جريمة التحايل في مسطرتي التعدد والتبليغ بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة – نهيلة الضامن
جريمة التحايل في مسطرتي التعدد والتبليغ بين القانون الجنائي ومدونة الأسرة
نهيلة الضامن -. باحثة في قانون الأسرة
مقدمة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضي”[i]، و على نفس المبدأ سارت معظم التشريعات، وهذا هو الحال أيضا بالنسبة للمشرع المغربي، حيث يعتبر تبليغ أطراف النزاع و استدعائهم إجراءا مسطريا جوهريا مرتبط بالنظام العام، و ذلك تحقيقا لمبدأ التواجهية في الخصومة. وقد أولى المشرع المغربي إهتماما كبيرا بإجراءات التبليغ، و ذلك لضمان حضور أطراف الدعوى و سماع إدعاءاتهم و حججهم، و إتاحة إمكانية دفاعهم عن أنفسهم.
و نظرا لخصوصية المسطرة في القضايا الأسرية، فقد أولى المشرع إهتماما أكبربالتبليغ، و يتمثل أساسا من خلال تأكيده على التوصل الشخصي للأطراف بالإستدعاءات، خصوصا في قضايا التعدد، و الطلاق. واعتناءا منه بهذا الإجراء الجوهري خوّل المشرع للمحكمة الإستعانة بالنيابة العامة لضمان التوصل بالإستدعاء، و ذلك من خلال تدخلها لإخطار الزوجة بإلزامية حضورها للجلسات، إضافة إلى تدخلها للبحث عن الزوجة مجهولة العنوان.
و من جهة أخرى، تنعكس غاية المشرع في الحفاظ على مبدأ التواجهية من خلال الإجراءات المتعلقة بالتعدد، حيث إن إستدعاء الزوجة المراد التزوج عليها يتميز بنفس الخصوصية التي منحها المشرع لإجراءات التبليغ المتعلقة بالطلاق .
إلا أنه في بعض الأحيان صعوبة أو إستحالة إتمام إجراءات التبليغ لا تكون بمحض الصدفة، فكثيرا ما تتجه نية الزوج أو الطرف الآخر في النزاع عموما لمنع إستدعاء الطرف المعني للمحكمة، ظنا منه أن هذا يعفيه من التواجه و يحقق مطالبه بسهولة، و ذلك عن طريق التحايل على المحكمة، و ينعكس هذا التحايل من خلال تقديم بيانات غير صحيحة كإعطاء عنوان غير صحيح أو تحريف إسم الطرف المستدعى، مما يؤدي إلى إستعصاء أو إستحالة إتمام إجراءات التبليغ.
وفطنة من المشرع، فقد أحال من خلال مواد مدونة الأسرة المتعلقة بالتبليغ على أحكام القانون الجنائي، حيث جاء في الفقرة الثالثة من المادة 43 من مدونة الأسرة[ii] :
“إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالإستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة، تطبق على الزوج العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة.” و عبر عن نفس الإتجاه أيضا من خلال الفقرة الرابعة من المادة 81 من مدونة الأسرة، و التي جاء فيها : “إذا تبين أن عنوان الزوجة مجهول، إستعانت المحكمة بالنيابة العامة للوصول إلى الحقيقة، و إذا ثبت تحايل الزوج، طبقت عليه العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة.”
و من تمّ، فحفاظا على خصوصية المسطرة الأسرية و ضمانا لحقوق الأطراف، ربط المشرع تحايل الزوج في تبليغ الزوجة بعقوبة جنائية.
و جريمة التحايل غير حبيسة أساسا في التبليغ، حيث تتعدد صور التحايل في النـــــــــزاعـــــــــــــات الأسرية، و من بين هذه الصور التحايل في الحصول على الإذن بالتعدد ، أو سلوك مســـــطرة التعدد عامة. إلا أن المشرع الأسري لم يحل صراحة على نصوص القانون الجنائي كما فــعل بخصوص التحايل في مسطرة التبليغ، و بالرغم من ذلك فليس هناك ما يمنع من المتابعــــة في هذه الحالة. و هذا من بين المواضيع التي سوف يتم الإشارة لها في صلب البحث إضافــة إلى التحايل في التبليغ.
- أهمية البحث :
يعكس هذا البحث أهمية بالغة تتمثل أساسا في تسليط الضوء على هذا النوع من الجرائم الأسرية، و التحسيس بخطورتها و عقوبتها.
و من جهة أخرى تتمثل أهمية البحث الذي بين أيدينا في إبراز التقاطع بين مدونة الأسرة و القانون الجنائي، و كذا التكامل بينهما، و مدى نجاعة الإحالة على القانون الجنائي من خلال نصوص مدونة الأسرة.
إضافة إلى إبراز الخصوصية الموضوعية و الإجرائية التي تتميز بها جرائم الأسرة التي أحالت المدونة على عقوبتها.
- منهج البحث :
اعتمدنا أثناء إنجازنا لهذا البحث على منهجين أساسييتن، يتمثل الأول في المنهج التحليلي، و ذلك من خلال تحليل النصوص القانونية و تفكيكها و التمعن في جزئياتها. بالإضافة إلى المنهج الإستدلالي و ذلك من خلال النظر و التأمل في مجموعة من النصوص القانونية والأحكام القضائية و الإستنتاج بناءا عليها.
- إشكالية البحث :
يعتبر التحايل في التبليغ و سلوك مسطرة التعدد من جرائم الأسرة الدفينة في المجال الجنائي الأسري، و ذلك نظرا لقلّتها في الواقع العملي، حتى أن قراءتها في حدود النص تبدو بسيطة للوهلة الأولى، و لكن بالتمعن في النصوص التي تناولت هذه الجزئية نجد أن مواد مدونة الأسرة التي أحالت على نصوص مجموعة القانون الجنائي قليلة و معدودة، و لاشك أن هذه الإحالة هي بمثابة خصوصية تميزت بها تلك الجرائم، و هو ما يدفعنا للتساؤل بالخصوص عن درجة هذه الخصوصية، و مدى إنسجام نصوص مدونة الأسرة مع نصوص القانون الجنائي التي أحالت عليها، و هذا ما يمكننا صياغته على شكل سؤال مركزي مفاده ماهي الخصوصية الموضوعية و الإجرائية التي تتميز بها جريمة التحايل في التبليغ والتحايل في سلوك مسطرة التعدد؟
- خطة البحث :
بغية الإجابة عن الإشكالية أعلاه و احتراما للتقسيم الثنائي، ارتأينا تقسيم البحث إلى مطلبين أساسيين، و ذلك على الشكل التالي :
المطلب الأول : الإطار العام لجريمة التحايل في النزاعات الأسرية
المطلب الثاني : الخصوصية الموضوعية و الإجرائية لجريمة التحايل في النزاعات الأسرية
المطلب الأول : الإطار العام لجريمة التحايل في النزاعات الأسرية
إن الخوض في موضوع التحايل في التبليغ و الخصوصية التي تميزه باعتباره مرتبط بالقضايا الأسرية يفرض علينا أولا الإحاطة بإطاره العام، و ذلك من خلال تحديد مفهومه و نطاقه وكذا صوره، إضافة إلى تأطيره القانوني في الجانبين الأسري و الجنائي.
لذلك إرتأينا التطرق في الفقرة الأولى من هذا المطلب إلى التطرق للتحايل في التبليغ باعتباره من أهم صور التحايل في النزاعات الأسرية، ثم المرور إلى التحايل في سلوك مسطرة التعدد على مستوى الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى : التحايل في التبليغ
هي مركب من مفهومين، التحايل و التبليغ ، و المقصود بالتحايل لغة المكر و الخديعة[iii]، أما اصطلاحا فهو قيام الجاني بفعل يخدع به المجني عليه للحصول على مصلحة[iv].
و قد ورد الاحتيال في جرائم النصب على أنه التصريح بتأكيدات خادعة أو إخفاء وقائع صحيحة أو استغلال ماكر لخطأ وقع فيه الغير.
أما التبليغ فهو إيصال أمر أو واقعة ثابتة إلى شخص معين[v]
و منه فإن المقصود بالتحايل في التبليغ في النزاعات الأسرية، استعمال أحد الأطراف بسوء نية لوسائل من شأنها تعطيل أو منع إستدعاء الطرف الآخر للحضور أمام القضاء للتعبير عن نفسه و الدفاع عن حقوقه.
كان هذا المقصود بالتحايل في التبليغ في النزاعات الأسرية عامة، إلا أن ما نحن بصدد مناقشته هو جزء من الكل، حيث سنختص بالنقاش حول التحايل في التبليغ في طلب التعدد والطلاق. و يتم ذلك عن طريق استعمال أحد الأزواج لطرق إحتيالية تحول دون تبليغ الزوج الآخر، و يهدف هذا الفعل إلى منع أحد الأزواج للطرف الآخر من الحضور ظنّا منه أن هذا الغياب سيمكنه من عرض حججه دون إعتراض الطرف الآخر و بالتالي حصوله على حكم أفضل، و غالبا ما يتم ذلك من خلال إعطاء عنوان قديم أو إدعاء عدم معرفة العنوان الحالي[vi].
فكما هو معلوم فإن هذا النوع من القضايا يكتسي خصوصية في التبليغ، فبالرجوع إلى القواعد العامة للتبليغ نجد على أن الفصل 38 من قانون المسطرة المدنية[vii] ينص على أن الإستدعاء يسلم إلى الشخص نفسه أو في موطنه، أو في محل عمله، أو في أي مكان آخر يوجد فيه، ويجوز أن يتم التسليم في الموطن المختار. بما معناه أنه يمكن للأغيار المتواجدين بمكان التسليم كأقارب المعني بالأمر أو خدمه أن يتسلموا الإستدعاء قصد تبليغه للمعني بالأمر، إلا أن قضايا التعدد و الطلاق تستوجب التوصل الشخصي للمعني بالأمر و حضوره، فباستقراء المادة 43 من مدونة الأسرة و التي تنص على أنه “تستدعي المحكمة الزوجة المراد التزوج عليها للحضور. فإذا توصلت شخصيا و لم تحضر أو امتنعت من تسلم الاستدعاء، توجه إليها المحكمة عن طريق عون كتابة الضبط إنذارا تشعرها فيه بأنها إذا لم تحضر في الجلسة المحدد تاريخها في الإنذار فسيبت في طلب الزوج في غيابها.
كما يمكن البث في الطلب في غيبة الزوجة المراد التزوج عليها إذا أفادت النيابة العامة تعذر الحصول على موطن أو محل إقامة يمكن استدعاؤها فيه.
إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة، تطبق على الزوج العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة.”
و منه فإن الإستدعاء المنصوص عليه يجب أن يكون شخصيا، بخلاف القواعد العامة للتبليغ، و هذا يعني أنه لكي يكون الإستدعاء سليما من الناحية القانونية لابد أن تتوصل الزوجة بصفة شخصية.[viii]
و نفس الشيء فيما يخص استدعاء الزوجة لمحاولة الإصلاح في الطلاق، حيث ورد في المادة 81 من مدونة الأسرة “…إذا توصلت الزوجة شخصيا بالاستدعاء و لم تحضر، و لم تقدم ملاحظات مكتوبة، أخطرتها المحكمة عن طريق النيابة العامة بأنها إذا لم تحضر فسيتم البت في الملف.
إذا تبين أن عنوان الزوجة مجهول، استعانت المحكمة بالنيابة العامة للوصول إلى الحقيقة، وإذا ثبت تحايل الزوج، طبقت عليه العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة.”
حيث إنه تأكيدا من المشرع على أهمية التبليغ في هذه القضايا نصّ على قاعدتين أساسيتين، ضرورة التوصل الشخصي للزوجة، ثم ربط تحايل الزوج بجزاء جنائي بطلب من الزوجة. ومنه لا يسعنا إلا أن نتساءل على صور هذا التحايل و كيف يتم، و ماهي خطورته التي أدّت إلى تشدد المشرع الأسري من خلال الإحالة على نصوص مجموعة القانون الجنائي.
فقد جاء في المادة 43 من مدونة الأسرة “…إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في إسم الزوجة، تطبق على الزوج العقوبات المننصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة.” و منه فإن التحايل في التبليغ عادة لا يتعدى حالتين، تقديم عنوان غير صحيح أو تحريف إسم الزوجة، و غالبا لا يخرج هذا التحايل عن الحالة الأولى فقط، حيث إن الحالة الثانية أي تحريف إسم الزوجة غالبا ما يكون مستبعدا باعتبار أن عقد الزواج من الوثائق اللازمة لرفع طلب الإذن بالتعدد للمحكمة، و لا يمكن أن يتم تحريف إسم الزوجة في عقد الزواج باعتبار أنه يتم بناءا على وثائق رسمية و أصلية، و تحت مراقبة شديدة من القضاء، من قبيل البطاقة الوطنية للتعريف، و رسوم الإزدياد و غيرها.
إلا أن عنوان الزوجة أو عنوان والديها الوارد في رسم الزواج غير ثابت مطلقا و يمكن تغييره، و بالتالي فيمكن أن يخضع للتزييف بسهولة، و من جهة أخرى قد يضع الزوج عنوان بيت الزوجية على أساس أن الزوجة الأولى لازالت مقيمة معه، في حين أنه من الممكن أن تنتقل الزوجة الأولى إلى مسكن آخر.
و نفس الشيء تقريبا فيما يخص تحايل الزوج في عنوان الزوجة في مسطرة الطلاق، ففي الحالتين معا أحالت مدونة الأسرة على العقوبة الواردة في الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي وهي الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات و غرامة من مائتين إلى ثلاثمائة درهم، و ذلك بناء على شكاية من الزوجة المتضررة.
الفقرة الثانية : التحايل في مسطرة التعدد
نظرا لتشدد المشرع في طلبات الإذن بالتعدد و إلزامه لطالب التعدد بإثبات المبرر الموضوعي الاستثنائي، إضافة إلى إثباته لوضعيته المالية و توفّره على الموارد الكافية لإعالة أسرتين، فإن بعض الأزواج قد يلجؤون للتحايل إما من أجل عدم سلوك مسطرة التعدد أو إستصدار الإذن بالتعدد من طرف المحكمة، و قد شهد الواقع العملي مجموعة من الطرق الإحتيالية التي سلكها الأزواج، و من بين أهم هذه الطرق إدلاء الزوج ببيانات كاذبة قصد الحصول على الإذن بالتعدد أو الحصول على وثيقة من شأنها تمكينه من الحصول على هذا الإذن، و في هذا الصدد ذهبت محكمة النقض في أحد قراراتها[ix] “حيث سعى الزوج إلى التوصل بغير حق إلى تسلم وثيقة عن طريق الإدلاء ببيانات كاذبة إخلالا بمقتضيات المواد 41 و 43 و 46 من مدونة الأسرة، و هي الجريمة التي أدين من أجلها” و جاء في نفس القرار أن “الزوج أدلى ببيان كاذب مفاده أنه مطلق و الحال أنه متزوج”.
و من صور التحايل في المسطرة التعدد تطليق الزوجة الأولى طلاقا رجعيا ثم الزواج من الثانية قبل إنتهاء عدة الأولى، و بعد ذلك يقوم الزوج بإرجاع زوجته الأولى دون الحاجة إلى عقد جديد مادام ذلك داخل فترة العدة و دون سلوك مسطرة التعدد بالنسبة للزوجة الثانية، حيث إنه بعد إتمام الطلاق الرجعي يقوم الزوج بإثبات أنه مطلّق باستخراج نسخة من وثيقة الطلاق، و هذه الوثيقة تثبت الطلاق وفي هذه الحالة لا مانع قانوني يمنعه من الزواج[x].
و في نفس الصدد، قضت محكمة الإستئناف بالجديدة أن “المراجعة بعد زواج آخر لا تصح إلا بمقتضى زواج جديد تُحترم فيه شكليات الزواج المنصوص عليها في المادة 65 من مدونة الأسرة و الإذن بالتعدد عملا بالمادة 40 و ما يليها من نفس القانون”[xi]، و في هذه الحالة يحق للزوجة طلب فسخ الزواج نتيجة التدليس.
و من جهة أخرى، فمن طرق التحايل في التعدد بالغة الخطورة، إستعمال الزوج للإذن بالتعدد الممنوح له من طرف المحكمة لأكثر من مرة، حيث إن الإذن بالتعدد لا يحمل المعلومات المتعلقة بالزوجة المراد التزوج بها، و من تمّ فيمكن إستغلال ذلك من قبل الزوج سيئ النية تجنبا لسلوك مسطرة التعدد مرة أخرى، و في هذا الصدد أصدر الرئيس المنتذب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية إرسالية إلى كل من الرؤساء الأولين لمحاكم الإستئناف، ورؤساء المحاكم الإبتدائية، و رؤساء أقسام قضاء الأسرة مفاده ضرورة أن يكون المقرر القضائي الصادر بمنح الإذن بالتعدد واضحا في صياغته، دقيقا في منطوقه، و تضمنه لجميع المعلومات المتعلقة بالأطراف بما في ذلك إسم الزوجة المراد التزوج بها.
المطلب الثاني : الخصوصيات الموضوعية و الإجرائية في جريمة التحايل في النزاعات الأسرية
كما هو معلوم، فإن القضايا المتعلقة بالنزاعات الأسرية تتميز بمجموعة من الخصوصيات سواء في الشق الموضوعي أو الشق الإجرائي، و تمتد هذه الخصوصية حتى إلى النزاعات الجــــــــــــــــــــــــنائـــــــــــيـــــــــة الأســـــــــــــــريــــــــــــــــــــــــــــة.
و على سبيل المثال تناولنا في بحثنا التحايل في التبليغ و في سلوك مسطرة التعدد، و كما سبقت الإشارة فإن هذه الجرائم مقترنة بمتابعة جنائية، إلا أن هذه المتابعة و نظرا لإرتباطها بالأسرة فإنها هي الأخرى تتميز بنوع من الخصوصية. و هذا ما نحن بصدد مناقشته على مستوى هذا المطلب، حيث سنخصص الفقرة الأولى لمناقشة الخصوصية الموضوعية لجريمة التحايل في التبليغ وفي مسطرة التعدد، لنناقش بعد ذلك الخصوصية الإجرائية منها على مستوى الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى : الخصوصيات الموضوعية لجريمة التحايل في النزاعات الأسرية
نصت المادة 43 من مدونة الأسرة على أنه إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة، تطبق عليه العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة ، و قد أحالت المادة 81 أيضا على نفس العقوبة، و ما يلاحظ في هذا الإطار أن مواد مدونة الأسرة أحالت على العقوبة الواردة في الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي و ليس الفصل عامة.
فبالرجوع إلى الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي نجده ينص في فقرته الأولى على أنه “من توصل بغير حق، إلى تسلم إحدى الوثائق المشار إليها في الفصل السابق، أو حاول ذلك إما عن طريق الإدلاء ببيانات غير صحيحة و إما عن طريق إنتحال اسم كاذب أو صفة كاذبة، وإما بتقديم معلومات أو شهادات أو إقرارت غير صحيحة، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات و غرامة من مائتين إلى ثلاثمائة درهم.”[xii] فبالرغم من أن نص الفصل ينسجم إلى حد كبير مع صور التحايل المتعلقة بالتبليغ، فإن المشرع الأسري أحال مباشرة على العقوبة المقررة في الفصل، فبمجرد ثبوت تحايل الزوج من خلال تقديم عنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة فإنه يتعرض للعقوبة الجنائية، و ذلك بطلب من الزوجة المتضررة.
و من تم فالركن المادي لجريمة التحايل في التبليغ يتمثل أساسا في تقديم عنوان غير صحيح أو تحريف في إسم الزوجة، ثم النتيجة الإجرامية و هي عدم تبليغ الزوجة مما سيضر بحقوقها، خصوصا في مسطرة التعدد و التي تقضي بأنه في حالة عدم حضور الزوجة بعد إنذارها فسيتم البت في الملف في غيابها، أما فيما يخص مسطرة الطلاق فإن المشرع أكثر تشددا في ذلك، حيث ألزم حضور الأطراف معا في محاولة الصلح باعتبارها إجراء جوهري مرتبط بالنظام العام، و من تمّ فلا يمكن تطليق الزوجة من عصمة زوجها دون حضورها شخصيا. و فيما يخص العلاقة السببية فهي كون إستحالة التبليغ و الضرر الناتج عن ذلك ناتج أساسا عن إدلاء الزوج بعنوان غير صحيح أو تحريف إسم الزوجة.
أما الركن المعنوي فيتمثل في سوء نية الزوج، أما إذا كان ذلك الفعل ناتج عن خطأ منه أو عدم علمه بتغيير العنوان مثلا فلا أساس للمتابعة في هذه الحالة.
و بالنسبة للعقوبة الجنائية، فقد حدد المشرع كعقوبة لجريمة التحايل الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات ، وأرفق العقوبة الحبسية بغرامة تتراوح مابين مائتين إلى ثلاثمائة درهم.
و فيما يخص التحايل في الحصول على الإذن بالتعدد، فبالرغم من عدم إحالة مدونة الأسرة صراحة على ذلك إلا أنه يمكن متابعة الزوج الذي أدلى ببيانات غير صحيحة أو صفة كاذبة، أو تقديم شهادات أو إقرارات غير صحيحة بغية الحصول على الإذن بالتعدد و ذلك طبقا لأحكام الفصول 360 و 361 من مجموعة القانون الجنائي.
و ما يمكن إثارته فيما يخص تجريم المشرع للتحايل في التبليغ أن النصوص التي تجرم هذا الفعل و تحيلنا على مجموعة القانون الجنائي، هي نصوص تستهدف الزوج حصرا، كما لو أن الزوجة لا يمكن أن تلجأ إلى مثل هذه التلاعبات لتحقيق مصلحتها الخاصة، خصوصا في مسطرة التطليق، و ذلك لضمان عدم حضور الزوج و استغلال غيابه لإثبات تعسفه أو غيبته، وهذا ما يجعلنا نتساءل هل يمكن للزوج المتضرر متابعة الزوجة في حالة ثبوت تحايلها في التبليغ؟
و بالرغم من عدم إحالة مدونة الأسرة على نصوص مجموعة القانون الجنائي في هذه الحالة، إلا أنه ليس هناك ما يمنع متابعة الزوجة بجريمة التحايل، و ذلك بواسطة دعوى مستقلة من طرف الزوج باعتبار أن التقاضي حق للجميع مادام يتوفر على شروط التقاضي المتمثلة في الصفة و الأهلية و المصلحة.
الفقرة الثانية : الخصوصية الإجرائية لجريمة التحايل في النزاعات الأسرية
كما سبقت الإشارة، إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء في مسطرة التعدد أو الطلاق ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة، فإن المشرع الأسري أحال على العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي، وهنا تتدخل النيابة العامة بتحريك الدعوى العمومية ضد الزوج طبقا للفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي.
وتدخّل النيابة العامة مقيد بضرورة وجود طلب من الزوجة المتضررة الذي يعتبر شرطا أساسيا ولازما لتحريك المتابعة، ويتوافق هذا الإجراء مع توجه المشرع الجنائي نحو حماية الروابط العائلية، وربط مصير وحدة الأسرة وتفككها بإرادة أفرادها وبقوة القانون.[xiii] و هنا تبرز الخصوصية المسطرية في جريمة التحايل في النزاعات الأسرية حيث إن غاية المشرع أساسا لا تكاد تتجاوز الحفاظ على إستقرار الأسرة و تماسكها، على عكس الجرائم الأخرى و التي تقوم عقوباتها على تحقيق الردع و الحفاظ على أمن و استقرار المجتمع عامة.
و تماشيا مع غاية المشرع و خصوصية الجرائم ذات الطابع الأسري فإن التنازل أو سحب الشكاية يضع حدا لمتابعة الزوج جنائيا حسب المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية[xiv] والتي تنص في فقرتها الأخيرة على أنه “تسقط أيضا -الدعوى العمومية- بتنازل المشتكي عن شكايته، إذا كانت الشكاية شرطا ضروريا للمتابعة، مالم ينص القانون على خلاف ذلك”. ومن تم فإن سحب الشكاية ينهي الدعوى العمومية في جميع الجرائم التي تتوقف فيها المتابعة على الشكاية سواء نصت على ذلك صراحة النصوص المتعلقة بتلك الجرائم أم لا[xv].
و في ختام هذا المطلب يمكن أن نخلص إلى أن الخصوصية الموضوعية لجريمة التحايل في التبليغ المحال عليها من مدونة الأسرة قد أحالت على العقوبة المقررة في الفصل 361 من مجموعة القانون الجنائي مباشرة دون ضرورة الرجوع إلى الأحكام الواردة في المادة، فمتى تم إثبات التحايل عوقب الجاني بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات و غرامة من مائتين إلى ثلاثمائة درهم. و ذلك بناءا على شكاية من الزوجة المتضررة و هنا تبرز الخصوصية المسطرية، حيث إن متابعة الزوج موقوفة على شكاية الزوجة، و تنازلها يضع حدا للمتابعة، و ذلك تماشيا مع رغبة المشرع في الحفاظ على تماسك الأسرة و حمايتها من التفكك.
خاتمة
تعتبر جريمة التحايل في التبليغ و كذا التحايل في سلوك مسطرة التعدد من أكثر الجرائم المنتشرة، إلا أنه بالرغم من هذا الإنتشار فإن أهم ما يلاحظ هو عدم صدور قرارات وأحكام قضائية في هذا الصدد، و برجوعنا إلى الوسط العملي و إستفسارنا حول الأمر، توصلنا إلى أن ذلك يرجع بالأساس إلى سببين.
السبب الأول مرتبط بالزوجات، حيث إن معظم الزوجات اللاتي تعرضن للتحايل في التبليغ من طرف أزواجهن، يرتؤون عدم متابعتهم بالجريمة حفاظا على أُسَرهن و تعبيرا عن رغبتهن في إستئناف الحياة الزوجية دون مشاكل.
أما السبب التاني فيرجع بالأساسا إلى القضاء، حيث إن المحكمة تتحرّى عن عنوان الزوجة بمساعدة النيابة العامة، ولا تبت في الملف إلا بعد حضورها لجلسات الصلح بصفة شخصية.
و فيما يخص مسطرة التعدد، فإن القاضي المعروض عليه النزاع يلزم الزوج بإحضار الزوجة الأولى شخصيا أمام المحكمة لإستفسارها و إعطائها فرصة التعبير عن رغبتها، و تعتبر المحكمة متشددة جدا في هذا الإجراء تجنبا لما يمكن أن يحدث في حالة التحايل، و الضرر الذي من الممكن أن يلحق بالزوجة الأولى و الأبناء.
[i] حديث حسن، أخرجه الترمذي، صحيح الجامع، 1331.
[ii] الظهير الشريف رقم 1.04.22 الصادر في 12 ذي الحجة 1424 (3 فبراير 2004) بتنفيذ القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة.
[iii] زين الدين الرازي، مختار الصحاح، تحقيق يوسف الشيخ محمد، الطبعة الخامسة 1999، المكتبة العصرية، لبنان، ص296.
[iv] محمد هشام صالح عبد الفتاح، جريمة الإحتيال”دراسة مقارنة”، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون، السنة الجامعية 2008/2009 ، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا بفلسطين، ص 9.
[v] عبد الكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الطبعة السادسة 2013، المطبعة و الوراقة الوطنية، المغرب، ص 165.
[vi] Maitre Stéphanie OLSON, Les infractions pénales au cours du divorce, article publié sur www.consultation.avocats.fr
[vii] الظهير الشريف رقم 1.74.447 الصادر بتاريخ 11 رمضان 1394 (28 شتنبر 1974) بخصوص المصادقة على نص قانون المسطرة المدنية، منشور بالجريدة الرسمية عدد 2303 بتاريخ 30 شتنبر 1974، ص2741.
[viii] هجيرة بن عزي، الخصوصيات المسطرية في القضايا الأسرية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، السنة الجامعية 2013/2014،جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية وجدة، ، ص 94.
[ix] القرار عدد 439 الصادر عن محكمة النقض في الملف عدد 154/2/1/2011 بتاريخ 23 غشت 2011،منشور بمجلة قضاء محكمة النقض عدد 75، ص111.
[x] ادريس الفاخوري، تعدد الزوجات بين النص القانوني و واقع العمل القضائي، مقال منشور على موقع maroc droit.ma اطلع عليه بتاريخ 18/11/2023 على الساعة 02 :05.
[xi] القرار رقم 132/6 الصادر بتاريخ 21/02/2006 في الملف الجنحي رقم 2005/833/36 ، منشور بمجلة الملف، العدد 11 أكتوبر 2007، ص 265.
[xii] الفصل 361 من الظهير الشريف رقم 1.59413 الصادر بتاريخ 28 جمادى الثانية 1382(26 نونبر 1962) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي، منشور بالجريدة الرسمية عدد 2640 مكرر، بتاريخ 12 محرم 1383 (5 يونيو 1963)، ص1253.
[xiii] خالد الدك و علي الجزولي، فعالية الجزاء الجنائي في مدونة الأسرة، مقال منشور على موقع maroc droit.ma، اطلع عليه بتاريخ 18/11/2023 على الساعة 0005 :.
[xiv] الظهير الشريف رقم 1.02.255 الصادر في 25 رجب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية ، منشور في الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003، ص315.
[xv] أحمد الخمليشي، شرح قانون المسطرة الجنائية، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1980، مكتبة المعارف، المغرب، ص 96.