في الواجهةمقالات قانونية

إعفاء الناقل البحري بوثيقة الشحن من المسؤولية في القانون التونسي الدكتور: نزار الحمروني

إعفاء الناقل البحري بوثيقة الشحن من المسؤولية في القانون التونسي
Exempting the sea carrier with the shipping document from responsibility in Tunisian law

الدكتور: نزار الحمروني
أستاذ مشارك بكلية الحقوق –جامعة الملك فيصل

ملخص
يؤول عدم تنفيذ الناقل في النقل البحري لالتزاماته إلى قيام مسؤوليته العقدية. غير أن التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية نصت على حالات لإعفاء الناقل من المسؤولية وذلك للتخفيف على الناقل من عبء مخاطر النقل البحري ولتحقيق التوازن العقدي بين الناقل والشاحن. وقد ابتدأت اتفاقية بروكسل لسنة 1924 المتعلقة بالنقل البحري بسند الشحن بتحديد الأسباب القانونية لإعفاء الناقل من مسؤولية ما تتعرض له البضاعة أثناء نقلها ودحض قرينة المسؤولية التي يتحملها بموجب ذات الاتفاقية. وقد تأثرت مجلة التجارة البحرية التونسية بهذه الاتفاقية من حيث تأسيس مسؤولية الناقل على قرينة المسؤولية وذكر قائمة أسباب إعفاء الناقل في النقل البحري الداخلي.
أما النقل الدولي فإن نطاق مسؤولية الناقل تحدده اتفاقية هامبورغ لسنة 1978المتعلقة بالنقل البحري للبضائع و التي صادقت عليها تونس و طبقها القضاء التونسي. وقد عوضت هذه الاتفاقية قرينة المسؤولية التي يتحملها الناقل في اتفاقية بروكسل بقرينة الخطأ وألغت كذلك قائمة الأسباب التي يمكن للناقل الاحتجاج بها لدفع مسؤوليته. بحيث تغير نظام الإعفاء من المسؤولية مع اتفاقية هامبورغ ليصبح نظامًا مزدوجًا بحسب ما إذا كان النقل البحري داخليًا خاضعًا مجلة التجارة البحرية أو دوليًا خاضعًا لاتفاقية هامبورغ.
كلمات مفاتيح: نقل بحري، إعفاء من المسؤولية، قرينة قانونية، أسباب الإعفاء.
Abstract:
The failure of the carrier to fulfill his obligations in maritime transport will result in his contractual liability. However, national legislation and international agreements stipulate cases for exempting the carrier from responsibility in order to reduce the burden of maritime transport risks on the carrier and to achieve a contractual balance between the carrier and the shipper. The Brussels Convention of 1924 relating to carriage by sea by bill of lading began by specifying the legal reasons for exempting the carrier from responsibility for what the goods are exposed to during their transport and refuting the presumption of liability that he bears under the same convention. The Tunisian Maritime Trade Journal was influenced by this agreement in terms of establishing the carrier’s responsibility on the presumption of responsibility and mentioning a list of reasons for exempting the carrier in internal maritime transport.
As for international transport, the scope of the carrier’s responsibility is determined by the Hamburg Convention of 1978 relating to the maritime transport of goods, which was ratified by Tunisia and implemented by the Tunisian judiciary. This agreement replaced the presumption of responsibility borne by the carrier in the Brussels Convention with the presumption of fault and also eliminated the list of reasons that the carrier could invoke to pay its responsibility. So, the system of exemption from liability changed with the Hamburg Convention to become a dual system depending on whether the maritime transport is internal, subject to the Maritime Trade Code, or international, subject to the Hamburg Convention.
Keywords: maritime transport, exemption from responsibility, legal presumption, reasons for exemption.

 

مقدمة
لا تكون العلاقة التعاقدية ملزمةً إلا باقترانها ضرورة ً بالمسؤولية القانونية عن الإخلال بما تم الاتفاق عليه. ومن أهم تجليات المسؤولية المدنية تلك التي تقوم في حق الناقل البحري للبضائع. فإذا كان عقد النقل البحري من أهم موضوعات القانون البحري ، فإن مسؤولية الناقل تعتبر من الناحية العملية أهم المسائل المطروحة في هذا المضمار.
و لئن عرّف المشرع التونسي في مجلة التجارة البحرية عقد نقل المسافرين دون عقد نقل البضائع ، فإنه يمكن قياسًا على ما ورد في هذا التعريف اعتبار عقد النقل البحري عمومًا بأنه العقد الذي يلتزم فيه الناقل مقابل أجرة بنقل البضائع أو الأشخاص عن طريق البحر .
وقد أفردت المجلة المذكورة عنوانها الرابع “لأهم أنواع الاتفاقات البحرية” ومن هذه العقود عقد نقل البضائع بوثيقة الشحن الذي يُعتبر أهم أنواع عقود النقل البحرية مثلما يدلل عليه فقه قضاء محكمة التعقيب.
فقد يأخذ عقد نقل البضائع صورة عقد مشارطة الايجار و هو الذي يتعهد بموجبه صاحب السفينة بوضع السفينة تحت تصرف المستأجر مقابل أجر .وقد يأخذ صورة نقل البضائع بوثيقة الشحن Transport sous- connaissement وهو ” الاتفاق الذي يتلقى بمقتضاه ناقل بحري بضاعة يسلمها إليه الشاحن مع الالتزام بتسليمها في المكان المقصود …ويكون هذا العقد موضوع كتب يُعرف بوثيقة الشحن” . حيث يتم في هذه الحالة حجز جزء من السفينة للنقل عليها كما لو أراد الشاحن أن ينقل قدرًا من البضاعة يتمثل في طردٍ أو مجموعة طرود من ميناءٍ لآخر و يتم هذا عن طريق إصدار وثيقة الشحن و هي سند نقل صادر عن الناقل أو الربان و يُسلم إلى المرسل . خلافا للصيغة الأولى يتمثل محل العقد في خدمة النقل و ليس منفعة السفينة .
مجال موضوع البحث
يُعتبر النقل البحري بوثيقة الشحن أهم أنواع عقود النقل البحرية، وترجع أهمية نقل البضائع بوثيقة الشحن لأسباب عدة منها كثرة البضائع التي تُكدس في السفينة لشاحنين كُثُر ولتعرض هذه البضائع لمخاطر الشحن والتفريغ ولتعدد الأطراف المتدخلين في مختلف هذه العمليات.
و يلتزم الناقل البحري للبضائع بوثيقة الشحن بمجموعة التزامات حددتها المادة145و ما يليها من مجلة التجارة البحرية ، واتفاقية هامبورغ المتعلقة بالنقل البحري للبضائع و التي كانت بتاريخ 31مارس1978 و المصادق عليها في تونس بمقتضى القانون عدد33المؤرخ في28ماي1980. وقد كانت اتفاقية هامبورغ في جوهرها تعديلا لمحتويات اتفاقية بروكسل لسنة 1924 المتعلقة بالنقل البحري بسند الشحن .
وقد أقامت التشريعات الوطنية من جهة واتفاقية هامبورغ من جهة ثانية التزامات الناقل البحري المتمثلة أساسًا في نقل البضاعة المشحونة من ميناء القيام وتسليمها للشاحن أو للمرسل إليه سليمةً وفي الميعاد المتفق عليه. من المعلوم أن حالات قيام مسؤولية الناقل البحري في الاتفاقيات الدولية و التشريعات الوطنية تتمثل أساسا في الهلاك والتلف والتأخير في إيصال البضاعة مما يفوت على صاحبها فرصة الكسب أو يلحق به خسارة .
و قد رتبت هذه التشريعات وكذلك اتفاقية هامبورغ عن الإخلال بهذه الالتزامات مسؤولية عقدية تعرض لها و لأساسها القانوني فقه القضاء التونسي .إلا أنه ولتعدد أوجه مخاطر النقل البحري مما يترتب عنه من إثارة مسؤولية الناقل بما يثقل كاهله فإن القانون نصّ على حالات يُعفى فيها الناقل من المسؤولية .
ويُقصد بإعفاء الناقل البحري من المسؤولية عدم قيام مسؤوليته أصلاً في الحالات المذكورة قانونًا مما يميزها عن مفهوم تحديد مسؤولية الناقل الذي يُقصد به قيام المسؤولية من حيث المبدأ ولكن مع تحديد سقف قانوني لا يتجاوزه التعويض وذلك حتى لا يترتب عن قيام المسؤولية المدنية اثقال كاهل الناقل بما لا يطيق و لإقامة التوازن بين مصالح الناقل و الشاحن .
ويختلف الاعفاء القانوني للناقل من المسؤولية في حالات معينة عن الاعفاء الاتفاقي الذي يتم إدراجه في عقد النقل والذي لئن سكتت عنه مجلة التجارة البحرية فإن سائر التشريعات و الاتفاقيات الدولية- و منها اتفاقية بروكسل و هامبورغ .- تبطله حفاظاً على حقوق الشاحنين و على التوازن العقدي .

 

أهمية موضوع البحث وتطوره التاريخي

يكتسي إعفاء الناقل من المسؤولية من حيث شروطه وصوره أهمية بالغة بالنظر لطبيعة هذا العقد الذي لا يخرج عن أن يكون عقد إذعان تتفاوت فيه المراكز الاقتصادية بين الناقل باعتباره الطرف الأقوى والشاحن الذي يبقى مركزه أضعف وحقوقه تبدو أجدر بالرعاية. حيث درج الناقلون على التنصيص في سندات الشحن على شروط تعفيهم من المسؤولية مثل “شرط الإهمال” الذي كان من شأنه أن يعفي الناقل من المسؤولية في حال خطأ الربان أو الطاقم البحري ، غير أن مثل هذا الشرط يترتب عنه إجحاف بحقوق الشاحنين .
إزاء هذا الوضع تدخلت التشريعات الداخلية وتم إبرام اتفاقيات للحد من الإعفاء الواسع للناقل من المسؤولية بما يكفل تحقيق التوازن العقدي وحماية مصالح الشاحن. وقد كانت أول مبادرة لحماية الشاحنين في عقود النقل البحري بموجب سندات الشحن في الولايات المتحدة الأمريكية سنة1893 حيث أصدر الكونغرس الأمريكي في شهر فيفري1893 قانون “هارتر” “Harter Act” الذي جعل الناقل مسؤولاً عن أخطائه الشخصية والأخطاء التجارية –أي غير الملاحية- للطاقم البحري. ثم كانت الخطوة الثانية بمبادرة من لجنة القانون البحري في جمعية القانون الدولي التي عرضت مقترحًا في مؤتمر لاهاي1921 نجم عنه اتفاقية دولية تقضي ببطلان شروط الإعفاء من المسؤولية عن الأخطاء التجارية و بعض الأخطاء الملاحية للمجهز. ثم كانت معاهدة بروكسل لسنة 1924 والمتعلقة بتوحيد سندات الشحن حيث نظمت المسؤولية في النقل بسند الشحن. غير أن السمة التي ميزت هذه الاتفاقية هي عدم تحقيق التوازن العقدي بين حقوق الناقل و الشاحن حيث ضيقت من مسؤولية الناقل البحري بذكرها سبعة عشرة حالة لإعفاء الناقل من المسؤولية . وهو ما برر في الأخير ابرام اتفاقية هامبورغ لسنة1978 المذكورة آنفًا التي سعت إلى توسيع مسؤولية الناقل البحري في مادتها الرابعة .
تتجه التشريعات الوطنية عموما والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنقل البحري إلى ضمان التوازن بين مصالح أطراف العقد ومن أهم مرتكزات هذا التوازن هو مجال مسؤولية الناقل وحدوده الذي خضع تاريخيا في القانون التونسي لمجلة الالتزامات والعقود و التي تعتبر المسؤولية فيها جدّ واسعة، ثم كان الأمر الملكي 16جوان1942 الذي حدد مسؤولية الناقل البحري و حدد حالات للإعفاء منها مع قيام مسؤولية مفترضة. وفي سنة1962 تم تشريع مجلة التجارة البحرية التي اعتمدت في جوهرها على اتفاقية بروكسل لسنة 1924.
على المستوى الدولي انظمت تونس إلى العديد من الاتفاقيات الدولية المنظمة للملاحة الدولية و ذلك في نطاق أعمال المنظمة البحرية الدولية كما انظمّت تونس إلى أهم الاتفاقيات التجارية البحرية تحت ظل المنظمة الدولية للتجارة و التنمية و من أهمها اتفاقية الأمم المتحدة للنقل البحري للبضائع الموقعة في هامبورغ في 13/03/1978 والتي دخلت حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر1992 .لتصبح هذه الاتفاقية كذلك مصدرا محددا لمسؤولية الناقل في القانون التونسي .
و لئن أحدثت اتفاقية هامبورغ–مقارنة باتفاقية بروكسيل- تعديلاً في مجال مسؤولية الناقل وحالات الإعفاء من المسؤولية فإنها أدخلت في القانون التونسي ازدواجية في نظام الاعفاء من المسؤولية في حيث أصبحت هذه المسؤولية تتنازعها من جهة مجلة التجارة البحرية و من جهة ثانية اتفاقية هامبورغ .
وقد أقرت في هذا المضمار محكمة التعقيب وبدوائرها المجتمعة بهذه الازدواجية في أكثر من مناسبة، حيث أكدت أن اتفاقية هامبورغ تعلو على القانون الداخلي كل ما تعلق الأمر بمجال تطبيقها أي بالنقل الدولي . فتحدد بالتالي مسؤولية الناقل في القانون التونسي بأكثر من مصدر بحسب طبيعة النقل وما إذا كان داخليًا أو دوليًا .
إشكالية البحث ومنهجيته
يطرح تعدد المصادر القانونية المحددة لنطاق مسؤولية الناقل وحالات إعفائه من المسؤولية ، إشكالية تنوع الحالات القانونية للإعفاء بحسب النص القانوني المنطبق.
ويفرض استقصاء حالات الإعفاء من المسؤولية منهجًا استقرائيًا تحليليًا يمكن من خلاله تمييز الاعفاء القانوني من مسؤولية الناقل في النقل البحري الداخلي حيث تنطبق مجلة التجارة البحرية (المبحث الأول)، عن الاعفاء القانوني من مسؤولية الناقل في النقل الدولي حيث تسري اتفاقية هامبورغ (المبحث الثاني).

 

 

المبحث الأول: الإعفاء القانوني للناقل البحري من المسؤولية في النقل الداخلي
يقوم إعفاء الناقل البحري للبضائع في مجلة التجارة البحرية على أساس المسؤولية المفترضة (المطلب الأول) مما يفرض على الناقل لدحض مسؤوليته إثبات حالة من حالات الاعفاء المحددة قانونًا (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الأساس القانوني لإعفاء الناقل من المسؤولية في مجلة التجارة البحرية
تعرضت المادة145 من مجلة التجارة البحرية مثلها مثل المادة الرابعة من اتفاقية بروكسل لحالات اعفاء الناقل من المسؤولية ،حيث فرضت عليه أن يثبت من جهة أولى انتفاء خطئه و ذلك بإثبات “اتخاذه للعناية المعقولة”، و من جهة ثانية السبب الذي تسبب في الضرر أي اثبات العلاقة السببية بين الضرر و السبب الأجنبي عنه والمتمثل في الحالات المذكورة في المادة145 من المجلة .
و يتبين من ذلك أن مسؤولية الناقل لا تقوم على افتراض الخطأ بل افتراض المسؤولية التي لا يكفي دحضها إثبات غياب الخطأ بل كذلك بإثبات انتفاء العلاقة السببية .ذلك أن الحالات التسع التي عددتها المادة145من مجلة التجارة البحرية لا يكفي اثبات احداها لإعفاء الناقل من المسؤولية إذا كانت مسبوقةً بخطإ منه .
وتعفي قرينة المسؤولية الشاحن أو المرسل إليه من إثبات وجود خطا المتسبب في الضرر. فمجرد وجود الضرر يكفي لتحميل الناقل البحري كل المسؤولية واعتباره وحده مطالبًا بتعويض الضرر. كما أنه لا حاجة لإثبات العلاقة السببية بين الخطأ والضرر، ضرورة أنها مفترضة بمجرد وجود البضاعة بين أيدي الناقل البحري عندما لحقها الضرر. أي أن مسؤولية النقل البحري تشمل كل المدة التي تكون فيها البضاعة تحت إشرافه، وذلك يغطي الفترة الفاصلة بين تسلم البضاعة من الشاحن وتسليمها إلى المرسل إليه. تبعا لذلك، فان كل ما يجب إثباته هو وجود الضرر وعلى الطالب إثبات ذلك بسائر الطرق القانونية.
وقد ورد الأساس القانوني لانتفاء مسؤولية الناقل في مجلة التجارة البحرية منسجماً مع ما تنص عليه المادة الرابعة من اتفاقية بروكسل التي ورد فيها أنه لا يسأل الناقل أو مالك السفينة عن الهلاك أو التلف الناتج أو الناشئ عن أي سبب آخر عن فعل الناقل أو خطئه او فعل وكلاء الناقل أو مستخدميه أو أخطائهم. بحيث يتضح أن الأساس هو المسؤولية المفترضة التي لا يمكن دحضها الا بإثبات انتفاء الخطأ من جهة الناقل أو وكلائه ثم اثبات السبب الأجنبي في إحدى الحالات المذكورة نصًّا في ذات المادة.
لقد كان الأساس القانوني العام لمسؤولية الناقل البحري في ظل معاهدة بروكسل هو المسؤولية المفترضة القائمة على تحمل مخاطر النشاط risque d ‘activité” ” ، و قد تأثّر مشرع مجلة التجارة البحرية بهذا التأسيس القانوني الذي سيصطدم لاحقًا بتأسيس مغاير لمسؤولية الناقل مع اتفاقية هامبورغ.
وما يمكن ملاحظته أن التأسيس القانوني للمسؤولية القانونية للناقل البحري في مجلة التجارة البحرية تأثر بالتصور اللاتيني لمسؤولية الناقل عمومًا كالذي كرسه القانون الفرنسي و البلجيكي و المصري و اللبناني و السوري . أما الأنظمة التي تنضوي ضمن التصور الأنقلوسكسوني كالقانون الأنجليزي فإنه لا يعتبر مسؤولية الناقل مفترضة إلا إذا كان الناقل محترفًا أي إذا تعلق الأمر بالنقل العام .
أما عن طبيعة التزام الناقل التي ستحدد ضرورةً مدى الاثبات الذي يتعين القيام به، فإن المادة 145 من مجلة التجارة البحرية أوجبت على الناقل إثبات “اتخاذه للعناية المعقولة”، مما
قد يفيد ظاهريا أن التزامه هو مجرد التزام ببذل عناية يمكنه دحضه بإثبات أنه قام بالعناية اللازمة أو المعقولة.
إلا أنه المتعين عدم الوقوف عند الصياغة الظاهرة للمادة 145من مجلة التجارة البحرية وذلك اعتبارًا لقرينة المسؤولية المحمولة على الناقل و التي لا تتساوق مع الالتزام ببذل العناية بل لا تكون إلا في حال الالتزام بتحقيق نتيجة .كما لا ينسجم إلزام الناقل ببذل عناية و إلزامه بضمان سلامة البضاعة من التلف و الهلاك . وهذا الاتجاه استقر عليه فقه قضاء محكمة التعقيب حيث نفت المحكمة إمكانية إعفاء الناقل من مسؤوليته لمجرد اثبات بذل العناية الكافية. وقضت المحكمة في قرارها عدد 53344 المؤرخ في 21/5/1998 ” أن الناقل البحري يلتزم بنتيجة معينة وهي توصيل البضاعة سالمة إلى ميناء الوصول وبذلك يكون مسؤولاً عن التعويض إذا تخلفت، ذلك أن مجرد وقوع الضرر يستوجب مسؤولية الناقل عدى ما أُستثني”.
و يذهب كل من فقه القضاء التونسي و الفرنسي إلى تحميل الناقل التزامًا بتحقيق نتيجة كلما تعلق الأمر بضمان سلامة ما ينقله .
المطلب الثاني: حالات الإعفاء من المسؤولية في مجلة التجارة البحرية
عملا بقرينة المسؤولية التي فرضتها المادة 145 من مجلة التجارة البحرية على الناقل البحري إثبات انه قام بكل العناية اللازمة والمعقولة وأنه لا يوجد أي خطأ يمكن أن ينسب إليه حتى يتمكن من تطبيق الحالات الاستثنائية المنصوص عليها في القانون. وقد نص الفصل 145 على الحالات التي لا يمكن فيها إثارة مسؤولية الناقل البحري، و قد سلك مشرّع المادة 145في تعداده الحالات الاستثنائية من مسؤولية الناقل مسلك اتفاقية بروكسيل 1924من جهة و أمر16جوان1942من جهة ثانية .
ويمكن إجمال هذه الحالات في أربع أسباب عامة يمكن بحدوثها إعفاء الناقل بموجبها من المسؤولية إذا أثبت أنها لم تكن مسبوقةً بخطئه. أول هذه الأسباب هي خطأ الغير وثانيها العيوب المتعلقة بالسفينة وسيرها وثالثها متعلقة بالبضاعة وأخيرًا السبب المتعلق بالقوة القاهرة ومنه الحريق.
والمُلاحظ تأثر مجلة التجارة البحرية باتفاقية بروكسيل 1924التي عددت في مادتها الرابعة حالات الإعفاء وعددها سبعة عشر وهي حالات تتميز بشيء من الخصوصية بالمقارنة مع النظرية العامة للمسؤولية ، وذلك توفيًقا بين مصالح الطرفين في هذا العقد الذي تتعدد فيه مخاطر النقل عبر البحر.
1-فعل الغير المُعفي من مسؤولية الناقل.
تتمثل أفعال الغير التي من شأنها لو أثبتها الناقل أن تعفيه من المسؤولية في الأخطاء الملاحية التي يرتكبها الربان وطاقم السفينة من ناحية أولى، وفي إيقاف العمل و الإضراب عن العمل أو عرقلته من أي جهة كانت من ناحية ثانية أخرى .وأخيرِا خطأ الشاحن بإخلاله بواجب الإعلام المتعلق بنوع البضاعة أو قيمتها .
نصت المادة 145 من مجلة التجارة البحرية على أن الناقل ليس مسؤولاً عن أي تلف أو تعيب أو ضرر إذا أثبت أن ذلك ناتج عن أفعال أو إهمال أو أخطاء الربان أو البحريين أو المرشد أو مستخدمي الناقل نفسه المتعلقة بالملاحة أو بتسيير السفينة. وتُعرف هذه الحالة بالأخطاء الملاحية التي تبقى في جوهرها أخطاءً فنيةً، حيث لا سلطان للناقل على طاقم السفينة في خصوص التسيير الفني للسفينة .و قد اعتبر فقه القضاء الكندي و الأمريكي أن الخطأ الفني هو الخطأ الذي يتمثل في عدم انتباه طاقم السفينة وحيطته عند تسيير السفينة .
وعكس الأخطاء الفنية تقوم مسؤولية الناقل عن الأخطاء التجارية التي يرتكبها طاقم السفينة كتلك المتعلقة بشحن و رصّ و حفظ أو تفريغ و تسليم البضاعة .
وتعود القاعدة المتعلقة بإعفاء الناقل البحري من كل مسؤولية في حالة وجود خطأ ملاحي إلى الثورة الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر حيث تطور قطاع النقل البحري وتطورت معه التكنولوجيات المتعلقة بالسفن، مما جعل من الضروري انتداب أشخاص ذوي اختصاص لا سلطان لمالك السفينة عليهم في الإدارة الملاحية. لهذا كان الربان والبحريين والمرشد الذين يعتبرون مختصون في الملاحة مستقلون في قراراتهم. لذا اعتاد الناقلون البحريون على اشتراط الإعفاء من المسؤولية الناتجة عن الأخطاء المنسوبة لطاقم السفينة أثناء الملاحة البحرية. وقد وقع تكريس هذا المبدأ لأول مرة في الـ HARTER ACT لسنة 1893 في الولايات المتحدة الأمريكية لحماية المجهزين كما كرست معاهدة بروكسل لسنة 1924 هذا الإعفاء. أما في القانون التونسي فيعود اعتماد هذا السبب للإعفاء لأمر 16/04/1942 المذكور سابقًا .
بصفة عامة، تنبني فكرة خطأ في الملاحة على مبدأ الخطأ في تسيير السفينة. ويعرف الخطأ الملاحي بالخطأ في اختيار الطريق، أو في قيادة السفينة أو في قراءة الخريطة وكذلك في عدم اخذ تنبيهات الرصد الجوي بعين الاعتبار. أما الخطأ في تسيير السفينة فيمكن ان يتعلق الأمر مثلا بحسن توزيع البضاعة في السفينة.
ويُعدّ كذلك من أسباب إعفاء الناقل من المسؤولية إضراب العمال أو توقفهم عن العمل والملُاحظ هو استنساخ المشرع التونسي لما ورد في اتفاقية بروكسل من حيث أن الإضراب أو التوقف عن العمل “لأي سبب كان” يعفي الناقل من المسؤولية وهي صياغة قد لا تكون موفقة في حالة ما إذا كان الإضراب بسببٍ يعود للناقل نفسه ولخطئه مثلاً في تنفيذ التزاماته التعاقدية مع طاقم السفينة. ذلك أن مثل هذه الحالة تناقض فلسفة المادة145 المذكورة .
أخيرًا نصت المادة 148من مجلة التجارة البحرية على إعفاء الناقل من المسؤولية عن تلف أو تعيب أو أضرار لحقت بالبضاعة إذا كان ذلك نتيجة تعمد الشاحن التصريح بمعطيات غير صحيحة تتعلق بنوع البضاعة أو قيمتها. مما يُستفاد معه أن الإعفاء هنا نتيجة غش الشاحن بحيث لو كان الشاحن في خطئه حسن النية – وهو الأصل- لما أُعفي الناقل وبالتالي كان عليه إثبات سوء النية. ويُعتبر هذا الحكم خروجًا عن القواعد العامة للمسؤولية التي تحمل المتضرر نتيجة خطئه ولو كان حسن النية .
كما يعتبر هذا التضييق في الاستثناء من مسؤولية الناقل الذي يتوقف على إثبات غش وتعمد الشاحن عند الإدلاء بمعلومات خاطئة مخالفًا لما ورد في اتفاقية هامبورغ التي استثنت من مسؤولية الناقل كل خطأ يرتكبه الشاحن سواء كان عمديا أو غير متعمد.
والملاحظ على صعيد ثاني أن المادة 145 من مجلة التجارية البحرية والمادة 13من اتفاقية هامبورغ لم تشر لكتمان معلومات هامة على الناقل مما من شأنه أن يكون تدليسًا.

2-أسباب الإعفاء المتعلقة بعيوب السفينة وسيرها
تنص المادة 145 من مجلة التجارة البحرية على إعفاء الناقل من المسؤولية في حال وجود عيوب خفية في السفينة. فحيث أنه من المفروض أن يكون الناقل قد أحسن تجهيز السفينة للملاحة فإن ما كان بالسفينة من عيوب لا يمكن كشفها ببذل عناية معقولة تُعتبر خفيةً وبالتالي لا يتحمل تبعاتها . أما ما كان ظاهرًا من العيوب في السفينة فإن ما يترتب عنه من ضرر للشاحن يكون على مسؤولية الناقل بما فيه من إخلال بواجب حسن تجهيز السفينة
و يُعتبر هذا الاستثناء الوارد في مجلة التجارة البحرية مقتبس من المادة الرابعة من اتفاقية بروكسل .
من جهة أخرى وبموجب الفقرات السابعة والتاسعة من المادة 145 المذكورة يُعفى الناقل من المسؤولية في حال عملية مساعدة أو إنقاذ أو تغيير مسار السفينة للقيام بذلك أو للقيام بكل أمر يرى الطاقم أنه يبرر تغيير المسار.
ويعود إعفاء الناقل من المسؤولية الناتجة عن هذه القرارات من جهة أولى لاعتبارها من المسائل الفنية التي تخرج عن قرار وتقدير الناقل. أما إذا تعلق الأمر بحالة من حالات الضرورة التي تستوجب تدخل السفينة لإنقاذ الغير فإن ما يبرر إعفاء الناقل من المسؤولية أن تقديم المساعدة والإسعاف البحريين يعتبران من الالتزامات القانونية التي يتحملها الناقل، ذلك أن إنقاذ الغير أو إسعافه يبرر عدم بذل الناقل العناية المعقولة في الحفاظ على البضاعة ويبرر بالتالي ما يترتب عن ذلك من ضرر. والملاحظ في هذا المجال عدم تفريق القانون التونسي خلافًا لاتفاقية هامبورغ بين عملية إنقاذ الأرواح التي تُعتبر واجبًا قانونيا على الناقل يبرر في حال الضرورة ما يترتب عن تغيير مسار السفينة من مضار، وبين إنقاذ الممتلكات الذي يبقى وفق اتفاقية هامبورغ أمرًا اختياريًا ولا يُعفي من المسؤولية إلا إذا كان التدبير الذي اتخذه الناقل تدبيرًا معقولاً .
3-القوة القاهرة والحريق
تعفي القوة القاهرة المدين من مسؤوليته في كل العقود ودون استثناء ، وتقطع القوة القاهرة تنفيذ العقد حيث عرفتها المادة 283من مجلة الالتزامات والعقود بأنها ” كل شيء لا يستطيع الإنسان دفعه كالحوادث الطبيعية من فيضان ماء وقلة أمطار وزوابع وحريق وجراد أو كهجوم جيش العدو أو فعل الأمير”، بشرط أن يكون وقوع الحدث المشكل للقوة القاهرة غير ناتج عن خطأ المدين. ويخضع وجود القوة القاهرة المعفية من المسؤولية لمعيار موضوعي ذلك أن الاستحالة في التنفيذ يجب أن تكون مطلقة. وهو ما يميز القوة القاهرة عن الظرف الطارئ الذي ساوت المادة 145 من مجلة التجارة البحرية بينها وبين القوة القاهرة من حيث الأثر على مسؤولية الناقل البحري. حيث يتفق الفقه على جواز أن تكون استحالة التنفيذ في حال الظرف الطارئ استحالة نسبية.
و يشكل كل حادث يصبح معه تنفيذ الناقل التزامه مستحيلا من حالات القوة القاهرة، ومن ذلك التغير المفاجئ للظروف الطبيعية كهياج البحر هياجا غير عادي وهبوب العواصف غير العادية و السيول ، و أعمال الحرب المفاجئة و الثورات و الاضطرابات الاجتماعية أو السياسية التي أقرت محكمة التعقيب توفر شروط القوة القاهرة فيها في قرارها الصادر في 17 ديسمبر2015 ، معفية ً بالنتيجة لذلك الناقل من مسؤولية تأخر وصول البضاعة المنقولة. وكذلك يُعتبر من قبيل القوة القاهرة الحصار البحري على ميناء الوصول.
في حين لا يُعد من قبيل القوة القاهرة الظواهر الطبيعية التي تحدث بانتظام، يمكن للناقل توقعها، كالمسؤولية الناتجة عن التأخر الناشئ من جراء تجمد الميناء، إذا كان التجمد يقع بنسق معروف ومنتظم في مواسم معروفة مسبقًا.
والملاحظ في هذا الإطار أن اتفاقية بروكسل لسنة 1924 قد عددت الحالات التي تعتبر من قبيل القوة القاهرة كالقضاء والقدر والحروب وغيرها ، خلافًا لمجلة التجارة البحرية التونسية التي يُفسر اكتفاءها بالتنصيص على القوة القاهرة بإحالتها ضمنيا في ضبط هذا المفهوم للقواعد العامة المتعلقة بتنفيذ العقود في القانون التونسي.
غير أن المادة 145 من مجلة التجارة البحرية قد خصّت حالة الحريق بالذكر دون سائر الحالات التي تعتبر من قبيل القوة القاهرة وأفردته -خلافًا لقواعد اتفاقية بروكسل – بفقرة خاصة وذلك لأهمية هذا الاستثناء واحتمال وقوعه. غير أنه يجوز للشاحن إثبات مسؤولية الناقل عن نشوب الحريق وهو إثبات وإن كان يصعب عمليا فإنه في حال التمكن منه يُرجع الناقل إلى أصل مسؤوليته. و يُقصد بالحريق اندلاع اللهب، أما اذا اقتصر على مجرد تصاعد الدخان أو تفحم البضاعة فلا يعتبر ذلك حريقًا .
4-الأسباب المتعلقة بالبضاعة: وتتمثل الأسباب الخاصة المُعفية من مسؤولية الناقل وفق الفقرتين الخامسة والسادسة من المادة 145 من مجلة التجارة البحرية في العيوب الذاتية للبضاعة أو طريق لفها من جهة وفي نقص البضاعة أثناء الطريق والراجع لطبيعتها أو طول السفرة أو العرف.
يُقصد بالعيب الذاتي للبضائع أي سبب ناشئ عن طبيعة البضاعة الذاتية دون تدخل من الناقل مما يؤدي إلى هلاك هذه البضاعة أو تلفها، كما لو كان داخلها جرثومةً تفشت مع مرور الوقت في البضاعة فأهلكتها .
لقد جرى العرف التجاري منذ القديم على التسامح في قدر من نقص البضاعة لطبيعتها ويختلف العرف من ميناء إلى آخر وتعتبر الشهادة المسلمة من الغرف التجارية وسيلة اثبات لإعفاء الناقل من مسؤولية النقص.
كما نصت الفقرة السادسة من المادة 145من مجلة التجارة البحرية أن الناقل يُعفى من المسؤولية عن نقص حجم أو وزن البضاعة أثناء السفر ” حسب طبيعتها وطول السفرة وتقلبات الجو وما يجيزه العرف”.
فطبيعة البضاعة يقتضي أحيانا نقصًا في حجمها أو وزنها ومنها مثلا السوائل والحبوب .و قد قضت محكمة التعقيب في قرار لها بتاريخ14سبتمبر2020 أن العرف في مادة النقل البحري استقرّ على أن الحبوب تتعرض بحكم طبيعتها إلى نقص خلال السفرة .
و يقتصر النقص المقصود هنا على الوزن و الحجم دون الكسر الذي لا يعفي الناقل من المسؤولية .
إضافة لطبيعتها فقد تنقص البضاعة لطول السفرة أو تقلبات الجو أو ما يسمح به العرف. غير أنه على الناقل في مثل هذه الحالات إثبات مقتضى إعفاءه من المسؤولية. حيث أوجبت محكمة التعقيب في ذات القرار المذكور أعلاه على الناقل الذي يتمسك بنقص الطريق لطبيعة البضاعة اثبات ذلك باعتبار أن ” التعامل بعرف نقص الطريق بميناء التفريغ يمثل شرطا اوليا لابد من توفره قبل التحقق مما إذا كان النقص الحاصل في كمية البضاعة من قبيل نقص الطريق وفي حدود النسبة المئوية المتسامح فيها عرفا ام انه يتجاوز ذلك” .
وتمثل وثيقة الشحن وسيلة اثبات هامة لكمية البضاعة وحجمها عند استلامها بما يمكن الناقل من التمسك بها عند المطالبة بإعفائه من المسؤولية لعندما تكون البضاعة مما يحتمل طبيعيا النقص .
المبحث الثاني: الإعفاء القانوني للناقل البحري من المسؤولية في النقل الدولي
يقوم الإعفاء من المسؤولية في اتفاقية هامبورغ على أُسسٍ تتمايز عن محتوى مجلة التجارة البحرية التونسية (المطلب الأول) ويبرز هذا التمايز بوضوح عند النظر في حالات الإعفاء في اتفاقية هامبورغ (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تمايز الأساس القانوني للإعفاء من المسؤولية في اتفاقية هامبورغ
حددت اتفاقية بروكسل 1924 حالات إعفاء الناقل من المسؤولية حصرًا والتي عليه اثبات إحداها ليدحض مسؤوليته بحيث لا يكفي إثبات انتفاء خطئه-باتخاذه التدابير اللازمة لتفادي الضرر وهو إثبات سلبي- بل يقع عليه إثبات أمر إيجابي يتمثل في السبب الحقيقي للضرر الذي تعرض له الشاحن.
مما يفيد افتراض مسؤولية الناقل يجب عليه لدحضها إثباتٌ مزدوج حيث عليه نفي خطئه مع اثبات السبب الأجنبي عنه .
و تنطبق حاليا على النقل الدولي اتفاقية هامبورغ التي تقضي في مادتها الخامسة بأن الناقل البحري يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تلحق بالبضائع أثناء وجودها في عهدته ” لعدم بذله عناية معقولة” ، دون أن يُلزم المتضرر بإقامة الدليل علي خطأ الناقل. يتبين من منطوق هذا النص أن أساس المسئولية هو الخطأ المفترض وليس المسئولية المفترضة .وهو ما أكدته محكمة التعقيب في قرارٍ لها معتبرةً ” أن مسؤولية الناقل البحري بمقتضى اتفاقية هامبورغ تقوم على أساس الخطأ المفترض ويكون عبء الإثبات محمولا عليه لدرء مسؤوليته عن الضرر أو التلف أو التأخير.” .
ويجوز من ثمة للناقل نفي قرينة الخطأ ودفع مسئوليته بإثبات اتخاذ كافة “التدابير المعقولة” لمنع الضرر، أي أن التزام الناقل في ظل قواعد هامبورج هو التزام بضمان سلامة البضائع حيث يُفترض أن الناقل قد أخطأ في حال حصول ضرر ما للبضاعة منذ توصله بها وذلك لعدم بذله العناية المعقولة وعليه تبعًا لذلك دفع هذه القرينة بإثبات عكسها. وقد أكدت ذلك محكمة التعقيب التونسية في عديد القرارات ومنها مثلاً قرارها المؤرخ في12ديسمبر2018حيث أكدت المحكمة أن “مسؤولية الناقل بموجب اتفاقية هامبورغ تقوم على مبدأ الخطأ والإهمال المُفترض المحمول على الناقل البحري ويكون حينئذ عبء إثبات عدم اقترافه للخطأ إزاء الأطراف المتعاقدة محمولاً عليه لدرء مسؤوليته عن هلاك البضاعة أو إتلافها” .
تقوم إذًا مسؤولية الناقل البحري في اتفاقية هامبورغ على أساس الخطأ المفترض لا المسؤولية المُفترضة و ذلك تحقيقًا للتوازن بين مصالح الناقل والشاحن . بمعنى أن عبء الإثبات يقع على عاتق الناقل البحري وليس الشاحن أو من يحل محله.
ويستثنى من قيام مسؤولية الناقل على الخطأ المفترض في اتفاقية هامبورغ الحالات الواردة في المادة الخامسة من ذات الاتفاقية التي تستوجب أن يكون الخطأ بحق الناقل ثابتًا. ففي الحالات الثلاث المذكورة في هذه المادة وهي الحريق أو انقاذ الأرواح والممتلكات وانقاذ حيوانات يتعين على الشاحن اثبات أن الحريق مثلاً كان بخطأ من الناقل و الا فإن مسؤولية هذا الأخير لا تقوم في مثل هذه الحالة .
على هذا الأساس يمكن لنا القول بأن نظام الإثبات في ظل اتفاقية هامبورغ أيسر مما هو عليه في ظل اتفاقية بروكسل، إذ أن الشاحن أو المرسل إليه أو من يحل محلهما يكفيه فقط أن يثبت أن البضاعة الهالكة أو التالفة أو التي لم يتم إيصالها في وقتها كانت في عهدة الناقل. وهو أمر يسير يكون بتقديم وثيقة أو سند الشحن أو أية وثيقة مثبتة لعقد النقل، زيادة على إثبات ما لحق البضاعة من هلاك أو تلف أو ما لحقه هو جراء التأخير في تسليمها. وعندئذ تعمل قرينة الخطأ في جانب الناقل لينتقل عندها عبء إثبات أن الهلاك أو التلف الذي لحق بالبضاعة أو الناتج عن التأخير في إيصالها يعود إليه أي أن يثبت أنه ووكلاؤه وتابعوه قد قاموا باتخاذ التدابير اللازمة وبطريقة معقولة لمنع وقوع الحادث أو للتقليل من أثاره أو إقامة الدليل على استحالة اتخاذ مثل هذه التدابير.
أما من حيث تقرير طبيعة التزام الناقل البحري وفق اتفاقية هامبورغ فرغم ما توحي به صياغة الفقرة الأولى من المادة الخامسة من ذات الاتفاقية من أن الالتزام لا يعدو أن يكون ببذل العناية المعقولة فإن محكمة التعقيب التونسية قد ذهبت في اتجاه إقرار الالتزام بتحقيق النتيجة المطلوبة من عقد النقل و هي وصول البضاعة سليمة و في الموعد المتفق عليه حيث أكدت في قرارٍ لها بتاريخ21ماي 1998أن قواعد “معاهدة هامبورغ تقتضي أن الناقل البحري يلتزم بنتيجة معينة وهي توصيل البضاعة سالمة إلى ميناء الوصول وبذلك يكون مسؤولاً عن التعويض إذا تخلفت ذلك أن مجرد وقوع الضرر يستوجب مسؤولية الناقل عدى ما استثني “.
المطلب الثاني: حالات الإعفاء من المسؤولية في اتفاقية هامبورغ
تطورت حالات إعفاء الناقل من المسؤولية من اتفاقية بروكسل التي ورد فيها حصر لأسباب إعفاء الناقل إلى اتفاقية هامبورغ التي خالفت كلّ من القانون التونسي واتفاقية بروكسل بعدم إيرادها قائمة أسباب الاعفاء، وإنما نصت على حق الناقل في نفي خطئه وذكرت هذه الاتفاقية حالات تقوم فيها قرينة انتفاء خطأ الناقل وهي الحريق ومخاطر نقل الحيوانات الحية، ثم أخيرا ما يترتب عن إنقاذ الأرواح والممتلكات من خسائر. وتعتبر هذه الحالات الثلاث حالات خاصة للإعفاء لا تنفي إمكان تمسك الناقل بالحالات العامة التي إن أثبتها أعفته من المسؤولية.
1-حالات الاعفاء العامة من المسؤولية في اتفاقية هامبورغ:
إذا كانت مسؤولية الناقل بموجب اتفاقية هامبورغ تقوم على مبدأ الخطأ والإهمال المُفترض فإنه يجب عليه بمقتضى الفقرة الأولى من المادة الرابعة من اتفاقية هامبورغ إثبات أنه قد اتخذ هو ومستخدميه و وكلائه كافة التدابير المعقولة التي كان يمكن مطالبتهم باتخاذها لتفادى سبب الضرر و نتائجه . وتعد مسألة كفاية التدابير المتخذة وكونها معقولة من المسائل الواقعية التي يُترك تقديرها لقاضى الموضوع.
ويمكن للناقل بالرجوع للقواعد العامة الحاكمة للعقود إثبات كل ما ينفي الخطأ من جانبه ومن ذلك مثلاً إثبات القوة القاهرة التي تكررت كسبب للإعفاء من المسؤولية في اتفاقية بروكسل وهامبورغ ومجلة التجارة البحرية.
2-حالات الاعفاء الخاصة من المسؤولية في اتفاقية هامبورغ:
لقد انتهجت المادة 145 من مجلة التجارة البحرية نهج اتفاقية بروكسل في النص على قائمة لإعفاء الناقل البحري من المسئولية، فحددت بالتالي مجال إعفاء الناقل البحري من المسؤولية. أما قواعد هامبورج قد انتهجت نهجًا آخر حيث ألغت هذه القائمة ولم تبق منها سوى على حالتين هما إنقاذ الأرواح و الممتلكات في البحر ، وحالة الحريق فضلاً عن إضافة حالة نقل الحيوانات الحية التي لم تكن تنص عليها لا اتفاقية بروكسل لسنة1924و لا مجلة التجارة البحرية. زيادة على وضع أحكام خاصة بالحوادث النووية والنقل الاستثنائي .
أما ما زاد عن الحالات المذكورة في المادة الخامسة من اتفاقية هامبورغ فإنه لا يمكن التمسك به وإثارته لدحض مسؤولية الناقل. و لكن يمكن للناقل إبراء ذمته و دحض قرينة الخطأ المحمولة عليه بإدراج تحفظات تعفيه مستقبلاً من المسؤولية فيمكن له – وفق المادتين16 و17 من ذات الاتفاقية- التنصيص ابتداءً على تحفظه في سند الشحن على البيانات المتعلقة بطبيعة البضاعة أو وزنها أو عددها .حيث قضت محكمة التعقيب التونسية بأن” المسلم به قانونا أنه لدرء مسؤوليته فإن الناقل البحري يكون ملزما بأن يورد بسند الشحن تحفظا يشترط بمقتضاه عدم مسؤوليته عن التلف الناجم عن عيب في حزم البضاعة من قبل المرسل “.
وقد ثار التساؤل بمناسبة هذا الاختلاف في مسلك الاعفاء من المسؤولية بين كل من مجلة التجارة البحرية من جهة واتفاقية هامبورغ من جهة ثانية حول ما إذا كان إلغاء اتفاقية هامبورغ قائمة الأسباب المعفية من المسؤولية يخفف من مسؤولية الناقل أم يوسع في مداها.
يذهب الفقه و شرّاح القانون إلى أن ذكر قائمة في الأسباب التي تعفي من المسؤولية في مجلة التجارة البحرية و اتفاقية بروكسل يخفف على الناقل مسؤوليته عن تلف البضاعة و يفتح له الباب واسعا أمام دحضها . ويكون بعكس ذلك في افتراض اتفاقية هامبورغ للخطأ في جانب الناقل مع إلغاء قائمة أسباب الاعفاء تشديدٌ في مسؤولية الناقل لصالح الشاحنين .
كما يعزز توجه محكمة التعقيب التونسية هذا الرأي. حيث أكدت أن إلغاء اتفاقية هامبورغ لقائمة أسباب الإعفاء من المسؤولية الواردة في المادة 145 من مجلة التجارة البحرية هو حرمان للناقل من التمسك بإحدى هذه الحالات لنفي مسؤوليته. حيث قضت ذات المحكمة في قرار لها بتاريخ03ديسمبر2018 أن نقص الطريق لا ينفي عن الناقل مسؤوليته في النقل الدولي باعتبار أن اتفاقية هامبورغ أولى في التطبيق و لم تنص على هذا الاستثناء خلافا لمجلة التجارة البحرية .بحيث اعتبرت المحكمة أن حالات الاعفاء الثلاث الواردة في اتفاقية هامبورغ وردت على سبيل الحصر لا الذكر فلا يمكن الخروج عنها و لا إثارة أي سبب آخر لدحض قرينة الخطأ التي يتحملها الناقل .
يتبين من ثمة أن اتفاقية هامبورغ شددت مسؤولية الناقل بتضييقها لحالات الاعفاء وجعلت من نظام الاعفاء مزدوجًا من حيث نطاقه بحسب ما إذا كان النقل داخليًا أو دوليًا. وتبدو هذه الازدواجية مبررة من حيث أهمية المخاطر التي تعتري النقل الدولي والإجحاف الذي قد يلحق الشاحنين في مثل هذه العقود إذا ما تم التوسيع في حالات الإعفاء من المسؤولية.

 

 

 

الخاتمة
يثير تعدد المصادر القانونية لإعفاء الناقل البحري من المسؤولية بين ما إذا كان النقل داخليًا أو دوليا مسألة اختلاف الأسس القانونية لمسؤولية الناقل بين مجلة التجارة البحرية التونسية -التي تأثرت باتفاقية بروكسل 1924- واتفاقية هامبورغ 1978. ذلك أنه تقوم على عاتق الناقل في النقل البحري الداخلي قرينة مسؤولية لا يمكن دفها إلا بإثبات انتفاء الخطأ من جهة وانتفاء العلاقة السببية بإثبات إحدى الحالات التسع المذكورة في المادة 145 من مجلة التجارة البحرية. أما في النقل البحري الدولي فإن المادة الرابعة من اتفاقية هامبورغ تؤسس مسؤولية الناقل على قرينة خطأ في جانبه لا يمكنه دفعها إلا بإثبات الحالات التي ذكرتها المادة الخامسة من ذات الاتفاقية.
وتبدو اتفاقية هامبورغ أوضح من حيث الإثبات المطلوب لدفع المسؤولية كما أن مجال الإعفاء فيها أضيق أي أن مسؤولية الناقل في النقل الدولي أوسع مجالاً باعتبار حرص اتفاقية هامبورغ على حماية الشاحنين من مخاطر النقل الدولي، في حين كانت مجلة التجارة البحرية التونسية أكثر تساهلاً مع الناقل البحري الداخلي. وقد يكون من الأفضل توحيد قواعد مسؤولية الناقل البحري سواء كان النقل داخليًا أو دوليًا. وهو ما عمدت إليه محكمة التعقيب التي سعت أحيانًا إلى سحب قواعد إعفاء الناقل البحري الداخلي على النقل الدولي بإعفاء الناقل من المسؤولية الناتجة مثلاً عن نقص الطريق.
1- المراجع:

– ترك، محمد عبد الفتاح، عقد النقل البحري، منشورات دار الجامعة الجديدة،2005.
– حاطوم، وجدي، النقل البحري في ضوء القانون والمعاهدات الدولية، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، الطبعة الأولى 2011.
– السنهوري، عبد الرزاق، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، الطبعة الثالثة، المجلد الثاني، 2011.
– السنهوري، عبد الرزاق، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان الطبعة الأولى 2011.
– الزين ،محمد ، النظرية العامة للالتزامات،1-العقد، طبعة خاصة، تونس 1993.
– السنهوري، عبد الرزاق، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد: مصادر الالتزام، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان الطبعة الثالثة، المجلد الثاني، 2011،
– شفيق، محسن، الجديد في القواعد الدولية الخاصة بنقل البضائع بالبحر (اتفاقية هامبورج بتاريخ 13 من مارس 1978)، دار النهضة العربية، 1998.
– طه، مصطفى كمال، القانون البحري، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية2007 .
عوض، جمال الدين، النقل البحري للبضائع، دار النهضة العربية، القاهرة، 1992. –
– محمد، محمد نصر، الوجيز في القانون البحري وفقًا للأنظمة المقارنة، مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض 2012.
– محمدين، جلال وفاء، المبادئ العامة في القانون التجاري البحري، منشورات الدار الجامعية،1991.
– يحي، سعيد، مسؤولية الناقل البحري، منشأة المعارف، الاسكندرية، بدون سنة النشر.

2-مقالات
– أرزقي، لعوج:” أسباب إعفاء الناقل البحري للبضائع من المسؤولية وفق القانون الجزائري والاتفاقيات الدولية”، جامعة زيان عاشور”، جامعة زيان عاشور -الجلفة، الجزائر، مجلد7عدد4، ديسمبر2022، ص.149.
– بشر، أنور:” مسؤولية الناقل البحري في القانون التونسي” مجلة القضاء والتشريع جويلية1993، ص.47.
-بن جيلالي، سميرة “مدة مسؤولية الناقل البحري على الاتفاقيات الدولية والقانون البحري الجزائري” المجلة الجزائرية للقانون البحري والنقل، العدد الخامس 2017، ص.294.
– بودليو، سليم:” اتفاقية الأمم المتحدة للنقل البحري للبضائع بالمقارنة مع اتفاقية بروكسل” مجلة العلوم الإنسانية، جامعة قسنطينة، الجزائر، ديسمبر2015، مجلد أ، ص.515.
– خليل ،حمد حمود ، أسباب إعفاء الناقل البحري من المسؤولية وفقا لإحكام القانون الأردني- دراسة مقارنة مع الاتفاقيات 86 الدولية الحديثة، مجلة الندوة للدراسات القانونية القاهرة مصر، العدد ،25 عام ،2019 ص .13-12.
– زايد، مروان منصور:” تطور طرق دفع مسئولية الناقل البحري (منذ اتفاقية بروكسل 1924 حتى قواعد روتردام2009 “(، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق، جامعة المنوفية، المجلد 52 العدد 4، مايو2021.

3-مراجع باللغة الفرنسية
– Adil(H.), La responsabilité du transporteur maritime international de marchandise sous-connaissement: causes d’exonération et limitation légales, Université de Montréal faculté des études supérieures, décembre2005.
-. Bonassies(P), Scapel (Ch.), Bloch(C.), Droit maritime, Librairie Générale de Droit et de Jurisprudence, 4ème édition.
– Chauvau (P.), Traité de droit maritime, Librairies Techniques, 1958, p.527.
Du Pointavice(E.) et (P.) Cordier, Transport maritime et Affrètement, Delmac, Paris1970.-
– Marty (G.) et Raynaud(P.), Les obligations, T.1: Les sources, Sirey1988.
– Kouka(A.), Le contrat de transport maritime de marchandises en France et en Tunisie, Théories et pratiques, thèse de doctorat en droit, Université Panthéon-Assas (Paris II) France, octobre 2011.
-Mazeaud (H.et L.) et Chabas (F.), Leçons De Droit Civil, Les obligations, Monchretien2000.
– Sauvage(F.), La clause de négligence et les clauses de non responsabilité des fautes dans le contrat de transport par mer, Librairie Générale de Droit et de Jurisprudence, 1911.
– Seriaux(A.), La faute du transporteur, Economica 1984.
4-مقالات باللغة الفرنسية

-Chemli(L.) et Belazi Ben Said(A.):”Le régime de la responsabilité en droit maritime tunisien” in “Le droit maritime en tous ses états “, Presses universitaires d’Aix-Marseille, 2016, pp.231 et suiv.
– El Khayat(M.): “La Limitation de responsabilité en droit maritime” in “Le droit maritime en tous ses états “, Presses universitaires d’Aix-Marseille, 2016.
– Fetze Kamdem(I.):”La responsabilité du transporteur maritime au niveau international: un échec d’uniformisation juridique” Les cahiers du droit “, Presses universitaires d’Aix-Marseille, vol.41 n°4, déc. 2000, pp.685 et suivants.
-Rodière(R), la responsabilité du transporteur maritime suivant les règles de Hambourg 1978, Droit Maritime Français, 1978, p .457.
– Sweeney (J.C.):” les règles de Hambourg, point de vue juriste anglo – saxon”, Droit Maritime Français, 1978, p327

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى