في الواجهةمقالات قانونية

القوة الناعمة في السياسية الخارجية المغربية تجاه افريقيا – الدكتورة :البوعزاوي السعدية

القوة الناعمة في السياسية الخارجية المغربية تجاه افريقيا
The soft power of Morocco’s foreign policy towards African
الدكتورة :البوعزاوي السعدية
باحثة في القانون العام والعلوم السياسية جامعة محمد الخامس
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية سلا
Dr : ELBOUAZZAOUI ES-SAADIYA
Researcher in Public Law and Political Science

الملخص:
أصبحت القوة الناعمة أداة رئيسية في السياسة الخارجية المغربية، ويملك المغرب مصادر مذهلة للقوة الناعمة استثمرها بفعالية تجاه عمقه الإفريقي لتحقيق النتائج التي يطمح إليها، ورغم النتائج والمكتسبات المحققة تصدم الدبلوماسية المغربية الناعمة بتحديات يجب تظافر الجهود بين مختلف الفاعلين في السياسة الخارجية من أجل مواجهتها، فهذه العقبات تعيق تطوير القوة الناعمة، ويمكن للمغرب أن يعزز حضوره الافريقي خاصة وأنه لا يزال هناك عدد من السبل لاكتشافها من أجل تعزيز القوة الناعمة في السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا.
كلمات المفاتيح: المغرب، افريقيا، القوة الناعمة، الدبلوماسية الناعمة، السياسة الخارجية المغربية.

Summary:
Soft power has become a key tool in Morocco’s foreign policy, and morocco has amazing sources of soft power that has invested effectively towards its African depth to achieve the results it aspires to. Despite the results and gains achieved, Morocco’s soft diplomacy is shocked by challenges that must be combined between the various actors in foreign policy in order to confront them. These obstacles impede the development of soft power, especially since there are still a number of ways to discover them in order to strengthen soft power in Morocco’s foreign policy towards Africa.
Key words: Morocco, Africa, Soft power, Soft Diplomacy, Morocco’s foreign policy.

مقدمة:
يمثل مفهوم القوة حجر أساس في العلاقات الدولية، ومع التطور المعلوماتي والفضاء الالكتروني لم يعد مقبولا أن تكون القوة العسكرية هي العنصر الحاكم فقط في العلاقات الدولية، بل وجب إحداث تغيرات على المفهوم ليتواكب مع متغيرات النظام الحديث من أجل خلق مجتمع متحضر، وتشير القوة الناعمة إلى قدرة الدولة على التأثير على الآخرين من خلال جاذبيتها الثقافية والأيديولوجية والمجتمعية، بدلا من الاعتماد على الاكراه أو القوة العسكرية.
فالدبلوماسية التي يتبعها المغربية اليوم هي الدبلوماسية التي تقوم على استخدام الاقناع بدلا من الاكراه، وتزيد من قدرة المغرب وجهازه الدبلوماسي المنتشر في جميع أنحاء العالم على جذب الآخرين عبر وسائل عديدة ثقافية، اقتصادية، تنموية، روحية، تقديم مساعدات الإنسانية، من أجل كسب شركاء وحلفاء لتصريف سياستها الخارجية وتحقيق أهدافها.
في ظل المتغيرات السياسية والجيوسياسية الدولية والإقليمية، فرضت على السياسة الخارجية المغربية نوعا من التحول في الدبلوماسية المغربية، حيث طور من أدائها وحضورها، وعدل من توجهاتها الكبرى، بل وضع مرتكزات مبتكرة وجديدة لتدبيرها، فآليات السياسية الخارجية المغربية في واقع العلاقات الدولية الراهنة تبرز أن حماية المصالح القومية للدول رهينة بتوفر مصادر القوة ذات تأثير أو القوة الناعمة، وهوما أصبح معه تحقيق رهانات أي سياسة خارجية فعالة مرتبطة باستخدام الدبلوماسية الناعمة في اتجاه يخدم الاستراتيجيات الوطنية. ويعتمد على مجموعة من الأدوات لتحقيق هذه الأهداف، كالثقافة والاقتصاد، الروحي، الدبلوماسية الإنسانية والإعلامية والدبلوماسية الوقائية.
وتحظى القارة الافريقية باهتمام صانع القرار السياسي الخارجي المغربي في محيطه الإقليمي، حيث تكتسي أهمية بالغة كمجال جيوسياسي مناسب لفعل الدبلوماسية المغربية، لكون العلاقات المغربية الافريقية تتسم بالمثانة والاخوة المتجذرة عبر التاريخ، ولوجود قواسم مشتركة تجمع المغرب بعدد من الدول الافريقية، كالعمق التاريخي والانتماء القاري والديني، إضافة الى العلاقات الاقتصادية والتجارية المتداخلة.
وتمثل الدبلوماسية الناعمة للمغرب إحدى الآليات المهمة لضبط مصالح الدولة وتطويرها على صعيد العلاقات الدولية من جانب، وعلاقتها مع وحدات النظام السياسي الدولي من جانب آخر، حيث تساعد الدبلوماسية الناعمة على بناء علاقات صداقة وثقة بين الدول، فضلا عن تعزيز التعاون في مختلف المجالات، و سنعالج هذا الموضوع من خلال الإشكالية التالية: إلى أي حد يمكن للدبلوماسية الناعمة أن تؤثر في السياسية الخارجية تجاه القارة الافريقية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية للمغرب؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية عدة أسئلة من قبيل:
• ما هي أدوات الدبلوماسية الناعمة؟ وما هي آليات الدبلوماسية الناعمة في تنفيذ السياسية الخارجية؟
• كيف وظف المغرب عناصر قوته الناعمة لتنفيذ أهداف سياسته الخارجية في افريقيا؟
• كيف أثرت الدبلوماسية الناعمة على السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا؟
• ما هي التحديات التي تواجه الدبلوماسية المغربية في السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا؟
وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل مدى تأثير الدبلوماسية الناعمة على السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا، وكيف يمكن أن تسهم في تحقيق الأهداف الوطنية، ولمعالجة هذه الإشكالات سنعتمد على المحورين: المحور الأول سنناقش فيه آليات القوة الناعمة في السياسية الخارجية المغربية تجاه افريقيا، أما المحور الثاني سنتطرق فيه تأثير الدبلوماسية الناعمة على السياسة الخارجية والتحديات التي تواجهها. لنخلص في الأخير إلى استنتاجات حول أهمية الدبلوماسية الناعمة كأداة رئيسية في السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا من أجل تعزيز مكاناته وتحقيق أهدافه الاستراتيجية في القارة.
المحور الأول: آليات القوة الناعمة في السياسية الخارجية المغربية تجاه افريقيا
لم يعد تنفيذ السياسة الخارجية للدول يقتصر على الدبلوماسية الرسمية فقد، بل أصبح تتفاعل فيها العديد من الآليات، ومن بين هذه الاليات الدبلوماسية الناعمة التي أصبحت الدول تستعين بأدواتها كالثقافية أو الاقتصاد أو الدبلوماسية الإنسانية والروحية في تنفيذ سياستها الخارجية في بعدها الافريقي من أجل تعزيز أثير المغرب خارجيا. وقبل التطرق للآليات القوة الناعمة في السياسة الخارجية المغربية (الفقرة الثانية)، سندرس مرتكزات القوة الناعمة (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: مرتكزات القوة الناعمة في السياسة الخارجية
القوة الناعمة من المصطلحات الحديثة في حقل العلاقات الدولية، وكان جوزيف ناي أول من استخدمه في تسعينات القرن العشرين بشكل عابر، لوصف قدرة الدول على الاقناع والاغراء والجذب بدون إكراه واستخدام للقوة الصلبة المتمثلة بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية، حيث صاغ هذا المصطلح في كتبه المعنون ب ” مقدرة القيادة، الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية “، وطور هذا المفهوم في كتاب آخر سنة 2004 بعنوان ” القوة الناعمة، وسائل النجاح في السياسة الدولية” ، بالتالي عرف هذا المصطلح انتشارا واسعا وأصبح يستعمل في السياسية الخارجية للدول.
و يعرف جوزيف ناي القوة بصفة عامة بأنها: ” القدرة على التأثير في الأهداف المرجوة، وتغيير سلوك الآخرين عند الضرورة، أما اقتران القوة بصفة الناعمة، فإنها تؤثر في القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الاقناع والجذب “، واستبعد من تعريفه العقوبات الاقتصادية والسياسية إضافة للعسكرية، كما عرفها بأنها القوة التي تؤكد استخدام الوسائل الحضارية والاقتصادية ، وبالتالي القوة الناعمة تنبع من خلال الجاذبية التي تنبع من ثقافة الدولة أو أفكارها السياسية أو حتى سياساتها العامة.
وتشمل القوة الناعمة العناصر المستعملة من قبل الفاعل السياسي من أجل التأثير بشكل غير مباشر على فاعل آخر بغرض دفعه تبني وجهة نظره، وتحقيق أهدافه دون الشعور بالطابع الاجباري لهذه العلاقة، وذلك من خلال تعبئة موارد الجذب والابهار لنزع حوافز المبادرة المناوئة وكبح مساعي التحدي أو المس بالمصلحة الوطنية لدى كل من الخصوم والحلفاء، لكن لا يمكن الاعتماد على القوة الناعمة فقط في زمن تتضارب وتتنافس فيه المصالح، بل يجب أن تدخل في حساب معادلة قوة وطنية شاملة بكل ما تحتويه من خيارات عسكرية ومناورات دبلوماسية وضغوط اقتصادية إلى جانب القوة الناعمة بمختلف مكوناتها.
وللقوة الناعمة أهمية للدول التي تسعى إلى مد نفوذها أو توسيع إطار هذا النفوذ أو تحسين موقعها الإقليمي والدولي بطريقة سليمة تفاعلية بعيدا عن الاكراه والقوة العسكرية، غير أن بعض الدول تختار المزج بين هاذين النموذجين. وتعتبر القوة الناعمة أقل تكلفة، لكنها تتطلب الذكاء في العمل، من القوة الصلبة، وإن كانت بدورها تتضمن استخدام الموارد المتاحة، لكن البديهي أن يكون إقناع جهة ما أقل تكلفة من إكراهها على الذهاب في الاتجاه نفسه. ولا شك أيضا في أن الاقناع الناجح يزيد فرص تكرار استخدامه في المستقبل مرات أخرى. فالأهداف المشتركة، والاحترام المتبادل، تساعد كلها على أن ترى الأطراف الموقف من الزاوية نفسها، ومن ثم تدفعها إلى السعي إلى الحلول أو الأهداف نفسها . ومن هذا المطلق، يتعين على الدولة أن تسخر جميع إمكاناتها المادية وغير المادية من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.
وبما أن توليد الجاذبية عنصر أساسي في القوة الناعمة حدد ناي ثلاثة شروط: أولا، أن تكون السياسات شاملة وبعيدة النظر، فالقوة الناعمة تعتمد جزئيا على كيفية القيام بوضع إطار للأهداف. فالسياسات القائمة على تحديدات بعيدة النظر وشاملة في المصالحة الوطنية يسهل جعلها جذابة للآخرين أكثر من السياسة ذات المنظور الضيق القصير النظر. ثانيا، أن تكون السياسات في سياق متعدد الأطراف وتعبر عن القيم المشتركة، لأن الجاذبية يسهل توليدها في السياق المتعدد الأطراف وذات قيم مشتركة. ثالثا، فكل قوة تعتمد على السياق- من يتواصل مع من وتحت أي ظروف- ولكن القوة الناعمة تعتمد أكثر من القوة الصلبة على وجود مفسدين ومتلقين مستعدين . يتبين من خلال ما سبق أن قيمة القوة الناعمة ليست ثابتة، فهي تتغير حسب تغير الفاعل الأحادي أو متعدد الأطراف والعوامل المشتركة بينهم، فضلا عن تغير الزمان والمكان.
ومن هذا المنطلق ترتكز القوة الناعمة حسب جوزيف ناي على ثلاثة موارد أساسية:
– ثقافته: في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين.
– قيمه السياسة: عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج.
– سياساته الخارجية: عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية .
كل مجتمع يتميز بثقافة خاصة به تميزه عن المجتمعات الأخرى، وبهذا تكون الثقافة مجموعة من الأعراف والممارسات والقيم والمعتقدات والمبادئ التي يكتسبها الانسان كفرد داخل المجتمع، فعندما تتضمن ثقافة بلد ما قيما عالمية و تعزز القيم والمصالح المشتركة بين الآخرين، فإنها تزيد من احتمالية تحقيق النتائج المرجوة بسبب علاقات الجذب والالتزام التي خلقتها ثقافتها وعلى العكس من ذلك، عندما لا يستغلها بشكل الجيد، فإنها تصبح مصدرا للصراع.
أما السياسية شكل مهم من أشكال القوة الناعمة وتلعب دورا محوريا في العلاقات الدولية، وتمكن أهمية القيم السياسية في الواجبات والحقوق والمسؤوليات التي يتحملها الأفراد، ولذلك فإن قضايا التقييم الدولية تشكل ركيزة مهمة في القوة الناعمة . ولكي تكون للقيم السياسية مصدر للقوة الناعمة يجب أن تكون لها طابع عالمي وإنساني، وذات مصداقية ومشروعية، وأن تطبق محليا وإقليمي.
وتعتبر السياسة الخارجية مصدر من مصادر توليد القوة الناعمة وتطويرها، خاصة في إذا كانت تأخذ في الحسبان مصالح الاخرين. فعادة ما تسعى الدول على تحقيق مصالحها القومية والوطنية عبر السياسة الخارجية، لكن خياراتها هي التي تسمح لها بتحديد مدى اتساع أو ضيق المنظور الذي يجري من خلاله تعريف مصالحها والوسائل التي يمكن من خلالها أن تحقق هذه المصالح . وبالتالي تشكل السياسة الخارجية أهم مورد للقوة الناعمة، والتي تعتمد على القيم التي تمثلها، حيث من خلالها يمكن تعزيز الديمقراطية ودعم حقوق الانسان، ومن خلالها تستخدم الدولة قوتها الناعمة.
فالقوة الناعمة لبلد ما ترتكز على السلوك من خلال قوة الجذب، وعلى موارد القوة الناعمة لهي الآليات التي تنتج القوة الناعمة. وتتمثل موارد القوة الناعمة في وسائل الاعلام والأدوات الاقتصادية والمساعدات والقروض، فضلا عن الأدوات الثقافية. وتعد الدبلوماسية وسيلة لتعزيز القوة الناعمة لأي بلد، باعتبارها أداة رئيسية حيث تسمح للدول ببناء الثقة والعلاقات مع الدول الأخرى، فالحوار مع الدول يخلق شعور التفاهم والاحترام المتبادل، وهو ما يساعد في تحقيق المصلحة الوطنية للدول.
فالتحولات العالمية والتطور التكنولوجي ساهمت في تشابك العلاقات الدولية وإفراز العولمة أدت الى تحول في مرتكزات القوة حيث لم تعد ترتبط بالقوة العسكرية بل تعداه إلى النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي والاتصالات والمعلومات والاعتماد المتبادل كلها عوامل ساهمت في تزايد دور القوة الناعمة. والمغرب من الدول التي تعتمد على مواردها وموقع الاستراتيجي في تصريف سياستها الخارجية اتجاه الفضاء الافريقي باعتباره امتداده الطبيعي، فضلا عن الروابط المشتركة بين مختلف الدول الافريقية، في الفقرة الثانية سنرى كيف تعامل المغرب قوته الناعمة في سياسته الخارجية من أجل تحقيق المصلحة الوطنية؟
الفقرة الثانية: آليات الدبلوماسية الناعمة في السياسة الخارجية المغربية
يمثل العامل الجغرافي أهم محددات السياسة الخارجية للدول وأكثر تأثيرا فيها، غير أن الدور الذي يؤديه العامل الجغرافي في صياغة وتوجيه السياسة الخارجية يختلف من دولة إلى أخرى، بسبب ما تملكه من عوامل التأثير في محيطها الخارجي ودرجة تأثرها بذلك المحيط أيضا.
ومن ملامح القوة الاستراتيجية الكامنة في الموقع أنها تعطي مجالا للتحرك والفعل وحتى التأثير على المستوى الإقليمي والدولي. وتزداد أهمية الموقع بتوفر مجال بحري، حيث إن للبحار والمحيطات تأثيرا فعالا في الفعل الدبلوماسي. ولا يخفى أن الجغرافيا تحمل السياسة وتصنع الدبلوماسية أي تأثير الحقائق المكانية والعمليات في السياسة الخارجية .
ويعتبر المحدد الجغرافي من أهم العوامل المادية الدائمة لسيادة الدولة التي تؤثر بشكل أو بآخر في سياستها الداخلية والخارجية، فالمغرب يتمتع بموقع جغرافي متميز باعتباره ملتقى الحضارة الغرب بالشرق بشمال افريقيا، وتوفره على واجهتين بحريتين، الأولى تطل على البحر الأبيض المتوسط والثانية على المحيط الأطلسي. يعتبر هذا العامل من المؤثرات الرئيسية في مجال السياسة الخارجية المغربية حيث يتأثر سلوكها الخارجي بالموقع المتميز الذي تتوفر عليه على مستوى الموقع والحدود والجوار والخصائص الطبيعة . وللموقع الجغرافي عامل إيجابي إن أحسن الفاعل الدبلوماسي المغربي استغلاله في تصريف سياساته من أجل تحقيق المصلحة الوطنية والاهداف الاستراتيجية، وعامل سلبي، إن استغل بطريقة سلبية أو عشوائية، يمكن أن يشكل عائقا أمام تطور السياسة الخارجية المغربية، ويصبح نقطة ضعف عوض نقطة قوة. يتطلب من الفاعل الدبلوماسي استعمال الذكاء لتسويق هذا العامل كوسيلة جذب وتأثير في السياسة الخارجية.
وبفضل الموقع الجغرافي المتميز للمغرب جعله ملتقى الثقافات الغربية والإسلامية، هذا التراث الغني والمتنوع، يعتبر وسيلة قوية للجذب والتأثير في السياسة الخارجية المغربية، فتنوع الثقافي الذي يملكه المغرب يجعله قادرا على التواصل مع مختلف الشعوب، مما يعزز فرصة التأثير في الجماهير الأجنبية وصناع الرأي والقادة والنخب المؤثرة. فالمغرب من خلال الدبلوماسية الثقافية يمكن أن يستغل الفرصة التي تتيحها قطاعات عديدة كالفنون، والتعليم، والتاريخ، والدين، والأفكار، والعلوم، لصياغة أفكار وانطباعات تحقق أهداف السياسة الخارجية المغربية. علاوة على أنها قادرة على تحقيق ما هو مرغوب فيه بدلا من الجاذبية أو الاكراه. كما تلعب دور كبير في تشكيل سمعة المغرب وممارسة المصالح السياسية، عن طريق إدارة تدفقات إعلامية ثقافية تسعى إلى تغيير الأفكار وبناء قناعات تساعد في فهم سياسات الدولة وقراراتها. كما أن التبادل الثقافي والسياحة، والأدب كلها استراتيجيات يمكن أن يستخدمها المغرب في دبلوماسيته كقوة تأثير والجذب في الأطراف الخارجية إن دمجت في مخططات تخدم مصالح الدولة. وبالتالي تكون الدبلوماسية الثقافية تحول التراث إلى اقتصاد ثقافي يقرب الشعوب والمجتمعات من بعضها البعض، هذا النوع من الدبلوماسي ليس مجرد وسيلة لتمثيل المصالح والدفاع عنها، بل هو أيضا حل استشرافي يقدم إجابات للتحديات العالمية.
فالسياسات الحكومية المغربية يمكن أن تعزز قوة الناعمة أو تبددها ذلك أن السياسات المحلية والخارجية تبدو متناقضة، أو قائمة على معالجة ضيقة الأفق للمصالح الوطنية، فإنها تقوض القوة الناعمة المغربية، عكس القيم المنفتحة، وتعتبر السياسة الخارجية المغربية مصدر الأساسي في توليد القوة الناعمة وتطويرها، خاصة إذا كانت تأخذ في الحسبان مصالح الأخرين. فعادة تسعى السياسة الخارجية المغربية إلى تحقيق مصالحها القومية والوطنية، لكن خياراتها هي التي تسمح لها بتحديد مدى اتساع أو ضيق المنظور الذي تجري من خلاله تعريف نطاق مصالحها والوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الوسائل.
وبالموازاة مع ذلك ظهرت الدبلوماسية الموازية، حيث أصبحت تنطوي على أهمية كبيرة، نظرا لنجاعتها وقدرتها على تعميق وتعزيز العلاقات بين الدول والشعوب من خلال تدابير موازية ومتناغمة مع الفعل الدبلوماسي الرسمي، ولذلك أصبحت الكثير من الدول تراهن عليها وتوليها عناية كبرى، سواء على المستوى تكوين العنصر البشري أو توفير الإمكانيات المادية واللوجستيكية. توفر الدبلوماسية الموازية فرصا كبرى لإعطاء العلاقات المغربية-الافريقية بعدا قاعديا يتجاوز المجاملات الرسمية التي تقتضيها العلاقات الدبلوماسية عادة، فهي الكفيلة بتحصين هذه العلاقات وإعطائها طابع من القوة والاستدامة . هكذا أصبح دور هؤلاء الفاعلين الجدد يتعاظم أكثر على الساحة الدويلة، على الرغم من الفاعلين الجدد غير مخول لهم التدخل مباشرة في مجال الدبلوماسي، إلا أنهم مؤثرين بشكل كبير في العلاقات المغربية الافريقية في مختلف المجالات.
يمكن للفاعل الاقتصادي أن يسهم من خلال توسيع نشاطاته وخدماته واستثماراته في تعزيز مكانة المغرب، ونفس الأمر ينطبق على الجماعات الترابية المغربية من خلال التعاون والشراكة عبر اتفاقات التوأمة مع جماعات أجنبية. كما يمكن أن تلعب الأحزاب السياسية بايديولوجياتها المختلفة دور قوي في تعزيز مكانة المغرب خارجيا من خلال التأثير والجذب فرقاء سياسيين من دول أخرى لهم نفس التوجهات الأيديولوجية بما يضمن حماية المصالح المغربية وتحصين المكتسبات. ونفس الشيء يمكن أن يلعبه المجتمع المدني الذي أصبح له دور كبير في الدبلوماسية الموازية.
يتميز المغرب بمجموعة من المؤهلات الناعمة التي تمكنه من أن يلعب دور كبير في تحقيق أهدافه الاستراتيجية ومصلحته الوطنية إن أحسن استغلالها خاصة تجاه القارة الافريقية، التي تربطه ببعض دولها روابط تاريخية، وموقعه الجغرافي المتميز، فضلا عن الروابط الدينية والثقافية. بإضافة إلى اهتمام المغرب بجانب الأمني لمحاربة كل التهديدات التي تمس بأمن واستقرار المنطقة. وهذا ما سنراه في المحور الثاني ومع التطرق الى التحديات التي تواجه الدبلوماسية الناعمة في سياسة الخارجية المغربية.
المحور الثاني: تأثير الدبلوماسية الناعمة على السياسة الخارجية تجاه افريقيا والتحديات التي تواجهها
يعمل المغرب جاهدا على تعزيز دوره الإقليمي كقوة جيو-استراتيجية وجيو-سياسية في الافريقية، عن طريق مجموعة من الجهود الهادفة إلى تقوية حضوره على الساحة الافريقية وتمتين علاقات التعاون والشراكة مع العديد من دول القارة، وتستخدم الدبلوماسية المغربية أدوات القوة الناعمة لتحقيق هذه الأهداف. بما فيها الأدوات الثقافية، الدينية، الاقتصادية، الإعلامية، فضلا عن الإنسانية، الأمنية ( الفقرة الأولى ). غير أن هذه الأدوات مازالت لم تستثمر بالشكل الجيد من قبل الدبلوماسية المغربية في ظل المنافسة والتغيرات السياسية والاقتصادية في الدول الافريقية ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى: تأثير الدبلوماسية الناعمة على السياسية الخارجية المغربية تجاه الافريقية
تحظى القارة الافريقية باهتمام كبير من طرف صانع السياسية الخارجية المغربية، حيث تكتسي أهمية بالغة كمجال جيوسياسي مناسب لفعل الدبلوماسية الناعمة. فالعلاقات المغربية الافريقية تتمتع بالمثانة والاخوة المتجذرة عبر التاريخ، نظرا لعدد من القواسم المشتركة التي تجمع المغرب بالعديد من الدول الافريقية، كالعمق التاريخي والانتماء القاري والعقائدي والديني والأمني والإنساني، إضافة إلى العلاقات التجارية والاقتصادية. هذه القواسم شكلت محددات اشتغال الدبلوماسية المغربية في القارة الافريقية.
بحكم تميز موقع المغرب الجغرافي، نهج المغرب سياسة خارجية منفتحة قائمة على التعاون مع الشعوب الأخرى، حيث كان الرابط بين الإسلام وافريقيا عبر أداء دور تبليغ الشريعة المحمدية وتنميتها وشرحها بالمدارس والمساجد بالوعد من خلال ثلة من العلماء والأساتذة ، إضافة إلى تكوين الأئمة والمرشدين الدينيين والمرشدات بهدف إشاعة قيم الاعتدال والوسطية والتسامح كقيم أصيلة في الثقافة الدينية المغربية، وقد استطاعت هاته التجربة أن تؤثر على الدول الافريقية من أجل الاستفادة منها وتعتبر مالي وكوديفوار والسينغال من بين الدول التي أخذت هذه التجارب مع المغرب، كما عمل المغرب على تشييد المساجد بدول الافريقية من أجل تحقيق طموحات المغرب الجيوسياسية، من خلال التأثير على ثقافات البلدان الافريقية .
علاوة على ذلك، يحاول المغرب اعتماد على الخصائص الثقافية التي تربطها بدول الافريقية ذات الأغلبية المسلمة، عبر توظيف امتداداتها الدينية والثقافية في الطرق الصوفية المنتشرة بالمنطقة، والتي تعود جذورها في الغالبية إلى المغرب، من خلال تبادل تلك الخصائص معها، واستقبالها للبعثات الطلابية. وبإيمان المغرب بالتزاماته القارية وإراداته في تمثيل المصالح الافريقية والدفاع عنها، عمل على بناء استراتيجية تأثير حقيقة داخل المنظمات الدولية بالتكلم بصوت افريقيا، كما يبني استراتيجية افريقية من أجل مقاربة إقليمية على شكل تكتلات ووضع تصور لهندسة دبلوماسية أكثر استراتيجية بالنسبة لمتطلبات كل دولة أو إقليم من أجل التعاون أكثر فعالية. فلسفة الدبلوماسية المغربية تستثمر الروابط الدينية والزخم الروحي في رسم معالم السياسة الخارجية في صيغتها الافريقية، وإعادة تطوير آليات التعاون الثقافي الديني. وبالتالي يكون المغرب قد حرص على توظيف هذا الإرث الروحي في دبلوماسيته الناعمة تجاه إفريقيا.
وبما أن الدبلوماسية الثقافية تعد بمثابة القوة الناعمة تعزز الخصائص المتميزة للشعوب والمجتمعات، فالتراث والثقافة المغربية جعلتها الدبلوماسية المغربية ركيزة أساسية تجاه القارة الافريقية. وهكذا أصبح الجانب الثقافي يحظى بمكانة محورية في توجهات السياسة الخارجية المغربية نحو افريقيا، نظرا للتميز الحضاري والتماسك الداخلي بين مختلف مقومات ومكونات الهوية الثقافية المغربية، التي تكتسب مع مرور الوقت مناعة قوية بفعل التعايش والتسامح الذي يتميز به المجتمع المغربي ومكوناته على اختلاف انتماءاته، وأصبح للعامل الثقافي دور أساسي في الدبلوماسية المغربية كأداة للتقرب والحوار والتفاهم بين الشعوب الافريقية، كما أن الذهنية المغربية طبعت بسمات الانفتاح على الاخر وتحترم تقاليد وعادات كل بلد. ولعل احتضان المغرب لعدة ملتقيات الافريقية واحتضان بعض الأسابيع الثقافية لبعض الدول الافريقية بالمغرب، وتنظيم مهرجانات ذات الطابع الافريقي كمهرجان فاس الروحي ومهرجان السينما الافريقية، زد على ذلك، التعاون في مجال التعليم كألية للتواصل ومساعدة الطلبة الأفارقة الراغبين في استكمال دراستهم في المختلف المجالات، وتنظيم الملتقيات الرياضية محاولة لتقريب بين الثقافات ومد جسور التواصل، وكل ذلك يعتبر عامل إيجابي في اشعاع سمعة المغرب داخل القارة الافريقية وتأثير بعامل الثقافي من أجل تحقيق الغايات والاستراتيجيات المملكة.
وجعل المغرب من التعاون الاقتصادي مع الافريقية خيارا استراتيجيا، حيث وضع على رأس أولوياته تعزيز وتطوير العلاقات مع دول الافريقية، في إطار تكامل حيوي وشراكة فعالة وتضامنية، هذا الخيار يروم الحفاظ على الروابط المتجذرة مع دول افريقيا، بقدر ما يهدف إلى جعل التنمية بالقارة عملا تشاركيا وجهدا جماعيا . حيث سجل المبادلات التجارية ارتفاعا ملحوظا، في ظل تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية، عبر إعطاء أهمية للاستثمار في عدد من القطاعات الحيوية، كالتأمين، والاتصالات، والأبناك، والزراعة وغيرها، ارتفعت نسبة الاستثمار في افريقيا من 100 مليون دولار في سنة 2014 إلى أزيد من 600 دولار في سنة 2022 ، مما يجعل المغرب ثاني مستثمر في القارة. وقد تعززت أكثر في عام 2024، حيث بلغت حوالي مليار دولار. كما ارتفعت المبادلات التجارية 38,3 مليار درهم من سنة 2016 الى حوالي 52.7 درهم سنة 2023، أي ما يقارب زيادة بمعدل 38 في المائة. كما ترتكز الدبلوماسية المغربية أيضا على ملفات حيوية داخل القارة الافريقية من خلال عقد شركات متوسطة وطويلة الأمد في المجال الفلاحي مما يخدم الأهداف المغرب وتعزيز سيادتها على كافة ترابها، ستمكن هذه الالية من محاولة التحكم بالأمن الغذائي بالقارة عبر الضغط بورقة الفوسفاط. وبذلك أصبح المغرب فاعل مهما ومستثمرا قويا في القارة الافريقية مما ساهم في تعزيز مكانته إقليميا. وبالتالي يكون العامل الاقتصادي برز كمحرك أساسي للدبلوماسية المغربية التي حاولت من خلالها تجاوز الصعوبات السياسية التي تواجهها في القارة الافريقية. وعليه تكون الدبلوماسية الاقتصادية أداة رئيسية في السياسة الخارجية المغربية، فرضت نفسها كآلية للتأثير في الدول لكونها تعمل على زيادة عمليات الترابط بين المغرب والدول الافريقية.
طور المغرب من خلال دبلوماسية الروحية والاقتصادية، نموذجا مبتكرا حقيقيا للتعاون جنوب-جنوب، قوامه تقاسم المعارف والكفاءات والخبرات والموارد، وتقوية وتعزيز علاقاته متعددة الأطراف مع بلدان القارة بهدف إقامة شراكة حقيقية يكون فيها الجميع رابحا وتفتح آفاق واسعة للتضامن والتنمية المستدامة . توجت هذه المقاربة بعودة المغرب إلى الاتحاد الافريقي من أجل الدفاع عن مصالحه وطموحاته بشكل مباشر، وأعادته إلى مكانه الطبيعي لكي يكون يقوم بتأثير من داخل الاتحاد الافريقي دون وسائط من أجل تحقيق أهدافه كما ستتيح له إمكانية بلورة علاقات مؤسساتية توازي العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التي تجمعه بعدد من الدول القارة .
عمل المغرب على نهج مبتكر يجمع بين العمل الإنساني والتأثير الدبلوماسي، إذ برز مؤخرا بشكل بارز، ساهم في توظيف الدبلوماسية الإنسانية كمصدر للقوة الناعمة، من خلال تقديم المساعدات الإنسانية للدول المحتاجة، أو الغاء الديون لعدد من الدول الافريقية، وأظهر المغرب تعاون كبير في جائحة كوفيد 19 حيث قدم العديد من المساعدات الإنسانية من أدوية وكمامات للدول المتضررة من الجائحة، إضافة الى بناء مستشفيات ميدانية تقدم مساعدات طبية، ساعد في بناء جسور الدبلوماسية، فالدعم الإنساني لم يكن مجرد استجابة لحاجة إنسانية، بل شكل رافعة دبلوماسية عززت من مكانة المغرب كوسيك إقليمي بالقارة.
