الخطأ الطبي مفهومه وآثاره
د.وسيم فتح الله
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
تتعلق مهنة الطب بمقصودٍ عظيمٍ من مقاصد الشرع وهو حفظ النفس، ويُعتبر هذا القصد مشترَكاً إنسانياً عاماً لا يختلف أحد على أهميته وأهمية هذه المهنة ونبل القائمين عليها، مهما كان جنسهم ودينهم وفلسفتهم للحياة الإنسانية. وإن امتداد آثار التطور العلمي الطبي إلى بعض المجتمعات قد يفضي إلى وجود افتراقٍ ما بين طبيعة الممارسة الطبية المتقدمة والمتشعبة اليوم وبين القوانين والضوابط التي تحكم العلاقة المهنية بين الطبيب والمريض، ولعل هذا أظهر ما يكون في الدول والمجتمعات التي تكون التقنات الطبية فيها مستوردة لا أصيلة، بحيث لا يكون هناك مجال زمني لمجاراة التطور العلمي بالضبط القانوني والأخلاقي، ولا يتعارض هذا مع وجود أصول أو كليات قانونية شرعية تحكم هذه العلاقة في الجملة، غير أن الحاجة اليوم هي للتقنين التفصيلي الذي يمكِّن من فض الخصومات وحسم النزاعات بصورة منضبطة مطردة في المجتمع الواحد على وجه يحفظ الأصول الاعتقادية ويراعي الخصوصيات الاجتماعية ويحقق العدالة بين أفراد المجتمع الواحد.
وحيث إن مناط النزاع في مسائل الخطأ الطبي يتعلق بالأنفس والأعضاء، وحيث إن الله تعالى قد حكم في هذه الخصومات من فوق سبع سماوات، فإن تحقيق العدالة محصور في التزام مرجعية الشريعة في التشريع والقضاء والتنفيذ، قال الله تعالى:" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدَّق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"[1]، فهذه الآية وإن كانت في جنايات العمد العدوان، فإن المقصود من الاستدلال بها بيان أن التحاكم إلى غير شرع الله تعالى في الأنفس والجراحات يفضي إلى الظلم، وهذا واضحٌ من خلال النظر في التفاوت الكبير بين الأنظمة التشريعية والقضائية الوضعية في العالم بأسره، ولقد دلت الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية على وجود هذا التفاوت في تعويض المرضى المتضررين من الأخطاء الطبية في الولايات المتحدة نفسها[2]، وهذه نتيجة متوقعة عند التحاكم إلى النظم الوضعية، في حين أن التحاكم إلى شريعة رب العالمين هي الملاذ الوحيد للعدل في الحكم والمساواة في ضمان الحقوق، فكان لزاماً التنبيه على هذا الأمر في مقدمة هذا البحث.
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث الموجز إلى التعريف بجملة من الأمور المتعلقة بمسألة الخطأ الطبي هي:
- بيان أقسام المسؤولية الطبية
- بيان الأصول التي تنبني عليها المسؤولية الطبية
- بيان موجبات المسؤولية الطبية بقسميها
- بيان آثار ثبوت المسؤولية الطبية
- الخلاصة
المطلب الأول: أقسام المسؤولية الطبية:
إن طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض تقوم على التعاقد بين الطرفين على بذل مصلحة معينة للمريض (التشخيص أو العلاج) في مقابل أجر أو جائزة (إجارة أو جعالة[3])، وهذه الطبيعة التعاقدية للعلاقة بين الطبيب والمريض مستفيضة عند الفقهاء، وهو ما نجده عند النظر في تعريف الرابطة الطبية الأمريكية للعلاقة بين الطبيب والمريض حيث جاء في لوائح أخلاقيات الطب لهذه الرابطة :"إن إنشاء علاقة بين الطبيب والمريض له طبيعة تعاقدية، ولكل من طرفي العقد أن يختار إنشاء هذه العلاقة أو النكول عنها على وجه العموم"[4].
إن الطبيعة التعاقدية للعلاقة الطبية تعني أن المسؤولية الطبية تتعلق بالسؤال عن إخلال أحد الطرفين أو كليهما بما يلزمهما بالعقد، هذا من حيث العموم، غير أن موضوع البحث هنا يقتصر على الإخلال الواقع من جهة الطبيب ومن في حكمه[5]، وعليه فإن للمسؤولية الطبية أركان هي: (1) السائل (وهو الجهة التي تملك حق مساءلة الطبيب كالقضاء)، (2) المسؤول (وهو الطبيب أو من في حكمه)، (3) المسؤول عنه (وهو الضرر الناشيء في سياق العلاقة الطبية بين الطبيب والمريض وسببه)، (4)صيغة السؤال (أي العبارة أو الصورة التي يتوجه بها السؤال)[6].
والحاصل مما تقدم أن مدار المسؤولية الطبية يتعلق بوقوع الضرر أو سبب الضرر على المريض من الطبيب أو مَن في حكمه في سياق العلاقة المهنية الطبية بينهما. وهذه المسؤولية تندرج تحت قسمين اثنين يمكن أن تصنف فيهما كل أنواع المسؤولية الطبية، فأقسام المسؤولية الطبية هي :
- المسؤولية الطبية السلوكية والأخلاقية: وهيي تتعلق بالنواحي الأدبية للعلاقة الطبية، وتتعلق هذه المسؤولية بجملة من المبادئ الأخلاقية المطلوية من جميع الأفراد، غير أنها في علاقة الطبيب والمريض أشد حرجاً وأهمية، وهي تشمل الصدق والنصيحة وحفظ السر وحفظ العورة والوفاء بالعقد، وتنشأ المساءلة على الخطأ الطبي في هذا القسم جراء الإخلال بواحد أو أكثر من هذه المبادئ مما يؤدي إلى وقوع الضرر أو التسبب فيه، فيوجب هذا الإخلال مساءلة الطبيب وترتب آثار هذه المسؤولية إن ثبت الموجب[7] ولم يظهر له عذر مبيح.
- المسؤولية الطبية المهنية: وهذا القسم يتعلق بالنواحي العملية لنفس مهنة الطب، وتتعلق المسؤولية في هذا القسم بإخلال الطبيب بواحد أو أكثر من المبادئ المتفق عليها في عرف المهنة بصورة تؤدي إلى وقوع الضرر على المريض أو التسبب في ذلك. فالعقد المهني بين الطبيب والمريض يلزم الطبيب بالأصول المهنية المعتبرة بحيث لا بد من أن يكون حاذقاً عالماً بطبه (وهذا هو الجانب النظري) ماهراً فيه ( وهذا هو الجانب العملي)، ومطبقاً لهذا العلم والحذق والمهارة على أفضل وجه ممكن، فإذا أخل الطبيب بجانب العلم أو المهارة أو الالتزام بهما ونجم عن ذلك وقوع الضرر أو التسبب فيه وقعت المسؤولية الطبية، وسوف نعرج لاحقاً على الموجبات التي تثبت وقوع هذه المسؤولية بحيث تترتب عليها آثارها.
المطلب الثاني : الأصول التي تنبني عليها المسؤولية الطبية:
إذا نظرنا إلى واقع الممارسة الطبية اليوم وجدنا أن مستند المسؤولية الطبية يعتمد على القوانين المعمول بها في كل مجتمع، وهي وإن كانت تعتبر من حيث المبدأ جملةً الأمور المشتركة المتفق عليها، فإننا نجد تفاوتاً واضحاً في تقويم وتقرير موجبات وآثار هذه المسؤولية؛ فالنظم القانونية المعمول بها اليوم تمنع من مزاولة المهنة مَن لم يتأهل لذلك، ولكننا نجد تفاوتاً بين مجتمع وآخر في آلية تحديد هذه الأهلية، ولا تسمح النظم القانونية للطبيب بالتعدي على المريض بعلاج أو تشخيص بدون إذنه أو إذن سلطة لها صلاحية وولاية خاصة أو عامة، غير أن هناك تفاوتاً بين مجتمع وآخر في تحديد ضوابط هذا التعدي، ففي بعض البلاد يؤاخذ الطبيب الذي يقوم بإسعاف مريضٍ في وضع لا يسمح بانتظار الإذن أو الترخيص كما في بعض الكوارث ونحوها، في حين تجد بعض البلاد الأخرى لا تكاد تبحث في مسائل الخطأ الطبي، وهكذا نجد هذا التفاوت حتى في أكثر البلاد تطوراً كما ورد في تقرير أمريكي عن الخطأ الطبي ورد فيه بيان التفاوت في نظام تحديد المسؤولية الطبية في الولايات المتحدة نفسها، حيث تتفاوت آليات إثبات الإهمال الطبي، وتتفاوت تعويضات المرضى عن الضرر الحادث جراء الخطأ الطبي، بالإضافة إلى تزايد العبء الاقتصادي على الأطباء الذين يطالبون بدفع أقساط باهظة للتأمين ضد الخطأ المهني[8].
إن بحث موجبات وآثار المسؤولية الطبية لا بد من أن ينبني على أصول وقواعد تقرر جوازه واعتباره، وتضع الإطار العام لضوابطه ومعاييره، ويمكن القول بأن الأصل العام الذي تنبني عليه مباحث المسؤولية الطبية تقوم على حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من تطبَّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"[9]، فهذا الحديث هو حديث الباب كما يقال، وهو أصلٌ في تضمين الطبيب الجاهل[10]، وموجب المسؤولية هنا يدور على جهل الطبيب سواء أكان جهلاً علمياً أم عملياً كما سنبين، ولقد نبه هذا الحديث على أمور يحسن تقريرها في هذا الموضع منها :
- تقرير وجود الموجب للمسؤولية : وهو هنا الإقدام على ممارسة الطب مع الجهل بهذه الممارسة، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:" وقوله صلى الله عليه وسلم (من تطبب) ولم يقل : من طبَّ، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة، وأنه ليس من أهله"[11].
- تقرير ترتب آثار وقوع الموجب : حيث قال صلى الله عليه وسلم (فهو ضامن)، قال ابن قيم الجوزية:"وأما الأمر الشرعي (أي في الحديث) فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل"[12]، فمتى وقع الموجب وهو الجهل وترتب الضرر كان أثر ذلك ضمان الطبيب لما أتلفه من النفس أو الأعضاء.
- تحكيم العرف في الحكم على الطبيب بالحذق: حيث قال صلى الله عليه وسلم (ولم يُعرف منه طب)، والمقصود بالعرف هنا العرف الخاص بين الأطباء، وهذا مندرج تحت القاعدة الفقهية الكلية :" العادة محكَّمة"[13]، أي أن الأمور التي لم يأت الشرع لها بحدٍ معين فإنه يُرجع فيها إلى العرف، والمقصود بالعرف الخاص العرف الذي يكون سائداً بين أرباب المهن الخاصة كالحدادين والتجار والأطباء وغيرهم.
وقد حكى الإمام ابن قيم الجوزية إجماع أهل العلم على تضمين الطبيب الجاهل، وكذلك بالنسبة للتعدي فقد حكى عن الإمام الخطابي قوله:"لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً"[14]، كما قال الله تعالى:"وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصَّدقوا "[15]، فهذا أصل في تضمين الضرر الواقع بالخطأ، وهكذا اجتمع لنا من الأدلة ما يقرر مشروعية المساءلة الطبية المهنية من ثلاثة أوجه هي : الجهل – الخطأ – الاعتداء، وسيأتي تفصيل هذه الموجبات في المطلب التالي بإذن الله. وأما مشروعية المساءلة الطبية الأدبية فأدلتها هي عموم الأدلة الدالة على وجوب التزام هذه الآداب، ولعلنا نشير إليها يسيراً فيما يأتي.
إن ما تقدمت الإشارة إليه من تقرير أصل المساءلة الطبية من جهة، وبيان التفاوت الكبير الحاصل في تقرير موجبات وآثار هذه المساءلة ليعود بنا إلى التأكيد على أهمية تحرير المرجعية التشريعية والقضائية المتعلقة بهذه المسألة لتكون صادرة عن الشريعة منضبطة بقيودها ومنساقة ضمن كلياتها وأصولها العامة، لا سيما وأن فقهاء المسلمين قد أبدعوا في تحرير وضبط ممارسة الطب منذ زمن بعيد، وبلغوا في ذلك شأواً بعيداً يغنيهم عن الركون إلى غير الشريعة الغراء.
المطلب الثالث: موجبات المسؤولية الطبية:
تقرر معنا أن المسؤولية الطبية قسمان أحدهما سلوكي أدبي والآخر مهني عملي، وإن موجبات الخطأ في كل منهما متعددة ومختلفة، وفيما يلي تحرير موجبات كل منهما مع التركيز على القسم المهني العملي لأنه محور البحث من حيث ما تختص به المهنة من ضوابط.
أولاً: موجبات المسؤولية الطبية الأدبية:
يعتبر الطبيب مسؤولاً عن الضرر الحادث للمريض من الناحية السلوكية إذا أخل بالإلتزامات الأدبية التي يفرضها العقد مع المريض، ولقد أشرنا إلى هذه الإلتزامات التي تشمل الصدق والوفاء بالعقد والنصيحة وحفظ السر وحفظ العورة، وعليه فإن موجبات المسؤولية الأدبية هي :
- الكذب: فإذا تبين أن الطبيب قد كذب على مريضه وترتب على ذلك ضرر في نفسه، فإن الطبيب يعتبر مسؤولاً عن هذا الضرر، وصورة المسألة تتضح بالمثال: فلو أن الطبيب كذب على مريضه فأخبره أن به مرضاً يستلزم جراحةً معينة، وأوهمه بأن الأمر طارئ فاستسلم المريض وأذعن للأمر وأذن للطبيب بالجراحة، ثم ترتب على هذه الجراحة سريانٌ إلى عضو من الجسم أدى إلى تلف هذا العضو، فإذا أقر الطبيب بكذبه أو أقام المريض البينة على كذبه، كان كذب الطبيب هو الموجب للمسؤولية، وهذا من أفحش ما يكون. كما يدخل في الكذب عدم إعلام المريض بحقيقة مرضه، وهنا إشكالية تتمثل فيما لو خاف على مريضه الضرر من الناحية النفسية إن علم بمرضه، فهنا قد يلجأ الطبيب إلى إخبار أولياء المريض بحقيقة الأمر حتى يتمكنوا من الترفق في إبلاغ المريض، أما كتم الأمر بالكلية فليس بمستقيم، وليعلم الطبيب أن مريضه قد استأجره ليكشف له عن مرضه، فلا يكون الطبيب قد وفى بالعقد حتى يخبر عن حقيقة ما توصل إليه، أو يحيل المريض إلى من له خبرة في تشخيصه وإخباره بحقيقة المرض.
- الغش وعدم النصح: النصيحة إخلاص الطبيب في بذل الجهد لكشف المرض ورسم وتطبيق خطة العلاج مع بذل كل ما يلزم لتحقيق ذلك، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم :"الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"[16]، ثم إن المريض حين يستشير طبيبه فإنه يستأمنه على نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"المستشار مؤتمن"[17]، فالإخلال بهذا الإلتزام يتضمن الغش المنهي عنه شرعاً، وصورة المسألة تتضح بالمثال: فلو أن الطبيب شخَّص حالة سرطان عند المريض وكانت تحتاج في عرف المهنة إلى العلاج الجراحي والدوائي معاً لتحقيق أفضل فرص الشفاء، فاقتصر الطبيب على إخبار مريضه بالعلاج الدوائي ولم يخبره بضرورة اقترانه بالعلاج الجراحي مع علمه بذلك، فإنه لم ينصح مريضه بل غشه وغرر به، فإن ترتب على ذلك الضرر كأن ينكس السرطان أو لا يبرأ أصلاً كان هذا موجباً للمسؤولية وتترتب عليه آثار هذه المسؤولية.
- الإخلال بالعقد: إن تعاقد الطبيب والمريض على الطبابة إذا كان إجارةً فهو من العقود اللازمة، ولا يحل لأحد الطرفين فسخ العقد بدون رضا الآخر، وهذا الإلتزام له جانب سلوكي أدبي من جهة الطبيب لأنه قد باشر في التشخيص والعلاج، فإخلاله بالعقد مظنة الضرر بالمريض، فإذا ترتب على هذا الإخلال وقوع الضرر وثبت هذا الإخلال كان موجباً للمسؤولية، وقد نص القرآن الكريم على أصل المسألة في قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"[18]، وهذا ما أخذت به النظم الطبية المعاصرة، ففي لوائح آداب الطب الصادرة عن الرابطة الطبية الأمريكية بيان أن :" الطبيب الذي التزم بعقد بمسبق ليس له الحق في رفض علاج المرضى الداخلين في لوازم هذا العقد"[19]، وتنص كثير من نظم الممارسة الطبية المعاصرة على أن الطبيب مسؤول عن تأمين البديل لمريضه إذا ما طرأ ما يفرض نوعاً من الخلل في الوفاء بالعقد، وذلك كأن يحيل مريضه إلى طبيب آخر أو يعيِّن من يقدم العلاج لمريضه مؤقتاً ريثما يزول هذا الطارئ ونحوه.
- إفشاء السر: إن طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض تتيح للأول الإطلاع على خصوصيات وأسرار مريضه التي لا يبوح بها الأخير إلا مضطراً، وسواء أكان السر متعلقاً بنفس المرض أم بخصوصيات أخرى اطلع عليها الطبيب بحكم المهنة، فإن هذا السر أمانة لا يحل له البوح بها بدون إذن أو ضرورة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حدَّث الرجل الحديثَ ثم التفت فهي أمانة"[20]، ولقد نصت لوائح أخلاقيات الطب للرابطة الطبية الأمريكية على ما يلي:"إن المعلومات التي يطلع عليها الطبيب في سياق العلاقة المهنية بينه وبين المريض تعتبر سرية إلى أبعد الحدود الممكنة"[21] وتنص أيضاً على أنه :" لا يجوز للطبيب أن يبوح بالمعلومات السرية بدون إذن المريض ما لم يكن مطالباً بذلك بحكم القانون"[22]، فهنا نجد توافقاً تاماً بين النظرة الشرعية وبين النظرة المعاصرة في عرف المهنة تجاه السر المهني، بل إن هذه الاستثناءات الواردة في اللوائح المشار إليها معتبرة شرعاً، أما من جهة إذن المريض فبلا إشكال، وأما من جهة حكم القانون فإن القاعدة في الشريعة :"يحتمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام"[23]، فإفشاء سر المريض ضررٌ خاص، ولكنه يحتمل إذا تعلقت به مصلحة عامة أكبر كأن يكون مصاباً بمرض وبائي خطير، وعندها لا يكون الطبيب مؤاخذاً بإفشاء السر بل يؤاخذ بعدمه، ولكن يراعى هنا أن يكون الإفشاء بالقدر اللازم لتحقيق المصلحة ولا يتجاوز ذلك، لأن ما أبيح لضرورة بقدر بقدرها. والحاصل أن الطبيب إذا أفشى السر بدون مبرر وترتب على ذلك ضرر بالمريض – ولو كان ضرراً معنوياً – وثبت ذلك كان موجباً للمسؤولية الطبية.
- هتك العورات: إن حفظ العورات حق شرعي وحق شخصي، وإن إطلاع الطبيب على عورة المريض للضرورة أو الحاجة منوط يتحقيق مصلحة أعظم وهي العلاج والاستشفاء، وعليه فإن على الطبيب التزام أدبي بالحد من الإطلاع على العورة بالقدر اللازم لتحقيق هذه المصلحة، وبمراعاة الضوابط الشرعية لهذا الإطلاع من اجتناب الخلوة وأسباب الفتنة والريبة وكتمان ما يطلع عليه الطبيب، وإن الأصل الشرعي في هذا أعرف من أن يُعرَّف ولعلنا نشير إليه بقوله تعالى:"قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم"[24]، بل إن اللوائح المهنية الأخلاقية المعاصرة باتت تعير هذا الأمر انتباهاً وأهمية نظراً لما بدأ يستشري من ممارسات لاأخلاقية ناجمة عن عدم مراعاة هذه الأمور، فقد جاء في لوائح أخلاقيات الطب للرابطة الطبية الأمريكية ما يلي:"إن المنطلق الأخلاق ومراعاة الحكمة تقضي بأن يوصى بوجود مرافق للمريض بصورة منتظمة أثناء فحص المريض.وعلى الطبيب أن يحترم مريضه، وأن يجتهد في تأمين راحة المريض من جهة مراعاة الخصوصية بما في ذلك تأمين اللباس المناسب للفحص، ومراعاة ستر المريض وشرح تفاصيل الفحص الطبي"[25]، والقول في هذا الموجب كالقول في سابقه.
ثانياً: موجبات المسؤولية الطبية المهنية:
تتعلق موجبات المسؤولية في هذا القسم بنفس المهنة الطبية، وتدور حول ثلاثة محاور هي الجهل والخطأ والتعدي، وتحتاج هذه الموجبات إلى كثير من الضبط والتفصيل، وهذا ما نشير إليه في هذا الموضع.
الموجب الأول : عدم اتباع الأصول العلمية للمهنة:
إن لأصول مهنة الطب جانبين؛ علمي نظري، وعملي تطبيقي، ولكل من الجانبين نوعان من العلوم:
- العلوم الطبية الثابتة: وهي ما لا ينفك علم الطب عنه من المسلَّمات كعلم التشريح ووظائف الأعضاء وكمعرفة أن الجسم بحاجة إلى إمداد مستمر بالأكسجين، وأن النزف غير المسيطر عليه يؤدي إلى الموت، فهذه ثوابت عامة معلومة ضرورة، ومن الثوابت الخاصة ما يتعلق مثلاً بعلم الجراحة من ثوابت ككيفية إعمال المبضع في الجسد وكيفية السيطرة على النزف أثناء العمل الجراحي فهذه لا تتغير بتغير نوع الجراحة ولا تتغير بتغير العصر، فهذه العلوم العامة والخاصة الثابتة تعتبر علوماً مستقرة يؤاخذ كل من يخرج عنها، فهي أشبه بالقواعد والقطعيات الطبية.
- العلوم الطبية المستجدة: وهي ما تتفتق عنه البحوث العلمية الطبية يومياً من كشف أو نظرية أو علاج جديد ونحوه، وهذه هي التي يصعب ضبطها، ولا بد للطبيب من مراعاة أمرين اثنين في هذه العلوم حتى يخرج من العهدة فيها، وهذان الأمران هما (1) أن تصدر هذه العلوم عن جهة علمية معتبرة، (2) أن يشهد لها أهل الخبرة بالصلاح للتطبيق والممارسة. فإذا اجتمع هذان الوصفان لزم الطبيب أمرٌ ثالث من جهته هو ألا وهو تأهله لتطبيق هذه العلوم المستجدة، كأن تكون تقنة جراحية جديدة فلا يبادر إلى تطبيقها دون إشراف أو حضور دورة تدريبية تؤهله للقيام بها، وهذا كله مقرر عند أهل الطب. فإذا راعى الطبيب هذه الأمور، وكان العمل الذي يمارسه معتبراً عند أهل الفن وكان هو مؤهلاً له والتزم بالأصول المتبعة فيه فقد خرج من العهدة.
ولقد نصت لوائح الأخلاقيات الطبية للرابطة الطبية الأمريكية على ما يلي:" إن من العمل اللاأخلاقي قيام الطبيب بتقديم علاج غير علمي أو خطير والمساعدة على ذلك وإيهام المريض بجدواه مع ما يترتب على ذلك من تأخير التدخل العلاجي المعتبر"[26]، كما تؤكد هذه اللوائح على اجتناب الممارسات الطبية غير المجدية والالتزام بالممارسات الطبية العلمية المعتبرة[27]، فالعمل بهذه الممارسات غير العلمية يعتبر خارجاً عن أصول المهنة، وهذا الذي ذكرناه قد قرره الفقهاء في شروط الممارسة الطبية، فقال الإمام ابن قدامة رحمه الله :" ولا ضمان على حجَّام ولا ختَّان ولا متطبب إذا عُرف منهم حذق الصنعة ولم تجنِ أيديهم"[28]، فهذا الذي ذكره رحمه الله يتضمن الجانب العلمي النظري (والذي عبر عنه بحذق الصنعة) والجانب التطبيقي العملي (وعبر عنه بقوله لم تجنِ أيديهم)، فتبين لنا أن خلاصة الأمر في ثبوت موجب المسؤولية هنا يتعلق بأحد الأمرين التاليين أو بهما معاً:
- مخالفة الأصل العلمي المعتبر
- مخالفة التطبيق العملي المعتبر
وضابط هذين الأمرين في واقعنا المعاصر ما يطلق عليه (معيار الممارسة الطبية) ويسمى بالأجنبية "Standard of care"، ويعرفه البعض بأنه:" الإجراء التشخيصي أو العلاجي الذي يتوجب على الطبيب اتباعه في حالة مريض أو مرض أو ظرف سريري معين"[29]، ومن جهة قانونية هو:"مستوى الممارسة الوسط الذي يتبعه الطبيب عادة في مجتمع معين"[30]، وهذا التعريف يعود إلى ما قررناه سابقاً من تحكيم "العرف الخاص". كما برز مؤخراً مفهوم "الطب المسند بالدليل" ويسمى بالأجنبية "evidence based medicine"، وهو مبني على أبحاث موثقة أجريت في مراكز متعددة وفق منهج يزيد مصداقية التجارب السريرية[31].
أما إذا التزم الطبيب بأصول المهنة العلمية والعملية وترتب على علاجه سراية ضررٍ ما فإنه لا يتحمله، لأنه قام بفعل مأذونٍ به شرعاً ولم يتعد كما نص عليه ابن قدامة وغيره من الفقهاء، وذكر ابن قيم الجوزية قاعدة بديعة في هذا الباب حيث قال:" سراية الجناية مضمونة بالاتفاق، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق"[32].
الموجب الثاني: الجهل:
إن ممارسة الطب مع الجهل موجبة للضمان سواء أكان الجهل كلياً كأن يقوم ممرض أو عامي بممارسة الطب والتطبيب، أم كان جهلاً جزئياً كأن يقوم طبيب باطني بإجراء جراحة في العيون، والمتطبب الجاهل يضمن اتفاقاً، وهو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم، وضابط الجهل في واقعنا المعاصر يتمثل في الإخلال بمتطلبات الطبيب من حيث كونه مؤهلاً علمياً وعملياً بحيث يحمل الشهادة العلمية في اختصاصه الطبي ويحمل ترخيص المزاولة في هذا التخصص، حيث يراعى في هذه التراخيص اجتماع المؤهل العلمي والعملي للطبيب كل بحسب اختصاصه. ومن اللطيف أن نذكر أن هذا الإجراء – أعني الترخيص والشهادة – قد عرفه المسلمون منذ زمن بعيد، ففي عام 319 هجرية أمر الخليفة العباسي المقتدر محتسبه إبراهيم بن بطحا بن أبي أصيبعة بمنع جميع الأطباء من المعالجة إلا من امتحنه رئيس الأطباء في ذلك العهد وهو (سنان بن ثابت بن قرة) وكتب له رقعة بما يُطلق له التصرف فيه من الصناعة، وقد امتحن في بغداد وحدها وقتذاك 800 طبيب عدا الذين لم يدخلوا الامتحان لشهرتهم وعلو شأنهم في الطب.[33]
الموجب الثالث: الخطأ:
الخطأ هو :"ما ليس للإنسان فيه قصد"[34]، وهو مسقطٌ لحق الله تعالى من جهة الإثم، ولكنه لا يُسقط حق العباد في الضمان، بدليل قوله تعالى:"وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم"[35]، فهذا دليل سقوط الإثم، وقوله تعالى:"وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصَّدقوا "[36]، فهذا دليل ثبوت الضمان على المخطئ، وهذا غاية العدل، وإذا نظرنا إلى مفهوم الخطأ الطبي حسب تعريف المعهد الطبي الأمريكي نجده ينص على أن الخطأ الطبي هو "الفشل في إتمام عمل مقصود على الوجه المقصود، أو استعمال عمل خاطئ لتحقيق هدف ما"[37]، وهذا يتفق مع ما قررناه إذ أن الطبيب لا يقصد فوات هدف العلاجي كما لا يقصد استعمال العمل الخاطئ لتحقيق هدفه العلاجي، ولكن يجب التمييز هنا بين أمرين هما:
- الخطأ الذي هو من جنس العمل الطبي : كأن يخطئ في التشخيص ونحوه، فهنا ينظر إلى العرف الطبي فإذا كان الخطأ ضمن الحدود المعتبرة من جهة أن هذا التشخيص أو العلاج ظني في الغالب فهنا لا مؤاخذة من جهة مخالفة أصول المهنة، ويؤول الخطأ إلى النوع الثاني الذي نذكره، وإن كان الخطأ غير مقبول في العرف الطبي كأن يخطئ في التشخيص لأنه لم يستعمل اختباراً مطلوباً في عرف المهنة، فهنا يؤول الخطأ في الحقيقة إلى الموجب الأول وهو عدم اتباع أصول المهنة، وكلاهما موجب للمسؤولية لكن الفرق في الآثار المترتبة على المسؤولية من جهة الضمان فقط أو الضمان مع التعزير.
- الخطأ الذي ليس من جنس العمل الطبي: كأن تزل يد الطبيب أثناء الفحص أو الجراحة فيضر بالمريض وهذا من جنس الجناية الخطأ لاعلاقة له بخصوص المهنة، والحكم فيه هو الحكم في جناية الخطأ من حيث ثبوت الضمان وسقوط الإثم ولا يستوجب تعزيراً.
الموجب الرابع: الاعتداء:
يُتصور وقوع الاعتداء في سياق الممارسة الطبية من جهتين أحدهما الجناية العمد العدوان وهذا نادر ولكنه يقع، والثاني من جهة التطبيب بدون إذن المريض أو وليه أو من له ولاية عامة أو خاصة، وفيما يلي تفصيل ذلك:
- الاعتداء قصداً: وهذا كما ذكرنا نادر، غير أنه يقع إما بدافع الجناية العمد وإما بدافع مبررات عقلية منحرفة، كما وقع في بعض البلاد من قيام بعض العاملين الطبيين بقتل بعض المرضى المصابين بحالات معضلة بدعوى إراحتهم من المرض ونحوه، فهنا إذا ثبت القصد والاعتداء آل الأمر إلى الجناية العمد العدوان ويتعامل معها القضاء من هذا المنطلق.
- التطبيب بدون إذن: وهذا أكثر حدوثاً في سياق المهنة، وصورة المسألة أن يقوم الطبيب بعمل تشخيصي أو علاجي بدون أخذ إذن المريض، فإذا ترتب على هذا الفعل وقوع الضرر وثبت أن الطبيب لم يكن مأذوناً له بالتصرف ضمن إلا في حالات استثنائية، وهذه الحالات الاستثنائية هي حالات الطوارئ التي لا يسمح فيها الوقت باستئذان المريض ويغلب على الظن هلاك المريض أو تلف عضو منه بالتأخر في التطبيب، والحقيقة إن دعوى عدم وجود الإذن هنا فيها نظر لأن الطبيب لديه في العادة إذن عام من السلطات المختصة بتقديم العلاج الإسعافي في هذه الحالات، بل قد يجب عليه ذلك، وعليه يبقى النظر في الحالات غير الإسعافية وهنا يترجح وجوب أخذ إذن المريض أو وليه قبل المباشرة في أي عمل طبي، ولكن تجدر الإشارة إلى أن مسائل الإذن الطبي فيها تفصيل بحيث لا يمكن الحكم فيها بحكم واحد، والذي نقرره في هذا الموضع هو أن الأصل يقتضي أخذ الإذن والموافقة قبل الإقدام على التطبيب، وأن الأصل يقتضي ضمان الضرر الناجم عن التطبيب بدون إذن، ويبقى النظر في الحالات التي ترجح فيها المصلحة الخاصة أو العامة عدم اعتبار هذا الإذن.
بهذا تتضح لنا موجبات المسؤولية الطبية، وأحب أن أذكر هنا تقسيماً بديعاً للإمام ابن قيم الجوزية ذكر فيه أقسام الأطباء من جهة إتلاف الأنفس أو الأعضاء ، حيث قسم الأطباء رحمه الله إلى خمسة أقسام هم:
- طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجنِ يده، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يُطبه[38] تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً. قلت: ويدخل في هذا كل ما يحدث من مضاعفات للمرض أو الإجراء التشخيصي أو العلاجي إذا التزم الطبيب بالأصول المهنية وأخذ الإذن الطبي المعتبر، ففي هذه الحالة لا يضمن شيئاً ولا يكون مسؤولاً عن الضرر ولو فاتت النفس.
- متطبب جاهل باشرت يدُه من يُطبّه فتلف به، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل وأذن له فلا يضمن (قلت: لأن المريض هو المقصر حيث سمح للجاهل بتطبيبه، ولا يمنع هذا من تعزير هذا الجاهل لإقدامه على ما لا يحل له)، وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده. قلت: وهذا يعود إلى الموجب الثاني الذي ذكرناه وهو موجب الجهل.
- طبيب حاذق أُذن له وأعطى الصنعة حقها لكنه أخطأت يده، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة[39] فهذا يضمن لأنها جناية خطأ. قلت: وهذا يعود إلى الموجب الثالث الذي ذكرناه وهو موجب الخطأ، ويراعى أن ضمان الجناية هنا قد يكون على الطبيب (فيما دون الثلث) أو العاقلة أو بيت المال على تفصيل عند الفقهاء.
- الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواءً فأخطأ فقتله، فذكر ابن قيم الجوزية أن الدية إما على بيت المال أو عاقلة الطبيب، ومفهوم هذا أنه يضمن لأنه يؤول إلى موجب الخطأ.
- طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة[40] من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه، أو ختن صبياً بغير إذن وليه فتلف، فقال أصحابنا[41]: يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه، ثم ذكر الخلاف في تضمينه كما أشرنا إلى ذلك في الموجب الرابع أعني موجب الاعتداء[42].
وهذه التقسيمات التي ذكرها في غاية الحسن، وتندرج تحتها معظم أقسام موجبات المسؤولية التي حررناها آنفاً.
المطلب الرابع: آثار ثبوت المسؤولية الطبية:
إذا ثبت موجب المسؤولية الطبية ترتب على ذلك واحد أو أكثر من الآثار التالية:
- الضمان : وهو الضمان المالي كالديات والأروش والحكومات
- التعزير: وهو عقوبة غير مقدرة يقررها الحاكم إذا ثبت نوع اعتداء أو تجاوز وقد يكون التعزير جسدياً أو مالياً أو معنوياً، وأشير إلى نوع محدد من التعزير يختص بالمهنة ألا وهو المنع من الممارسة سواء أكان منعاً مطلقاً أم مقيداً دائماً أم مؤقتاً، وقد نبه الفقهاء على هذا في القديم في مسألة الحجر على الطبيب الجاهل، وجاء في مجلة الأحكام العدلية ما يلي:"بما أن الضرر الخاص لا يكون مثل الضرر العام بل دونه فيُدفع الضرر العام به؛ فمنعُ الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس من مزاولة صناعتهم ضررٌ لهم إلا أنه خاص بهم ، ولكن لو تُركوا وشأنهم يحصل من مزاولتهم صناعتهم ضررٌ عام كإهلاك كثير من الناس بجهل الطبيب "[43] ، وقلت: وهذا غاية ما يكون في تحصيل مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم.
- القصاص : ويختص هذا في حالات العمد العدوان.
ولا يتسع هذا المقام إلى تفصيل هذه الآثار، وإن كنت أؤكد على ما ذكرته سابقاً من ضرورة تحكيم شرع الله تعالى في تحديدها وتنفيذها.
الخلاصة:
تبين مما تقدم أن للخطأ الطبي بمفهومه العام ضوابط ومعايير يمكن تحريرها بدقة للحكم بوجود ما يوجب المسؤولية بحيث تترتب على تلك المسؤولية آثار محددة. وننوه في هذا المقام إلى أن الأصل براءة ذمة الطبيب، وأن العهدة في إثبات موجب المسؤولية إنما تقع على المدعي، كما هو مقرر في القاعدة :"البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، كما نحذر من عواقب الاسترسال والمبالغة والإفراط في المساءلة بغير دليل أو شبهة قوية لما لذلك من آثار سلبية على المجتمع، كما وقع في بعض الدول من عزوف بعض الأطباء عن الممارسة بسبب التكاليف الباهظة للتأمين المهني ضد الخصومات وبسبب المبالغة في الدعاوى القضائية غير المبررة، ولجوء الأطباء إلى الاسترسال في الفحوصات الطبية غير المستطبة بغية دفع اللوم عن أنفسهم مع ما يجر ذلك على المجتمع من تبعات مالية ضخمة، ولا يعني هذا ترك الأطباء وشأنهم، وإنما يعني مراعاة الوسطية وعدم الإفراط أو التفريط في هذا الباب، وأخيراً أنبه على أسبقية الإسلام والفقهاء في تقنين شروط وضوابط ممارسة المهنة بحيث نرى أحدث المعايير المعاصرة لممارسة الطب مقرراً منذ القديم عند فقهائنا رحمة الله عليهم، مما يؤكد سعة واستيعاب الشريعة الإسلامية لجميع النوازل المستجدة في مجال الطب وغيره، ولكن هذا لا يعني الوقوف عند الصور والأمثلة المذكورة في متون وكتب الفقه، بل لا بد من تكثيف الجهود ما بين الأطباء والفقهاء والقانونيين من أجل وضع تقنينات تفصيلية تستوعب متطلبات العصر وتنبني على أصول الشرع وتحتكم إلى شرع الله تعالى تحقيقاً للعدل والتقدم والحضارة بكل أبعادها الدينية والدنيوية.
وختماً فإن هذا البحث الموجز لا يمثل إلا نبذة موجزة هي أقرب إلى الإشارة منها إلى التفصيل، والله المرجو أن يكون خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د.وسيم فتح الله
[1] سورة المائدة – آية 45
[2] The National Medical Error disclosure and compensation (MEDiC) Act of 2005", Senator Hillary Rodham Clinton and senator Barak Obama, September 28, 2005
[3] الإجارة عقد على المنافع بعوض هو مال (التعريفات – الجرجاني1/ 17)، والجعالة : ما يٌجعل للعامل على عمله (الجرجاني – 1/67)، وتعرف بالوعد بالجائزة وهي ما يجعل للإنسان على فعل شيء (الفقه الإسلامي وأدلته – د.وهبة الزحيلي – 5/3864)
[4] Code of Medical Ethics, American Medical Association, E-9.12 Patient – Physician relationship
[5] كالفني، والممرض والمشفى والإدارة ونحوهم
[6] يراجع تفصيل هذا في كتاب أحكام الجراحة الطبية – للدكتور محمد المختار الشنقيطي- طبعة مكتبة الصحابة – 300
[7] الموجب هو الأمر الذي يترتب على وقوعه أثر ما
[8] انظر تقرير
"The National Medical Error disclosure and compensation (MEDiC) Act of 2005", Senator Hillary Rodham Clinton and senator Barak Obama, September 28, 2005
[9] المستدرك للحاكم (4/236) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وأخرجه ابن ماجة (3466)، وأبو داود ( 4586)، وغيرهما
[10] ويقاس على الجهل باقي موجبات المسؤولية الطبية كما يتبين لاحقاً
[11] زاد المعاد (كتاب الطب النبوي) – ابن قيم الجوزية – 4/127
[12] السابق
[13] القواعد الفقهية – محمد بكر إسماعيل – 151
[14] زاد المعاد (كتاب الطب النبوي) – ابن قيم الجوزية- 4/128
[15] سورة النساء – آية 92
[16] صحيح مسلم – (55)
[17] سنن الترمذي – حديث (2822) وقال: هذا حديث حسن
[18] سورة المائدة – آية 1
[19] Code of Medical Ethics, American Medical Association, E-9.12 Patient – Physician relationship
[20] سنن الترمذي – حديث (1959) وقال الترمذي: هذا حديث حسن
[21] Code of Medical Ethics, American Medical Association , E-5.05 Confidentiality
[22] السابق
[23] مجلة الأحكام العدلية – المادة 26
[24] سورة النور – آية 30
[25] Code of Medical Ethics, American Medical Association, E-8.21, Use of chaperons during medical exams.
[26] Code of Medical Ethics, American Medical Association, E-3.01 Nonscientific practitioners
[27] يراجع Code of Medical Ethics, American Medical Association, E-8.20 Invalid medical treatments
[28] المغني – ابن قدامة – 7/468
[30] السابق
[31] المماراسات الطبية بين خطأ الطبيب ومضاعفات المرض – د.عبد الله منجود – بتصرف Eastern Mediterranean Health Journal, Volume 10, Noa1/2, January /March 2004, Pages 198-207
[32] زاد المعاد – 4/128
[33] المماراسات الطبية بين خطأ الطبيب ومضاعفات المرض – د.عبد الله منجود – بتصرف Eastern Mediterranean Health Journal, Volume 10, Noa1/2, January /March 2004, Pages 198-207
[34] التعريفات – الجرجاني – 85
[35] سورة الأحزاب – آية 5
[36] سورة النساء – آية 92
[37] تقرير معهد الطب الأمريكي بعنوان : To Err is Human, November, 1999
[38] أي من يعالجه وهو المريض الذي أذن له بالعلاج
[39] الكمرة: رأس الذكر
[40] السلعة تضخم في عضو من البدن
[41] يريد رحمه الله الحنابلة رحمة الله عليهم
[42] زاد المعاد – ابن قيم الجوزية – 4/128-130 بتصرف
[43] درر الحكام شرح مجلة الأحكام – المادة 26