أسس الاستــثمار المســتدام وفـــق مـــقاربات الاقتــصاد الأخــــضر في أفــق 2030
د. جميـــــلة مــرابــــــــط) (Jamila Mourabit
باحــثة في شؤون الطاقة_البيئة_التنمية
أسس الاستــثمار المســتدام وفـــق مـــقاربات
الاقتــصاد الأخــــضر في أفــق 2030
شكل وجود نموذج اقتصادي جديد، بديلا ووجها جديدا فرض نفسه بإصرار على المشهد التنموي. خاصة بعد ما شهده العالم من أخطار بيئية وشح الموارد، مع تفاقم الفوارق الاجتماعية الصارخة، بفعل استراتيجيات التنمية الاقتصادية المسيئة في تخصيص الموارد… مما استوجب انتقالا لا محيد عنه نحو الاقتصاد الأخضر. إنتقال فرض على حكومات العالم تبني تدابير تحفيزية جديدة، وسياسات تمكينية تدعيم بنيات الأسواق والآليات الاقتصادية، فضلا عن إعادة توجيه الاستثمار بجعله في المسار الأخضر.
وضمن هذا الإطار، تندرج أسس الإستثمار المستدام كوسيلة للإنعاش الاقتصادي؛ وكآلية حيوية لاستئصال الفقر المستديم. في جعل عوامل الاستدامة لها نفس الوزن في عمليات التنمية والتخطيط الاقتصادي… إلا أن التحدي الذي يواجهه الفاعلون السياسيون، هو كيفية تحقيق التوازن بين منطق استثمارات على المدى القصير الذي يحكم الوعود الانتخابية والانتظارات الاجتماعية الملحة، ومنطق المدى البعيد الذي يعلل النتائج الإيجابية للانتقال إلى اقتصاد أخضر.
هذا ما دفع بالخبراء إلى صياغة، خارطة طريق للاقتصاد الأخضر[1] تنطوي على رؤية مشتركة وجداول زمنية وغايات وأهداف وإجراءات، وتوفر الدعم لعمليات التنفيذ الوطنية في شكل مجموعة من الصكوك والتدابير التي يمكن للبلدان تقاسمها واستخدامها، بما في ذلك خدمات لتوفير المعلومات والدعم التقني لعمليات التنفيذ الوطنية.
هي تدابير سبق أن حددت ضمن أهداف وغايات الخطة العالمية للتنمية 2030[2] خاصة وسائل التنفيذ، التي تم إدراجها في إطار الهدف 17” تعزيز وسائل التنفيذ وتنشيط الشراكة العالمية من أجل تحقيق التنمية المستدامة… إعتماد نظم لتشجيع الإستثمار لأقل البلدان نموا وتنفيذها… بتعبئة الموارد واستخدامها بصورة فعالة…” مع الأخذ بما تم الإتفاق عليه بأديس أبابا.
وعلى أعقاب خطة أديس أبابا، تم إصدار تقرير تمويل التنمية المستدامة لعام 2019،[3] حيث أشارت فيه المنظمات الدولية إلى بعض الأخبار السارة، ذلك أن دعم الاستثمار في بعض البلدان، أدى إلى ازدياد الاهتمام بالاستثمار المستدام. إلا أنه وضمن نفس التقرير جاء تحذير أنه “ما لم يتم إصلاح النظم المالية الوطنية والدولية، فسوف تفشل حكومات العالم في الوفاء بوعودها بشأن قضايا حرجة مثل مكافحة تغير المناخ والقضاء على الفقر بحلول عام 2030″. لذلك توصي الوكالات الدولية باتخاذ خطوات ملموسة لإصلاح الهيكل المؤسساتي العالمي وجعل الاقتصاد العالمي والتمويل العالمي أكثر استدامة.
ونظرا أن النهج الأخضر جاء لدعم السياسات التنموية بجعلها أكثر سلاسة وتناغما مع الواقع، هذا ما يدفعنا لإستعراض وبإيجاز، السياسات التمكينية لدعم التحول إلى الاقتصاد الأخضر وفقا للتقرير الذي أصدره فريق إدارة البيئة المعنون “العمل على بناء اقتصاد أخضر متوازن وشامل“[4]. بحيث تضمن تركيزا على عشر قطاعات اقتصادية رئيسية، مع تخصيص استثمار اثنين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ذلك بأن العديد من فرص الاستثمار والإصلاحات السياسية الخاصة بقطاع معين، يمكن أن تكون لها أهمية على المستوى العالمي، ومثل هذه الفرص توجد بوفرة في مجالي الطاقة المتجددة وكفاءة الموارد، وتحسين إدارة المخلفات. ينبغي فقط على البلدان أن تنتقي وتختار، تبعاً لأولوياتها من السياسات التي تكفل خضرنة اقتصادياتها استناداً إلى الأوضاع الخاصة بها.
تدابير وإجراءات عملية أخذت بها التجربة المغربية ضمن إستراتيجيتها التنموية، والتي تشكلت وثيقة مرجعية لدعم مجموع السياسات العمومية الرامية لبلوغ التنمية المستدامة المحددة في 7 رهانات كبرى .
- سياسات تمكينية مشجعة للاستثمارات الخضراء :
بصفة عامة، تتركز الظروف التمكينية ضمن إطارين: الأول في إصلاح الاقتصاد، كتغيير السياسات المالية، وتحسين القواعد واللوائح والمشتريات العامة الخضراء وتقليل أو التخلص من الدعم الفاسد أو المضاد للبيئة، وتعزيز قدر اكبر من التعاون الدولي…
والثاني في توجيه الاقتصاد نحو تحفيز الاستثمار عن طريق آليات السوق بإصدار أذونات أو سندات متداولة للتلوث(المثال البارز في هذا الإطار ما يعرف ببرنامج REDD) غايته تقدير قيمة تخزين الكربون المحتمل للغابة، وإصدار ائتمانات بهذه القيمة وبيعها إلى البلدان الغنية والشركات الكبرى الذين يقومون باستخدام هذه الإئتمانات لتعويض، أو شراء وبيع، تصاريح تلويث في أسواق الكربون، وبالتالي يوفر حوافز مالية لعدم إزالة الغابات…[5] أيضا نجد مشروع ERISC الذي يشجع الحكومات والمستثمرين ووكالات التصنيف الائتماني والمصارف على العمل معا لمواصلة التحقيق في الروابط بين المخاطر البيئية والآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتحسين دمج هذه المعلومات في تقييمات المخاطر القطرية وقرارات الاستثمار الخاص بها.[6]
وهذه الإجراءات تشجع اعتماد مفاوضات طوعية بين الأطراف المتأثرة وستمكن من وضع سياسات اجتماعية بتوظيف استثمارات في المهارات الجديدة وفي قطاعات رئيسية، مثل الصناعات التحويلية المستدامة أو ما يعرف بالمشاريع الخضراء، التي تعتمد عمليات مراعية للبيئة و/أو التي تنتج سلعاً خضراء مستعينة بمعايير المنظمة الدولية لتوحيد القياسي (ISO 14001) ، في مقابل حصولها على شهادات بيئية كمؤشر جيد لرصد التحول إلى الاقتصاد الأخضر، أما على مستوى المشاريع، يمكن أن يساعد حساب البصمة الإيكولوجية على رصد التحول إلى الإنتاج الأخضر.. وبالتالي نكون تجاوزنا المقاييس التقليدية للأداء الاقتصادي، التي تركز على الناتج المحلي الإجمالي…
هذا ما أكدته مجموعة من البحوث، بأن تخضير المنشآت والقطاعات الإقتصادية خاصة قطاع النقل والمباني وقطاعات إدارة النفايات والتدوير التي تستخدم عشرات الملايين من العمال في العالم(%1 من سكان المناطق الحضرية في البلدان النامية وفقا لإحصائيات البنك الدولي)[7] والتي يتوقع لها أن تتنامى، سيعمل على استحداث الوظائف الخضراء، وفي سياق هذه العملية سوف تسهم في التخفيف من معدلات البطالة وتحقيق استدامة بيئية في الوقت ذاته.
- رهانات تنموية مستدامة بآليات دعم قوية
توصف الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة للمملكة المغربية، بذلك المسلسل التفاعلي الممتد للفترة 2017-2030. والتي تضمنت إجراءات عملية تفرض تغيير سلوكيات الفاعلين من الفهم الكلاسيكي للتنمية، إلى رسم تدبيري يضع التنمية المستدامة ضمن مؤشرات اقتصاد سليم. خاصة بعد التشخيص العميق لحصيلة الإنجازات التي كشفت عن معيقات تنافسية. لذا فقد تم ربط هذه الإستراتيجية بسبعة رهانات كبرى تضم عدة محاور استراتيجية قائمة على إدماج أربعة مرتكزات رئيسية للتنمية المستدامة وهي: الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي.
ويشكل المرتكز الاقتصادي بلا منازع قاطرة الرؤية الاستراتيجية، لأنه لا يمكن تصور تنمية مستدامة بمعزل عن اقتصاد سليم بمؤشرات أداء قوية.
نجد اقتصاد بيئي، وبالأخص الاقتصاد الدائري، أمرا محوري وأساسي، ضمن أبعاد هذه الإستراتيجية، خصوصا عند صياغة السياسات العمومية ذات الصلة بالبيئة، من أجل فك الارتباط القائم بين التنمية الاقتصادية من جهة والضغط على الموارد من جهة أخرى، فضلا عن خلق مناصب شغل خضراء مستدامة في المهن المرتبطة بالبيئة.
فالأمر له ارتباط بتوجه عالمي والمعروف “بالتنمية الخضراء الصناعية”، ويسعى المغرب عبر برنامجه الوطني لإدارة النفايات بتدوير ما بين عشرين إلى ثلاثين بالمائة من النفايات في حدود 2022، مع تحسين أحوال نابشي القمامة. وقد حظي هذا البرنامج بدعم من أربعة قروض متتالية من قروض سياسات التنمية من البنك الدولي.[8] إلا أن القطاع ما يزال يواجه عقبات وتحديات جمة، خصوصا ما تعلق منها بـ”سوء حكامة القطاع”، وغياب التواصل والتحسيس، ووجود 200 مطرح للنفايات لم يتم إعادة تأهيلها بعد، وتعدد الوسطاء والفاعلين المنخرطين، وكذا ضعف البحث العلمي والتقني في هذا الميدان…
الأمر نفسه يشهد قطب الطاقات المتجددة، التي تشكل مفتاحا للتنمية المستدامة. فقد أبانت دراسة تم إنجازها في إطار التعاون بين وزارة الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة والوكالة الدولية للطاقة،[9] بتشاور مع فاعلين بالقطاعين العام والخاص، على ضرورة مراجعة الإستراتيجية المغربية للطاقات المتجددة من خلال تطوير نظام التنجيع الطاقي[10] الذي يتطلب الرفع من نسبة استثمارات القطاع الخاص، وتعزيز دور الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء. ومحاولة الاستفادة من الطاقات المتجددة في قطاعات أخرى مثل الإسكان والصناعة والنقل …
وحتى لا أطيل في هذا المجال، ما هو أكيد أن التنجيع الطاقي يشكل نموذج تنموي مستدام بإمتياز ورافد مشجع على الاستثمارات، والمغرب يمتلك من المقومات ما يكفل له ضمان تنفيذ الرؤية الاستراتيجية، بتعميم مقاربة الاستدامة من خلال العمل بالتوازي على العديد من الأوراش، مع مراجعة حكامة التنمية المستدامة في اتجاه دعم كفاءات الفاعلين وتحسين الإطار التشريعي وتقوية المراقبة والتنفيذ الفعلي للقوانين، ويستوجب على القطاعات أن تُدمج بشكل أكبر المكونات السوسيو- بيئية في خرائط الطريق الاستراتيجية التي تعتمدها.
وفي الأخير، أشير إلى أن خطة التنمية العالمية، ما هي إلا برنامج عمل لأجل الناس والأرض ولأجل الإزدهار، والهدف الرئيسي منها “بألا يخلف الركب أحد وراءه”، لذا فنحن مازلنا نملك فرصة كبيرة للتغلب على الاختناقات في التمويل المستدام في عام 2019، فالمسؤولية الآن تقع على عاتق الحكومات في تجديد الإلتزام بتعددية الأطراف، واتخاذ إجراءات سياسية من شأنها أن تخلق مستقبلًا مستدامًا ومزدهرًا.
الهـــــــــوامـــــش:
- تقرير رئيسي جديد للأمم المتحدة ” إصلاح النظام المالي العالمي”، نيويورك، 4 أبريل (نيسان) 2019 ، هذا التقرير هو الأساس للمناقشات في منتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي المعني بتمويل التنمية (15-18 أبريل 2019) ، حيث تتفق الدول الأعضاء على التدابير اللازمة لتعبئة التمويل المستدام. يُقام معرض أهداف التنمية المستدامة للاستثمار ، الذي يجمع المسؤولين الحكوميين والمستثمرين، يومي 15 و 16 أبريل في مقر الأمم المتحدة. مزيد من المعلومات حول كلا الحدثين موجودة على: https://www.un.org/esa/ffd/ffdforum/ يمكن تحميل النسخة الكاملة من التقرير ومرفقه على https://developmentfinance.un.org/
- جميلة مرابط: الطاقات المتجددة وغير المتجددة وتداعيات التحول، أطروحة دكتوراه في القانون العام، جامعة سيدي محمد بن عبد الله_كاية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية_فاس،2018.
- هذا الملخص لسندات المناخ لمزيد من التفاصيل أنظر:
http://climatebonds.net/wp-content/uploads/2009/12/ClimateBonds_4pp_Sept2012.pdf
- فريق إدارة البيئة، “العمل على بناء اقتصاد أخضر متوازن وشامل: منظور لمنظومة الأمم المتحدة بأسرها” (نيويورك، كانون الأول/ديسمبر 2011). والتقرير متاح في الموقع التالي:
- لأمم المتحدة، منظمة العمل الدولية، المكتب الإقليمي للدول العربية، “تقييم الوظائف الخضراء في لبنان، التقرير التوليفي”، (بيت الأمم المتحدة، بيروت، يوليوز)
- كتابة الدولة لدى وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة: ملخص الإستراتيجية الوطنية للتنمة المستدامة 2030، الرباط 2018.
- الجمعية العامة للأمم المتحدة: الوثيقة الختامية لمؤتمر قمة الأمم المتحدة لإعتماد خطة التنمية لما بعد عام 2015، الدورة السبعون . سبتمبر 2015.
- فريق إدارة البيئة: هيئة تنسيقية تابعة للأمم المتحدة تضم وكالاتها، وبرامجها وهيئاتها ومؤسسات بريتون وودز، وأمانات الاتفاقات البيئية المتعددة الأطراف؛ ويترأسها المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ويُعنى الفريق بزيادة التعاون بين الوكالات دعماً لتنفيذ جدول الأعمال الدولي في مجالي البيئة والمستوطنات البشرية, كما أنشأ كبار مسؤولي فريق إدارة البيئة، في اجتماعهم الخامس عشر المعقود في سبتمبر 2009، فريقاً لإدارة قضايا الاقتصاد الأخضر،من أجل تقييم قدرة الأمم المتحدة على تزويد البلدان بدعم أكثر اتساقاً في الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، والعمل على وضع التدابير المشتركة اللازمة لدعم ذلك التحول. للمزيد أنظر فريق إدارة البيئة، “العمل على بناء اقتصاد أخضر متوازن وشامل: منظور لمنظومة الأمم المتحدة بأسرها” (نيويورك ديسمبر 2011). والتقرير متاح في الموقع التالي:
- جميلة مرابط: تعزيز النجاعة الطـــــاقية وفق تكـــــامل جهــــوي مـــوسع: الجــــيل الــــرابع من الطــــاقة، مجلة المنارة الصادرة عن مركز المنارة للدراسات والأبحاث، العدد 26مارس، 2019.