الاسم واللقب: سهام صديق.( عضوة بمخبر الدراسات الأورومتوسطية)
الرتبة العلمية : السنة الثانية دكتوراه ، تخصص القانون العام بكلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبوبكر بلقايد – تلمسان-، الجزائر.
مقدمة:
لقد رتبت جرائم الإبادة الجماعية خسائر بشرية فادحة للإنسانية على مر العصور، فهي ليست وليدة العصر الحديث، بل تعود إلى عصور قديمة من أشهرها ما قام به الإمبراطور الوثني ” دقليد يانوس” ضد المسيحيين، وكذا ما تعرض إليه المسلمون من اضطهاد على يد الأسبان بعد سقوط الأندلس ، وصولا إلى النتائج المدمرة الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، وقد كان استعمال هذا المصطلح لأول مرة بصفة رسمية في قرار الاتهام لمحكمة نورمبورغ الصادر في أكتوبر1945[1]، كما كانت فيما بعد موضع اتفاقية مبرمة في سنة 1948 ، و أصبحت سارية المفعول في سنة 1951 ، وانضمت إليها أكثر من 130[2]، ونصت أكثر من دولة 70 في تشريعاتها الداخلية على تجريم هذه الجريمة.
لذلك تثار الإشكالية حول ما المقصود بجريمة الإبادة الجماعية؟ وما أركانها؟ وما هي آليات مكافحتها؟
للإجابة على هذه الإشكالية سيتم التطرق في ورقة هذا البحث إلى : ماهية جرائم الإبادة الجماعية (المبحث الأول )، ثم أركان جريمة الإبادة الجماعية وآليات مكافحتها (المبحث الثاني ).
المبحث الأول: ماهية جريمة الإبادة الجماعية
تعتبر جريمة الإبادة الجماعية جريمة دولية وفقا لقواعد القانون الدولي، وتتنافى مع مبادئ وأهداف هيئة الأمم المتحدة ، وسنحاول في هذا المبحث دراسة تطور جرائم الإبادة الجماعية في القرن20 م( المطلب الأول )، ثم مفهومها( المطلب الثاني).
المطلب الأول: تطور جرائم الإبادة الجماعية في القرن20 م
باستقراء تاريخ البشرية يتضح لنا جليا أن آفة الإبادة الجماعية كانت تقع من حين إلى أخر، ولم تفلح الجهود السياسية والعسكرية لوضع حد لها، إلا أن الجرائم الواقعة في القرن 20م كانت أكثر فظاعة نظرا لتطور الأسلحة الفتاكة وكثرة الحروب واتساع مداها، ونذكر من بين هذه الجرائم على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
الفرع الأول : جرائم المحرقة
إن مصطلح ” الهولوكوست” يوناني الأصل ويعني ” الحرق تضحية من أجل الله” [3]، وتقابلها في اللغة العربية كلمة الحرق أو المحرقة .أما المعنى القانوني الاصطلاحي يشير إلى عمليات القتل المنظم والاضطهاد الذي قام به أدولف هتلر ضد مجموعة أو مجموعات عرقية ودينية بعينها كاليهود و الغجر والمعاقين والسود و الروس وبعض العرقيات في بولندا ، كما ارتكبت أعمال قتل منظمة على نطاق واسعة ضد مجموعات معينة بسبب انتمائهم السياسي كالشيوعيين و الاشتراكيين .
ولقد استخدم النظام النازي إلى عدة وسائل لإخفاء جرائمه كإنشاء السجون والمحتشدات و اللجوء إلى الحرق ، بالإضافة إلى ذلك تم ترحيل الأقليات المستهدفة قسرا إلى أماكن محددة مسبقا.
إلا أنه لم تسترح البشرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتحار أدولف هتلر من جسامة هذه الجريمة، وهو ما سيتم تبيانه في الفروع الموالية.
الفرع الثاني : جرائم الإبادة في يوغوسلافيا
لقد ظلت منطقة البلقان منطقة صراع دولية بين العديد من الدول لعدة قرون، وعلى وجه الخصوص بعد دخول الإسلام إليها، وتعتبر الحرب التي وقعت في يوغوسلافيا من أسوأ الحروب الواقعة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ، إذ نشبت هذه الحرب على اعتبارات عرقية ودينية بعد إعلان جمهوريتي البوسنة والهرسك استقلالهما في05 مارس1992 [4]، حيث بدأت كحرب أهلية لتتحول إلى جريمة إبادة فكانت الحصيلة جد ثقيلة ، ونذكر على سبيل المثال : أنه قتل في مدينة سيربيرنتشا أكثر من100000 مدني من مسلمي البوسنة معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
وهو الأمر الذي دفع بمجلس الأمن الدولي إلى إنشاء لجان تحقيق بموجب القرار780 الصادر بتاريخ 06أكتوبر1992[5] التي اتهمت المسؤولين الصربيين إلى انتهاك القانون الدولي الإنساني بسبب ارتكابهم جرائم الإبادة والحرب، وأيضا ضد الإنسانية ، مما أدى إلى إنشاء محكمة لمتابعة الجرائم المرتكبة في يوغوسلافيا بموجب القرار رقم808 الذي اتخذ بالإجماع الصادر في22 فبراير1993 من طرف مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة[6]. ولم تكتف هيئة الأمم المتحدة بإنشاء هذه المحكمة المؤقتة، بل دفعتها الجرائم الدولية وعلى رأسها جريمة الإبادة إلى إنشاء محكمة مؤقتة أخرى لرواندا، وهو ما سيتم تبيانه في الفرع الموالي.
الفرع الثالث : جرائم الإبادة الجماعية في رواندا
إن الصراع الداخلي الدائر في رواندا سرعان ما تحول إلى حرب أهلية عنيفة بين القوات الحكومية الرواندية وميليشيات الجبهة الوطنية الرواندية بسبب عدم السماح لبعض القبائل المشاركة في الحكم الذي كان بيد قبيلة الهوتو[7]، ومن القبائل الممنوعة كانت قبيلة التوتسي[8]، ليمتد النزاع إلى الدول المجاورة لرواندا المعروفة بدول ” البحيرات الكبرى”[9] .
ليزداد الوضع سوءا بعد تحطم طائرة الرئيسين الرواندي و البرواندي في06 أفريل 1994، لتتحول أعمال العنف إلى أعمال إبادة تجري بشكل منظم ضد قبيلة التوتسي ، حيث راح ضحية هذه الحرب أكثر من مليون قتيل معظمهم من قبيلة التوتسي .
المطلب الثاني : مفهوم جريمة الإبادة الجماعية
يتطلب التطرق إلى مفهوم جريمة الإبادة الجماعية دراسة كل من تعريفها ( الفرع الأول)، وخصائصها( الفرع الثاني).
الفرع الأول : تعريف جريمة الإبادة الجماعية
يقابل مصطلح ” إبادة الجنس” باللغة الفرنسية كلمة “Génocide”[10]، والتي تجمع بين كلمتين يونانيتين وهما “Génos” معناها الجنس و”Cide” معناها القتل ، أي تعني ” قتل الجنس” ، فاختيار كلمة “إبادة” بدل من كلمة ” إفناء” والتي يقصد بها ” Extermination”[11] ، يأتي للدلالة على قتل عدد كبير من الناس ، ومنه نستنتج أن الترجمة مأخوذة من المعنى وليس اللفظ.
ويعود الفضل في استخدام هذا المصطلح إلى الفقيه البولوني “Raphael Lemkein”[12] ، والذي ركب بين الكلمتين في سنة 1933، كما أطلق عليها تسمية ” جريمة الجرائم” [13]، حيث عرفها أنها: ” كل من يشترك أو يتآمر للقضاء عل[14]ى جماعة وطنية بسبب يتعلق بالجنس أو اللغة أو الدين أو يعمل على إضعافها أو يعتدي على حياة أو حرية أو ملكية أعضاء تلك الجماعة يعد مرتكبا لجريمة إبادة الجنس” .[15] كما عرفها الفقيه “Graven” بأنها: ” إنكار حق الجماعات البشرية في الوجود، وهي تقابل القتل الذي هو إنكار حق الفرد البشري في البقاء” [16].
كما يرى الأستاذ “Doufaber” أن” لهذه الجريمة عدة مظاهر، وهي:
- إبادة جسدية: من خلال الاعتداء على حق الحياة وعلى السلامة الجسدية
- إبادة بيولوجية: من خلال منع النمو الطبيعي للجماعة
- إبادة ثقافية: كتحريم لغة وثقافة جماعة ما”.
ونظرا لخطورة هذه الجريمة و مساسها بأهم الحقوق الإنسانية المتمثل في حق الحياة، بدأ المجتمع الدولي بالتحرك لتجريمها و معاقبة مرتكبيها في النصف الثاني من القرن20 م، حيث تقدمت كل من وفود الهند، بنما، كوبا أثناء انعقاد الدورة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة 1946 باقتراح يدعو المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى دراسة جريمة الإبادة الجماعية ومدى إمكانية إدراجها ضمن الجرائم الدولية، وقد أحالت الجمعية العامة هذا الاقتراح للجنة القانونية، والتي وافقت بالإجماع عليه، وذلك بعد إدخال تعديلات عليه.
وتواصلت الجهود الدولية لتجريم هذه الجريمة، حيث بتاريخ 09 ديسمبر1948 أقرت الجمعية العامة اتفاقية منع الإبادة الجماعية والعقاب عليها، والتي أصبحت سارية المفعول بتاريخ 12يناير1951[17]، وتتكون هذه الاتفاقية من ديباجة و 19مادة[18] .
ونصت ديباجة هذه الاتفاقية على أن جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة دولية طبقا لقواعد القانون الدولي تتنافى مع روح و أهداف الأمم المتحدة والعالم المتمدن، كما نصت المادة الأولى من هذه الاتفاقية على تجريم الأفعال التي ترمي إلى إبادة الجنس البشري سواء ارتكبت أثناء الحرب أو السلم، كما أن قواعد هذه الاتفاقية ذات طبيعة آمرة وليست من قبيل الالتزامات المتبادلة.
ولقد عرفت المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية جريمة الإبادة بأنها: ” تعني الإبادة أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكا كليا أو جزئيا:
- قتل أفراد الجماعة
- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة
- إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا
- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب ذاخل الجماعة
- نقل أطفال جماعة عنوة إلى جماعة أخرى”[19].
ويلاحظ أن مفهوم الإبادة في هذه المادة يتطابق مع المفهوم الذي أتت به الاتفاقية الدولية لمنع إبادة الجنس، في حين انتقد الفقه تصنيفات الجماعات البشرية إلى ” قومية” و ” عرقية” و” أثنية” و ” دينية” ، و أعتبره تصنيف غامض وقاصر كونه يعتمد على الأنتروبولوجيا و عامل الوراثة لتمييز بين الجماعات، ومهملا العوامل الجغرافية والاقتصادية والسياسية التي لها دور في تكوين الجماعات البشرية[20].
أما فيما يخص تعريف كل مجموعة من المجموعات المذكورة أعلاه ، لقد سعى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا إلى وضع ذلك، ويقصد بالمجموعة الدينية بأنها من يتقاسم أعضاؤها الدين ذاته والمعتقد ذاته أو الممارسات و الشعائر ذاتها، أما المجموعة الأثنية فهي من يتقاسم أعضاؤها لغة وثقافة مشتركة، في حين أن مجموعة قومية هي مجموعة من الأشخاص لهم علاقة قانونية تعتمد على المواطنة المشتركة، وفي الأخير يقصد بالمجموعة العرقية هي التي تعتمد على الخصائص الجسمانية الوراثية المشتركة[21].
وفي الأخير، من خلال التعريفات المختلفة لجريمة الإبادة الجماعية نجد أنها تتميز بمجموعة من الخصائص، وهو ما سيتم التطرق إليه في الفرع الموالي.
الفرع الثاني : خصائص جريمة الإبادة الجماعية
تتميز جريمة الإبادة الجماعية عن بقية الجرائم الدولية بمجموعة من الخصائص أهمها:
- أولا: جريمة الإبادة الجماعية هي دولية بطبيعتها، حتى وإن قامت بها حكومة وطنية ضد طائفة أو مجموعة معينة من الشعب الذي تحكمه [22].
- ثانيا: جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة مستقلة بذاتها تقع في زمن السلم أو الحرب على حد السواء، ولابد من أن تستهدف طائفة معينة بغرض القضاء عليها كليا أو جزئيا.
- ثالثا: تعتبر المحاكم الجنائية الدولية مكملة لاختصاص المحاكم الوطنية، فإن محاكمة مرتكبي هذه الجريمة بالذات يتم أمام المحاكم الجنائية الدولية و ليس الوطنية، وذلك لأن معظم مرتكبو هذه الجرائم هم رؤساء الدول و حكومات، مما يستحيل محاكمتهم وطنيا نظرا للوزن السياسي الذي يتمتعون به.
- رابعا: تتميز جريمة الإبادة الجماعية بالصفة الجماعية للضحايا الذين ينتمون إلى جماعة معينة، في حالة وقعت أفعال إبادة ضد فرد واحد أو عدة أفراد لا ينتمون لجماعة واحدة ، فلا يعتبر ذلك جريمة إبادة جماعية
- خامسا: لا تعتبر الإبادة الجماعية من قبيل الجرائم السياسية ، وبالتالي يجوز بشأنها تبادل المجرمين بين الدول.
- سادسا: لم تنص اتفاقية إبادة الأجناس على الأفعال التي ترتكب لإبادة جماعة سياسية[23]، وكذلك لم تتحدث عن الإبادة الثقافية لجماعة معينة.
و في الأخير، كخلاصة لهذا المبحث نجد أن من خلال التطور الذي عرفته جريمة الإبادة الجماعية ، وكذا المفاهيم التي وضعت لها، الأمر الذي يتطلب تحديد أركانها بدقة و تبيان آليات مكافحتها، وهو ما سيكون موضوع الدراسة في المبحث الموالي.
المبحث الثاني : أركان جريمة الإبادة الجماعية وآليات مكافحتها
سيتم التطرق في هذا المبحث إلى أركان جريمة الإبادة الجماعية ( المطلب الأول)، ثم آليات مكافحتها ( المطلب الثاني).
المطلب الأول : أركان جريمة الإبادة الجماعية
إن البنيان القانوني لجريمة الإبادة الجماعية يقصد به الأركان التي تقوم عليها هذه الجريمة ، وتتمثل في الركن المادي والركن المعنوي والركن الدولي، وهذا ما سنحاول تبيانه في الفروع الثلاث الآتية:
الفرع الأول : الركن المادي
يشمل الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية النشاط أو السلوك الخارجي الذي ينص القانون الدولي على تجريمه ومعاقبة مرتكبوها[24] سواء كان إيجابيا أو سلبيا بشرط يؤدي إلى النتيجة التي يؤثمها القانون الدولي الجنائي ، وتشمل الأفعال التي تشكل السلوك الإجرامي لهذه الجريمة فيما يلي:
أولا: قتل أفراد الجماعة القومية: يقصد به وقوع قتل جماعي وإن كان لا يشترط وصول عدد القتلى إلى عدد معين، فلا تقع هذه الجريمة إذا وقع القتل على عضو معين من أعضاء الجماعة ايّا كان مركزه ، حتى و إن كان زعيم الجماعة، كما لا يشترط لتحقق الجريمة أن يؤدي القتل إلى القضاء على الجماعة بصفة كلية ، فقد تكون الإبادة كلية أو جزئية[25]، وأيضا لا يهم على من يقع القتل سواء رجال أو نساء أو أطفال.
ثانيا: إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأعضاء الجماعة: لقد أثار هذا الفعل إشكالات في نقاشات مؤتمر روما حول تحديد حجم الضرر المادي والعقلي حتى يعتبر من قبيل أفعال الإبادة ، ليتم الاتفاق في الأخير على أن هذا الفعل ينطوي على كل صور الضرر المادي أو المعنوي التي تؤثر بشكل خطير على سلامة الجسم والعقل، مما يهدد بتدمير الجماعة [26]، ومن أمثلة ذلك: استخدام وسائل التعذيب التي يترتب عليها عاهات مستديمة كبتر الأطراف أو التشويه أو الإصابة بالجنون أو الأمراض العصبية، مما يحول الفرد إلى عديم الفائدة داخل الجماعة، ويعتبر هذا النوع من الأفعال بالإبادة البطيئة نظرا لعدم نتائجها فورا كالقتل.
ثالثا: إخضاع الجماعة لظروف و أحوال معيشية قاسية بقصد إهلاكها أو تدميرها الفعلي كليا أو جزئيا: هذا الفعل يشترك مع سابقه في أنه يشكل إبادة بطيئة، ويتم من خلال وضع الجماعة في ظروف و أحوال معيشية قاسية يترتب عليها أجلا أم عاجلا فناء الجماعة كليا أو جزئيا، ويتم من خلال حرمان الجماعة من الموارد الأساسية للحياة كالماء أو الغذاء أو الدواء أو إجبار الجماعة على العيش في ظروف جغرافية قاسية يكون لها نفس النتيجة السابقة.
رابعا: فرض تدابير ترمي إلى منع أو إعاقة النسل داخل الجماعة: ينطوي هذا الفعل على إبادة “بيولوجية “[27] للجماعة، فالغرض من التدابير التي تمنع الجماعة من الإنجاب هو منع استمرارها عن طريق التوالد، وذلك من خلال منع الزواج أو التسبب في عقم الرجال والنساء أو الإجهاض.
خامسا: نقل أطفال الجماعة عنوة وقهرا من جماعتهم إلى جماعة أخرى : يدخل هذا الفعل ضمن أعمال الإبادة، وذلك لأنه يقضي على تعاقب الأجيال داخل الجماعة ويؤثر على استمرارها لأنه ويحول دون اكتساب الأطفال لغة وثقافة آبائهم، و لا يهم إن كانت الجماعة التي ستستقبلهم سوف توفر لهم الرعاية أم لا.
وفي الأخير، إن توفر الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية لا يكفي لقيام هذه الجريمة، بل لا بد من استكمال بقية الأركان، وهو ما سيتم التطرق إليه في الفرعيين المواليين.
الفرع الثاني : الركن المعنوي
تعتبر جريمة الإبادة الجماعية جريمة عمدية يشترط لقيامها توافر القصد الجنائي العام المتمثل في العلم والإرادة، إذ لا مجال للخطأ في هذا النوع من الجرائم ، بالإضافة إلى القصد الخاص المتمثل في ” قصد الإبادة” .
إذ يقصد بالقصد العام في هذه الجريمة أن يعلم الجاني أن فعله ينطوي على قتل أو تحقيق أدى جسدي أو عقلي جسيم ، ويقع على مجموعة ترتبط بروابط قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية وانصراف إرادته إلى ذلك الفعل. أما القصد الخاص في هذه الجريمة يتمثل في” قصد الإبادة “[28] أي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة معينة، ونية التدمير هو ما يميز جريمة الإبادة عن غيرها من الجرائم ، ودون ذلك لا مجال للحديث عن الإبادة الجماعية مهما بلغت درجة خطورة الأفعال المرتكبة ضد الأشخاص.
ولقد أثارت هذه النية جدالا فقهيا بين الفقهاء ، مما أدى بهم إلى الوصول إلى فكرة ” العامل النفسي”[29] ، الذي تمثل العلاقة النفسية بين مرتكب الجريمة و النتائج التي أحدثتها أفعاله و إن كانت النية صعبة الإثبات، إلا أنه توصلت المحكمة الجنائية لرواندا إلى إثبات النية من خلال الظروف المحيطة بالجريمة.
وجدير بالذكر، يستوي أن يكون مرتكب هذه الجريمة فاعلا أو شريكا أو محرضا و لا اعتبار للحصانة أو الصفة الرسمية لمرتكبها وهنا تقوم مسؤولياتهم مسؤولية تامة. وهذا راجع لكون الجريمة دولية مما يتطلب توفر الركن الدولي، لذلك يثار التساؤل حول المقصود به؟
وهو ما سيتم الإجابة إليه في الفرع الموالي.
الفرع الثالث : الركن الدولي
يقصد بالركن الدولي في جريمة الإبادة الجماعية ارتكاب هذه الجريمة بناء على خطة مرسومة من الدولة ينفذها المسؤولين الكبار فيها أو بتشجيع أناس عاديين على تنفيذها ضد مجموعة قومية أو عرقية أو أثنية أو دينية، كما لا يشترط في الضحايا أن يكونوا تابعين لدولة أخرى، بل بالإمكان أن يكونوا تابعين لذات الدولة، ذلك لأن معاملة الدولة لرعاياها لم تعد سلطة مطلقة بلا قيود[30]، وأخيرا هذه الجريمة قد تقع في زمن الحرب أو السلم.
وكخلاصة لهذا المطلب نجد أن توفر كل من الركن المادي والمعنوي والدولي يؤدي إلى قيام جريمة الإبادة الجماعية، مما يتطلب مكافحتها بالطرق القانونية، وما سيكون موضوع البحث في المطلب الثاني.
المطلب الثاني : إجراءات مكافحتها قانونيا
إن مكافحة هذه الجريمة يتم عن طريق تقرير المسؤولية الجزائية لمرتكبيها ومعاقبتهم أمام المحاكم الجنائية الدولية، وهو ما سنحاول تسليط الضوء عليه في هذا المطلب من خلال دراسة الإجراءات المتبعة في المحاكم الجنائية المؤقتة ( الفرع الأول)، ثم الإجراءات المتبعة في المحكمة الجنائية الدولية ( الفرع الثاني).
الفرع الأول : الإجراءات المتبعة في المحاكم الجنائية المؤقتة
وضعت المحاكم الجنائية المؤقتة لما بعد الحرب العالمية الثانية عدة إجراءات لمكافحة هذه الجريمة، كما حاولت المحاكم المؤقتة لرواندا ويوغوسلافيا ردع مرتكبي هذه الجريمة ، وهو ما سيتم التطرق إليه بالتفصيل على النحو الأتي:
أولا : الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الجنائية لما بعد الحرب العالمية الثانية:
بعد استسلام ألمانيا و اليابان اختلف الحلفاء فيما بينهم بشأن مرتكبي الجرائم، فكان رأي البعض يتجه إلى عدم الالتجاء إلى المحكمة والاكتفاء بإصدار قرار مشترك يعتبر مجرمي الحرب خارجين عن القانون، بينما ذهب رأي ثاني إلى إقامة محكمة عسكرية وعادلة ، وهذا ما تبنته اتفاقية لندن في أوت التي كانت نواة تأسيس محكمة ” نورمبورج” لمحاكمة المجرمين الذين ارتكبوا الجرائم في أوروبا، وتبعتها محكمة طوكيو التي أقيمت لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين
- محكمة نومبورج لمحاكمة مجرمي الحرب الألمان: لقد قسمت اتفاقية تأسيس المحكمة الجرائم إلى ثلاثة أنواع تتمثل في:
- مخالفة القوانين وإعلان الحرب.
- الجرائم ضد السلام[31] كإثارة الحرب ومباشرتها.
- الجرائم ضد الإنسانية كالإبادة والاسترقاق والاضطهاد.
ولقد عرض عليها متهما22 من أصل24، ووجهت لهم عدة تهم من بينها تهمة الإبادة الجماعية و حكمت على من القادة النازيين بالإعدام أمثال المارشال ” هرمان” ، والقائد العام لسلاح الطيران ” وفون وينيثروب” ، كما قضت بالسجن المؤبد على ” رودولف هس” الذي انتحر سنة 1987.
- محكمة طوكيو: في19 يناير1946 أصدر القائد العام لقوات الحلفاء ” ماك أثر” قرار بإنشاء المحكمة وتختص بنفس الجرائم التي تنظر إليها محكمة ” نومبورغ” ، إلا أنه لم تتضمن لائحة اتهام المتهمين جرائم ضد الإنسانية ، ويرجع السبب في ذلك تدخل وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية التي هي نفسها اتهمت بارتكاب هذه الجرائم ضد اليابانيين حيث اتهمت بإبادتهم عمدا.
ثانيا : محكمتي يوغوسلافيا ورواندا: كما تم ذكره سابقا، أنشئت نتيجة للصراعات والحروب الداخلية هاتين محكمتين لمتابعة ومعاقبة المجرمين.
- محكمة يوغوسلافيا : اختصت هذه المحكمة موضوعيا بمتابعة مرتكبي الجرائم التي خرقت اتفاقيات جنيف الأربعة ، وكذلك الجرائم الخاصة بخرق قوانين أو أعراف الحرب، وكذلك جرائم الإبادة و جرائم ضد الإنسانية، وتتمتع أحكام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا بحجية مطلقة أمام المحاكم الوطنية.
- محكمة رواندا: طبقا للمادتين3 و4 من النظام الأساسي لمحكمة رواندا تختص المحكمة بمتابعة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الإبادة وضد الإنسانية التي تشكل خرقا للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف ، وكذلك البروتوكول الإضافي الثاني.
وقد بدأت هذه المحكمة جلساتها في يناير، وكان أول حكم صادر عنها ضد رئيس الوزراء السابق لرواندا ” جون كمبادا”[32] ، حيث حكمت عليه بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم الإبادة الجماعية ، كما قضت بإدانة عدة مسؤولين روانديين بعقوبة السجن لمدد مختلفة لارتكابهم جرائم دولية خاصة جريمة الإبادة.
وفي الأخير، إن مكافحة هذه الجريمة من خلال الإجراءات المنتهجة في المحاكم المؤقتة لا يحقق الفعالية المرجوة لكون هذه المحاكم مقيدة بمدة زمنية معينة، لذلك كان من الضروري اعتبار جريمة الإبادة الجماعية تدخل ضمن اختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية لتحقيق الردع مرتكبي هذه الجريمة، مما يطرح التساؤل حول ماهي الإجراءات الرادعة التي قررتها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؟. وهو ما سيتم تبيانه في الفرع الموالي.
الفرع الثاني : الإجراءات المتبعة أمام المحكمة الجنائية الدولية
طبقا للمادة 77من الباب الرابع للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة1998 عند معاقبة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا الأخير يجب مراعاة الظروف الشخصية للمتهم و جسامة الجريمة[33]، كما يجب خصم المدة التي قضاها المتهم في السجن المؤقت من المدة الأصلية للعقوبة ، وفي حالة صدور أحكام بالإدانة في عدة الجرائم تصدر المحكمة حكما مشتركا يحدد مدة السجن الإجمالية[34].
وتتمثل هذه العقوبات في عقوبات سالبة للحرية وعقوبات مالية.
- عقوبات سالبة للحرية : وتنقسم بدورها إلى قسمين:
- السجن المحدد لعدد من السنوات لفترة أقصاها30 سنة.
- السجن المؤبد وهذا بالنظر للخطورة البالغة للجريمة والظرف الخاص بالشخص المدان.
وما يمكن ملاحظته هو استبعاد عقوبة الإعدام، وذلك تماشيا مع سياسية الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان الرامية إلى إلغاء هذه العقوبة في القوانين .
- عقوبات مالية :
تشمل العقوبات المالية بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في الغرامات والمصادرة
- فرض الغرامات : طبقا للقاعدة الإجرائية تقوم المحكمة بتحديد الغرامة و تأخذ بعين الاعتبار ما يلي[35] :
- صدور أوامر المصادرة أو التعويض.
- البحث إذا كان الباعث وراء ارتكاب الجريمة هو الكسب المالي أولا.
- يجب أن لا تتجاوز قيمة الغرامة نسبة من قيمة الأصول التي هي بحوزة المتهم.
- يتم حساب الغرامات وفقا لنظام الغرامات اليومية على أن لا تقل المدة عن يوما ولا تتجاوز سنوات.
- في الأخير، عند عدم تسديد الغرامة تمدد فترة الحبس لمدة لا تتجاوز ربع مدة السجن المحكوم بها أو سنوات.
- صدور أوامر بالمصادرة : حيث تأمر المحكمة بمصادرة العائدات و الممتلكات الناشئة بصورة مباشرة أو غير مباشرة من تلك الجريمة، دون المساس بالأطراف الثالثة حسنة النية [36].
وفي الأخير، إن العقوبات المقررة لمرتكبي جريمة الإبادة الجماعية اعتبرها البعض من الفقه أنها غير صارمة خصوصا أن المحكمة الجنائية الدولية لم ينص نظامها الأساسي على عقوبة الإعدام وهو ما يؤدي إلى عدم تحقق الردع الكاف لمرتكبي هذه الجريمة.
الخاتمة :
بالرغم من وجود اتفاقية منع الإبادة الجماعية والتي تعتبر ملزمة لجميع الدول الأطراف ، إلا أنها فشلت في منع هذه الجريمة، حيث انتشرت في عدة مناطق من العالم، وذلك بسبب عدم تبيان هذه الاتفاقية آليات العقاب عليها وآليات منعها قبل وقوعها، من أجل هذا حاولت المحكمة الجنائية الدولية ملئ الفراغ ومعاقبة مرتكبي هذه الجريمة ، وإن كانت مهمة هذه المحكمة صعبة وتواجهها عدة عراقيل بسبب عدم انضمام كل الدول إليها من خلال عدم التوقيع والمصادقة على نظامها الأساسي ، وهو ما يظهر جليا من خلال الأحداث الواقعة على سبيل المثال في إفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية.
[1] أنظر، عبد العزيز العشاوي، أبحاث في القانون الدولي الجنائي، دار الهومه، الجزائر، 2004، ص.166.
[2] أنظر، www.mandaeanunion.org
[3] George ANDREOPOULOS, Genocide conceptual and historical dimensions, U.O.P.P, United States of America, 1994, p.06.
[4] أنظر، عمر سعد الله، معجم القانون الدولي المعاصر، ط1، د.م.ج، الجزائر، 2005، ص.390.
[5] www.unric.org.
[6] www.unric.org.
[7] Jean – pierre CHEREIEN, Rwanda les médias du génocide, Karthala, France, 1995, p.68.
[8] تشكل قبيلة الهوتو نسبة 85% من السكان، أما التوتسي فهي تشكل نسبة 14% ، أما قبيلة التوا تمثل نسبة 1% للمزيد راجع:
Jean Damasiene BIZIMANA, L’ Eglise et la génocide au Rwanda, L’Harmattan , France, 2001, p.09.
[9] أنظر، باية سكاكني، العدالة الجنائية الدولية ودورها في حماية حقوق الإنسان، دار الهومه، الجزائر، 2004، ص.82.
[10] أنظر، لنده معمر يوشي، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة واختصاصاتها، دار الثقافة، الأردن، 2008، ص.181.
[11] أنظر، محمد عبد المنعم عبد الغني، الجرائم الدولية – دراسة في القانون الجنائي الدولي-، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2007،ص.594.
[12] Jaques SEMELIN, Du massacre au processus génocidaires. www.ceri- sciences-po.org.
[13] Macro Aurelio RIVELLI, Le génocide occulté, Suisse, 1998, p.10.
[15] محمد عبد العزيز عبد الغني ، مرجع سابق، ص.595.
[16] المرجع السابق، ص.595.
[17] أنظر، علي عبد القادر القهوجي، القانون الدولي الجنائي، ط1، دار الحلبي، لبنان، 2001، ص.129.
[18] www.unric.org
[19] أنظر، نبيل صقر، وثائق المحكمة الجنائية الدولية، دار الهدى، الجزائر، 2007، ص.40.
[20] لنده معمر يوشي، مرجع سابق، ص.185.
[21] www.unric.org.
[22] أنظر، منتصر سعيد حموده، المحكمة الجنائية الدولية، دار الجامعية، مصر 2006، ص.106.
[23] المرجع السابق، ص.107.
[24] منتصر سعيد حموده، مرجع سابق، ص.109.
[25] علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص.130.
[26] لنده معمر يؤشي، مرجع سابق، ص.188.
[27] علي عبد القادر القهوجي، مرجع سابق، ص.133.
[28] عبد القادر القهواجي، مرجع سابق، ص.137.
[29] لنده معمر يوشي، مرجع سابق،ص.191.
[30] منتصر سعيد حموده، مرجع سابق، ص.113.
[31] يقصد بجريمة ضد السلام كل تدبير أو تحضير أو إثارة أو إدارة أو متابعة حرب اعتداء أو حرب مخالفة للمعاهدات والاتفاقات والمواثيق الدولية.
[32] محمد غلاي، إجراءات التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، مذكرة ماجستير في القانون العام، كلية الحقوق، جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان-، الجزائر،2004 -2005، ص.258.
[33] أنظر، نبيل صقر، وثائق المحكمة الجنائية الدولية، دار الهومه، الجزائر، 2007، ص.104.
[34] أنظر، رقية عواشرية، نحو محكمة جنائية دولية دائمة، مجلة الدراسات والبحوث القانونية، مجلة شهرية، دار القبة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2005 ،ع.05، ص.30.
[35] نبيل صقر، مرجع سابق، ص.212.
[36] نبيل صقر، مرجع سابق، ص.214.