واقع المدينة المغربية وإشكالية انتشار وباء كوفيد- 19 “قراءة في دراسة المندوبية السامية للتخطيط”
عثمان تالمة
باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية
كلية العلوم القانونية، جامعة الحسن الأول – سطات
مختبر الأبحاث حول الإنتقال الديمقراطي المقارن
واقع المدينة المغربية وإشكالية انتشار وباء كوفيد- 19
“قراءة في دراسة المندوبية السامية للتخطيط”
تمهيد
تعد المدينة مجالا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع، وإطارا جغرافيا لتجسيد علاقة الدولة بمحيطها، ومختبرا لفلسفتها في تدبير إقليمها الترابي. وهكذا فإن إدارة المدن تشكل محكا حقيقيا لفعالية النظام السياسي والإداري الذي تتبناه السلطة السياسية.[1]
وقد شكلت ظاهرة التمدن السريع التي عرفها المغرب دافعا أساسيا للبحث عن الأسس والمناهج الكفيلة بإرساء تخطيط فعال ينبني على المقاربة الشمولية من أجل النهوض بالمدينة المغربية.
إن المدينة المغربية من المفروض عليها أن تلعب دورا محوريا في تحقيق الرهانات الأساسية للتنمية المستدامة، لتكون بذلك المحرك المحوري في تقديم المجتمع وتطوره، عبر تحقيق التلاحم الإجتماعي بين مكونات المدينة، وتقديم الخدمات الأساسية والمرافق الضرورية للمرتفقين، فموضوع المدينة اليوم في قلب انشغالات مجموع دول العالم، لأنها تجسد رهانات متعددة ) سياسية، إقتصادية، إجتماعية، ثقافية واستراتيجية(، وقد تولد بالمغرب وعي، وإن جاء متأخرا، يسعى إلى التحكم في “التجاوزات الحضرية المنبثقة عن ظاهرة مزدوجة تتمثل في الهجرة والتنمية غير المتحكم فيها”[2].
وعلى إثر النمو الديمغرافي السريع الذي تشهده المدن المغربية، والذي أدى إلى تطور وازدياد التجمعات الحضرية لاسيما الكبرى منها، الشيء الذي نتج عنه توسعات سريعة في المجال الحضري، وبالتالي أضحت المدن المغربية بؤرا لإنتاج الفقر والبؤس والتهميش والإقصاء الاجتماعي.
فإذا كان النظام العام هو الحالة الاجتماعية المثلى فإنه ينتفي تماما في ظل هذه الأوضاع، وجود كثافة سكانية مهمة وانتشار القاذورات والتلوث وانعدام قنوات الصرف الصحي يهدد بشكل مباشر الصحة العامة بسبب سهولة انتقال الأمراض وانتشار الأوبئة، وعلى هذا الأساس ارتأينا التطرق لهذا الموضوع تماشيا مع إصدار مذكرة المندوبية السامية للتخطيط يوم الثلاثاء 26 ماي 2020 والمعنونة: «مقاربة جيو ديمغرافية لمخاطر التعرض لكوفيد –19»، التي تأتي في سياق الظرفية الصعبة التي تجتازها بلادنا وما ينشأ عنها من احتياجات إلى مؤشرات إحصائية مفصلة، من شأنها أن تشكل أرضية واقعية تسمح بتتبع الوضع الوبائي خصوصا مع فترة رفع تدابير العزل المتوقع في 10 يونيو. حيث اعتبرت أن حوالى 90 بالمئة من الإصابات بفيروس كورونا في المملكة، تتركز في “المناطق الحضرية الأكثر اكتظاظا بالسكان”، لا سيما في مراكز المدن القديمة، والمناطق التي تضم مساكن اجتماعية، ومدن الصفيح.
من خلال هاته التوطئة يمكن بسط السؤال التالي: ما هي المعطيات العلمية التي استندت عليها المندوبية السامية للتخطيط كمخاطر مساهمة في انتشار وباء كوفيد- 19 بالوسط الحضري المغربي؟
ولتفكيك عناصر السؤال المطروح سنحاول الإجابة عليه وفق الطرح التالي:
أولا: تجليات أزمة المدينة المغربية
تحيل فكرة المدينة على مجال حضري يغري بالحياة ويسوده نوع من التعايش الاجتماعي، ويعد بالاستفادة من شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي توفرها إلى جانب ما سيتبع هذا التعايش وتلك التنمية من فرص الرقي الاجتماعي والحضاري والعيش الرغيد في ظل الأمن والديمقراطية التي تطبع الحياة فيها[3]. هذه الصورة هي التي شجعت على الهجرة إلى المدينة والإقامة فيها، رغم أنها أصبحت في الوقت الراهن محل اختلاف، ذلك أن واقع الحال يظهر أن المجالات الحضرية فقدت كثيرا من مزاياها ولم يعد ينظر إليها دائما كمجال نظيف تسوده الطمأنينة والنظام والأمن[4].
إن ما ميز ساكنة المغرب خلال العقود السالفة هو زيادتها الطبيعية الضعيفة والتي كانت تقارب الصفر، وقد كانت هذه الوضعية ناجمة عن ارتفاع معدل الوفيات والخصوبة، ولم تعرف ساكنة المغرب زيادة ذات إيقاع سريع إلا مع بداية القرن العشرين، أي عندما انخفضت نسبة الوفيات التي كانت السبب في ضعفها سابقا مختلف الاضطرابات الاجتماعية والمجاعات والأوبئة. وهكذا عرف القرن العشرون طفرة ديمغرافية مهمة ناتجة عن الفرق المهم الذي أصبحت تعرفه نسبة الولادات ونسب الوفيات، وهو الشيء الذي كان من نتائجه ارتفاع معدل الزيادة بالمغرب، ويوجد المغرب اليوم في مرحلة متقدمة من النقلة الديمغرافية وذلك نتيجة للانخفاض المستمر لنسبة الوفيات وارتفاع نسبة الولادة خلال العقود الأخيرة[5].
وعلى إثر ذلك أصبحت جل المدن المغربية تنقسم في الغالب إلى منطقتين مختلفتين : الأولى تتمثل في وسط المدينة الذي يحتوي على جل وأهم النشاطات الاقتصادية والمرافق الاجتماعية والإدارية والأحياء الراقية ويتوفر على البنيات التحتية اللازمة، أما الثانية فتتمثل في الأحياء الشعبية التي تأوي غالبية السكان بمن فيهم سكان الأحياء الصفيحية وتعاني نوعا من العزلة والإقصاء ونقص أو انعدام التجهيزات والمرافق الحيوية[6].
وبحسب التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنتي 2016 و2017، فقد أدى التطور الديمغرافي والهجرة القروية إلى المدن وسرعة النمو الحضري، إلى جانب غياب عرض كاف، ومتنوع من أجل الاستجابة للطلبات المختلفة في مجال السكن، إلى حدوث اختلال في سوق العقار بالمغرب. وقد أدى هذا الاختلال إلى ظهور وتطور أشكال مختلفة من السكن غير اللائق. مما زاد من حدة العجز المسجل في قطاع الإسكان وتفاقمه بسبب الطلبات المتزايدة التي لم تواكبها وتيرة الإنتاج في المجال السكني.
ثانيا: محاولة في قراءة مذكرة المندوبية السامية للتخطيط بناء على عاملي “الكثافة واكتظاظ المساكن”
تعتبر المندوبية السامية للتخطيط هي مؤسسة الأبحاث الحكومية في المغرب، التي تشمل أنشطتها إحصاء السكان، وعينة المسح على الأسر (الاستهلاك، والقوة العاملة، وجوانب من الحياة اليومية والصحة والسلامة، والترفيه، والأسرة والمواضيع الاجتماعية)، ومسوحات اقتصادية عديدة (الحسابات القومية والأسعار والتجارة الخارجية، والمؤسسات والشركات، والعمالة، الخ[7].
وتأتي المذكرة موضوع الورقة في وقت سجلت فيه المملكة المغربية حتى تاريخ نشرها حوالى 7500 إصابة بالفيروس منذ منتصف مارس، غالبيتها العظمى في المناطق “الأكثر اكتظاظا” في البلاد، وهي الدار البيضاء والرباط ومراكش وفاس وطنجة. وكذا أيام قليلة بعد نشرها لدراسة معنونة ب: “جائحة كورونا في السياق الوطني: الوضع والسيناريوهات”.
- عامل الكثافة السكانية
تفيد أرقام المندوبية بأن الكثافة السكانية تبلغ 1986 مواطناً في الكيلومتر مربع الواحد، وتأتي جهة الرباط سلا القنيطرة على رأس القائمة بكثافة تصل إلى 4007 نسمة في الكيلومتر مربع الواحد، متبوعةً بجهة الدار البيضاء سطات بـ3975، وبني ملال خنيفرة بـ3431، وجهة فاس مكناس بـ3369 نسمة. في المقابل، نجد أن جهة الداخلة وادي الذهب وجهة سوس ماسة ذات كثافة حضرية منخفضة، إذ بالكاد تتجاوز 600 نسمة في كل كيلومتر مربع واحد[8].
الكثافة السكانية الحضرية حسب الجهات (نسمة في الكيلومتر مربع)
وعلى مستوى الأقاليم، نجد أن الدار البيضاء وفاس وسلا ووجدة أنكاد والرباط ومكناس ومراكش هي التي تسجل أعلى كثافة تتجاوز 4000 نسمة في الكيلومتر مربع الواحد. في المقابل، تقل الكثافة عن 1000 نسمة في أقاليم مثل تارودانت وفكيك ودريوش وطرفاية وتاونات وأسا الزاك وبن سليمان والصويرة وطاطا.
وبالنسبة إلى المدن الرئيسية في المملكة، فإن الدار البيضاء هي الأكثر كثافة على المستوى الوطني بكثافة تصل إلى 15296 نسمة في الكيلومتر مربع، تليها فاس بـ10713، ثم سلا بـ8163، وطنجة بـ5736، والرباط بـ4882، ومراكش بحوالي 4436.
وداخل المدن سالفة الذكر، تختلف الكثافة حسب نوع السكن، حيث نجد أن السكن الاقتصادي والاجتماعي هو الأعلى بحوالي 18658 نسمة في الكيلومتر مربع الواحد.
- عامل اكتظاظ المساكن
حسب المندوبية، فإن خطر الإصابة سيكون أعلى في المناطق التي يعيش فيها السكان في منازل مكتظة، أي تلك التي يكون فيها عدد الغرف غير كاف مقارنة بحجم الأسرة، ويتم اعتبار سكن ما مكتظاً إذا كان به أكثر من ثلاثة أشخاص في كل غرفة، وبناءً على ذلك يمكن تقدير ما يزيد قليلاً عن 1,05 ملايين أسرة مغربية تعيش في هذا الوضع على المستوى الوطني، أي ما يمثل 12.5 في المائة من مجموع الساكنة[9].
نسبة المساكن الأكثر اكتظاظا حسب الجهات (%)
وتشير معطيات المندوبية إلى أن أكثر الجهات تضرراً من ظاهرة الاكتظاظ (sur-occupation des logements) هي جهة الشرق بما نسبته 14.1 في المائة، متبوعة بجهة الدار البيضاء سطات بـ14 في المائة، وتتمتع الجهات الجنوبية وجهة سوس ماسة بنسب منخفضة على التوالي بـ8.4 في المائة و7.6 في المائة.
وإذا ما تم التركيز على المدن الكبرى باستعمال عامل الاكتظاظ، سنجد نفس المدن كما في التحليل المعتمد على الكثافة السكانية، على رأسها الدار البيضاء بـ14.5 في المائة، وفاس بـ13 في المائة، وطنجة 12.5 في المائة، وسلا ومكناس بـ10 في المائة لكل واحدة، والرباط بما يناهز 9.3 في المائة، ومراكش بـ9 في المائة.
وأخذاً بعين الاعتبار الطبقات السكنية في هذا المدن، فإن أحياء دور الصفيح هي التي تأوي أكثر من ثلث الأسر التي تعيش في مساكن مكتظة، متبوعة بالمدن القديمة بـ17.2 في المائة، والسكن الاقتصادي والاجتماعي بـ12.5 في المائة.
على سبيل الختم
من خلال تحليل معطيات مذكرة المندوبية السامية للتخطيط نستشف أن خطر انتشار الفيروس يكون أكبر في المدن الكبرى باعتبار عاملي الكثافة واكتظاظ المساكن. كما أن داخل هذه المدن تشكل فئات سكن المدينة العتيقة والسكن الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة إلى مدن الصفيح، مجالات خصبة لخطر انتشار العدوى مما يحول دون احترام إجراءات التباعد الاجتماعي ومسافة الأمان.
[1]– حيمود المختار، “دور سياسة التعمير في تنظيم المجال الحضري، مساهمة في دراسة المجال الحضري المغربي “نموذج عمالة ابن مسيك سيدي عثمان”، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، جامعة الحسن الثاني، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، عين الشق، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2000/2001،ص:1.
[2]– علي سدجاري، مقدمة مؤلف ” مستقبل المدينة “، منشورات كريت،مطبعة المعارف الجديدة 2003،ص:5 وما بعدها.
[3] – أحمد آيت الطالب: الطابع الحضري للجريمة حقيقة أم مغالطة، مجلة الشرطة، عدد/33، السنة 2007،ص:22.
[4] – محمد الناصري: الأحياء الحضرية والفعل الإجرامي عند الشباب القنيطرة نموذجا 2007-2013،رسالة لنيل شهادة الماستر المتخصص في: الأمن وتدبير المخاطر، جامعة الحسن الأول – كلية الحقوق سطات، السنة الجامعية: 2012/2013، ص:90.
[5] – المجال المغربي واقع الحال: مساهمة في الحوار الوطني المتعلق بإعداد التراب 2000، إعداد مديرية إعداد التراب الوطني، الطبعة الثانية أبريل 2000، ص:55.
[6] – محمد بوزيت: الحكامة الأمنية: الأمن العمومي نموذجا، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون العام، جامعة الحسن الأول، كلية الحقوق – سطات، السنة الجامعية:2009- 2010 ، ص:62.
[7] – تعريف وارد في: الموسوعة الحرة ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/
[8] – المندوبية السامية للتخطيط: مذكرة تحت عنوان: مقاربة جيو ديمغرافية لمخاطر التعرض لكوفيد – 19 / تاريخ النشر26- 05- 2020 ،ص:1.
[9]– المندوبية السامية للتخطيط: مذكرة تحت عنوان: مقاربة جيو ديمغرافية لمخاطر التعرض لكوفيد – 19 / تاريخ النشر26- 05- 2020 ،ص:3.