وفي ظل التحولات الإقليمية وجد المغرب نفسه مدعو إلى تعزيز حضوره الافريقي وبناء علاقات استراتيجية مع دول افريقيا في إطار دبلوماسية ناعمة تضمن له قيادة مساعي القارة للتنمية، ولمواجهة التهديدات الأمنية واستقرار الدول بالقارة الافريقية، نهج المغرب سياسة استباقية لمحاربة هذه التهديدات ، ومن خلال دبلوماسيتها لحفظ السلام بالقارة، وفتح مجال التكوين والتدريب في القوات الافريقية لاستفادة من الخبرة المغربية، ومشاركة القوات المغربية بشكل فعال في عمليات حفظ السلام التي تعرفها المنطقة . شكلت تجربة المغرب في الميدان نموذجا يحتذى به من قبل باقي الدول الافريقية، عبر تعزيز التعاون والتنسيق بين مختلف القوى لحل الازمات بالقوة العسكرية، كتواجد القوات المغربية في دولة أنكولا والكونغو الديمقراطية، فضلا عن لعب دورا مهما في حل القضية الليبية من خلال احتضان مؤتمر الأطراف النزاع في الصخيرات وتوج بعقد اتفاق بين مختلف الأطراف الليبية. مساهمة الدبلوماسية المغربية في هذه المبادرات والتفاعل معها بشكل إيجابي ساعدها في تطوير علاقات التعاون بين المغرب والدول الافريقية.
ولعل التبريرات تواجد المغرب في النزاعات الافريقية له دلالتها، أولا تعزيز الحضور الافريقي بالقارة ولعب أدوار قيادية على مستوى السياسة الخارجية، ثم من أجل استغلال فرص تدخله بالقارة الافريقية عسكريا وإنسانيا من أجل حماية مصالحه السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ثم إن ضمان استقرار المغرب له ارتباط بالاستقرار الأمني والسياسي للدول الافريقية على أساس افريقيا تشكل العمق الاستراتيجي للمغرب ، هذه السياسة التي يعتمدها المغرب تنبني على استراتيجية كبرى ترتكز على أبعاد متجانسة ومتكاملة، سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية، تشكل مخططا مندمجا، ولا تعتمد فقط على الأهداف، وإنما الى استغلال الإمكانيات والمؤهلات الافريقية .
فالدبلوماسية الأمني ظلت تشكل محددا أساسيا في صنع توجهات السياسة الخارجية المغربية ضد كل أشكال التهديدات المنتشرة بالقارة، وبالتالي تمثل جهة فاعلة معتدلة، تسهم في إحلال السلام بين الشعوب، وهذا ما يجعلها تلعب أدوارا فعالة الهيئات المتعددة الأطراف، ويسمح لها بتطوير شبكات من التحالفات وسمعة دولية للوساطة، كما عملت على ترسيخ كل أشكال التضامن وتكريسها، وهو ما تم التعبير عنه خلال إضفاء البعد الإنساني الذي كان حاضرا بشكل متواصل في مهام القبعات الزرق المغاربة التي تم إرسالها في البعثات المختلفة لحفظ السلام الأممية . ولعل تحركات المغرب على المستوى الأمني استطاع أن يخدم صورته على المستوى الافريقي، وعززت من حضوره الدبلوماسي ومنحته الثقة الدول الافريقية، فالجانب الأمني في الدبلوماسية المغربية ذا تأثير إيجابي دفعت المغرب لتموقع بشكل كبير داخل القارة الافريقية.
إن الاعتماد على قدرات التمثيل السياسي والدبلوماسي للمغرب تضمن له الحفاظ على وزن اقليمي، وإرساء قواعد الوساطة الدولية في حل النزاعات من خلال استخدام الدبلوماسية الذكية لفهم سياق النزاعات وفهم مجتمعاتها والتدخل الإنساني لحل النزاعات أو تخفيف من وطأتها عبر قنوات تقديم المساعدات ، يجعل من المغرب بلد قادرا على استخدام مكتسباته من هذه التجارب ومن خلال اضطلاعه على مختلف العادات والتقاليد وانفتاحه على ثقافات افريقية وفهم مجتمعاتها على أن يكون مصدر التأثير والالهام بالنسبة للدول الافريقية مما يساعد على تنفيذ سياساته الخارجية وتحقيق أهدافها بآليات الدبلوماسية الناعمة عن استغلال المعلومات المتوفرة لديه من خلال تجاربه المتكررة في عدة بلدان الافريقية.
يتوفر المغرب على إمكانيات وفرص كثيرة ومتعددة التي ينبغي استثمارها بالشكل المناسب في سياسته الخارجية تجاه القارة الافريقية، فمقابل استفادة دول القارة من نقل خبرة المملكة في العديد من المجالات ومن مساعدتها واستثماراتها لضمان تنمية للعديد من القطاعات الحيوية، فيمكنه أن يصدر تجاربه وخبراته التقنية والفنية والمالية مقابل التغلغل في العمق الاستراتيجي للقارة عبر توظيف أليات الدبلوماسية الناعمة بذكاء ومهنية.
إذا استطاع المغرب استثمار إمكانيات وفرص دبلوماسيته المتعددة والناعمة، من خلال تسويق لنموذجه السياسي والتنموي كقوة يحتذى بها في سياساته الدينية والروحية المبنية على التسامح ونشر قيم السلم والتعايش ونبذ كل أشكال العنف وحل النزاعات بالطرق السلمية، فضلا على استثمار الفرص المتاحة لديه على مستوى جانب الاقتصادي والثقافي حيث أصبح قوة إقليمية ذات تأثير وإلهام لباقي الدول، وحققت الدبلوماسية المغربية إنجازات كبرى على مستوى القضية الوطنية عن طريق التسويق الجيد لمقترح الحكم الذاتي كحل سلمي لقضة الصحراء المغربية، واكتسب الدعم والاعتراف بالصحراء المغربية في عدد من الدول الافريقية وظهر هذا الدعم والاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه من خلال فتح عدد من القنصليات التابعة للدول الافريقية في الصحراء المغربية، كما أصبح قوة استثمارية في القارة عن طريق استغلال الفرص المتاحة للاقتصاد المغربي داخل القارة الافريقية. ورغم كل هذه الإنجازات المحققة على الصعيد الافريقي، فالمغرب يملك مجموعة من مصادر هائلة للقوة الناعمة التي تخول له أن يكون فاعلا حيوية وشريكا استراتيجيا، وقوة افريقية عن طريق استغلال الجيد لهذه المؤهلات في ظل التحديات التي تواجها الدبلوماسية المغربية في القارة الافريقية وهذا ما سنحاول معالجته في الفقرة الموالي.

الفقرة الثانية: تحديات التي تواجه الدبلوماسية الناعمة المغربية تجاه افريقيا
وفقا للمؤشر العالمي للقوة الناعمة لسنة 2024، يحتل المغرب المرتبة 50 بين الدول الأكثر نفوذا على مستوى العالمي، أما على المستوى القاري، احتل المغرب المركز الثالث الأكثر تأثيرا في افريقيا، بعد مصر وجنوب افريقيا، في حين تصدر قائمة الدول المغاربية، باعتباره الدولة الأكثر نفوذا في المنطقة، وبذلك يكون المغرب تسحن من ترتيبه في المؤشر العالمي للقوة الناعمة ب 5 درجات مقارنة بالعام الماضي. ويعد هذا أفضل أداء له منذ إطلاق المؤشر في عام 2015، وهو لا يليق بدولة متجذرة في التاريخ وتتوفر على أصول متنوعة في القوة الناعمة. ومن واقع التاريخ، كان المغرب صاحب القوة المهيمنة على المستوى الإقليمي، ويشهد على ذلك الحضارات المتعاقبة، والتراث الغني الذي يزخر به المغرب على المستوى الإقليمي، ثم المكانة الرمزية الروحية التي تتمتع بها المؤسسة الملكية على الصعيد الافريقي، استطاع المغرب من خلال تلك القوة الناعمة والقادرة على الاستقطاب والاقناع، أن يفرض تأثيره ونفوذه على المنطقة بأسرها، إلا أن هذا يظل غير كافي أمام المنافسة الشرسة من طرف الدول الرائدة في الصناعات الثقافية.
فالدبلوماسية الدينية المغربية تجاه افريقيا تواجه مجموعة من الصعوبات تحول دون تحقيق أهدافها الاستراتيجية المتوخاة. ولعل ابرزها المنافسة من مرجعيات دينية ذات الصلة بقوى إقليمية أخرى، من دول الخليج أساسا والتي أضحت تنافس بقوة تواجد المغرب الروحي والتاريخي بالمنطقة، وتسعى جاهدة من جهتها لإيجاد موطئ قدم لها وتوسيع نفوذها بالقارة، مسخرة كل امكانياتها لتحقيق ذلك من عمل الخيري والاجتماعي والتعليم والإسلام. كما يواجه المغرب منافسة من داخل شمال افريقيا، تجسدها أساسا مؤسسة الأزهر المصرية التي لديها تواجد ميداني نشيط بإفريقيا، من خلال شبكة من المؤسسات التعليمية والمساجد التي تنشط بقوة في عدد دول الافريقية . إضافة إلى مواجهة الحركات التنصيرية، والحركات المتطرفة والارهابية التي عرفت تصاعدا في السنوات الأخيرة، فضلا عن انتشار المذهب الشيعي المدعوم سياسيا وايديولوجيا وماديا من طرف قوى خارجية، دون أن نغفل المنافسة الشديدة والتاريخية حول الزوايا والطرق الصوفية خاصة الطريقة التيجانية. وتسعى القوى العالمية أيضا ترسيخ وجودها وزيادة حضورها في المجال الافريقي، مثل الصين وأميركا وفرنسا…، كما تواجه القارة الافريقية نفسها تحديات متنوعة ومتغيرة باستمرار، وتواجه تحديات بتغير المناخ، والامن الغذائي، والحرب في السودان، تؤثر هذه العوامل على علاقة المغرب بالدول الافريقية ونهجه في التعامل مع القوة الناعمة في سياسته الخارجية.
وبسبب أهمية الدبلوماسية الروحية الموازية ودورها في الحفاظ على استمرارية العلاقات بين المغرب وافريقيا، فإن المنظومة الدينية والمجالس العلمية ورابطة العلماء ووزارة الأوقاف الإسلامية والأحزاب والجمعيات، وكل مؤسسات المجتمع المدني مطالبة بالعمل أكثر موازاة مع عمل الجهات الرسمية في هذا الاطار، خاصة وأن هناك قوى إقليمية أخرى أضحت تنافس بقوة تواجد المغرب الروحي والتاريخي بالمنطقة. وتسعى جاهدة من جهتها لإيجاد موطئ قدم لها وتوسيع نفوذها بالقارة الافريقية .
وفي ظل المنافسة الشرسة داخل رقمة شطرنج الافريقية يجب على المغرب تحسين نفوذه من أجل خلق تأثير حسن الجوار، حيث يمكن للقوة الناعمة أن تتطور في عدة مستويات، بما أن الدبلوماسية الاقتصادية تشكل العمود الفقري وذلك في القطاعات ذات الاهتمام المشترك خاصة في مجال الصناعات الزراعية والصناعة والمالية، وتلعب قطاعات أخرى دورا هاما أيضا كالدبلوماسية الثقافية والابتكار والتكنولوجيا والتعليم والتدريب، وتظافر الجهود يجب أن يكون مشترك مع مختلف الفاعلين في القطاع العام والخاص والمجتمع المدني والجامعات من أجل حشد مساهماتهم في تطوير العلامة المغربية.
وبما أن العلاقات الدولية تتأثر بشكل كبير بالفضاء الإقليمي والهيمنة الجيوسياسية، حيث تتباين القدرة على التأثير والسيطرة بين الدول المختلفة، ويمكن أن تؤدي المنافسة على الهيمنة الجيوسياسية إلى صراعات دبلوماسية. وعلى الرغم من ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الهيمنة الى التعاون والتفاهم بين الدول، ويتثمل في مشاركة المنافع المشتركة وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. وهذا ما دفع المغرب الى بناء تكتلات بين الدول الافريقية من أجل حماية مصالحه الاستراتيجية وتقوية علاقاته بهم في إطار تعاون مشترك بين الجانبين، كما انضم إلى المنظمات الافريقية من أجل تعزيز مكانته ووجوده داخلها.
نجاح الدبلوماسية الثقافية يعتمد على معرفة محتوياتها وافتراضاتها من قبل جميع الفاعلين في السياسة الخارجية من أجل بناء استراتيجيات ثقافية مبتكرة تتناسب مع متغيرات المجتمع الافريقي، وتعزيز الصناعة الثقافية يتم من خلال مبادرات لترسيخ الهوية الافريقية للمغرب في ذهن الأجيال الجديدة، حيث تكون الهوية المغربية هي الأساس والمنطلق وأن يحتفى بها بشكل يتجاوز أن انبهار بالهويات المستوردة التي كانت تؤثر سلبا على بعض الشخصيات البارزة في التاريخ المغربي، والتي لا تزال تظهر بعض آثارها في الوقت الحاضر. وبالتالي يجب على المغرب أن يركز على هويته الوطنية دون أن يكون تابعا لأي هوية أخرى، إذ إن أي نهضة الأمم تعتمد بشكل كبير على قاعدة من الهوية الوطنية الصلبة والمتجذرة .
وفي هذا الصدد يجب القيام بعمل كبير في مجال الاتصالات ووسائط الاعلامية، وتصميم برامج للزوار الثقافيين الأفارقة، وأن تستغل التبادل الثقافي لتوسيع قوتها الناعمة، ويعتقد أن حركة الفانين لها تأثير كبير في هذا الصدد، حيث أن تسهيل تبادل الفانين وتنفيذ صناعة ثقافية وإبداعية يمثل قطاعا يتمتع بإمكانات نمو عالية في إفريقيا. وستستفيد استراتيجية التكامل من زيادة المشاركة المجتمع المدني وتعزيز نشاط مراكز الفكر وهي أدوات حقيقة من شأنها تعزيز القوة الناعمة التي تكفل التنمية عن طريق إخراج المغرب من منطقة الخاصة به.
كما تعرف القارة الافريقية صراعات داخلية وانقلابات تؤدي الى تغير حكام الدول، وهذا يؤثر بشكل وأخر على مرتكزات السياسة الخارجية المغربية، فنجاح الدبلوماسية المغربية يقوم على نجاح استمرارية رغم التغيير، بمعنى الاستمرارية قدرة الدولة على الحفاظ على سلوكها الدبلوماسي رغم التغير في الحكومات وأن يستمر النظام في تفاعلاته مع البيئة المحيطة به بفعالية. أما التغير فيراد به التدرج في نمط التوجه والسلوك الخارجي للفاعل دون احداث تغيرات جذرية مع إقرار الابعاد الرئيسية للسياسة الخارجية وقيمتها وقبول التغير المحدود في الابعاد الهامشية لتكتل السياسة.
إن العلاقات المغربية الافريقية معقدة، رغم الجهود والنتائج الإيجابية التي حققتها الدبلوماسية المغربية، فإن العقبات تعيق تطوير قوتها الناعمة، ويمكن للمغرب أن يعزز حضوره في القارة، خاصة أنه لا يزال هناك عدد من السبل لاكتشافها من أجل تعزيز القوة الناعمة في السياسة الخارجية المغربية تجاه افريقيا.
خاتمة
تنبني الدبلوماسية الناعمة على الثقافة والقيم والدبلوماسية الاقتصاد، والمغرب يملك مصادر هائلة للقوة الناعمة استثمارها بفعالية لتحقيق النتائج التي يطمح لها، وأصبحت القوة الناعمة أداة أساسية في السياسة الخارجية تجاه عمقها الافريقي، وعلى الرغم من المكاسب التي حققتها الدبلوماسية المغربية الناعمة، فإن ارتقاء بالعلاقات المغربية إلى مستوى عالي، يتطلب مزيد تظافر الجهود بين مختلف الفاعلين في السياسة الخارجية، وتبني استراتيجية شمولية تجمع بين ما هو ثقافي وأمني واقتصادي وديني لتعزيز مكانة المغرب داخل القارة الافريقية.
فمقومات المغرب الناعمة تجعل منه بلد رائد على مستوى القارة الافريقية إن أحسن الفاعل الدبلوماسي استغلالها لتكون قوة جذب وتأثير إيجابي ومصدر إلهام الدول الافريقية، فضلا عن توظيف مكامن القوة في السياسة الخارجية لتكون فعالة وذات النتائج المرجوة.
المراجع المعتمدة:
– علي باكير: ” نحو إطار نظري في صناعة القوة الناعمة”، مجلة سياسات عربية، العدد 53، المجلد 9، نوفمبر 2011.
– جوزيف . ص. ناي: ” القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، ترجمة توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكان، الرياض، 2007.
– خيام محمد الزغبي: ” القوة الناعمة وأثرها في العلاقات الدولية “، مجلة الفرات، العدد 65، 2024.
– د. محمود العلاوي: ” الأبعاد الجيو-سياسية والاستراتيجية للمبادرة الأطلسية المغربية لدول الساحل والصحراء”، آفاق استراتيجية، العدد 9، يوليوز 2024.
– المصطفى بوكرين: ” الابعاد الجيوستراتيجية للدبلوماسية المغربية الناعمة للمملكة المغربية في الفضاء الافريقي “، مجلة حمورابي للدراسات، المجلد 1 العدد 12، 2023.
– د. ادريس الكريني: ” المغرب ورهانات القوة الناعمة في افريقيا مقاربة للدبلوماسية العلمية “، مجلة المناهل، العدد 106، يوليوز-غشت-شتنبر 2022.
– يوسف كريم: ” الدبلوماسية المغربية الجديدة تجاه افريقيا: من دبلوماسية المواقف إلى دبلوماسية المصالح “، مجلة القانون والمجتمع، العدد الثالث، أكتوبر 2021.
– محمد أشلواح: ” المشاركة المغربية في عمليات حفظ السلام بإفريقيا: مظاهرها وقراءة في بعدها الاستراتيجي”، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد 15، دجنبر 2018.
– عمر أجة: ” دور المذهب المالكي في توسيخ العلاقات بين المغرب وافريقيا “، ضمن ” المغرب في محيطه الافريقي: المجالات والرهانات الاستراتيجية الجديدة “، منشرات مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية وجدة، ومعهد الدراسات الافريقية جامعة محمد الخامس، الطبعة الأولى 2017.
– محمد لحرير: ” استثمار القوة الناعمة المغربية وإدماجها في المحيط الافريقي والدولي “، مجلة الباحث للدراسات والأبحاث العلمية، العدد 72، أكتوبر 2024.
– محمد الكيحل: ” دبلوماسية القنصليات بالصحراء المغربية: الخلفيات والرهانات الجيو استراتيجية”، المجلة الالكترونية للدراسات القانونية والتنمية، العدد الأول، 2023، https://revues.imist.ma/index.php/REEJD/article/view/40321/20807
– Giulio M Gallarotti: « Soft power: what it is, why it’s important, and the conditions for its effective use», journal of political power, 2011.
– Joseph S. Nye: « Soft Power », Foreign policy, n° 80, this article draws from bis 1990 book, Bound to Lead: The changing Nature of American power », New York: Basic books, 1990,
– Severin Thetchoua Tchokonte: « La politique de puissance du Maroc en Afrique Subsaharienne », revue espace géographique et société marocaine, N° 19, 2017.
– Sophie Bava: « Al Azhar, scène renouvelée de l’imaginaire religieux sur les routes de la migration africaine au Caire», L’année du Maghreb, N° 11.
– Said Saddiki: « Morocco’s foreign policy treads on the shifting sands of Africa», Moroccan institute for policy analysis (MIPA.INSTITUTE), 2018, https://mipa.institute/humecel/uploads/2018/05/Saddiki-Moroccos-Foreign-Policy-Treads.pdf

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى