك[10].

وبالتالي فإن مهمة القاضي تنحصر في حالة غياب السبب بكيفية كلية، ويكون الجزاء وفق هذه الحالة هو البطلان.

أما إذا كان جزئيا فلا يمكن تصور تدخل القاضي الموضوع ما لم يقترن اختلال التوازن بين ما يعطيه المتعاقد وما يحصل عليه نتيجة للعقد بسبب أخر يعطي الحق في المطالبة بإبطال العقد كما هو الحال في التدليس الذي ينصب على العناصر الأساسية للعقد ولا شك أن الحل الذي كرسه القضاء الفرنسي في ظل القانون المدني الفرنسي لم يتراجع عنه بعد تعديله سنة 2016، إذ متى كان العقد ناتجا عن رضا الطرفين دون أن يشوبه أي عيب من عيوب الرضى، فإنه يفترض أنه عادل من جهة، وخاضع لتقدير الطرفين من جهة أخرى وتبعا لذلك لا يمكن للقاضي أن يستبدل ذلك التقدير الذي رضي به كل طرف بتقديره الذاتي، إذ يبقى العقد مسألة متعلقة بالطرفين في الحدود الذي يصدر كل منهما أنها كفيلة بتحقيق مصلحته[11].

ويمكن في هذا الصدد الانتهاء بخلاصة مفادها أن رقابة قاضي الموضوع حسب الفصل 1168 من القانون المدني الفرنسي المعدل سنة 2016 تنحصر في السبب عندما يكون وهميا أو زهيدا ينزل منزلة العدم، وتكتف يداه عندما يكون السبب حقيقيا ومعقولا بغض النظر عن قيمته.

 

 

 

خاتمة:

وأخيرا يمكن الخروج في هذا المقال المتواضع بخلاصة مفادها أن فكرة تخلي المشرع الفرنسي في تعديله الأخير لسنة 2016 عن نظرية السبب لا يعدوا أن يكون فهما خاطئا لمضمون العقد ومحتواه، فالسبب يمثل العقد في كل مراحله إبتداء من وقت إبرامه إلى وقت تنفيذه، فلا يتصور وجود العقد بصيغة حقيقية ومشروعة في ظل تخلف السبب المنشئ له والمبرر كذلك لتنفيذه.

أما بالنسبة لتدخل قضاء الموضوع في السبب المبرر لصحة العقد فلا يتصور إلا إذا كان هذا السبب وفق الفصل 1168 من القانون المدني الفرنسي وهميا وزهيدا بغض النظر عن قيمته.

[1]  مأمون الكزبري،نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي، المجلد الأول مصادر الالتزامات،ص 166 .

[2]  المرجع نفسه، ص 167.

[3]  جان سمنس و كارو لاين كالوم، ترجمة نبيل مهدي زوين، الإصلاحات المدخلة على نظرية الالتزام في القانون المدني الفرنسي، مركز جيل البحث العلمي، مجلة جيل الأبحاث القانونية المعمقة، العدد 20 ديسمبر 2017، ص 122.

[4]  أحمد الدراري، مصادر الالتزام، دراسات في قانون الالتزامات والعقود المغربي والقانون المدني الفرنسي المعدل سنة 2016 ، الجزء الأول،ص 208.

[5] L’ article 1169 du code civil français ( ordonnance n 2016-131 du 10 fevrier2016) dispose que :

« Un contrat a titre onéreux est nul lorsque, au moment de sa formation , la contrepartie convenue au profit de celui que s’ engage est illusoire ou dérisoire »

[6]  أحمد الدراري، م س، ص 209.

[7]  المرجع نفسه، ص 210.

[8]  المرجع نفسه ص 226.

[9] L’ article 1168 du code civil français ( ordonnance n 2016-131 du 10 fevrier2016) .

[10]  أحمد الدراري ، م س، ص213 .

[11]  أحمد الدراري، م س، ص 214.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى