في الواجهةمقالات قانونية

الموازنة بين حماية صحة المعتقل وضمان المحاكمة العادلة في ظل التقاضي عن بعد.

 

الموازنة بين حماية صحة المعتقل وضمان المحاكمة العادلة في ظل التقاضي عن بعد.

من إعداد: أسماء أولحوس.

طالبة باحثة في القانون الخاص.

 

 

مــــقــدمــــة:

 

كـما هـو مـعلـوم ، صـحـة الـنـظـام الـقـضـائـي الجـنـائي في بلد ما مرتبطة بـمدى تحقـيق المحاكمة العادلة والمنصفة للمتقاضي ، محـاكمة تـؤدي لا محالة إلى إلحـاق الحـقوق بأصحابـها وتمكين المـظـلوم من اقـتضاء حـقه.

موضـوع المحاكمة العادلة حضي باهتمام مختلف الفعاليات الدولية ، المهتمة بحقـوق الإنسان ، وهذا ما كرستـه مختـلف المواثـيق الدولية من ذلك الإعلان العالمي لحقـوق الإنـسـان الـمؤرخ في سـنـة 1948 والـعهديـن الـدولـييـن للحقوق المـدنية والسـياسية والاقتصادية والاجتماعية لسنة 1966. إذ كرس الدستـور الذي يعد أسمـى قانون فـي البلاد ركائز المحاكمة العادلة ، لاسيما في الفصل 120 منه حيث نص على أنه: “لكل شخص الحق في محـاكمة عـادلـة وفي حكم يصدر داخل أجـل معقـول حقوق الـدفـاع مضـمونـة أمـام جميع الـمحاكـم”

فباستقراء مـضمون هـذا الفـصل يتـضح بـشكل جلـي أن المحاكمة العادلة مضمونة.

لذلك المحاكمة المنطقية، هي المستوفية لجمـيـع الشروط والـقواعد المسطرية، والتي أحاط المشرع الإجرائي اختـلالها بـجزاءات مختلـفة، منها البطلان والإبـطال. لـكـن وفـي ظـل الوضعيـة الاستثنائيـة التي تعيشها بلادنا الحبيبة المتمثلة في تفشي جائحة كورونا (كـوفـيد 19) التـي هـبت بـأرواح الـعديد من المواطـنين، وبعد تعليق انعقـاد الجلسات بمختلف محاكم المملكة ابتداء من يوم الاثنين 16 مارس 2020 إلى إشعار آخر، باستثناء الجلسات المتعلقة بالبت في قضـايا المعتقـلين، والـقضايا الإستعجالـية وقضاء التحقيق. نستنبط أنه تم تبني المحاكمة الزجرية عن بعد، من منطلق الحرص على ضمان الأمن الصحي داخل المحاكم، مما يضعنا أمام سؤال رئيسي مفاده: مدى إمكانية التوفـيق بين حمـاية صحة المعتقـلين وتوفـير المحاكمة العادلة؟

يتفرع عن هذا السؤال جزئيات عدة:

– ما ضمانات المحاكمة العادلة الواجب توفرها لتنعت بصفتها تلك؟

– ما المحاكمة عن بعد؟ وهل تقتصر على تجهيز الملفات أم تشمل إجراءات كل أطوار المحاكمة؟

– ما السند القانوني لاعتماد الوسائل الإلكترونية؟ وهل لهذه الوسائل من النجاعة ما يكفي لتحقيق المبتغى؟

– هل زمان الجائحة يعد مبررا لاعتماد هذه الآلية؟

– هل هذه التدابير تتماشى ومبادئ حقوق الإنسان وما كرسته المواثيق والاتفاقات الدولية؟

– كيف ينبني اقتناع الصميم الوجداني لهيئة الحكم في ظل محاكمة عن بعد؟

– هل هذه المحاكمة ملزمة للمعتقل؟

– حياة المعتقل ومبدأ الحضورية من الأجدر بالحماية؟

كـل هـذا وذاك سنـحاول تـنـاوله بنـوع من الـتفصـيل بالاعـتمـاد على واقع الحـال وعــلـى الشرعية الـجنـائـية بالأسـاس، إضافة إلى الاستئناس ببعض آراء المهتمين بالشأن الحقوقي لاسيما المهنيين منهم وذلك عبر التصميم الآتي:

 

المطلب الأول: ضمانات المحاكمة العادلة المقررة قانونا.

المطلب الثاني: حماية حق المعتقل في الحياة والسلامة البدنية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الأول:ضمانات المحاكمة العادلة المحددة قانونا.

يكـتسـي مـوضوع الـمحاكمة الـعادلـة أهمـية بالـغة من لـدن الـمهنـيين والمـمارسيـن والباحثين في الشأن القانوني، المحاكمة التي من شـأنها أن تحفـظ حـقوق المشتبه فيه أو المتهم ،وتضمن له قرارا عادلا ومـنـصفا، وإجـراءات قانونية ومسطرية من قبيل عدم تعرضـه للمـعامـلات القـاسيـة، كالضرب، أو الجرح، بغية الاعتراف بالمنسوب إليه. لدى كانت الـمحاكمة الـزجرية ولا زالـت محـطة اهتمـام شـديد من قبل مختلف المواثيـق الدوليـة، ناهـيك عن الدسـتور المغربـي الجديـد الـذي تنـاول الموضوع قيد التحليل فـي مجموعة من الفصول كما سنرى في –الفقرة الأولى- على أن نعرج في – فقرة ثانـية- علـى مدى انكـباب الـتشريع الجنـائي المسطـري حول هذا المحور.

الفقرة الأولى: دور القانون الدستوري في تحقيق المحاكمة العادلة.

المغرب كغـيره من الـدول يسـعى نحو بناء مجتمع تصان فيه الحقوق والحريات من مخـتلـف الجوانـب، ومنظومـة العـدالـة جزء لا يـتجزأ من هذه الجوانـب، وباعـتبـار الدسـتور أسـمى وثـيـقة في البلاد، ولـكون دستورية الـقواعد الـقانـونية مـن الـمبادئ الموجبة قانونا، عمد دستور المملكة على دراسة الموضوع قيد التحليل في أكـثر من مناسبة، لذلك سنعرج على الفصول التي تنـاولت المـوضوع فـي الدسـتور المغربي، عـلى أن نطـرح بيـن الفـيـنة والأخـرى تسـاؤلات قصد الإجابة عنهـا في القادم من الصـفحـات.

باستقرائـنا للـفصل 23 لاسـيما الفقرة الثالثة منه نجده ينص على إقرار الدفاع، وذلك بقوله: “يجب إخبار كل شخـص تـم اعتقاله على الفور بكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقـه ومن بينـها حقه في التزام الصمت، وكذلك الاستفادة في أقرب وقت ممكن من مسـاعدة قانونية، ومن الاتصال بأقـربائه طـقا للقانون”. من الواضح إذا أن الحق في الدفاع والاتصال بمحام مكفـول لكـل من ألقـي عليه القبض، من طرف الضابطة القضائيـة، أو بالأحرى حتى ندقـق، لكل مشـتبه يشتبه في تـورطه أو ارتكـابه لـفعل جرمي معين، أو متهم أصدر في حقه قرار بالمتابعة من لدن النيابة العامة، حقه هذا يمنحه الاتصـال بدفاعه قصد الاستمـاع إليه، لكي يـحيطه علما بكل خبايـا القضيـة ، هذا الأمر يقـتضي لا محالة اجتماع المتهم بدفاعه في مجلس واحد،  في قاعة واحدة بغية التخابـر والتواجه وحفظ السر المهني. الإشكال المطروح هنا وفي ظـل اعتمـاد اليـوم تـدبير المحـاكمة الزجـرية عن بـعد من خلال التقنيـات الحديثة، هـل سيـتمكن المتهم من التمتع بحقه في التخابر مع دفـاعه عن بـعد؟

كذلك نشير إلـى مقتضيـات الفصـل 120 من الدستور دائما الذي نص على مقتضى في غاية الأهميـة بخصـوص المحاكمـة الجـنائيـة العـادلة حيث يقـول الفـصل: “لـكل شخـص الحـق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخـل أجـل معقول حقوق الدفاع مضمونة أمام جميـع المحاكـم”

بالتمعن في مضمون الفصل أعلاه يتضح جليا أن المشرع المغربي كرس ضـمانات المـحاكمـة العادلـة التـي نـدرج ضمنـها حق المتهـم في تمكـينـه مـن ترجمـان، متـى استعصى عليه فهم اللغة العربية، كـذلك حـقـه فـي طـلب إحضـار الشهود ومناقشتهم بنفـسه أو عن طريـق دفـاعـه، عـلاوة على حـقه في المحاكمة دون تأخـير في آجـال معقولة تضمـن لـه الحـق فـي الطعـن، لاسيمـا أن الأمر يرتبط بالحرية التي لا يقاس علـيـهـا.

وتطبيق جل هذه الضمانات راجعة في آخر المطاف إلى المؤسسة القضائية التي تعد الـجهة الموكول لها إلحاق الـحقوق لأصحابها، والـسؤال الذي يـطرح نفسـه فـي هـذا المـضمـار هـو كيـف سيتـأتـى للـمعـتقـل طـلب إحضـار الشـهود فـي ظـل الأوضـاع الاستـثنـائية التي تعيشها بـلادنا؟ هل للمـحاكمة عن بـعد تـأثير عـلى الآجال المعقولة المنـصوص عنهـا دستـورا؟

الفقرة الثانية: دور التشريع الجنائي المسطري في ضمان المحاكمة العادلة.

أولى قانون المسطرة الجنائية اهتماما خاصا بموضوع المحاكمة العـادلة لمـا لـه مـن آثار على المعتقل وعلى حسن سير العدالة.

بالرجوع إلى الديباجة نجد بعد سرد الـمشرع الجنائي لعنـاوين الكتب الثـمانيـة، عـمد إلـى إقرار مـدى اهـتـمام هذا القـانون وحرصه على تطبيق المحاكمة العادلة، بتوفير ظـروفها التي تنبثق من مبادئ عدة أهمها:

– أن تكون المسطرة الجنائية منصفة وحضورية، وحافظة لتوازن حقوق الأطراف.

– أن يتمتع كل شخص بالحق في العلم بجميع أدلة الإثبات القائمة ضـده، ومناقشتهـــا وأن يكون له الحق في مؤازرة محام.

– أن يقع البت في التهم المنسوبة إلى الشخص داخل أجل معقول.

– ضرورة استعانة ضابط الشرطة القضائية بمترجم إذا كان المسـتمع إليـه يتحـــدث لغة لا يحسنها الضابط.

– تمكين الدفاع من المطالبة بإجراء فحص طبي على موكله.

 

وبالتمعن أكثر في مواد قانون المسطرة الجنائية، يـلاحـظ أنـه أتـى بمستـجدات هامـة الهدف منها توفير ظروف مثـلى للمحاكـمة العادلة، وتدعيم مبادئ حقوق الإنسان في المحاكمة الزجـرية، وحماية حقوق الأفراد متهمين كانوا أم ضحايا أم شهود.

باستـقرائـنـا للمـادة 134 مـن قانون المسطـرة الجنائـية الـتي تـقول: “يطلـب قاضـي التحقيق من المتهم بمجرد مثوله الأول أمامه، بيان اسمه العائلي والشخصي ونسبــه وتاريخ ومكان ولادته وحالته العائلية ومهنته ومكان إقامته وسوابقه القضائية. ولـــه عند الاقتضاء، أن يأمر بكل التحريات للتحقق من هوية المتهم بما في ذلــك عـرضه على مصلحة التشخيص القضائي أو إخضاعه للفحص الطبي. يشعر القاضي المتهـم فـورا بحقـه في اختيـار محـام، فـإن لـم يستعـمل حقــه في الاختيار، عـين لـه قاضي الـتحقيـق بـناء على طلبه محاميـا لـيؤازره، ويـنـص على ذلـك فـي مـحـضر، يـحـق للمحامي أن يحـضر الاستنطـاق المتعلق بالتحقيق في هوية المتهم…”

يتضـح إذن أن الـمتهم بمجرد مثـوله أمام قاضي التحقيق حسب الأحوال المحددة في المادة 56 إلـزاميا كـان التحقـيق أو اختيـاريا، يتحقـق من هويتـه ويـشعره بحقـه فـي اختيـار محـام، مـع إمكانـية حضـوره لجلسـة الاستنطـاق، هـذا الإجـراء يعد من بين ضـمانات المحـاكمة العادلـة. لكن هل ظـل له تفعيل في الوضع الراهن أمام الجائحة التي تشهدها بلادنا بل العالم بأسـره؟

كذلـك نعرج على المـادة 117 التـي تتحدث عن الاستـماع إلى الـشهود، ونـحن نعلم أهمية هذا الإجراء في تغيير مجرى الأحداث. تـنص هـذه المـادة عـلى أنـه: “يـوجه قاضي التحقيق بواسطة أحد أعوان الـقوة العمومـية استدعاء لأي شخص يرى فائدة لسماع شهادته، قصد الحـضور أمامـه…” فكيف يمكن تفعيل الإجراءات المنصوص عنها في المواد من 117 إلى 133 في واقع الحال؟ لاسيما والخـطورة تتعـلق بحيـاة الشهود كذلك.

لابد من التذكير، ونحن بصدد الحديث عـن مؤسسـة التحقـيق المرحلـة التـي تكتسـي جانبا من الأهمـية، والتـي تتوسـط مرحلـة البحث التمهيدي والمحاكمة، بالمادة 137 التـي تتحـدث عن الاستماع للطرف المـدني، مع الاستـعانة بمحام. إضافة إلى المادة 120 التي تنص على ضرورة إحضار ترجمان للشـهـود. والـمادة 318 التـي تشيـر إلى ضرورة إحضار المتهم وترجمة اللغة له متى استعصى عليه فهمها. كذلك المادة 311 التي تنص على الحضور الشخصي للمتهم أثناء أطوار المحاكمة.

ولا ننسى الحق في محاكمة علنية بتمكين الجمـيع مـن حـضور جلسـات المحاكـمة ، وسماع ما يدور فيها من نقاشات ومرافعات. ومن أجل تـزكية هـذه الضمانـات كـان لزامـا أن تـتم إجـراءات المـحاكمة بشكـل شفـوي، تمكـن المتـهم من الإلمام بالأدلـة الـمـقدمة ضده، وهذا ما يستنبط من صريح المادة 300 من قانون المسطرة الجنائية.

السؤال الذي يطرح نفسه، والذي يقودنا إلى المطلـب المـوالي، هـو مـا مـدى الإبقـاء على الضمانات المومأ إليها أعلاه في ظل المحاكمة عن بعد لاسيما مبدأ التواجهـية والعلنية والحضورية؟

 

 

المطلب الثاني: حماية حق المعتقل في الحياة والسلامـة البدنية.

تشهد بلادنا الحبيبة أوضاعا استثنائية، متمثلة في تفشي جائحة كورونا (كوفيد-19) التي أضحت آفة كونية خطيرة، أودت بأرواح الآلاف من الأشخاص في العالم،  إذ صاحبتها عدة قرارات كتعليق الدراسة،  واعتماد الدراسة عن بعد كبديل،  وتعليــق العمل داخل المحاكم،  وهذا الإجراء الأخير هو محـط الدراسـة والتحـليل. إذ كــثـر الحديث عن هذا الموضوع في الآونة الأخيرة،  لدى سنتحـدث في –الفقـرة الأولى- عن مدى شرعية هذا التدبير الاستثنائي،  على أن نخصص –الفقرة الثانية- للحديث عن مدى نجاعة هذا الإجراء على مستوى الواقـع.

الفقرة الأولى: الشرعية الإجرائية لتدبير المحاكمة الزجرية عن بعد.

إن مـبـدأ الشرعـية الإجرائيـة معنـاه أن يكون التشـريع مصدر الإجراءات الجنائية،  تشريعا دستوريا كان أم عاديا،  لأن الإجراءات الجنائية تنطوي في جانب كبير منها على قدر من القهر إزاء المتهم،  كما تتضـمن مسـاسا قويـا بحـرية وحقـوق الأفراد،  لهذا فكل إجراء يجـب أن يستـند عـلى مرجـعية تخول له الشرعية.

تدبير المحاكمة عن بعد يجد سنده القانوني في قانون حالة الطوارئ: (المرسوم رقم 2.20.292 الصادر في 28 من رجب 1441 الموافق ل23 مارس 2020) ونخص بالـذكر المـادة الثالثـة منـه التي تقول: “عـلى الـرغم مـن جـميـع الأحـكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة خلال فترة إعلان حالة الطوارئ باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة،  وذلك بموجب مراسيم وقرارات تنظيمية أو إدارية،  أو بواسطة مناشير وبلاغات، مـن أجل التدخل الفـوري والعاجل للحيلولة دون تفاقـم الحالـة الوبائيـة للـمرض،  وتـعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية الأشخـاص وضمـان سلامتهـم. لا تـحول الـتدابـير المـتخذة الـمذكـورة دون ضـمـان استمراريـة المرافـق العموميـة الحيوية،  وتأمين الخدمات التي تقدمها للـمرتـفـقـين”

بالتمعن في المادة أعلاه نجد أن المشرع استهل نصه بعبارة “على الرغم من جميـع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل” ارتباطا بالتقاضي عن بعـد،  أهـذا يـعنـي أن اعتمـاد المحـاكـمة عـن بعـد يـعطل جميـع الإجراءات الـواردة في قانـون المسطرة الجنائية ” لاسيما مبدأ الحضورية” أهذه المادة كافية لإقرار نظام المحاكمة عن بعد؟

كـذلـك يمكـن الإشـارة بخـصوص الشرعية،  للفصل 20 من الدستور المغربي الذي تحدث عن الحق في الصحة والـذي يستنـبط ضمـنيا أنه أجدر بالحماية،  إضافة إلى مذكـرة التفـاهم الصـادرة عن وزارة العـدل بتـنسيـق مـع المجـلس الأعـلـى للـسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، بشأن تعليق انعقاد الجلسات بمختلف محاكم المملكـة ابتداء من يوم الاثنين 16 مارس 2020 إلى إشعار آخر باستثناء الجلسـات المتعـلقـة بالبت في قضايا المعتقلين وتـلـك المتعلـقـة بالبـت في القضايـا الإسـتعجـالية وقـضاء التحـقـيـق.

كذلك الشرعية تستمد من واقع الحال،  الذي يقتضي من الأفراد والمؤسسات تدبـيره بقرارات استثنائية. والضرورة أحيانا تبرر الخروج عن القواعـد العامـة،  المحاكـمة الآن تكتسي صبغة استـثنـائية، لـم يشهدهـا المغرب من قـبل،  ممـا يبرر اتخاذ بعض القرارات الـحاسمة لحماية الصحة العـامة،  كـون المصلحة العـامة أفـرزت لـنا هـذه الضرورة ، ودون أن ننسى في إطار موضوع الشرعية دائما، قرار المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج،  الـذي منـع نـقل السجنـاء والنزلاء والمعتـقلـين مـن المؤسسة السجنية إلى المحاكم،  والتنسيق مع السلطة القضائية المختصة بخصـوص عقد الجلسات عن بعد،  وذلك في إطار تعزيز الجهـود المبذولة للتحكـم في المصادر المحتملة لنقل عدوى الإصابة بفيروس كورونا إلى الوسط السجني، وأوضح البلاغ أن هذا القرار يأتي على ضوء المـستجدات التـي عرفتها بعض المؤسسات السجنية ونتائـج التحـالـيل المخـبـريـة، التـي أنجـزت مؤخرا، والتـي أظهرت إصابـة بعـض المعتـقـلين والموظفـين بهذا الوباء.

يطرح الـسؤال عـن مـدى كـفـاية المـادة المـشـار إلـيهـا أعـلاه مـن الـمـرسوم رقـم 2.20.292 المتعلق بـسن حالة الطوارئ الصحية ؟ كيف تتم هذه المحاكمة واقعيا ؟ المسطرة عبارة عن قواعد وإجراءات من النـظام العام كيـف ستـطبق فـي ظل هـذا التدبير؟

الفقرة الثانية: مدى نجاعة اعتماد المحاكمة الزجرية عن بعد.

المحاكمة الأصلية والكلاسيكيـة تقـتضـي الحفـاظ على مجمـوعة مـن المبادئ، أشرنا إليـها سابقـا كالتواجـهيـة والتخابر بين الدفاع والمتهم، الذي يستـوجب الحضـور في مجلس واحد وهـذا مـا يغـيـب فـي واقـع الحـال، أمـام انتـشـار هذه الجـائحة واعتمـاد التقاضي عـن بـعـد، ومسألة الحفاظ علـى السر المهنـي كيف تتحقـق ونـحن نعـلم أن المكالمات الهاتفية يمكن أن تكون موضوع تسـجـيـل وتسـريـب. نتحـدث كذلـك عـن أهـمـية التـواجـهـيـة التلقائـيـة بيـن القاضـي والمتهم التي تحتـاج إلى اقـتنـاع الصميم الوجداني للقاضي كما ورد في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية، لاسيـما فـي فقرتها الثانية التي تقول أن: “القاضي يحكم حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي” كذلك المادة 287 من نفس القانون التي تنص على أنه: “لا يمكن للـمحكمـة أن تبـنـي مقـررها إلا علـى حجـج عرضـت أثنـاء الجلسـة ونوقشت شفـهيـا وحضوريا أمامها”

إذا فـي واقـع الحال وفي ظل اعتماد التقـاضـي عـن بـعـد هـل تتـجسـد الحضـوريـة والشفوية، لاسيما إذا ارتأى الـقاضي مـشاركة بعض المستندات أو الوثائق المثبتة أو النافية للفعل الجرمي مع المتهم فكيف يتأتى له ذلك عن طريق التقنيات التكنولوجية؟

كذلك اقتناع القاضي يفرض حضور المتهم ومثوله أمام هيئة الحكم، لكـي يتأتـى لـه مراقبة تصرفاته، ملامحه، كيفية تعامله مع الأسئلة المطروحة، مدى تلقائية جوابه… طبيعة المعاملة لا تقبل البعـد، تـقبـل الـتواجهيـة، الاسـتمـاع بشكـل جيـد، الـمواجهـة،  الاستماع إلى الشهود، إلى الدفاع إلى النيابة العامة. فهل تتحقق هذه الإجراءات في ظل التقاضي عن بعد؟ ما مدى نجاعة الوسائل المعتمدة ؟ قد تجرى جلسات وينقطع صبيب الأنترنيت ونكون أمام تأخير القضية، أو في حالة رداءة الصورة أوالصوت. كل هـذا وذاك يعـد من بيـن الإشـكالات العمليـة التي وردت عـلى لسـان العديد مـن الممـارسين في المجال الحقوقي.

الواقع أن نجاح هذا التدبير الإستثنائي الذي فرضه واقع الحال رهين بمدى نجاعة الوسائل والمعدات الإلكترونية المـستنـد إليهـا، اليـوم أمـام هـذه الوضعـية القـاعـات فارغة، الجمهور لا يحق له الولـوج إلى المحكمة والمتهم حتى، نحن أمام عدو خفي غير ملموس غير مرئي، مما يفرض حماية الحق في السلامة البدنية وحياة المعتقلين وأسرة العادلة بالدرجة الأولى.

كذلك نشير إلى مسألة في غاية الأهمية،  أن المتهم أو المعتقل ودفاعه سيد نفسه، في إطار تبني المحاكمة عن بعد، فإذا تبين له أو لدفاعه أن حقوقه غير مضمونة فيمكنـه الاعتراض عن ذلك، وطلب التأخير إلى حين انتهاء حالـة الـطوارئ الصحـية، فـهـو بذلك غير خاضع لإجبارية التدبير، الأمر متوقف على قناعته ليس إلا.

 

 

 

فـي الحقـيقـة مـن ينـادي بعـدم اعـتماد المحاكمة عن بعد، يـضرب بـأبرز حقوق المتهم وهو الحق في التقاضي، فتدبير المحاكمة عن بعد لا يهدف إلى غصب حقوق المعتقلين، بل ضمان الحق في الصحة، الذي هو أولى بالتطبيق، لأن تواجد المعتقل في المؤسسة السجنية يجعله آمن، عوض إحضاره ماديا، ما يؤدي إلى خطر الإصابة.

كذلك حتى لا يقع نوع من اللبس، فإن المحاكمة الزجرية ليـست من تجليات رقمـنـة العدالة كما يعتقد البعض، لا يمكن الخلط بين التدبـير الاستثنـائي، الذي فرضته حالة الضـرورة، والـذي ينتهـي بـزوالهـا، وبيـن التدابيـر الإستراتيجية الهادفة إلى تطوير منـظومـة العدالـة التـي نـدى بـها صاحب الجلالة نصره الله، فـي الرسـالة الملـكيـة الموجهة إلى المشاركين في الدورة 2 للمؤتمـر الـدولي للعدالة بمراكش سنة 2019.

ما يمكن الخروج به في هذا المقال، أن الإشكال في نظرنا يكمن في كيفية تدبير هـذا النوع الجديد من المحاكمات، الشـيء الذي يـستوجب معـه اليوم وأكثـر من أي وقـت مضـى ضرورة التعجيـل بإصدار قانون ينظم التقاضي عن بعد.

 

 

انـتـهـــى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى