التعليم عن بعد والحق في السكن اللائق
عبد الخالق العزيزي *
التعليم عن بعد : ” خيار استراتيجي”
ليس التعليم عن بعد في المغرب، وعكس ما قد يعتقده البعض، وليد ظرف استثنائي يتمثل في جائحة كورونا وما أعقبها من توقيف للدراسة يوم 16 مارس 2020 ومباشرة ما سمته الوزارة الوصية على القطاع بالاستمرارية البيداغوجية، ولكن الحديث عنه بدأ منـــذ أزيد مـــن عقديـــن.
نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على ” الاستعانة بالتعليم عن بعد في مستوى الإعدادي والثانوي في المناطق المعزولة ” (الدعامة العاشرة، المادة 119) وأكدت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015/2030) على” التعزيز التدريجي لصيغ التعليم الحضوري بالتعلــيم عــن بعـــد وعلـــى تنميتــه وتطــويره ” ( الرافعة 19، المادة 102 ) ونص القانون الإطار المتعلــق بإصلاح منظومـــة التربيــة والتكوين بالمغرب في مادته 33 على ما يلي: ” يتعين على الحكومة أن تتخذ جميع التدابير اللازمة والمناسبة لتمكين مؤسسات التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي في القطاعين العام والخاص من تطوير موارد ووسائط التدريس والتعلم والبحث وفي منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ولاسيما مــــن خلال الآليـــات التاليـــة : تنمية وتطـــوير التعلـــم عـــن بعـد، باعتباره مكملا للتعلم الحضوري .”…
اللافت للانتباه، وفي غياب أي تقييم شامل لما سمي بالاستمرارية البيداغوجية ورغم عدم اعتمادها في الامتحانات الاشهادية، سارع وزير التربية الوطنية إلى الإعلان عن نجاح العملية واعتزام مأسستها وتقنينها مستقبلا، وهو ما تجسد بسرعة من خلال وثيقة تربوية بسيطة لكنـــها بمضمون دال، يتعلـــق الأمر ب” مشروع النظام الداخلي النموذجي لمؤسسات التربية والتعليم العمــــومي، المتضمن لميثاق التلميذ(ة) والذي جعل من ” الالتزام بإعداد وتقديم دروس وحصص في إطار التعليم عن بعد إحــدى واجبات الأستاذ” (ص: 10). وهنا يمكن أن نلاحظ كيف تم الانتقال من التعلم عن بعد في المــادة 33 من القانون الإطار إلى التعليم عن بعد في النظام الداخلي النموذجي، ولعل التنصيص على هذا الواجب في هذه الوثيقة لدليل على عزم الوزارة اعتماد هذا الأسلوب مستقبلا بغــض النظر عن وجـــــود ظروف استثنائية من عدمه.
يأتي هذا في وقت أعلن فيه البنك الدولي، في تقرير له صدر أوائل شهر يوليوز 2020، أن ” التعليم لن يعود كما كان سابقا” وأن ” مزيج التعليم المباشر والتعليم عن بعد سيصبح حقيقة جديدة فــــي واقـــع الحياة”. وفي وقت أصبح فيه من المألوف في المجال البيداغوجي، أن ما يظهر في أوروبا، يصل إلى المغرب بعد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر، ليطبق في غياب الشروط التي توفرت لتطبيقه في منشئه الأصلي وليصبح التطبيق المغربي مشوها وكاريكاتوريا، هذا الأمر ينطبق أيضا على التعليم عن بعـــد الذي بدأ الحديث عنه في أوروبا وأمريكا قبل حلول الألفية الثالثة، ويرجع الباحث ” روبيرت هيرت ” هذا الاهتمام إلى الاتجاه المتنامي نحو تبضيع التعليم وتسويق المدرسة بل و”تعهيرها” أوروبيا وعالميا حيث تصبح الدروس هي المنتجات والمتعلمون هم المستهلكون، ومن ثم يصبح التعليم خدمـــة كباقــــي خدمات العالم الاقتصـــادي. هذا ما يمكــن الوقـــوف عليــــه من خلال تقارير ” اللجنة الأوروبية ” و” المصنعين الأوروبيين (الحسن اللحية 2014).
السكن اللائق : حق للإنسان و مكانه الخاص في العالم
يحيل السكن في اللغة العربية إلى السكون والسكينة، ومن ثم فالمسكن هو ما يلجأ إليه الإنسان طلبا للراحة والطمأنينة والأمان. وإذا كان التعليم عن بعد هو ذلك التعليم الذي يكون فيه المتعلم بعيدا مكانيا، وأحيانا زمانيا كذلك، عن المعلم، فإن الحديث عنه، على الأقل في المغرب، هو حديث عن التعليــم من المسكن لأنه لا يوجد مكان غيره يمكن أن يكون مقرا لهذه العملية.
حقوقيا، يعتبر السكن حقا من حقوق الإنسان الأساسية مصنف ضمن الحقوق الاجتماعية، نص عليـــه الدستور المغربي في الفصل 31 (تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في: السكن اللائق، الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة، التنمية المستدامة).
وقد سبق للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن نص على الحق في السكن وربطه بالحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية للشخص ولأسرته (المادة 25)، ونفس الأمر أعاد التأكيد عليه العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المادة 11، وتوسع التعلـــيق العام رقم 7، الصادر عن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 1997، في شرحه وتفسير العناصر التي من شأنها أن تجعل السكن لائقا أو ملائما. ورد في الفقرة السابعة من هذا التعليق ما يلي: ” الحق في السكن لا ينبغي أن يفسر تفسيرا ضيقا أو تقييديا يجعله مساويا للمأوى الموفر للمرء بمجرد وجود سقف فــــــوق رأسه … بل ينبغي النظر إلى هذا الحق باعتباره حق المرء في أن يعيش في مكان ما في أمن وسلام وكرامة “، وفي الاستراتيجية العالمية للمأوى حتى عام 2000 نقرأ ما يلي: ” المأوى الملائم يعني التمتع بالدرجة الملائمة من الخصوصية والمساحة الكافية والأمان الكافي”.
من خلال ما سبق، يبدو أن الحق في السكن ليس حقا في السكن وفقط، بل هو حق في السكن اللائق أو الملائم، ومن عناصر الملاءمة أن يوفر المأوى الإحساس بالأمن والسلام والتمتـــع بالخصوصية. وهذا الحق يعتبر أيضا حقا في ذاته وآلية لإعمال حقوق أخرى كالصحة والتعلـــيم وغيرهما، وفــــي إطار شمولية حقوق الإنسان يمكن ربط الحق في السكن بعدد من الحقوق من قبيل الحــــــق في الراحــة وأوقات الفراغ الذي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المــــادة 24 (لكل شخص حــق في الراحة واوقات الفراغ، وخصوصا في تحديد معقول لساعات العمل).
تاريخيا، يمكن القول ان التوفر على مسكن خاص ومستقل بباب خاص ومستقل يمكـــن إغلاقه وفتحه بإرادة ذاتية ومستقلة، شكل تطورا هاما في حياة الإنسان. فسواء تعلق الأمر بصخرة ثقيلة تسد فتحة كهف في غابة أو جبل (كما كان الأمر في البداية) أو بقطعة خشبية أو حديدية أو غيرهما، فـــإن الباب دشن للتمييز بين المجال الخاص والمجال العـــام، ” بين ما هو داخلـــي حميمي خــــاص وما هو خارجي عام ” (عكاشة بن المصطفى، 2007).
هكذا، أصبحت للمسكن الخاص والمستقل وظيفة نفسية، إنه مكان للتمتع بالخصوصية والحميمية، مكان يستطيع فيه الإنسان أن يتمتع بكامل حريته وعفويته، مكان لا مكان فيه للخجل من نظرة الغير، ذلك الجحيم بتعبير الفيلسوف سارتر.
فلسفيا، يعتبر السكن، حسب هيدغر، وعكس المقاربة الوظيفية، مجالا لتحقق الشرط الإنساني وكيفية للوجود الإنساني على الأرض، وليس مجرد مأوى. فلا يكفي ان نمتلك سقفا فوق رؤوسنا لكي نتحدث فعلا وحقيقة عن فعل السكن، و” فرق بين ان يكون لك محل يحميك وبين أن يكون لك مكان في العالم ” (الحسن أسويق، 2020).
التعليم عن بعد : تكسير الباب و استلاب الإنسان
إبان فرض الحجر الصحي على المغاربة، ومباشرة مع ما سمي بالاستمرارية البيداغوجية عن طريــق التعليم عن بعد، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أخبار حوادث متفرقة لكنها متواترة، لحالات عـــــن ردود أفعال لآباء وأمهات وصلت أحيانا درجة الانهيار النفسي والعصبي وهم يواكبون متابعــة أبنائهم لحصص التعليم عن بعد، هكذا يستحيل المسكن جحيما بدل أن يكون ملاذا لطلب السكينة والراحة.
– بالنسبة للأستاذ (ة)، كإنسان، يعتبر العمل بعدا من أبعاد حياته وهويته وماهيته وليس البعد الوحيد، وكما يمكن للعمل أن يكون عاملا لتحرير الإنسان وتحقيق إنسانيته، يمكنــه كذلك أن يكـــــون عامـــــلا لاستلابه واستعباده ومن ثم سلب حريته وإنسانيته. ونوع العمل هنا يجعل الأستاذ (ة) موظفا عموميا (بخلاف ما يسمى بالأعمال والمهن الحرة) يقدم خدمة عمومية، أما المسكـــن فهو فضـــــاء خاص لا يشاركه فيه إلا من أراد هو ويمكن إن أراد ألا يشاركه فيه أحد. هكذا يؤدي التعليم عن بعد، والعمــــل عن بعد بصفة عامة، إلى اقتحام العام للخاص ومزاحمته في “عقر داره”، هذا في الوقت الذي اعتـــــبر فيه الفصل بين المجالات إحدى مرتكزات الحداثة.
أما إذا كان الشخص أستاذا (ة) وأبا أو أما في نفس الوقت، فالتعليم عن بعد من شأنه أن يجعل مسكنه جحيما وخصوصياته الحميمية مجرد حلم بعيد المنال. من الآن فصاعدا سيكون مـــن الصعـــب عليه أن يقرأ رواياته المفضلة أو يمارس نشاطا نقابيا أو سياسيا أو يكتب خواطر أو مذكرات… لقد أصبح إنسانا ذا بعد واحد بتعبير ” هربرت ماركيوز، لقد أصبح وقته ومكانه في العالم” موزعا بين متابعة تعلـــــــيم أبنائه عن بعد والقيام بحصص عن بعد لتلامذته.
– بالنسبة للتلميذ(ة)، من الآن فصاعدا سيقضي مدة طويلة في المدرسة قد تصل إلى 8 ساعات يوميا، بعدها سيعود إلى البيت ليبدأ حصصا عن بعد وساعات إضافية وحصصا للتقوية والدعم الخ…، لن ينعم بعد اليوم بالراحة ولن يستفيد من حقه في اللعب والترفيه وممارسة ما يميل إليه من هوايات لأن الشركات تحتاجه عاملا مستقبليا، تحتاجه مبكرا ولأطول مدة ممكنة.
كخلاصة مؤقتة، وبغض النظر عن زمن الاستثناء والظرف الطارئ والقاهر، فإن التعليم عن بعد أصبح رهانا رسميا عالميا ووطنيا، الشعارات المعلنة لهذا الرهان شعارات جذابة وبراقة من قبيــــــل تجويد التعلمات وإسناد التعليم الحضوري.
هذا المقال دعوة إلى النظر إلى التعليم عن بعد من زوايا أخرى في سياق مقاربة حقوقية تبتغي اقتفاء أثره على حقوق طالما اعتبرت أساسية، مقاربة تنطلق من أن حقوق الإنسان أولى من حقوق الشركات.
أستاذ
لائحة المراجع:
- الحسن اللحية، المدرسة العاهرة، 2014، منشور على الموقع الإلكتروني تربية بريس: https://www.tarbiapress.net/2014/11/blog-post_47.html
- عكاشة بن المصطفى، حقوق الإنسان: دراسة قانونية ومؤسساتيــة، دار الآفاق للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى، 2017، ص: 101 ).
- الحسن أسويق، الحجر والعزاء، رؤية فلسفية لأصــــل معاناة الحجر، ضمن كتـــــاب، الجوائح في الأزمنة المعاصرة: رؤى دينية وفلسفية، دار العرفان للنشر والتوزيع، الطبعــــة الأولى، 2020.
- المملكة المغربية، اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين، الميثاق الوطني للتربية والتكوين، 1999.
- وزارة التربية الوطنية، مديرية الشؤون القانونية والمنازعات، مشروع النظام الداخلي النموذجي لمؤسسات التربية والتعليم العمــــومي، المتضمن لميثاق التلميذ(ة)، 2020.
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030.
- الجريدة الرسمية للملكة المغربية، عدد 6805 (19 غشت 2019)، الظهير الشريف رقم 1.19.113، صادر في 9 غشت 2019 والقاضي بتنفيذ القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
- الأمم المتحدة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948.
- الجمعية العامة للأمم المتحدة، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، 1966.
- الجمعية العامة للأمم المتحدة، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، 1966.
- مجموعة البنك الدولي، جائحة كورونا: صدمات التعليم والاستجابة على صعيد السياسات (ملخص تنفيذي)، 2020.
- الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاستراتيجية العالمية للمأوى، .1988
- دستور المملكة المغربية لسنة 2011.