في الواجهةمقالات قانونية

وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

جامعة الحسن الأول – السطات

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية

شعبة القانون الخاص

 

بحث حول:

وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

  

أمين نصر الله

طالب بالسداسي الرابع

2020/2019

لائحة فك المختصرات

ص : الصفحة

ظ.ل.ع : ظهير الالتزامات والعقود

م س : المرجع السابق

ق.م.م : قانون المسطرة المدنية

 

  

 

مقدمة:

“إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار”[1] ، هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته أم سلمة رضي الله عنها، مبرزا بذلك دور وأهمية وخطورة ما يقدمه المتخاصمون من حجج تكون لهم عتقا من حكم القضاء وإنصافا من خلاله.

ولأن القاعدة القانونية قاعدة سلوكية تضبط وتؤطر مختلف التصرفات القانونية والوقائع المادية بين الأفراد داخل المجتمع،  فقد كان لزاما على المشرع أن يضع للأفراد وسائل لإثبات تصرفاتهم أمام القضاء للاستفادة من قاعدة قانونية ما أو استبعادها. فالقضاء في نهاية المطاف يتولى الظهائر بما لديه من حجج، والله يتولى السرائر.

والإثبات هو تقديم الحجج القمينة بجدية وأحقية طرفي الدعوى فيما يدعونه، وهو ما يشكل تفعيلا للقاعدة الفقهية المشهورة المستمدة من الحديث النبوي الشريف “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”، إذ هو حفظ لحقوق الأفراد من الادعاءات الكاذبة والمضللة، وفي هذا الصدد تستوقفني مقولة الفقيه ايرينج  “Ihring” عن هذه الفكرة بعبارته الشهيرة ” إن الدليل فدية الحق”[2]، كما تتجلى أهميته في استقرار المعاملات وإشاعة الطمأنينة داخل المجمتع وتمكين القاضي من إنتاج الحقائق القضائية بناء على الحقائق الواقعية ومن ثم الاقتراب ما أمكن للعدالة القصوى، الشيء الذي ينعكس إيجابا على المجال الاقتصادي والاجتماعي، وهو أيضا تحصين لمرفق القضاء من الدعاوى الكيدية التي قد تثقل كاهله بما ينعكس سلبا على العمل القضائي.

وقد عرفت مؤسسة الإثبات المدني في المغربي تمرحلا تاريخيا يمكن تقسيمه الى محطتين أساسيتين، مرحلة ما قبل الحماية الفرنسية مستندة في أغلبها على الفقه الاسلامي وخاصة الفقه المالكي (اليمين، الشهود العدول، الشهود اللفيف، العرفاء القرائن..)[3]، ومرحلة الحماية التي كانت محطة بارزة ودينامية بصدور قانون الالتزامات والعقود وقانون المسطرة المدنية بموجب ظهير 12 غشت1913 مؤسسة بذلك لنظام الاثبات المدني إطارا قانونيا ينظمه ويحدد قواعده ووسائله. وقد أتى المشرع المغربي في ظهير الالتزامات والعقود على ذكر وسائل الإثبات المقررة في نطاق المعاملات والوقائع المدنية، إذ عددها في مقتضى الفصل 404 على النحو الآتي بيانه: “وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي: إقرار الخصم ؛ الحجة الكتابية ؛ شهادة الشهود ؛ القرينة ؛ اليمين والنكول عنها.”

وقد تتساءلون أيها القارئ الكريم حول جدوى هذه التسمية “الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود” وسندكم في هذا التساؤل أنكم ترجحون تسمية الإثبات المدني عوض الالتزامات والعقود. وللإجابة عن تساؤلكم هذا لابد من الإشارة الى ما قاله الأستاذ إدريس العلاوي العبدلاوي في هذا الصدد، وهو أن الإثبات يرتكز على قواعد موضوعية تحدد محل الإثبات ومن يقع عليه عبء الإثبات وطرق الإثبات، وهي المنصوص عليها في القسم السابع من الكتاب الأول من ظهير الالتزامات والعقود، و قواعد شكلية تحدد الإجراءات التي تتبع في إقامة الأدلة عندما يكون النزاع معروضا على القضاء، وهي القواعد الشكلية المنصوص عليها في إطار الباب الثالث من القسم الثالث من قانون المسطرة المدنية[4]، ولن أتناول في معرض هذا العمل المتواضع سوى الإثبات المنظم بمقتضى ظهير الالتزامات والعقود.

وانطلاقا من الفصل المومأ إليه يمكن إثارة إشكالية تتجسد على النحو التالي، الى أي حد تساهم وسائل الاثبات الواردة في ظهير الالتزامات والعقود في مطابقة الحقائق القضائية للحقائق الواقعية؟

وفي ضوء هذه الإشكالية تتفرع الأسئلة التالية:

  • ماهي الشروط والقواعد التي تؤطر الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود؟

–  وماهية وسائل الإثبات المشار إليها في هذا الظهير؟

وللإسهاب في الإجابة عن هذه الإشكالية أقترح التصميم الآتي:

            المبحث الأول: قواعد وشروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

            المبحث الثاني: وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

المبحث الأول: قواعد وشروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

قبل الشروع في تبيان ماهية وسائل الاثبات التي حددها المشرع في إطار الفصل 404 من ظ.ل.ع، كان من اللازم التطرق أولا لجملة القواعد والشروط التي تؤطر وتنظم هذه الوسائل، وهو ما دفعني الى تقسيم هذا المبحث الى مطلبين، المطلب الأول يعني بقواعد الإثبات، والمطلب الثاني يخص شروط الإثبات.

 

المطلب الأول: قواعد الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

إن الحديث عن قواعد الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود هو حديث عن الأسس والمنطلقات التي تنبني عليها هذه المؤسسة، وتتجلى هذه الأسس في مبدأ الإثبات المختلط (الفقرة الأولى)، ثم في عبء الإثبات (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: مبدأ الإثبات المختلط

إن مبدأ الإثبات المختلط هو مزيج بين مبدأ الإثبات المقيد ومبدأ الإثبات المطلق، وهو ما يستوجب ضرورة التفصيل في مفهوم هذا المبدأ، ثم آثاره على القضاة والمتقاضين.

 

                            أولا – مفهوم مبدأ الإثبات المختلط

لا يمكن على وجه الإطلاق تحديد مفهوم الاثبات المختلط في معزل عن تحديد مفهوم الاثبات المطلق أو الحر، وتحديد مفهوم الاثبات المقيد هو الآخر، لأن مبدأ الإثبات المختلط ما هو الا نتاج لعملية مزج بين كلا المبدأين المشار إليهما

 

1 – الإثبات المطلق أو الحر

عرف الفقيه عبد الرزاق السنهوري مذهب الإثبات المطلق بكونه مبدأ لا يرسم فيه القانون طرقا محددة للإثبات يقيد به القاضي، بل يترك الخصوم أحرار يقدمون الأدلة التي يستطيعون إقناع القاضي بها، ويترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه، وهذا المذهب يقرب كثيرا ما بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية لمصلحة العدالة[5]. غير أن هذا المبدأ ينطوي على خطورة بالغة، سيما وأنه يخول للقاضي سلطة أوسع في الأخذ بأي وسيلة إثبات أراد، وهو ما قد يشكل عائقا أمام مطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة القانونية.

 

2 – الإثبات المقيد أو القانوني

على عكس الإثبات المطلق الذي يسمح فيه للقاضي والمتقاضين بالأخذ بأي وسيلة إثبات ارتأوا أنها ذات جدوى في الوصول الى العدالة، فإن الإثبات المقيد على خلاف ذلك.

إذ أنه في الإثبات المقيد أو القانوني يرسم القانون طرقا محددة تحديدا دقيقا لإثبات المصادر المختلفة للروابط القانونية، ويجعل لكل طرف قيمته، ويتقيد بكل ذلك الخصوم والقاضي[6].

غير أن هذا المبدأ بقدر ما يحدد طرق الإثبات بدقة ويقطع الطريق على أي تعسف أو شطط قضائي، فهو قد يباعد بين الحقيقة الواقعية التي يمكن إثباتها بوسيلة أخرى كالشهادة مثلا، وبين الحقيقة القضائي التي وضع لها وسيلة إثبات معينة كالكتابة. وهو ما يشكل هدرا لحقوق المتقاضين باسم القانون الذي يفترض فيه أن يكون مرنا في تقصى الحقائق بغية الوصول الى العدالة.

3 – الإثبات المختلط

وهو مزيج بين نظام الإثبات المقيد ونظام الإثبات المطلق، ففي هذا النظام يسمح للقاضي بالتعامل بمرونة أكبر في جمع ما يساعده في الوصول الى العدالة، ويسمح للمتقاضين أيضا بالدفع بأي وسيلة ارتأوا، وفي نفس الوقت يؤطر بعض المعاملات بضرورة الأخذ بوسيلة دون الأخرى.

فالإثبات المختلط على حد تعبير فقيهنا عبد الرزاق السنهوري نظام يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود، وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه للقاضي من حرية التقدير[7]. وهذا النظام الوسط هو الذي اعتد به المشرع المغربي في ظهير الالتزامات والعقود

 

ثانيا – آثار نظام الإثبات المختلط

إن الأخذ بنظام الاثبات المختلط يجد له آثارا على المتقاضي من ناحية، وعلى القاضي من ناحية ثانية، وهو ما سوف أحاول الإسهاب فيه قدر الإمكان.

 

1 – أثر نظام الإثبات المختلط على المتقاضين

الإثبات واجب وحق،  فهو واجب على من يدعي بحق ما، إذ يكون عليه أن يقيم الدليل على ما يدعيه، وهو أيضا حق، فالشخص الذي يدعي بواقعة توفرت فيها الشروط (التي سنتطرق لها في قادم الأسطر)  يكون له الحق في اثباتها لتدعيم دعواه، فإذا لم يمكنه القاضي من ذلك كان هذا إهدارا لحقه في الإثبات، وبعبارة أخرى اخلالا بحقه في الدفاع يجعل الحكم مشوبا بالقصور وهو ما يؤدي الى نقضه[8].

ومن تم فإن نظام الإثبات المختلط يوفر حق الاختيار للمتقاضين، غير أن عنصر الاختيارية يتقيد ببعض الشروط، هذه الشروط التي سوف أتطرق لها في باقي الأسطر، ويمكن الإشارة لها بإيجاز من باب التوضيح في النقاط التالية.

  • لا يجوز للمتقاضي أي يثبت ما اشترط فيه القانون شكلا معينا الا بذلك الشكل، طبقا لأحكام الفصل 401 من ظ.ل.ع
  • لا يجوز للمتقاضي إثبات واقعة لم تتوفر فيها شروط الإثبات، وهي أن تكون الواقعة تتعلق بالدعوى ومنتجة وجائزة للإثبات طبقا لأحكام الفصل 403 من ظ.ل.ع

 

 

 

2 – أثر نظام الإثبات المختلط على القاضي

يتجلى أثر نظام الإثبات المختلط على القاضي في عدم جواز رفضه لطلب المتقاضي بالاعتماد على وسيلة إثبات معينة شريطة أن تكون مستوفية للشروط وألا يكون في الأخذ بها مخالفة لقاعدة آمرة تقضي بشكل معين كما يقضي بذلك  الفصل 401 من ظ.ل.ع. أضف الى ذلك أن القاضي ينفرد بسلطة تقدير هذه الأدلة.

كما أن هذا المبدأ يلزم القاضي بقاعدة أساسية، وهي أنه لا يجوز له أن يقضي بعلمه، وأنه ملزم بعرض أي دليل يقدمه الخصم في الدعوى على الخصوم جميعا للمناقشة، ويدلي كل برأيه فيه، يفنده أو يؤيده، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم للمناقشة لا يجوز الأخذ به ولا يجوز للمحكمة أن تأخذ بدليل نوقش في قضية أخرى ما لم يناقش في القضية القائمة، كما يلتزم القاضي أيضا بمبدأ الحياد الذي يقضي بتقييد حرية القاضي في توجيه الدعوى واستخلاص الحقائق من أدلهتها الا في حدود ضيقة[9].

 

الفقرة الثانية: عبء الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود

إن القاضي وهو ينظر في النزاع المعروض عليه يستعين بدعامتين أساسيتين، الدعامة الأولى هي العلم بالقانون والتمكن منه، وهو ما يفترض فيه بداهة بالنظر لوظيفته كقاضي غايته العدالة، والدعامة الثانية تتجلى في ما يقدمه المتقاضون من أدلة تساعده في الإقرار بالحقوق لأصحابها دون سواهم.

وإذا كان المشرع قد أرسى الدعامة الأولى بتكوينه للقضاة بعد الانتقاء والتداريب النظرية والميدانية، فقد وضع قواعد تنظم هذه الأدلة المشكلة للدعامة الثانية، هذه الأدلة التي يتقدم بها المتقاضون، وفي هذا الصدد وجب التمييز بين المتقاضي الذي يقع عليه عبء الإثبات من الآخر (ثانيا)، وقبل ذلك وجب التطرق الى مبدأ أساسي يؤطر عملية الإثبات وهو مبدأ حياد القاضي(أولا).

 

 

أولا: مبدأ حياد القاضي

إن الحياد المقصود في هذا الصدد ليس معناه عدم التحيز فإن هذا واجب بداهة على القاضي بل معناه أن يقف القاضي موقفا سلبيا من كلا الخصمين على حد سواء[10].

والمستفاد من هذا التأصيل الفقهي لمبدأ الحياد هو عدم مساهمة القاضي في جمع الأدلة، وإنما ترك هذه المهمة للخصوم، غير أن هذا المبدأ يرد عليه استثناء مهم.

ومن ثم كان من اللازم مناقشة مبدأ الحياد من خلال الإحاطة بالأصل والاستثناء المقرر للقاضي في جمع الأدلة.

 

1 – عدم مساهمة القاضي في جمع الأدلة كأصل

على خلاف الدعوى العمومية التي تمارسها النيابة العامة، وتنفلت من يد أطرافها، بل النيابة العامة طرفا أصلي فيها، فإن الدعوى المدنية ملك للخصوم[11]، ومعنى هذا القول أن المدعي إذا لم يدلي بحجج  يبرز من خلالها صحة ادعائه  فإن القاضي لا يساهم كأصل في جمع الأدلة، ولا يحكم بعلمه هو الآخر، وفي ذلك تفعيلا للقاعدة الفقهية المستمدة من الحديث النبوي الشريف، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وتفعيلا لما أقره المشرع أيضا ضمن مقتضى الفصل 399 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه “إثبات الالتزام على مدعيه”

2 – مساهمة القاضي في جمع الأدلة على وجه الاستثناء

انطلاقا من خصائص الإثبات المختلط وما يخوله للقاضي من صلاحيات تمكنه من التعامل بمرونة مع القضية المعروضة عليه، وتمكنه من تجواز جمود النص القانوني الذي قد يكون في بعض الأحيان قاصرا أو عائقا أمام إنتاج الحقائق القضائية في انسجام مع الحقائق الواقعية، فقد أجاز المشرع للقاضي المساهمة على وجه الاستثناء في جمع الأدلة، وهذه المساهمة تتمظهر في الصلاحيات التالية:

  • التحقيق في الدعوى: حيث أنه إذا لم يقتنع القاضي بما أدلي إليه من حجج عبر مستندات الدعوى يمكن له أن يساهم في جمع مزيد من الأدلة من خلال الأمر بالبحث في شأن الوقائع، وهو ما ينص عليه المشرع في مقتضى الفصل 71 من ق.م.م الذي جاء فيه “يجوز الأمر بالبحث في شأن الوقائع التي يمكن معاينتها من طرف الشهود والتي يبدو التثبت منها مقبولا ومقيدا في تحقيق الدعوى”.

وقد أكد الفصل 55 من ق.م.م هو الآخر على هذا الاستثناء “يمكن للقاضي بناء على طلب الأطراف أو أحدهم أو تلقائيا أن يأمر قبل البت في جوهر الدعوى بإجراء خبرة أو وقوف على عين المكان أو بحث أو تحقيق خطوط أو أي إجراء آخر من إجراءات التحقيق

  • تقدير الأدلة: إذ أن الأدلة المدلى بها يكون للقاضي وحده سلطة تقديرها واستخلاص الحقائق القضائية منها، ولا رقابة لمحكمة النقض على هذه السلطة التقديرية ما دام أنها تعني بالموضوع لا القانون.

وبعد أن تطرقت بشيء من الإيجاز لمبدأ حياد القاضي سأتطرق الآن الى نقطة مهمة تتعلق بضرورة تمييز من يقع عليه عبء الإثبات من المتقاضين.

 

ثانيا-  تمييز المدعي عن المدعى عليه

إن التمييز بين المدعي والمدعى عليه لأمر يبلغ من الأهمية بما كان، إذ أنه قمين بتحديد  من يقع عليه عبء الإثبات منهم، وبالتالي يتوجه إليه القاضي بضرورة الإدلاء بصحة ما يدعيه لكي يخلص الى تكوين قناعة تمكنه من إصدار حكم فاصل وعادل في موضوع النزاع. كما أن تحديد من يتحمل عبء الإثبات مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض.

وتحديد من يحمل عبء الإثبات مسألة يجب تناولها من حيث المبدأ ثم من ناحية التطبيق.

 

1– عبء الإثبات من حيث المبدأ

إن عبء الإثبات من حيث المبدأ يحتكم الى القاعدة الفقهية القائلة بأن البينة على من ادعي والمقررة بمقتضى الفصل 399 من ظ.ل.ع، وهنا يجب التفصيل في مفهوم المدعى على مستوى القواعد الإجرائية والقواعد الموضوعية.

فعلى المستوى الإجرائي فالمدعي هو من يقوم بتسجيل مقال الدعوى، ويبقى مدعيا الى حين صدور الحكم، فإذا تقدم المدعي عليه بمقال مضاد، سمي بدوره مدعيا في هذا المقال، حتى إذا صدر الحكم، اعتبر كل طرف مدعيا ومدعى عليه في نفس الوقت، لوجود دعاوى متقابلة، أما من حيث الموضوع فالأمر مختلف، ذلك أن المدعي ليس هو من يرفع المقال ويحرك الخصومة القضائية، كما أن الطرف الواحد قد يصبح مدعيا في دفع ومدعى عليه في آخر[12].

وقد حدد الفقيه السنهوري المدعي الذي يقع عليه عبء الإثبات بأنه الطرف الذي يدعي خلاف الثابت حكما أو فعلا، لأنه يدعي خلاف الأصل أو الظاهر أو المفروض أو الثابت، فوجب أن يحمل عبء إثبات ما يدعيه[13]. وعليه سأتطرق لخلاف الثابت حكما أو فعلا كل على حدة.

 

أ – المدعي بخلاف الثابت حكما

إن المقصود بالمدعي بخلاف الثابت حكما، هو من يدعي بخلاف ما يعتبر مجودا في البشر فطريا، وهو من يقع عليه عبء الإثبات لأنه ادعى بخلاف ما هو موجود كأصل.

  • والأصل في نطاق الحقوق الشخصية هو براءة الذمة: فمن يتمسك بالأصل لا إثبات عليه، ومن يدعي خلاف الأصل، بأن يدعي دينا في ذمة الغير عليه أن يثبت مصدر هذا الدين، فمن ادعى أنه أقرض آخر مبلغا من المال عليه أن يثبت هذا القرض. لأن الأصل هو براءة الذمة.
  • والأصل في نطاق الحقوق العينية هو الظاهر: فالحائز للعين غير مطالب بإثبات ملكيته، لأن الظاهر هو أن الحائز مالك، وغير الحائز الذي يدعي ملكية العين هو الذي يدعي خلاف ذلك، فعليه هو يقع عبء الإثبات، ومن ثم كان الحائز هو المدعى عليه دائما في دعوى الملكية، وذلك مالم يتبين من مستندات المدعي أن الظاهر يؤيد دعواه وينفي دفاع المدعى عليه، فعندئذ ينتقل عبء إثبات الملكية إلى المدعى عليه[14].
  • والثابت فرضا كالثابت أصلا وكالثابت ظاهرا: ذلك أن قد يحل محل الأصل في نطاق الحقوق الشخصية ومحل الظاهر في الحقوق العينية وضع يقر القانون وجوده عن طريق قرينة قانونية[15]، وكمثال على هذه القاعدة هو ما نص عليه المشرع في مقتضى الفصل 85 من ظ.ل.ع، حيث يكون الأب والأم مسؤولين عن الأضرار التي تسبب فيها ابنهم القاصر الساكن مفهم، وإن كان الأصل يقضي بضرورة تحميل المسؤولية للشخص الذي تسبب في الضرر شخصيا طبقا لأحكام الفصل 77 و78 من ظ.ل.ع، فإن المشرع أقر هذه القاعدة في الفصل 85 من ظ.ل.ع لكي تكون كالثابت أصلا وكالثابت ظاهرا، لأن الأب فالأم في هذه الحالة قصروا في تربية ابنهم، ولن يتحللوا من المسؤولية الا بإثبات العكس (كأن يثبتوا أنه كان في المدرسة مثلا).
  • والأصل في العقود الصحة: ما لم يثبت عكس ذلك، كأن يدلي أحد طرفي العقد بأدلة تثبت عيبا من عيوب الإرادة مثلا
  • والأصل في الإنسان كمال أهليته: كما نص على ذلك المشرع في الفصل 3 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه “وكل شخص أهل للإلزام و الالتزام ما لم يصرح قانون أحواله الشخصية بغير ذلك”
  • الأصل في التصرفات حسن النية: ذلك أن جميع التصرفات يفترض فيها حسن النية ما لم يثبت عكس ذلك، وقد كرس المشرع هذه القاعدة بمقتضى الفصل 477 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه: “حسن النية يفترض دائما ما دام العكس لم يثبت”.

وسأتطرق الآن الى المدعي بخلاف الثابت فعلا.

 

                           ب – المدعي بخلاف الثابت فعلا

إن المقصود بالمدعي بخلاف الثابت فعلا هو الطرف الذي يدعي بخلاف ما أقام الخصم الدليل عليه بالطرق القانونية، حقيقة أو ضمنا[16].

  • و خلاف الثابت حقيقة كأن يثبت شخص خلاف ما كان ثابتا أصلا، فإذا كان الأصل في الالتزام حسن النية وأثبت الخصم بقرينة خلاف ذلك، كان على الطرف الآخر عبء إثبات عكس هذه القرينة الثابتة حقيقة، أي يجب عليه حينها أن يثبت حسن نيته، وهو الأمر الذي كان معفيا منه في أول الأمر.
  • وخلاف الثابت ضمنا هو خلاف لما يستتبع الالتزام الأصلي، فبيع المعمل مثلا يشمل المعمل كأصل والآلات بشكل ضمني مالم يوجد شرط بخلاف ذلك.

وبعد التفصيل في عبء الإثبات من حيث المبدأ، سأتطرق الآن الى الإثبات من حيث التطبيق.

 

                          2 – عبء الإثبات من حيث التطبيق

إذا كان عبء الإثبات من حيث المبدأ يحتكم الى القاعدة المنصوص عليها في الفصل 399 من ظ.ل.ع وفق القواعد المومأ إليها أعلاه، فإن هذا القول لا يجب أن يفهم على إطلاقيته، إذ أنه إذا أثبت الخصم وجود دين له عند الخصم الآخر “المدعى عليه”، كان من حق هذا الأخير أن يثبت عدم صحة هذا العقد، كأن يثبت وجود عيب من عيوب الإرادة أو عدم مشروعية المحل أو السبب، ومن ثم كان على القاضي أن يوزع عبء الإثبات على المتخاصمين بغية استخلاص ما يكفيه من الأدلة لتكوين قناعة تؤهله لإصدار حق يقضي بحقيقة قضائية تكون مطابقة للحقيقة الواقعية. وتوزيع عبء الإثبات[17] إما أن يكون بحكم الواقع، أو بحكم القانون أو تطبيقا لقاعدة اتفاقية مصدرها العقد نفسه.

 

أ – توزيع عبء الإثبات بحكم الواقع

ويتجلى ذلك في توزيع عبء الإثبات عن طريق القرائن القضائية، كأن يثبت شخص ملكيته لحق عيني من خلال حيازته لهذا الحق، فينتقل بعد ذلك عبء الإثبات للطرف الآخر إذ يصبح ملزما بإثبات ملكيته لهذا الحق العيني هو الآخر وتفنيد صحة ادعاء الطرف الآخر، وهو ما نص عليه المشرع ضمن مقتضى الفصل 400 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ” إذا أثبت المدعي وجود الالتزام، كان على من يدعي انقضاءه أو عدم انقضاءه أو عدم نفاذه تجاهه أن يثبت ادعاءه”

                        ب – توزيع عبء الإثبات بحكم القانون

إذا تضرر شخص من فعل ارتكبه قاصر، يكفيه أن يثبت هذا الضرر والعلاقة السببية تجاه الأب والأم، وحينها ينتقل لهم عبء لإثبات بحكم القانون، إذ لهم أن يثبتوا أنهم لم يتمكنوا من منع وقوع الفعل الذي أدى إلى الضرر كما ينص على ذلك الفصل 85 من ظ.ل.ع الذي جاء في فقرته الخامسة ” وتقوم المسؤولية المشار إليها أعلاه، إلا إذا أثبت الأب أو الأم أو أرباب الحرف أنهم لم يتمكنوا من منع وقوع الفعل الذي أدى إليها”.

 

                   ج – توزيع عبء الإثبات بحكم قاعدة اتفاقية

الأصل في العقود باعتبارها مصدرا من مصادر الالتزام تقوم على مبدأ سلطان الإرادة، وقد نص الفصل 230 من ظ.ل.ع على ما يلي: الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة الى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”.

ومن تم كان للمتعاقدين أن يتفقوا على توزيع عبء الإثبات بينهم في حالة نشوب أي نزاع بينهم، غير أن هذا التوزيع يحتكم لضابط مهم، وهو عدم مخالفة النظام العام، وأن لا يطال هذا الاتفاق القواعد الشكلية على اعتبار أنها من النظام العام[18].

بعدما تطرقت الى قواعد الإثبات، سأنتقل بكم عزيزي القارئ الى المطلب الثاني الذي سأتناول فيه شروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود.

 

 

 

 

 

 

المطلب الثاني: شروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود.

علاوة على قواعد الإثبات المشار إليها في المطلب الأول، والتي ترسم الإطار العام لمؤسسة الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود، فإن هذه المؤسسة تستوجب أيضا ضرورة توافر مجموعة من الشروط لكي يعتد بها كآلية لمساعدة القاضي في تكوين قناعة راسخة تؤهله لمطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة الواقعية، وتتمحور أساسا هذه الشروط حول محل الإثبات.

ومن تم سأقسم هذا المطلب الى فقرتين، الأولى تعني بماهية محل الإثبات، ثم الفرقة الثانية التي سأخصصها لشروط الإثبات.

 

الفقرة الأولى: ماهية محل الإثبات

إن المقصود بمحل الإثبات هو مصدر الحق وليس الحق في ذاته[19]. فعلى سبيل المثال من يريد أن يثبت وجود دين له عند خصمه وجب عليه أن يثبت مصدر هذا الحق الذي خوله هذا المركز – دائن- لا أن يثبت حقه في الدين. وفي هذا الصدد يجب الإشارة لمسألة مهمة جدا، وهي ضرورة تشريح مصادر الحق التي تشكل محلا للإثبات، ثم التمييز بين هذه المصادر لغاية مهمة جدا.

فمصادر الحق مصادر إرادية وتدعى كذلك التصرفات القانونية وهي كل التعبيرات القانونية الصادرة عن الإرادة الحرة بهدف إحداث أثر قانوني، يستوى في ذلك أن يتم إحداث هذا الأثر عن طريق اتفاق إرادتين أو أكثر (العقد) أو عن  طرق إرادة واحدة (التصرفات بإرادة منفردة)، وإما مصادر غير إرادية وتدعى أيضا الوقائع  المادية  فيترتب معها الالتزام نتيجة لحدوث أفعال مقصودة أو غير مقصودة[20].

وتتجلى أهمية هذا التمييز في أن الوقائع القانونية يجوز إثباتها بجميع طرق الإثبات لأن طبيعة هذه الوقائع لا يقبل استلزام نوع معين من الأدلة، فمثلا إذا طلب شخص إبطال عقد للتدليس أو الإكراه، أو طلب تعويضا عن ضرر أصابه بسبب جريمة ارتكبت ضده فلا يعقل أن يطالب هذا الشخص بدليل كتابي لكي يثبت التدليس أو الإكراه أو الجريمة[21]. على عكس الوقائع المادية  التي وضع لها المشرع نظام إثبات محكم بقواعد وشروط واجبة الاتباع، حيث لا يمكن أن يثبت المدعي ما اشترط فيه المشرع شكلا خاصا للإثبات مثلا كما يقضي بذلك الفصل 401 من ظ.ل.ع.

غير أنه إذا كان المدعي ملزما بإثبات مصدر الحق، فلا يجب أن يفهم من هذا القول أنه ملزم أيضا بإثبات القاعدة القانونية للقاضي الا استثناء، وللإسهاب أكثر في هذه المسألة، سأتناولها من حيث الأصل والاستثناء.

 

أولا: عدم إثبات القاعدة القانونية كأصل

الأصل يقضي بأن المدعي ملزم بإثبات مصدر الحق دون أن يكون ملزما بإثبات القاعدة القانونية، وذلك لأن القاضي يفترض فيه بداهة الإلمام بالقواعد القانونية وشروط استعمالها.

وفي هذا السياق يقول الأستاذ سمير عبد السيد تناغو أن العلم بالقانون مفترض لدى الكافة، وفي مقدمتهم القضاة الذين يقومون بتطبيقه بحكم وظيفتهم، ولذلك لا تكون قواعد القانون محلا للإثبات بواسطة الخصوم، بل يقضي بها القاضي بعلمه، ويخضع في قضائه لرقابة محكمة النقض[22]

 

ثانيا: إثبات القاعدة القانونية على وجه الاستثناء

خروجا على الأصل المشار إليه في الفقرة السابقة، يكون المدعي ملزما بإثبات القاعدة القانونية على وجه الاستثناء، وذلك في الحالات التالية:

  • إذا كان القاعدة الواجبة التطبيق قاعدة عرف محلي، لأن القاضي يشترط فيه الإلمام بالقاعدة التشريعية والقاعدة العرفية العامة لا المحلية.

فافتراض علم القاضي بالعرف المحلي يكون غير معقول وبالتالي يكون على الطرف الذي يستند إليه أن يثبته وفي هذه الحالة يأخذ العرف حكم الواقعة التي يتعين اثباتها فيكون أمر التثبت من قيامه متروكا للقاضي فلا يخضع فيه لرقابة محكمة النقض، أما تطبيق هذا العرف بعد أن يثبت قيامه يخضع لرقابة محكمة النقض[23].

  • إذا كانت القاعدة متضمنة في عادة اتفاقية لم ترقى بعد الى مناص القاعدة القانونية العرفية
  • إذا كانت القاعدة الواجبة التطبيق قاعدة قانون أجنبي تقضي قواعد الاسناد بتطبيقها[24].

بعد التطرق لماهية محل الإثبات، سأنتقل الآن الى الشروط الواجب توافرها في محل الإثبات.

 

الفقرة الثانية: شروط محل الإثبات

إذا كان محل الإثبات هو المصدر المنشئ للحق لا الحق في حد ذاته، فقد اشترط له المشرع مجموعة من الشروط لكي يعتد به كوسيلة إثبات من لدن القاضي، ومن هذه الشروط ما يتصل بالشكل (أولا) ومنها ما يتصل بالموضوع (ثانيا).

 

أولا: الشروط الشكلية

إن المقصود بالشروط الشكلية هي القواعد التي تؤطر شكلية إثبات الالتزامات، وقد نظمها المشرع من خلال الفصل 401 و الفصل 402 من ظ.ل.ع.

ومن خلال استقراء هذين الفصلين يتضح أن شكلية إثبات الالتزامات تقع تحت طائلة ازدواجية الأصل والاستثناء، الأصل الذي يقر بأنه لا يلزم لإثبات الالتزامات أي شكل خاص (أ) ، والاستثناء الذي يقر بشكلية معينة حينما يقررها القانون أو يقررها المتعاقدون (ب).

 

 

                             1 – شكلية الإثبات من حيث الأصل

جاء في الفصل 401 من ظ.ل.ع  “لا يلزم لإثبات الالتزامات، أي شكل خاص..”، وفحوى هذا الفصل واضحة وجلية، وهي أن الأصل يقضي بأن الأشخاص أحرار في إثبات التزاماتهم بأي شكل، وهذا القول ينسجم مع فلسفة القانون المدني الذي ينبني على سلطان الإرادة.

فعقد البيع يمكن إثباته كأصل بالكتابة أو عن طريق شهادة الشهود أو اليمين أو الإقرار، غير أن هذا الأصل ترد عليه بعض الاستثناءات.

 

2 – شكلية الإثبات من حيث الاستثناء

إذا كان الفصل 401 من ظ.ل.ع  لم يشترط أي شكل خاص لإثبات الالتزامات، فإنه استثنى من هذا الأصل ما يقرره القانون، ذلك أن القانون إذا اشترط شكلا معينا كان لزاما على الأشخاص اتباع هذا الشكل دون غيره حيث جاء في ذات الفصل ما يلي ” إذا قرر القانون شكلا معينا، لم يسغ إجراء إثبات الالتزام أو التصرف بشكل آخر يخالفه، الا في الأحوال التي يستثنيها…”.

وقد كرس المشرع هذا الاستثناء في الفصل 443 من ظ.ل.ع الذي نص على ما يلي: ” الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق، والتي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود، ويلزم أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية، وإذا اقتضى الحال ذلك أن تعد بشكل إلكتروني أو أن توجه بطريقة إلكترونية.”

والاستثناء الثاني الذي يكون فيه الأشخاص ملزمون أيضا بإثبات تصرفاته بشكل خاص، هو ما أقره الفصل 402 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه “إذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص، واتفق عاقداه صراحة على أنهما ال يعتبرانه تاما إلا إذا وقع في شكل معين، فإن الالتزام لا يكون موجودا إلا إذا حصل في الشكل الذي اتفق عليه العاقدان”

هذا وسأنتقل الآن الى الشروط الموضوعية.

 

ثانيا: الشروط الموضوعية

حدد المشرع الشروط الواجب توافرها في المصدر المنشئ للالتزام ضمن مقتضى الفصل 403 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي:

“لا يجوز إثبات الالتزام:

  • إذا كان يرمي إلى إثبات وجود التزام غير مشروع، أو التزام لا يسمح القانون بسماع الدعوى فيه.

2- إذا كان يرمي إلى إثبات وقائع غير منتجة.”

وأضاف الفقه[25] شرطين آخرين للواقعة المراد إثباتها هما ” أن تكون هذه الواقعة محل نزاع  وأن تكون محددة ”

ومن كل هذ يتضح أن الشروط الواجب توافرها في محل الإثبات هي:

1 –  أن تكون الواقعة محل نزاع.

2 –  أن تكون الواقعة محددة.

3 – أن تكون الوقعة متعلقة بالحق المنازع فيه.

4 – أن تكون الواقعة منتجة في الإثبات.

5 – أن تكون الواقعة جائزة القبول.

 

1 –  أن تكون الواقعة محل نزاع.

إن الهدف من الإثبات هو إبراز الأدلة القمينة بمساعدة القاضي في إصدار حكم في واقعة متنازع فيها، ومن ثم إذا لم يكن هناك أي نزاع فلا حاجة لإثبات تلك الواقعة وإهدار الزمن القضائي في واقعة لا نزاع فيها، فمثلا إذا أقر شخص بوجود دين في ذمته فلا حاجة آنذاك لأن يكون هذا التصرف محلا للإثبات.

 

2 –  أن تكون الواقعة محددة.

يشترط في الوقعة أن تكون محددة سواء كانت إيجابية أو سلبية والا كان إثباتها متعذرا، فمن يدعي ملكية عين أو يطالب بدين، فعليه إقامة الدليل على واقعة معينة كانت سببا لملكيته، كشفعة أو ميراث أو هبة وهذه وقائع إيجابية يكون بالتالي إثباتها ممكنا.

وقد تكون الواقعة سلبية ويمكن إثباتها، كأن يدفع المدعي عليه دعوى المسؤولية المدنية بعدم وقوع الفعل غير المشروع عنه بإقامة الدليل على أنه كان موجودا في مكان آخر لحظة وقوع الخطأ[26].

 

3 – أن تكون الوقعة متعلقة بالحق المنازع فيه.

يقصد بهذا الشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى، أما إذا كانت الواقعة لا علاقة لها بموضوع الدعوى فلا فائدة من إثباتها.

وهذا الشرط ليس له أهمية في الإثبات المباشر الذي يكون فيه الإثبات منصبا على الواقعة مصدر الحق مثل إثبات المؤجر لعقد الإيجار لكي يطالب بالأجرة، ونظرا لصعوبة هذا الإثبات فالمدعي غالبا ما يلجأ للإثبات غير المباشر بحيث يثبت واقعة متصلة بالواقعة المدعى عليه فيها لكي يستنتج القاضي منها الواقعة الأصلية أو تجعلها قريبة الاحتمال، ولابد أن تكون هذه الواقعة على صلة بالحق المدعى به،  ووجود هذا الأمر متروك لتقدير القاضي، ومثاله عند مطالبة المستأجر بأجرة مدة معينة من الإيجار فإنه يستطيع إثبات وفاء أجرة لاحقة[27].

 

4 – أن تكون الواقعة منتجة في الإثبات.

ومفاد هذا الشرط أن تكون الوقائع محل الإثبات تؤدي الى تمكين القاضي من اعتناق قناعة تخوله إنتاج حكم في موضوع النزاع، أي أن تكون الوقائع عند إثباتها منتجة لأثر في تكوين قناعة القاضي.

وليس من اللازم لاعتبار الواقعة منتجة في الاثبات أن تكون حاسمة في هذا الإثبات، أي أن تؤدي بذاتها الى ثبوت الحق المنازع فيه، وإنما يكفي أن تكون حلقة في سلسلة وقائع تؤدي الى هذا الثبوت[28].

 

5 – أن تكون الواقعة جائزة القبول.

المقصود بهذا الشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها ممكنة من الناحية القانونية والمادية، فلا يعقل أن يطالب أحد بإثبات بنوته من بقرة أو أن يطالب بإثبات بيع مخدرات أو ما شابه ذلك من التصرفات التي يمنعها القانون. وهو ما أكد عليه المشرع في البند الأول من الفصل 403 من ظ.ل.ع.

بعد استكمال هذا المبحث الذي خصصته حسب التقسيم المعلن عنه سلفا لقواعد وشروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود، سأنتقل الآن الى مبحث آخر يكون موضوعه وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني:  وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود.

انطلاقا من تبني المشرع لمذهب الإثبات المختلط، فقد قام بتحديد وسائل الإثبات  في ظهير الالتزامات والعقود ضمن مقتضى الفصل 404 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي:

“وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:

  • إقرار الخصم ؛
  • الحجة الكتابية ؛
  • شهادة الشهود ؛
  • القرينة ؛
  • اليمين والنكول عنها”،

بينما نظم في قانون المسطرة المدنية الخبرة والمعاينة والشق المسطري للوسائل المشار إليها في ظهير الالتزامات والعقود.

وقد وضع الفقه[29] مجموعة من التقسيمات لهذه الوسائل المومأ إليها أعلاه، حيث قسمها الى وسائل أصلية وأخرى احتياطية.

والمقصود بالوسائل الأصلية هي الأدلة التي تقوم بذاتها دون أن تكون مكملة لأدلة أخرى، ويدخل في زمرتها الكتابة والقرائن وشهادة الشهود. أما الطرق الاحتياطية هي الطرق التي يلجأ إليها الخصم عندما تستعصى عليه كل الطرق الأخرى، ويدخل تحت طائلتها الإقرار واليمين.

وانطلاقا مما سبق، سأحيط بهذه الوسائل من خلال تقسيم هذا المبحث الى مطلبين، (المطلب الأول) يعني بوسائل الإثبات الأصلية، ثم (المطلب الثاني) الخاص بوسائل الإثبات الاحتياطية.

 

 

 

المطلب الأول: وسائل الإثبات الأصلية

تعد وسائل الإثبات الأصلية هي الأدلة التي تقوم بذاتها دون أن تكون مكملة لأدلة أخرى كما سبق الإشارة الى ذلك، يدخل في زمرتها كل من الكتابة والقرائن وشهادة الشهود، ومن تم سأناقش هذا المطلب من خلال تقسيمه لفقرتين، (الفقرة الأولى) مخصصة لوسيلة الكتابة، ثم شهادة الشهود فالقرائن (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: الكتابة

تعتبر وسيلة الكتابة من أهم وأقوى طرق الإثبات، حيث يمكن أن تكون وسيلة لإثبات جميع الوقائع والتصرفات القانونية. والمقصود بها هو كل ورقة محررة لإثبات عمل قانوني أو واقعة مادية تنشأ عنها حقوق والتزامات[30].

وفي هذا الصدد يجب التميز بين شكلية الإثبات وشكلية الانعقاد، فالكتابة قد تكون مشروطة لوجود التصرف وانعقاد العقد كما في البيع العقاري فقد جاء في الفصل 489 من ظ.ل.ع “إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا، وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ، ولا يكون له أي أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون”، ففي مثل هذ العقد تكون الكتابة ركنا من أركان صحة هذا العقد، على اعتبار أن المشرع أدخله في زمرة العقود الشكلية، ويعد تخلف الكتابة هنا موجبا لبطلان العقد من أساسه وإبانها لا يكون هناك من مصدر منشئ للحق يستدعي إثباته بالطرق المشار إليها في الفصل 404 من ظ.ل.ع.

وقد تكون الكتابة مشروطة للإثبات فحسب – وهذا ما يعنينا في هذا البحث –  ففي مثل هذه الحالة لا يكون العقد شكليا بل يبقى العقد رضائيا، وإذا ما تخلفت الكتابة فلا يعني أن العقد باطلا، إذ يمكن إثباته بوسيلة أخرى كالإقرار مثلا.

وتجدر الإشارة الى أن إعمال وسيلة الكتابة في الإثبات يتقيد بشرطين أساسيين، الأول يستدعي أن يكون محل الإثبات تصرفا قانونا لا واقعة مادية، على اعتبار أن هذه الأخيرة يمكن إثباتها بكل وسائل الإثبات.

أما الشرط الثاني فيتعلق بضرورة توافر الطبيعة المدنية للتصرف ما دام أن الإثبات في المادة التجارية مطلق كما تنص على ذلك المادة 334 من مدونة التجارة.

وللإحاطة بالدليل الكتابي سأتناوله من خلال أنواع الأوراق المحررة (أولا)، ثم حجية هذه الأوراق في الإثبات (ثانيا).

 

أولا: أنواع الأوراق المحررة

ينص الفصل 417 من ظ.ل.ع على ما يلي : “الدليل الكتابي ينتج من ورقة رسمية أو عرفية….”، ومن تم فالأوراق المحررة التي تتضمن الدليل الكتابي نوعان: أوراق رسمية وأوراق عرفية.

 

1 – الأوراق الرسمية

جاء في الفصل 418 من ظ.ل.ع : “الورقة الرسمية هي التي يتلقاها الموظفون العموميون الذين لهم صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد، وذلك في الشكل الذي يحدده القانون.

وتكون رسمية أيضا:

1 – الأوراق المخاطب عليها من القضاة في محاكمهم؛

2 – الأحكام الصادرة من المحاكم المغربية والأجنبية، بمعنى أن هذه الأحكام يمكنها حتى قبل صيرورتها واجبة التنفيذ أن تكون حجة على الوقائع التي تثبتها.”

 

ومن خلال أحكام هذا الفصل يتضح أن الاوراق الرسمية هي التي تتوافر فيها الشروط التالية:

  • أن تكون صادرة من موظف عمومي، والموظف العمومي هنا شخص معين من طرف الدولة
  • أن يكون هذا الموظف العمومي مختصا بتحرير هذه الورقة من حيث الموضوع والشكل.
  • أن تكون هذه الورقة مستوفية للشكل الذي يحدده القانون.

 

ومن تم فكلما توافرت هذه الشروط المومأ إليها والمستخرجة من مضمون الفصل 418 من ظ.ل.ع اكتسبت القوة الثبوتية بصفتها ورقة رسمية لا يمكن الطعن فيها الا بالزور كما ينص على ذلك مقتضى الفصل 419 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ” الورقة الرسمية حجة قاطعة، حتى على الغير في الوقائع والاتفاقات التي يشهد الموظف العمومي الذي حررها بحصولها في محضره وذلك إلى أن يطعن فيها بالزور…”.

أما إذا اختل شرط من الشروط المشار إليها كأن يحرر الورقة شخص غير موظف أو موظف لا يعهد له بهذا الاختصاص، أو أنه لم يحترم في تحريرها الشروط المنصوص عليها قانونا، اعتبرت الورقة الرسمية باطلة ولا يمكن أن تكتسب القوة الثبوتية التي لدى هذه الأخيرة؛ وآنذاك تعتبر مجرد محررا عرفيا طبقا لمنطوق الفصل 423 من ظ.ل.ع الذي ينص على ما يلي: “الورقة التي لا تصلح لتكون رسمية، بسبب عدم اختصاص أو عدم أهلية الموظف، أو بسبب عيب في الشكل، تصلح لاعتبارها محررا عرفيا إذا كان موقعا عليها من الأطراف الذين يلزم رضاهم لصحة الورقة.”

 

2 – الأوراق العرفية

لم يعرف المشرع المغربي الورقة العرفية، ويعرفها الفقه بأنها الورقة التي تتم بين طرفين بعيدا ع الموظف العمومي، أو حررت أمامه، ولم تصلح لاعتبارها رسمية لانعدام شرط من شروط الرسمية فيها[31]، وي نوعان، أوراق معدة للإثبات، وأوراق غير معدة للإثبات.

فالأوراق المعدة للإثبات هي المعدة لإثبات التصرفات القانونية كالبيع والشركة والهبة، وتستمد قوتها من توقيع من تشهد عليه بما هو وارد فيا، والتوقيع يكون بالإمضاء أو ببصمة الأصبع أو الختام وهذا هو الشرط الوحيد لصحتها[32]، وقد نص على هذا المشرع في الفصل 426 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي : ” يسوغ أن تكون الورقة العرفية مكتوبة بيد غير الشخص الملتزم بها بشرط أن تكون موقعة منه.

ويلزم أن يكون التوقيع بيد الملتزم نفسه وأن يرد في أسفل الوثيقة ولا يقوم الطابع أو الختم مقام التوقيع، ويعتبر وجوده كعدمه…”.

أما الأوراق غير المعدة للإثبات فهي كدفاتر التجارة والأوراق المنزلية والرسائل (الفصل 433 م ظ.ل.ع وما بعده)، والتي لم يشترط فيا المشرع صراحة أن يكون موقع عليها.

وبعد تبيان أنواع الأوراق المحررة، سأنتقل الآن الى حجية هذه الأوراق في الإثبات.

 

ثانيا: حجية الأوراق المحررة

تختلف الأوراق الرسمية عن الأوراق العرفية في قوتها الثبوتية ومن تم كان لابد من التطرق لكل واحدة على حدة.

 

1 – حجية الأوراق الرسمية

انطلاقا من توافر الشروط المنصوص عليها في الفصل 418 من ظ.ل.ع تكتسب الورقة صفة الرسمية، وهذا القول يستتبعه بأن هذه الورقة حجة قاطعة بين الأطراف وحتى على الأغيار ما لم يطعن فيها بالزور، أو الطعن فيها بسبب الإكراه أو التدليس أو الصورية أو الخطأ المادي بواسطة شهادة الشهود أو القرائن في الفصل  كما جاء في الفصل  419 من ظ.ل.ع.

والورقة الرسمية حجة في الاتفاقات والشروط الواقعة بين المتعاقدين في الأسباب المذكورة فيها وفي غير ذلك من الوقائع شريطة أن يكون لها اتصال مباشر بجوهر العقد، وفي الأمور التي يثبت الموظف وقوعها إذا ذكر كيفية وصوله لمعرفتها، وقد نص المشرع على هذه الحجية بمقتضى الفصل 420 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه : ” الورقة الرسمية حجة في الاتفاقات والشروط الواقعة بين المتعاقدين وفي الأسباب المذكورة فيها وفي غير ذلك من الوقائع التي لها اتصال مباشر بجوهر العقد، وهي أيضا حجة في الأمور التي يثبت الموظف العمومي وقوعها إذا ذكر كيفية وصوله لمعرفتها. وكل ما عدا ذلك من البيانات لا يكون له أثر”.

 

 2 – حجية الأوراق العرفية

إذا كانت الورقة الرسمية حجة قاطعة لا يمكن الطعن فيها الا بالزور أو بسبب الإكراه أو التدليس..، فإن الورقة العرفية لا تعتبر حجة قاطعة، إذا يمكن لمن يريد أن يتحلل من الالتزام المضمن في هذه الورقة العرفية أن ينكرها دون أن يقيم أي دليل على ذلك وهو ما أقره المشرع من خلال الفصل 431 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه :

” يجب على من لا يريد الاعتراف بالورقة العرفية التي يحتج بها عليه، أن ينكر صراحة خطه أو توقيعه. فإن لم يفعل، اعتبرت الورقة معترفا بها.

ويسوغ للورثة وللخلفاء أن يقتصروا على التصريح بأنهم لا يعرفون خط أو توقيع من تلقوا الحق منه”

وبالتالي إذا لم تثبت أحقيتها ولم يتم الإقرار بها لا تكتسب أي قوة ثبوتية.

بعد التفصيل بشيء من الإيجاز في الدليل الكتابي سأنتقل الآن الى باقي الوسائل الأصلية الأخرى المعتمدة في الإثبات، القرائن وشهادة الشهود.

 

الفقرة الثانية: القرائن وشهادة الشهود

يصنف الفقه[33] كما سبق الإشارة الى ذلك القرائن وشهادة الشهود ضمن وسائل الإثبات الأصلية، وسأتناول كل واحدة على حدة، (أولا) القرائن ثم شهادة الشهود (ثانيا).

 

أولا: القرائن

عرف المشرع القرائن بمقتضى الفصل 449 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه : ” القرائن دلائل يستخلص منها القانون أو القاضي وجود وقائع مجهولة “، ٍوقد عرفها الأستاذ العبدلاوي  بأنها ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم للدلالة به على أمر مجهول[34]، وهو ما يحيل على أن القرائن نوعان: قرائن قانونية وأخرى قضائية

ومن تم كان لابد من التمييز بينهما، القرائن القانونية ثم القرائن القضائية.

1– القرائن القانونية

نص المشرع في الفصل 450 من ظ.ل.ع على ما يلي:

“القرينة القانونية هي التي يربطها القانون بأفعال أو وقائع معينة كما يلي:

1 – التصرفات التي يقضي القانون ببطلانها بالنظر إلى مجرد صفاتها لافتراض وقوعها مخالفة لأحكامه؛

2 – الحالات التي ينص القانون فيها على أن الالتزام أو التحلل منه ينتج من ظروف معينة، كالتقادم؛

3 – الحجية التي يمنحها القانون للشيء المقضي”.

 

فمن خلال الفصل المشار إليه يتضح بأن القرينة القانونية أساسها هو النص القانوني،      فالتصرفات التي يقضي القانون ببطلانها بافتراض أنها وقعت مخالفة لأحكامه، تكون باطلة بحكم القانون إذا توافرت هذه القرينة الدالة على مخالفتها للأحكام. نفس الشيء في الحالات المشار إليها في البند الثاني من الفصل 450 من ظ.ل.ع.

وكمثال على الحالات التي ينص علوها القانون بأن حق الملكية أو ابراء الذمة ناتج عن ظروف معينة كالتقادم على سبيل المثال.

وأخيرا البند الثالث الذي ينص فيه المشرع على القوة التي يمنحها القانون للأمر المقضي به، إذ يفترض دائما أن الحكم صحيحا ولا يمكن الطعن فيه الا بالطرق المحددة قانونا وفق القواعد الإجرائية.

وتكتسب هذه القرينة القانونية صفة الحجة الثبوتية، إذ تعفي من تقوم لصالحه من أية حجة فهي كالإقرار واليمين كما أنها لا يمكن أن تعارض أو تقبل أي دليل آخر لإعدامها[35]، وهذا ما يقضي به الفصل 435 من ظ.ل.ع الذي ينص على ما يلي :

” القرينة القانونية تعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات.

ولا يقبل أي إثبات يخالف القرينة القانونية”.

 

 

2 – القرائن القضائية

عرف المشرع القرائن القضائية من خلال الفصل 454 من ظ.ل.ع إذ ينص على ما يلي: ” القرائن التي لم يقررها القانون موكولة لمحكمة القاضي…” فقد يستخلصها القاضي من وقائع الدعوى، ويتمتع القاضي في هذا السياق بسلطة واسعة لا تتوفر له في باقي الأدلة الأخرى التي تُتخذ في الإثبات المباشر، ففي وسعه أن يستمد القرينة ليس فقط من وقائع وظروف النزاع المطروح أمامه بل كذلك من خارج دائرة هذا النزاع ما دامت الأوراق المتعلقة بها قد ضمت الى الدعوى المعروضة، كما أنه لا يتقيد في سلطته هذه بالقاعدة التي تفرض عليه ألا يبني اقتناعه على وقائع لم تثبت بالطرقية القانونية أو على وثائق لم تكن محل مناقشة الخصوم، فله أن يستخلص القرينة من أقوال أبداها الخصم أمام الخبير، ومن أقوال شهود سمعهم الخبير بإذن المحكمة، وله أن يستنبط القرينة أيضا من إقرار غير قضائي صدر في دعوى أخرى بل وله أن يتخذ القرينة التي يعتمد عليها من أي تحقيق قضائي أو إداري[36]

وإن كانت هذه القرائن القضائية تكتسب صفة الحجة الثبوتية فهي لا تعتبر قرينة قاطعة إذ يمكن إقامة دليل يفندها، وهذا ما يقضي به الفصل 454 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي ” .. وإثبات العكس سائغ، ويمكن حصوله بكافة الطرق”.

سأنتقل الآن الى شهادة الشهود.

 

ثانيا: شهادة الشهود

نظم المشرع المغربي الشهادة في الفصول 443 الى 448 من قانون الالتزامات والعقود، وقد عرفها الفقه[37] بأنها تقرير حقيقة أمر توصل إلى معرفته بعينه أو أذنه، وللإحاطة بها لابد من تناولها من خلال التقسيم التالي، خصائص وأنواع الشهادة، ثم لقوتها في عملية الإثبات.

1 – خصائص وأنواع الشهادة

تتميز الشهادة عن غيرها من وسائل الإثبات بمجموعة من الخصائص، كما أن تترفع الى ثلاثة أنواع.

 

                             أ – خصائص الشهادة

تتجلى خصائص الشهادة في النقاط التالية:

  • الشهادة حجة مقنعة أي غير ملزمة، وتختلف الشهادة في ذلك اختلافا جوهريا عن الكتابة، فبينما يعتبر الدليل الكتابي بسبب إعداده سلفا حجة فيفرض سلطته على القضاء ما لم يطعن فيه بالزور أو ينقض بإثبات العكس، تترك الشهادة على نقيض ذلك لتقدير القاضي ويكون له كامل السلطة في تقدير قيمتها، أيا كان عدد الشهود وأيا كانت صفاتهم[38]. وبالتالي فهي حجة غير قاطعة إذ يمكن إقامة الدليل المعاكس لها.
  • لا يمكن أن تكون حجة على التصرفات التي تفوق عشرة آلاف درهم، إذ اشترط المشرع في هذه التصرفات أن يكون الإثبات بالكتابة كما ينص على ذلك الفصل 443 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي : “الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق، والتي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود. ويلزم أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية، وإذا اقتضى الحال ذلك أن تعد بشكل إلكتروني أو أن توجه بطريقة إلكترونية.”، ما عدى ما استثناه المشرع بنص خاص إذ يمكن خلالها الأخذ بدليل الشهادة بغض النظر عن قيمة التصرف، وهو ما أكد عليه المشرع في الفصل 448 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي: ” استثناء من الأحكام السابقة يقبل الإثبات بشهادة الشهود:
  • في كل حالة يفقد فيها الخصم المحرر الذي يتضمن الدليل الكتابي لالتزام له أو للتحلل من التزام عليه، نتيجة حادث فجائي أو قوة قاهرة أو سرقة. وتخضع الأوراق النقدية والسندات لحاملها لأحكام خاصة؛
  • إذا تعذر على الدائن الحصول على دليل كتابي لإثبات الالتزام كالحالة التي تكون فيها الالتزامات ناشئة عن أشباه العقود وعن الجرائم أو أشباه الجرائم والحالة التي يراد فيها إثبات وقوع غلط مادي في كتابة الحجة أو حالة الوقائع المكونة للإكراه أو الصورية أو الاحتيال أو التدليس التي تعيب الفعل القانوني وكذلك الأمر بين التجار فيما يخص الصفقات التي لم تجر العادة بتطلب الدليل الكتابي لإثباتها.

تقدير الحالات التي يتعذر فيها على الدائن الحصول على الدليل الكتابي موكول لحكمة القاضي.”

 

                              ب – أنواع الشهادة

الشهادة ثلاثة أنواع، مباشرة وسماعية وبالتسامع.

  • الشهادة المباشرة: وهي الشهادة الشخصية عك الواقعة، أي أن يشهد الشاهد بما رأى وسمع أمام المحكمة
  • الشهادة السماعية: وهي التي يشهد فيها الشاهد بما سمع على الواقعة، وهي أقل قيمة من الأولى
  • الشهادة بالتسامع: وهي الشهادة بما هو شائع بين الناس، إذ لا يشهد الشاهد انطلاقا من سماعه المباشر، ولكن من خلال ما سمع عن الواقعة بين الناس.

 

2 – القوة الثبوتية للشهادة

إذا كانت الشهادة لا تعد حجة قاطعة ويمكن تفنيدها بأي وسيلة أخرى كما سبقت الإشارة الى ذلك في معرض حديثنا عن الخصائص، فهذا القول يقتصر على التصرفات القانونية دون الوقائع المادية ” كالعمل غير المشروع” إذ تكتسب حينها الشهادة صفة الحجة المطلقة، وكذلك نفس الأمر بالنسبة للشهادة في القانون التجاري. ومر ذلك الى أن الإثبات في الوقائع المادية وفي النطاق التجاري مطلق وغير مقيد.

بعد الحديث عن وسائل الإثبات الأصلية، سأنتقل الآن الى وسائل الإثبات الاحتياطية.

 

المطلب الثاني: وسائل الإثبات الاحتياطية

وسائل الإثبات الاحتياطية هي الطرق التي يلجأ إليها الخصم عندما تستعصى عليه كل الطرق الأخرى، ويدخل تحت طائلتها الإقرار (الفقرة الأولى) ثم اليمين (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: الإقرار

لم يعرف المشرع المغربي الإقرار، وقد اجتهد الفقه في هذا المنوال مقدما بذلك جملة من التعاريف، أذكر منها ما جاء به الأستاذ إدريس العلاوي العبدلاوي بأنه اعتراف شخص بحق عليه لآخر قصد ترتيب حق في ذمته واعفاء الآخر من إثباته[39].

وباستقراء هذا التعريف الفقهي يتضح بأن الإقرار يقوم على شرط الاعتراف دون أن يكون هذا الأخير مقرونا بنية الإقرار، أي أنه يمكن أن يستخلص من أقوال المدعى عليه وإن لم تكن له نية في هذا الاعتراف، كأن يدلي أثناء سير الدعوى بأقوال يستفاد منها اعترافا صريحا بوقائع تفيد صدق المدعي في طلبه. غير أنه إذا كان “القصد” لا يعتد به في الأخذ بالإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات، فإنه يلزم أن يكون هذا الإقرار مصونا من العيوب التي تؤثر في الإرادة، وهذا ما أقره المشرع في الفصل 409 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي: ” يلزم في الإقرار أن يصدر عن اختيار وإدراك. هذا، وأن الأسباب التي تعد عيبا في الرضى تعد عيبا في الإقرار “.

وفيما يلي سوف أتطرق الى أنواع الإقرار  (أولا)، ثم لشروطه و آثاره (ثانيا)

 

أولا: أنواع  الإقرار وخصائصه

سأتطرق أولا لأنواع الإقرار ثم لبيان خصائصه.

1 – أنواع الإقرار

الإقرار نوعان، النوع الأول قضائي أو ما سماه المشرع بالإقرار القضائي، والنوع الثاني إقرار غير قضائي ، وهو ما أكده مطلع الفصل 405 من ظ.ل.ع.

أ – الإقرار القضائي

عرف المشرع الإقرار القضائي بموجب الفصل 405 من ظ.ل.ع بكونه ” هو الاعتراف الذي يقوم به أمام المحكمة الخصم أو نائبه المأذون له في ذلك إذنا خاصا. والإقرار الحاصل أمام قاض غير مختص، أو الصادر في دعوى أخرى، يكون له نفس أثر الإقرار القضائي”.

ومن خلال هذا الفصل يتضح أن هناك شروطا واجبة لوصف الإقرار بأنه إقرار قضائي، وهي أن يكون هذا الاعتراف  المدلى به من طرف الخصم أو نائبه القانوني طبقا المصرح له بإذن خاص لمنطوق الفصل 412 من ظ.ل.ع ” وكالة ال المعطاة من الخصم لنائبه في أن يقر بالالتزام حجة قاطعة عليه، ولو قبل أن يصدر الإقرار من الوكيل”، وأن يكون هذا الاعتراف أمام جهة قضائية سواء كانت مختصة أو غير مختصة، وأن ينصب الوقائع المعروضة على المحكمة.

وتجدر الإشارة الى أن السكوت قد يعتد به كشكل من أشكال الإقرار القضائي، والسند في هذا القول ما أكفه المشرع بمقتضى الفصل 406 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه ما يلي: ” يمكن أن ينتج الإقرار القضائي عن سكوت الخصم، عندما يدعوه القاضي صراحة إلى الإجابة عن الدعوى الموجهة إليه فيلوذ بالصمت، وال يطلب أجال للإجابة عنها”

 

ب – الإقرار غير القضائي

وهو ما عرف المشرع بمقتضى الفصل 407 في كونه الاعتراف الذي لا يقوم به الخصم أمام القضاء. ويمكن أن ينتج من كل فعل يحصل منه وهو مناف لما يدعيه.

والإقرار غدر القضائي، إما أن يكون شفويا أو مكتوبا، فإن كان شفويا وأنكر من نسب إليه وجب على من يحتج به أن يثبت أولا صدوره من خصمه ويخضع في ذلك للقواعد العامة في الاثبات، الا أن ظهير الالتزامات والعقود استثنى من ذلك صورة واحدة لا يجوز اثباتها بشهادة الشهود، وذلك إذا تعلق الإقرار بالاتزام يتطلب القانون فيه الكتابة لاثباته[40]، وهو ما أكده المشرع بمقتضى الفصل 413 من ظ.ل.ع الذي جاء فيه   “لا يجوز إثبات الإقرار غير القضائي بشهادة الشهود إذا تعلق بالتزام يوجب القانون إثباته بالكتابة”.

ونص المشرع على هذه القاعدة أيضا في الفصل 443 من ظ.ل.ع الذي ينص على ما يلي: ” الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق، والتي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود ويلزم أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية، وإذا اقتضى الحال ذلك أن تعد بشكل إلكتروني أو أن توجه بطريقة إلكترونية “.

 

2 – خصائص الإقرار

يتميز الإقرار بالخصائص التالية[41]:

أ – الإقرار عمل قانوني من جانب واحد: فمن خلال التعريف المشار إليه سابقا يتضح أن الإقرار هو اعتراف الخصم أو نائبه القانوني بصحة الواقعة المدعى عليه فيها، ولهذا الاعتبار اشترط المشرع أن يصدر الإقرار عن اختيار وإدراك لا أن يصدر عن تدليس أو إكراه (أنظر الفصل 409 من ظ.ل.ع).

ب – الإقرار حجة قاصرة: أي أنه حجة على المقر الذي ينطلي عليه آثار إقراره بمعية ورثته وخلفائه، ولا يكون له أي أثر في مواجهة الغير الا في الأحوال التي يصرح فيها بها القانون (أنظر الفصل 410 من ظ.ل.ع)

 

ثانيا: شروط الإقرار وآثاره

إن الحديث عن شروط الإقرار هو حديث عن شروط الإقرار القضائي تحديدا، هذا الأخير الذي استلزم فيه المشرع ضرورة توافر مجموعة من الشروط بمقتضى الفصل 405 من ظ.ل.ع، وحتى أن الفقه[42] في معرض حديثه عن شروط أو أركان الإقرار القضائي يشير له بلفظ الإقرار لا غير كما أكد على ذلك الفقيه عبد الرزاق السنهوري، ويترتب على توافر هذه الشروط آثار- أي آثار الإقرار .

 

1 – شروط الإقرار

على غرار الشروط العامة الواجب توافرها في الإقرار بصفته وسيلة من وسائل الإثبات، كأن يكون معينا أو قابلا للتعيين وأن يكون لصالح شخص متمتع بأهلية التملك على اعتبار أنه عمل قانوني طبقا لأحكام الفصل 408 الذي يقر ما يلي ” يلزم أن يكون الإقرار لصالح شخص متمتع بأهلية التملك، سواء كان فردا أم طائفة معينة، أم شخصا معنويا. ويلزم أن يكون محل الإقرار معينا أو قابلا للتعيين.

وأن يكون هذا الإقرار صادرا عن اختيار وإدراك كما يقضي بذلك الفصل 409 من ظ.ل.ع، وأن يكون مخالفا للحالات الواردة في الفصل 415 من ظ.ل.ع وهي كالتالي:

” لا يعتد بالإقرار:

1 – إذا انصب على واقعة مستحيلة استحالة طبيعية، أو واقعة ثبت عكسها بأدلة لا سبيل لدحضها؛

2 – إذا ناقضه صراحة من صدر لصالحه؛

3 – إذا استهدف إثبات التزام أو واقعة مما فيه مخالفة للقانون أو للأخلاق الحميدة أو مما لا يسمح القانون بسماع الدعوى فيه، أو استهدف التخلص من حكم القانون؛

4 – إذا قضى حكم حائز لقوة الأمر المقضي بعكس ما تضمنه الإقرار

هناك أيضا شروط  أخري فباستقراء الفصل 405 من ظ.ل.ع الذي ينص على ما يلي: ” الإقرار قضائي أو غير قضائي. فالإقرار القضائي هو الاعتراف الذي يقوم به أمام المحكمة الخصم أو نائبه المأذون له في ذلك إذنا خاصا.

والإقرار الحاصل أمام قاض غير مختص، أو الصادر في دعوى أخرى، يكون له نفس أثر الإقرار القضائي.”

يتضح أن الإقرار يرتكز على ثلاث شروط أساسية تتجلى في ما يلي:

أ – اعتراف من طرف الخصم أو نائبه القانوني: وهذا الاعتراف لا يشترط فيه أن يكون مقصودا، إذ يمكن للقاضي أن يستخلصه من مجريات الدعوى، حيث يمكن أن يقر الخصم أو نائبه القانوني بوقائع قد وقعت فعلا، غير أن هذا الإقرار وإن لم يكن يشترط فيه النية أي نية الإقرار، فإنه يتشرط فيه أن يكون سليما ومحصنا من عيوب الرضى طبقا لمنطوق الفصل 409 من ظ.ل.ع.

ب – أن يكون أمام المحكمة المختصة: وهذا هو البون بين الإقرار القضائي وغير القضائي، إذ يجب أن يكون أمام جهة قضائية مختصة، أما إذا لم يكن أمام الجهة القضائية المختصة فإنه لا يعتبر إقرارا قضائيا غير أن له نفس آثر الإقرار القضائي كما ينص على ذلك المشرع في الفصل 405 من ظ.ل.ع ” والإقرار الحاصل أمام قاض غير مختص، أو الصادر في دعوى أخرى، يكون له نفس أثر الإقرار القضائي”.

ت – في واقعة جارية أمام المحكمة: إذ يجب أن يكون في الواقعة المعروضة على المحكمة، أما إذا كان في واقعة أخرى اعتبر أنه إقرار أمام جهة غير مختصة ومن تم فهو إقرار غير قضائي غير أن له نفس أثر الإقرار القضائي.

كانت هذه أبرز شروط الإثبات، والآن سأنتقل الى تبيان آثاره

 

                                     2 – آثار الإقرار

إن قيام الإقرار سليما مستوفيا للشروط المومأ إليها أعلاه يترتب عليه مجموعة من الآثار، يمكن إجمالها في ما يلي:

أ – الإقرار حجة قاطعة على المقر: ومعنى هذا القول أنه متى توافرت في الإقرار الشروط السابقة اكتسب صفة الحجة القاطعة على صاحبه وعلى ورثته وخلفه الخاص، غير أنه لا يكون له أي أثر في مواجهة الغير الا في الأحوال التي يصرح بها القانون طبقا لأحكام الفصل 410 من ظ.ل.ع.

ب – عدم جواز العدول عنه:  حتى ولو كان الخصم الآخر لم يعلم به، إذ العبرة بعلم القاضي به لا الخصم ولا يجوز الرجوع عن الإقرار أيضا الا إذا تعلق الأمر بغلط مادي لا غلط قانوني وهو ما أكد عليه المشرع بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل 414 من ظ.ل.ع : ” لا يسوغ الرجوع في الإقرار ما لم يثبت أن الحامل عليه هو غلط مادي. الغلط في القانون لا يكفي للسماح بالرجوع في الإقرار ما لم يكن مما يقبل فيه العذر أو نتج عن تدليس الطرف الآخر. ولا يسوغ الرجوع في الإقرار ولو كان الخصم الآخر لم يعلم به”.

ت – عدم جواز تجزئته: غير أن هذا الأثر لا يتحصل إلا إذا كان الإقرار هو الحجة الوحيدة على صاحبه، وجوز تجزئته إذا كانت إحدى الوقائع ثابتة بحجة أخرى غير الإقرار، أو إذا انصب الإقرار على وقائع متميزة ومنفصلة بعضها عن البعض، أو إذا ثبت كذب في جزء من الإقرار طبقا لمقتضى الفصل 414 من ظ.ل.ع.

بعد الإقرار سأنتقل الى اليمين.

 

الفقرة الثانية: اليمين

عرف الفقه[43] اليمين بأنها إشهاد الله تعالى على صدق ما يخبر به الحالف، ويكلف الشهود باليمين قبل تأدية شهادتهم إشعارا لهم بوجوب قول الحق، ويكلف بها أحد الخصوم لتأييد ادعائه يعوزه الدليل عليه.

وبالرجوع لظهير الالتزامات والعقود نجد أن المشرع لم يكتفي بعدم وضع تعريف لها وفقط، وإنما أحال على قانون المسطرة المدنية (الفصول 85 و88 ) لتنظيمها طبقا لما جاء في الفصل 460 من ظ.ل.ع.

وللإحاطة ولو بشيء من الإيجاز بهذه الوسيلة –اليمين- سأتطرق الى أنواع اليمين ثم لآثارها.

 

أولا: أنواع اليمين

وضع الفقه تصنيفا لليمين، فهي إما قضائية والمقصود بهذا القول أنها تؤدى أمام مجلس القضاء، أو غير قضائية تؤدى خارج مجلس القضاء، واليمين الخاصة ليست لها أحكام خاصة، بل تتبع في شأنها القواعد العامة، فإذا اتفق شخصان على أن أحدهما يحلف اليمين على حق مدعى به، فهذا الاتفاق لا يجوز إثباته بالبينة أو القرائن الا في الأحوال لتي يجوز فيها ذلك، أما حلف اليمين ذاتها تعتبر واقعة مادية يجوز إثباتها بجميع طرق الإثبات، والنتائج التي تتربت على حلف اليمين غير القضائية هي النتائج التي اتفق عليها الطرفان، ولا يجوز ردها إلا إذا كان هناك اتفاق على ذلك[44]، وما سأركز عليه في هذا الصدد هو اليمين القضائية المؤطرة بأحكام خاصة.

واليمين التي تؤدى في مجلس القضاء نوعان، إما حاسمة وإما متممه.

 

1 – اليمين الحاسمة

اليمين الحاسمة هي التي يوجهها الخصم الى خصمه، يحتكم فيها الى ضميره ليقطع النزاع[45]، يلجأ إليها الخصم حينما يتعذر عليه الاستناد لأي دليل آخر ويوجهها للمدعى عليه محكما في ذلك ضميره.

ولا تملك المحكمة حق رفض اليمين الحاسمة، فقد جاء في قرار للمجلس الأعلى ” إن حق توجيه اليمين الحاسمة هو وسيلة وسائل الإثبات أعطاها المشرع للخصم الذي يعوزه الدليل لإثبات دعواه ولا يقر له خصمه بصحة ما يدعيهن وما على القاضي إلا الاستجابة له متى تأكد أن هذا الطلب قدم وفق الشروط الشكلية المطلوبة[46].

 

2 – اليمين المتممة

اليمين المتممة هي التي توجهها المحكمة من تلقاء نفسها لأحد الخصوم لإتمام دليل ناقص وهو متروك لتقدير المحكمة[47]، أي دون طلب من أحد الخصوم.

وقد جاء في الفصل 87 من ق.م.م “إذا اعتبرت المحكمة أن أحد الأطراف لم يعزز ادعاء اته بالحجة الكافية أمكن لها تلقائيا أن توجه اليمين الى هذا الطرف بحكم بين الوقائع التي ستتلقى اليمين بشأنها…”

 

ثانيا: آثار اليمين

تختلف آثار اليمين بحسب ما إذا كانت حاسمة أو متممة.

1 – أثر اليمين الحاسمة

إذا توافرت في اليمين الحاسمة الشروط المسطرية ترتب عنها آثار يمكن إجمالها في النقاط التالية:

أ – لا يمكن الرجوع في اليمين الحاسمة: إذ أن توجيه اليمين الحاسمة للخصم وقبولها من لدن هذا الأخير معناه التنازل عن طرق الإثبات الأخرى والاقتصار على ضمير الخصم في قبولها أو النكول عنها.

ب – إمكانية رد اليمين: يمكن للخصم الذي وجهت إليه اليمين الحاسمة أن يردها متى كانت الواقعة المراد الحلف عليها متعلقة بطرفي الخصومة، على أنه لا يجوز الرد إذا انصبت اليمين على واقعة لا يشترك فيها الخصمان[48]. فالمشترى لا يجوز له رد اليمين على البائع لأنهما مشتركا في معاملة واحدة وهي البيع، لكن خَلف المشتري يمكن له رد اليمين الحاسمة عل%8

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى