في الواجهةمقالات قانونية

المحرر الرسمي ونظام التحفيظ العقاري أية علاقة؟

المحرر الرسمي ونظام التحفيظ العقاري أية علاقة؟
من اعداد: مصطفى كراك

طالب باحث في القانون الخاص    

مقدمة:

غير خاف على أحد أن الثروة العقارية تكتسي أهمية بالغة في كل الأصعدة القانونية والاقتصادية و الاجتماعية، وذلك لما للعقار من حضور وازن في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات.

فمنذ أن خلق الله البسيطة وما عليها، ارتبط الانسان بالأرض التي نشأ فيها او استوطنها أو انتمى إليها بأصوله، و امتدادا لحقه في الوجود و العيش الكريم لا يكل في تعميرها و إحيائها. وهو بفطرته يسعى دوما إلى تملك ولو جزء يسيرا منها، او على الأقل وضع اليد عليها. وبتطور الحياة الاجتماعية وتضارب مصالح الافراد ازدادت أهمية العقار بشكل كبير، أرضا عارية كان أو بناء متكاملا أو في طور البناء، و أضحى يضلع بدور ريادي في كل مشروع تنموي.

ووعيا من المشرع بأهمية الثروة العقارية عمد الى توفير جملة من الأليات القانونية و القضائية التي تشكل سياجا حمائي للملكية العقارية، وارتقى بها الى مصاف الحماية الدستورية، فحق الملكية هو حق مقدس[1] كرسته كل دساتير البلاد ابتداء من دستور 1962 وصولا إلى دستور 2011 بموجب الفصل 35 منه، وجعله من أهم الحقوق الراجعة للأفراد والتي لا يمكن المساس بها الا وفق القانون.

إن المقنن المغربي لم يتخلف عن الموعد بل تدخل عن طريق سن مجموعة من النصوص القانونية التي تهم الميدان العقاري، ومن هذه النصوص القانونية الحديثة التي تم ادمجها ضمن المنظومة التشريعية، نجد في طليعته القانون 14.07 المغير و المتمم لظهير 12 غشت 1913[2] والذي جاء بنظام محكم للملكية العقارية محيطا ايها بجملة من الضمانات اللازمة التي من شأنها تحصينها من كل الاعتداءات التي قد تطالها، مرورا بالقانون   39.09[3] المتعلق بمدونة الحقوق العينية الذي عمل من خلاله المقنن المغربي على تحديد القالب الشكلي الذي يجب أن تفرغ فيه جميع التصرفات الواردة على العقار حيث أقر المشرع في المادة الرابعة من م.ح.ع  بأن توثيق التصرفات العقارية يجب أن يرد –تحت طائلة البطلان- إما في محرر رسمي[4] أو محرر ثابت التاريخ يحرره محامي مقبول للترافع أمام محكمة النقض.

ووعيا من المشرع بأهمية الرسمية في تلافي المشاكل التي يعاني منها هذا المجال الحيوي وإشاعة الامن العقاري  بشكل يستجيب لتطلعات الفاعلين و المستثمرين ، حدى المشرع نفس الحدو  في العديد من القوانين الخاصة من قبيل القانون 44.00[5] المنظم لبيع العقار في طور الإنجاز المتمم بقانون 107.12، وقانون 18.00[6] المتعلق بنظام الملكية المشتركة  المتمم بقانون 106.12، والقانون 51.00[7] المتعلق بالايجار المفضي للتملك.

إن التحفيظ العقاري كتقنية ذات طابع براق بما تحمله من ضمانات ووسائل ومساطر اشهارية ذو قوة تطهيرية كلها نعم تسهم في استقرار العقار وتباثه. غير أنه لن ينعم [8]بها العقار إلا إذا كان يستند الى سند رسمي الذي يسهر على تفعيله كل من العدول و الموثق ؛ ذلك ان ما تطرحه الملكية العقارية اليوم يرجع الى مجال الإثبات، أي إثبات أصل التملك ، فالملكية العقارية هي نصيب من أثبتها أقام الدليل على تملك، وعليه فنظام التحفيظ العقاري هي المجال الخصب الذي تقارع فيه الحجج والبينات.

إن المحرر الرسمي ومؤسسة التحفيظ العقاري هو في حقيقة الأمر موضوع يعن بلسان الحال قبل لسان المقال، ويقتضي منا الإجابة عن حزمة من الإشكالات التي يطرحها فما هي العلاقة التي تربط بين المحرر الرسمي ونظام التحفيظ العقاري؟ وما هو موقع المحرر الرسمي في نظام التحفيظ العقاري؟ وما مدى فعاليته في نظام التحفيظ العقاري؟

سنخصص حيز الجواب الوافي على التساؤل المطروح من خلال التصميم التالي:

المطلب الأول: دور المحرر الرسمي خلال مسطرة التحفيظ

المطلب الثاني: دور المحرر الرسمي خلال مسطرة التقييد

 

المطلب الأول: دور المحرر الرسمي خلال مسطرة التحفيظ

لا ريب أن المحرر الرسمي يحتل مكانة مرموقة في الميدان العقاري والتحفيظ العقاري هو الأرضية الخصبة التي تبرز فيه أهمية هذا المحرر، باعتباره الضمان لاستمرارية ونجاعة مسطرة التحفيظ في شتى محطاته وتأمين الملكية العقارية وتأهليها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتشجيع الاستثمار من خلال تسريع وتبسيط الإجراءات المتعلقة بالتحفيظ العقاري، سواء تعلق الأمر بمقدم مطلب التحفيظ باعتباره فاتح مسطرة التحفيظ أو بالمتعرض الذي يتدخل في المسطرة لحماية حقوقه التي تم المساس بها.

وعليه سنحاول في هذا المطلب البحث في دور المحرر الرسمي في تدعيم مطلب التحفيظ، على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث دور المحرر الرسمي في تدعيم مستندات المتعرض.

الفقرة الأولى: دور المحرر الرسمي في تدعيم مطلب التحفيظ

إن الهدف الذي يروم القانون 14.07 المتمم لظهير التحفيظ العقاري تحقيقه هو ضمان سرعة التحفيظ وتلافي العراقيل وكل الصعوبات التي تكتنه، والتي كان واقع إدراة المحافظة العقارية و العمل القضائي و كذا الانتقادات الفقهية المثارة بشأنها شاهدا عليها[9]. والى جانب ضمان سرعة التحفيظ يعد ضمان استقرار الملكية وتشجيع الائتمان العقاري من الأمور المستهدفة من نظام التحفيظ العقاري.

غير ان ذلك لن يتأتى إلا إذا كان طالب التحفيظ قد عزز مطلبه بمستندات رسمية تثبت حقه، والا كان عرضة للدحض من قبل كل من المتعرضين، فالمحرر الرسمي المحرر من قبل العدول او الموثق هو الدليل والحجة إثبات الحق وحمايته، فالإثبات هو قوة الحق، والدليل هو روح الحق، والحق يبقى دون قيمة إذا لم يقم الدليل على إثباته فالحق المجرد من الدليل يبقى عند المنازعة فيه هو العدم سواء.

ولذلك نجد مقنن قانون 14.07 يأكد في مجموعة من المقتضيات على الدور الريادي للمحرر الرسمي في تأييد مطلب التحفيظ، ولعل أهمها الفصل 13 من ظهير التحفيظ العقاري الذي نص فيه المشرع على ما يلي : “يقدم طالب التحفيظ للمحافظ على الأملاك العقارية، مقابل وصل يسلم له فورا، مطلبا موقعا من طرفه أو ممن ينوب عنه بوكالة صحيحة، يتضمن لزوما ما يلي :

……8-بيان أصل التملك”

الى جانب الفصل 13 المومأ إليه أعلاه ينص كذلك الفصل 14 من نفس الظهيرعلى أنه : “يقدم طالب التحفيظ مع مطبه أصول أو نسخ رسمية للرسوم والعقود والوثائق التي من شأنها ان تعرف بحق الملكية و بالحقوق العينية المترتبة على الملك”.

إن المتأمل في المقتضيات المومأ اليها آنفا سيتضح له بجلاء أن المشرع استعمل عبارة “لزوما” في الفصل 13 والتي تفيد الوجوب، بحيث أنه على كل راغب في تحفيظ عقاره أن يقدم مطلب مرفق بجميع الوثائق و المستندات و الحجج التي تثبت حقه، والمحرر الرسمي الذي ينسجه كل من العدول و الموثق هو من بين هذه المستندات التي يجب ارفاقها بمطلب التحفيظ وإن كان المشرع على هذه المستوى لم يستعمل مصطلح المحرر الرسمي بشكل صريح غير أن هناك بوادر تنم عليه من قبيل استعمال المشرع “نسخ رسمية” “اصل التملك” فالرسمية هي صبغة تميز المحرر الرسمي الذي لا يمكن الطعن فيه إلا بالزور وهي ضمانة ناجعة تسهم لا محالة للمرر بالعقار محل طلب التحفيظ من وضعية غير ثابتة الى وضعية يطبعها الأمان والاستقرار.

غير ان الملاحظة التي يمكن تسجيلها في هذا الإطار أن المشرع لم يحدد جزاء تخلف الحجج والوثائق في مطلب التحفيظ، فحق لنا أن  نتساءل عن مصير كل مطلب تحفيظ غير مرفق بالحجج المعززة له؟

إن وضع مطلب التحفيظ لا يعتبر في حذ ذاته دليلا على الملكية بل هو مجرد افترض الملكية وعلى طالب التحفيظ أن يدعم طلبه بالوثائق المثبتة لملكيته[10]. كما أن تقديم المطلب بدون وثائق رسمية وحجج قوية فيه تشجيع لطلبات التحفيظ الكيدية أو التعسفية، لذلك نرى أنه لا ضرر في اتخاد المحافظ لقرار الرفض ضد كل مطلب خالي من الوثائق الرسمية التي تثبت الحق والا كان معرضا للمساءلة المدنية.

وقد ذهب القضاء هو الاخر في العديد من المناسبات الى تقرير مسؤولية المدنية محافظ جراء السير المعيب لعملية التحفيظ، حيث جاء في أحد قرارته 3300 الصادر بتاريخ 25 مارس 1991 ما يلي : “إن موضوع هذه الدعوى هو تعويض الضرر الناتج عن السير المعيب لعملية التحفيظ حيث لم يتحقق المحافظ من مطابقة الوثائق على القطعة المراد تحفيظها، فالمحافظ ملزم بالقيام بكافة الوسائل للتحقق من ثبوت حق طالب التحفيظ …”[11]

وما تجدر الإشارة اليه في هذا الاطار أن ما يأكد توجه المشرع نحو الرسمية حتى على مستوى الوثائق المرفقة بمطلب التحفيظ، هو إصداره للقانون 69.12 المتمم و المغير للمادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية[12]، التي أقحم بموجبها المشرع الوكالات الخاصة بالتصرفات العقارية ضمن زمرة المادة الرابعة باشتراطه ابرامها في محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محامي مقبول للترافع أمام محكمة النقض، وهي خطوة إيجابية تحسب لمشرعنا المغربي مما يعجل من إجراءات المتعلقة بالتحفيظ العقاري من جهة وتضييق الخناق على المحررات العرفية من جهة ثانية.

وترتيبا عل ما سبق، يمكن القول أن المحرر الرسمي الذي يحرره العدل أو الموثق يلعب دورا مهما في مسطرة التحفيظ، من خلال مساندة وتدعيم مطلب التحفيظ ضد ادعاءات المتعرضين في حالة وجودهم لتخطي كل المحطات نحو محطة أكثر أمانا خاضعة لنظام محكم وناجع، عكس المحررات العرفية التي يمكن استبعادها و دحضها بسهولة.

 

الفقرة الثانية: دور المحرر الرسمي في تدعيم مستندات المتعرض.

يحظى التعرض بأهمية وخصوصية في مسطرة التحفيظ العقاري لأنه يعتبر الضمانة الوحيدة التي خولها المشرع للغير لحماية ملكيته، وهو الوسيلة القانونية الوحيدة التي تمكن من يهمه مطلب التحفيظ من التدخل للحيلولة دون صدور الرسم العقاري في اسم طالب التحفيظ، فهو بالتالي عبارة عن منازعة من طرف الغير ضد طالب التحفيظ[13].

ولعل وروود التعرضات على مطالب التحفيظ ليعد من النتائج على نجاعة هاته الإجراءات والتي من بينها الإشهار الموسع للملك سواء عبر النشر بالجريدة الرسمية والتعليق لدى المحكمة والسلطة المحلية الواقع في نفوذها العقار محل طلب التحفيظ.

غير أن مكنة التعرض تبقى دون جدوى إذا لم يقم المتعرض بإرفاق طلب التعرض بالحجج والأدلة المعززة له وإلا أضحى مجرد ادعاء مجرد من الدليل، لذلك تجد مشرع القانون 14.07 يستوجب ضرورة تدعيم التعرض بالرسوم و الوثائق المؤيدة له وذلك في الفقرة الثانية من الفصل 25 من نفس القانون حيث جاء فيه : ” يجب على المتعرضين أن يودعوا السندات و الوثائق المثبتة لهويتهم و المدعمة لتعرضهم و يؤدوا الرسوم القضائية و حقوق المرافعة او يدلوا بما يفيد حصولهم على المساعدة القضائية وذلك قبل انصرام الشهر الموالي لانتهاء أجل التعرض”.

وتأسيسا على ذلك فإن المحرر الرسمي يتبوأ مكانة مرموقة في مؤسسة التعرض، فالتعرض  يبقى مجرد من الأثر وبدون فعالية بمعزل عن المحرر الرسمي خاصة ان المتعرض هو الملزم بالإثبات في مواجهة طالب التحفيظ المعفى من الإثبات.

وعليه فعلاوة على ضرورة احترام الآجال القانونية التي تخص التعرض لابد في المتعرض أن يعزز الحق المدعى به بالوثائق الرسمية المدعمة له، مما يأكد على الدور الريادي للمحرر الرسمي في تدعيم طلبات المتعرضين ما تنص عليه الفقرة الثانية من الفصل 29 من القانون 14.07 التي ألزم من خلالها المشرع المتعرض خارج الأجل بتقديم العقود و السندات المؤيدة لتعرضه و أدام الرسوم القضائية وحقوق المرافعة او الادلاء بما يثبت حصوله على المساعدة القضائية، وفي حالة تخلف المتعرض عن تقديم السندات و العقود المؤيدة لتعرضه اعتبر تعرضه لاغيا وكأن لم يكن[14].

تجدر الإشارة هنا الى أن الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقار قبل تعديله كان يلزم المحافظ على الأملاك العقارية بإنذار المتعرضين لإيداع الوثائق المؤيدة لتعرضهم وذلك داخل أجل ثلاثة أشهر، تحت طائلة اعتبار تعرضهم كأنه لم يكن، وأن قرار المحافظ في هذا الشأن قابل للطعن أمام المحكمة الابتدائية التي تبت فيه انتهائيا، كما أنها كانت تعطي للمحافظ مكنة الاحتفاظ بالتعرض بعد اجراء بحث وإحالة الملف على القضاء، أما أمام التعديل الجديد للفصل 32 فقد تم التخلي عن تلك الإجراءات التي تخص إنذار المتعرض قبل انصرام الأجل المذكور، والغريب كذلك انها لم تنص حتى على إشعار المتعرض بقرار إلغاء تعرضه[15].

وفي اعتقادي المتواضع أرى ان المتأمل في هذا التعديل لن يجد حرجا في القول  أن الغاء مكنة انذار المتعرض من طرف المحافظ لإيداع الوثائق الرسمية المؤيدة لتعرضه، قد يضيق من نطاق مكنة التعرض خاصة إذا كان هذا الأخير جديا يستند الى حجج قوية، ومن شأنه كذلك أن يعطل من الدور الهام للمحرر الرسمي في تدعيم طلب المتعرض وربما سيكون حسن لو أبقى عليها المشرع بدلا من إلغاءها.

تكمن كذلك أهمية المحرر الرسمي أثناء جريان التعرض في وضع حد للتعرضات الكيدية والتعسفية المقدمة دون حق مشروع والتي من شأنها المساس بحقوق طالب التحفيظ وتعطيل مسطرة التحفيظ والحيلولة دون تأسيس الرسم العقاري.

بقي أن نشير قبل ختام هذه النقطة أن المشرع حدد العقوبة المقرر ضد كل شخص تسول له نفسه التعرض بشكل كيدي، حيث نص في الفصل 48 من قانون 14.07 على انه : ” كل طلب للتحفيظ او تعرض ثبت للمحكمة صدوره عن تعسف أو كيد أو سوء نية يوجب ضد صاحبه غرامة لفائذة الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية و المسح العقاري والخرائطية لا يقل مبلغها عن عشرة في المائة من قيمة العقار أو احق المدعى به. والكل دون المساس بحث الأطراف المتضررة في التعويض..”.

حسن فعل المشرع بتقريره لهذه الغرامة ضد التعرضات الكيدية لأن من شأن ذلك التشجيع على تدعيم طلبات التحفيظ وكذا التعرضات الوثائق الرسمية المؤيدة لها بالأخص المحرر الرسمي المحرر من قبل العدول او الموثق لما يتميز به من حجية قاطعة في تقرير الحق وتحصينه.

المطلب الثاني: دور المحرر الرسمي خلال مسطرة التقييد

لا يخفى على أحد ان المحرر الرسمي الذي يسهر على تحريره كل من فئة العدل والموثق أضحت له علاقة وطيدة بالعديد من المصالح العامة كإدارة التسجيل ومصلحة الضرائب والمحافظة العقارية، مما يتحتم على السادة العدول و الموثقين أن يكونوا على درجة من الضبط والإتقان والكفاءة والإلمام بالضوابط والقواعد القانونية من أجل تحرير محرر صحيح وسليم من كل الشوائب التي من شأنها خلخلة الأمن العقاري.

وهكذا فإن المحرر الرسمي المستوفي لكافة شروطه القانونية سيسهم لا محالة في تكريس المبادئ و المرتكزات التي يقوم عليها نظام التحفيظ العقاري خلال مسطرة التقييد.

ولذلك ارتأيت أن اقف في الفقرة الأولى عند دور المحرر الرسمي في ترسيخ الأثر الإنشائي للتقييد، على أن أتولى في الفقرة الثانية التطرق لدور المحرر الرسمي في التخفيف من أعباء المحافظ.

الفقرة الأولى : دور المحرر الرسم في ترسيخ الأثر الانشائي للتقييد

تقضي قاعدة الأثر المنشىء لتقييد الحق العيني على عقار محفظ بأن إنشاء أو نقل أو إعلان أو تعديل أو إسقاط هذا الحق لا يتم بين المتعاقدين ولا يكون نافذا في مواجهة الغير إلا إذا جرى تقييد العقد المتضمن لكل ذلك في الرسم العقاري وابتداء من تاريخ هذا التقييد[16].

ورغبة من المقنن المغربي في تكريس الأثر الإنشائي للتقييد أوجب من خلال الفصل 67 من القانون 14.07 ضرورة شهر جميع التصرفات المنصبة على العقار المحفظ، حيث ينص الفصل السالف الذكر على ما يلي : “إن الأفعال الإرادية والاتفاقات التعاقدية، الرامية الى تأسيس حق عيني أو نقله إلى الغير أو الإقرار به أو تغييره او إسقاطه، لا ينتج أي أثر ولو بين الأطراف إلا من تاريخ التقييد بالرسم العقاري..”.

إذن فلا يكفي افراغ التصرفات العقارية في المحرر الرسمي المحرر من طرف العدل أو الموثق فقط، بل لابد من تقييد هذا المحرر الرسمي بالرسم العقاري للمحافظة العقارية.

إن تكريس المحرر الرسمي للأثر الإنشائي للتقييد من خلال اجراء التقييد للمحرر الرسمي  في الرسم العقاري الذي لا تقادم له إلا في حالات خاصة، من شأنه إعادة الثقة المفقودة في نظام التحفيظ العقاري خاصة بعد الرعب الذي خلقته المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية في نفوس المواطنين والمالكين جراء الحماية المطلقة التي حظي بها المقيد حسن النية.

لكن يبقى التساؤل المطروح على هذا المستوى هو مدى إلزامية محرري المحرر الرسمي بالقيام بإجراء التقييد؟

يجيبنا المشرع في المادة 47 من القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق عن السؤال السالف الذكر، حيث أوجبت هذه المادة الموثق العصري بأن يقدم نسخا من العقود والمحررات بعد الإشهاد بمطابقتها للأصل من طرفه، لمكتب التسجيل المختص لاستيفاء إجراء التسجيل وأداء الواجب في الأجل المحدد قانونا، وإنجاز الإجراءات الضرورية للتقييد في السجلات العقارية و غيرها لضمان فعاليتها، ويقوم بإجراءات النشر و التبليغ عند الاقتضاء.

ويمكن للأطراف المعنيين إعفاء الموثق من إجراءات النشر والتبليغ، وذلك تحت مسؤوليتهم، ويشار الى ذلك في صلب العقد، او في وثيقة مستقلة ثابتة التاريخ يوقعها الطرف المعني.

هذا بالنسبة للموثق العصري أما بالنسبة للعدول فإن المادة 17 من القانون 16.03 المتعلق بخطة العدالة، منحت للمتعاقدين الخيار بين أن يقوموا بأنفسهم بإجراءات التقييد بالمحافظة العقارية، او أن يكلفوا أحد العدلين المتلقيين للقيام بإجراء التقييد بموجب تصريح موقع عليه من المتعاقدين بكناش يحدد شكله بنص تنظيمي.

وعليه فإن الأصل بالنسبة للموثق العصري هو أن يقوم بإجراءات التقييد، والاستثناء هو اعفاءه صراحة من المتعاقدين، وفي مقابل ذلك فإن القانون 16.03 جعل الأصل هو أن يقوم أطراف العلاقة التعاقدية بأنفسهم بإجراءات التقييد والاستثناء هو تكليفهم لأحد العدول المتلقي للإشهاد لمباشرة هذا الاجراء[17].

وفي اعتقادي أرى أنه سيكون حسنا لسوى المشرع بين الموثق و العدول بأن يلزم العدول بالقيام بإجراءات التقييد من أجل تحقيق الانسجام بين القوانين المنظمة للمهنتين، ذلك ان الواقع العملي يأكد وجود مجموعة من الرسوم العقارية غير المحينة، الأمر الذي أدى إلى استفحال إشكالية جمود الرسوم العقارية، التي تعني عدم حصول التطابق بين بيانات العقار المدونة بها وبين الواقع الذي يعرف إبرام تصرفات قانونية غير مقيدة بالرسم العقاري[18].

وبالتالي فإنه حبذا كما قلنا لو ألزم المشرع العدول هو الأخر بالقيام بالإجراءات التقييد تلافيا لمعضلة عدم تحيين الرسوم العقارية، كما أن من شأن إلزامه بالقيام بإجراءات التقييد لدى المحافظة العقارية حماية المتعاقد الملزم بالتقييد من الجزاءات  المدنية المتمثلة في الغرامات التي قد تترتب عن التراخي في تقييد عقده ما لم يحترم الآجال المحددة قانونا[19].

تأسيسا على ذلك فإن العلاقة التي تربط المحرر الرسمي بمسطرة التقييد تكمن في أن كلا منهما يكمل الأخر، فالمحرر الرسمي يبقى مجرد من الأثار بالنسبة للغير إذا لم يتم اشهاره عن طريق مسطرة التقييد من جهة، والمحرر الرسمي  هو الاخر له دور فعال في ترسيخ الأثر الإنشائي للتقييد وذلك لما له من ضمانات تجعل العقار تحت مضلة المحافظة العقارية وفي سيطرتها.

الفقرة الثانية: دور المحرر الرسمي في تخفيف أعباء المحافظ العقاري.

يعتبر المحافظ العقاري الجهة المتدخلة بشكل أساسي في مسطرة التحفيظ، لذلك فإن مهمة هذا الأخير ليست بالأمر الهين، بل هي مهمة جسيمة ومعقدة تقتضي من هذا الأخير ان يحتاط جيدا وهو يباشر مهامه وإلا تحمل وزر ما يقترفه من أخطاء ولذلك فإنه لا محالة أن المحرر الرسمي سيجنبه الكثير من المتاعب التي قد تثار بشائنها مسؤوليته.

الى جانب دور المحرر الرسمي في تلافي إشكالية جمود الرسوم العقارية وعدم تحيينها، يسدي كذلك المحرر الرسمي دورا هاما للمحافظ العقاري المتمثل في تخفيف أعباء المحافظ العقاري بمناسبة مراقبة المستندات المقدمة له للتقييد.

إن مهمة المحافظ العقاري في مراقبة الوثائق التي تلقاه من المعني بالأمر تجد أساسها القانوني في العديد من المقتضيات القانونية المنصوص عليها في القانون 14.07 ومن بين هذه المقتضيات:

الفصل 72من القانون 14.07 الذي نص فيها المشرع على أنه: “يتحقق المحافظ على الأملاك العقارية، تحت مسؤوليته، من هوية المفوت  وأهليته وكذا من صحة الوثائق المدلى بها تأييدا للطلب شكلا وجوهرا.”.

الفصل 73 من نفس القانون الذي جاء فيه : “تعتبر هوية كل طرف وصفته  وأهليته محققة إذا استند الطلب على محررات رسمية. وتعتبر هويته محققة إذا كانت التوقيعات الموضوعة بالطلب وبالعقود المدلى بها مصادق عليها من طرف السلطات المختصة.”.

وبتفحصنا للمقتضيات المومأ اليها أعلاه يتضح بجلاء أن المشرع أناط بالمحافظ العقاري مهمة مراقبة الوثائق المدلى بها لديه تحت مسؤوليته، قبل إتيان أي إجرء وذلك ضمانا لنجاعة المسطرة وسلامتها، فإن اقتنع بصحة الوثائق المسلمة له وغير متنافية مع الفصل 74 من القانون 14.07 أمر بالتقييد.

إن مكامن الدور الريادي الذي يسديه المحرر الرسمي للمحافظ العقاري تتجلى بالأساس في المحطات التخطيطية التي تمر منها حياة المحرر الرسمي، والتي يستكمل فيها المحرر جميع مقوماته الفنية والموضوعية التي تجعل منه أداة صالحة لتحقيق المصالح العادلة، فعلاوة على عملية التفحص التي يخضع لها المحرر الرسمي أثناء تسليمه للمحافظ العقاري يخضع قبل ذلك لمراقبة محكمة من قبل الجهات المعهود لها تحريره.

فحرصا من المشرع على ضمان سلامة المحرر الرسمي من النقص، ألزم الموثق بضرورة التحقق من هوية الأطراف وصفتهم وأهليتهم للتصرف تحت طائلة البطلان، وذلك بموجب الفقرة الأولى من المادة 37 التي نصت صراحة على ما يلي : “يتحقق الموثق تحت مسؤوليته من هوية الأطراف وصفتهم وأهليتهم للتصرف ومطابقة الوثائق المدلى بها إليه للقانون”.

من محاسن الوثيقة العدلية هي الأخر أنها تخضع لرقابة القضاء على مستوى القاضي المكلف بالتوثيق حيث أناط المقنن بالقاضي المكلف بالتوثيق مهمة تفحص الشهادات والوثائق العدلية وقراءتها وتأملها قبل الخطاب عليها، وقد تم النص عليها بموجب المادة 35 من القانون المتعلق بخطة العدالة والمادة 38 من مرسوم تطبيقه، هذا فيه تسهيل وتخفيف على المحافظ العقاري في تفحص الوثائق خاصة أنه غير قادر على اكتشاف النقص والتزوير الذي قد يطال الوثيقة اللهم إن كان بارزا مكشوفا.

وإجمالا فإن توجه المشرع نحو الرسمية له ما يبرره، فكما مر بنا بيننا كيف أن المحرر الرسمي كان له النصيب الأوفر في الحد من إشكالية تحيين الرسوم العقارية ومساعدة المحافظ العقاري بمناسبة قيامه من التحقق من الوثائق المدلى بها.

خاتمة:

        لقد حاولنا على امتداد صفحات هذه المقالة المتواضعة أن نبرز العلاقة التي تربط مؤسسة المحرر الرسمي بنظام التحفيظ العقاري، فتضح بجلاء أن تعميم المشرع للرسمية في الميدان العقاري ليس اعتباطيا وانما يجسد مدى اقتناع المقنن بالدور الهام الذي يلعبه المحرر الرسمي في نظام التحفيظ العقاري، سواء من خلال مسطرة التحفيظ العقاري بتعزيز مستندات طالب التحفيظ وادعاءات المتعرض إن وجودوا أو من خلال مرحلة التقييد بتكريس الأثر الإنشائي له وتلافي مشكلة تحيين الرسوم العقارية ومساعدة المحافظ العقاري في القيام بمهامه.

خلاصة القول، أنه من خلال ملامسة بعض النقط التي تبرز دور المحرر الرسمي في نظام التحفيظ العقاري، فإن المحرر الرسمي لا محالة سيكون له وقع كبير في تعميم نظام التحفيظ العقاري، وتشجيع الملاكين على تحفيظ عقارتهم وهم على ثقة في الحجج المستند إليها، وهو ما من شأنه أن يحرك عجلة التنمية في الميدان العقاري بشكل يستجيب لتطلعات الفاعلين والمستثمرين.

[1] -ينص الفصل 35 من الدستور على أنه : “يضمن القانون حق الملكية . ويمكن الحد ويمكن الحد من نطاقها و ممارستها بموجب القانون، إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد. ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون”.

[2]-ظهير شريف صادر في 9 رمضان 1331 (12 غشت 1913) المتعلق بالتحفيظ العقاري المنشور بالجريدة الرسمية، عدد 46، بتاريخ 12 شتنبر 1913، ص:19.

[3] -ظهير الشريف رقم 1.11.187 بتنفيذ القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية صادر في 25 من ذي الحجة 1432 (22 نونبر 2011)، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 27 ذو الحجة 1432 (24 نوفمبر 2011)، ص 5587.

[4] -يعرف المشرع المغربي الورقة الرسمية من خلال الفصل 418 من قانون الالتزامات و العقود على النحو التالي: ” الورقة الرسمية هي التي يتلقاها الموظفون العموميون الذين لهم صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد وذلك في الشكل الذي يحدده القانون “.

[5] -القانون رقم 44.00 المتعلق ببيع العقار في طور الإنجاز الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم : 1.99.193، بتاريخ 13 جمادى الأولى 1420 الموافق 25 غشت 1999، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4726، بتاريخ 16 شتنبر 1999، ص : 277، والذي تم تغييره و تتميمه بالقانون 107.12 ظهير شريف رقم 1.16.05، صادر في 23 ربيع الآخر 1437 الموافق ل 3 فبراير 2016، الجريدة الرسمية عدد 6439، بتاريخ 15 فبراير 2016، ص : 932 وما بعدها.

[6] -القانون رقم 18.00 المتعلق بنظام الملكية المشتركة للعقارات المبنية، الصادر بتنفيذ نصه الظهير الشريف رقم : 1.02.98 بتاريخ 3 أكتوبر 2002 و المنشور بالجريدة الرسمية عدد : 5054 بتاريخ 7 نوفمبر 2002، ص 3175، والذي تمم بالقانون 106.12، ظهير شريف رقم 1.16.49، بتاريخ 27 أبريل 2016 جريدة رسمية عدد 6465، بتاريخ 16 ماي 2016، ص : 3781.

[7] -القانون رقم 51.00 الصادر الأمر تنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.202 بتاريخ فاتح ذي القعدة 1424 ( 11نونبر 2003) المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5172 بتاريخ فاتح ذي القعدة 1724 موافق ل 25 ديسمبر 2003، ص : 4375وما بعدها.

[8]

[9] -اركيب إسماعيل، مستجدات التحفيظ العقاري على هامش الندوة العلمي بسطات، جريدة الصباح، عدد 67-37، بتاريخ 23 ماي 2011 ص:9.

[10] -محمد خيري، العقار وقضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، دار نشر المعرفة، الرباط 2014، الطبعة السادسة، ص:157.

[11] -قرار منشور بمجلة القضاء والقانون، عدد 144، الرباط المطبعة أمنية، ص 230.

[12] -تنص المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية كما تممت وعدلت بموجب القانون رقم : 16.69 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.17.50 بتاريخ 30 أغسطس 2017. على أنه :”يجب ان تحرر-تحت طائلة البطلان- جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو اسقاطها وكذا الوكالات الخاصة بها بموجب محرر رسمي، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك….”

[13]-يونس معاطا، الأمن العقاري في ضوء قانون 14.07، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، سطات، السنة الجامعية 2015/2016، ص:7.

[14] -ينص الفصل 32 من قانون 14.07 على ما يلي : “يعتبر التعرض لاغيا  وكان لم يكن، إذا لم يقدم المتعرض خلال الاجل المنصوص عليه في الفصل 25 من هذا القانون، الرسوم والوثائق المؤيدة لتعرضه، ولم يؤد الرسوم القضائية و حقوق المرافعة أولم يثبت حصوله على المساعدة القضائية.”

[15] -ادريس الفاخوري، الوسيط في نظام التحفيظ العقاري بالمغرب دراسة لنظام التحفيظ العقاري والفقه الإداري و العمل القضائي، مكتبة المعرفة مراكش2018، الطبعة الثالثة ، ص:104.

[16] -عبدالحق الصافي، الوجيز في القانون المدني الجزء الأول- المصادر الارادية للالتزام دراسة في ق.ل.ع وفي القوانين الأخرى، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2016، ص:165.

[17] -نجيم أهتوت، أثر عدم الملائمة بين النصوص التشريعية على الأمن التعاقدي، الندوة الوطنية حول الامن التعاقدي في التشريع المغربي المنظمة من طرف ماستر قانون العقار والتعمير برحاب كلية المتعددة التخصصات بالناظور، سلسلة أعمال جامعية، مطبعة الامنية بالرباط 2019، ص:36.

[18] -طارق دخيسي، تحيين الرسوم العقارية وأثره على التنمية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الأول بوجدة، 2007/2008، ص:10.

[19] -تنص الفقرة الثامنة من الفصل 65 مكرر على ما يلي :”إذا لم يطلب التقييد بالرسم العقاري ولم تؤد رسوم المحافظة العقارية داخل الأجل المقرر أعلاه، فإن طالب التقييد يلزم بأداء غرامة تساوي خمسة في المائة من مبلغ الرسوم المستحقة، وذلك عن الشهر الأول الذي يلي تاريخ انقضاء الأجل المذكور و0.5 في المائة عن كل شهر أو جزء من الشهر الموالي له.”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى