الكمبيالة أية حماية جنائية؟
من إنجاز عبدالله الصبار
باحث في العلوم القانون
مقدمة
تعتبر الكمبيالة ورقة تجارية شكلية تتضمن أمرا صادرا من شخص يسمى الساحب، إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه بأن يدفع مبلغا من النقود إلى شخص ثالث هو المستفيد أو إلى شخص آخر يعينه المستفيد وذلك بمجرد الاطلاع أو في تاريخ معين[1]، وبهذا تعد الكمبيالة الوسيلة الأنجع والأفضل لتسوية المعاملات التجارية وتصفيتها، كونها تقوم بعدة وظائف تتماشى وطبيعة الحياة التجارية التي تنبني على السرعة والثقة والسهولة في اثبات المعاملات، وهذه الوظائف لا تخرج عن كونها أداة صرف[2] ووفاء[3] وائتمان[4].
ورغم ما تحققه الكمبيالة من إيجابيات داخل الوسط التجارية بالنسبة للمتعاملين بها، فإنها لا تخلو كذلك من مشاكل ومنازعات تنصب أساسا على شكلها والبيانات الأساسية التي تتضمنها، بحيث قد تتعرض لمجموعة من الأفعال الجرمية الخطيرة التي قد تمس بشكلها وببياناتها الالزامية وتفرغها من محتواها كورقة تجارية، كالتزوير والتزييف وانتزاع التوقيعات واستعمالها أو محاولة استعمالها عن علم رغم زوريتها أو كونها مزيفة ، كما قد تكون محلا لبعض الجرائم الأخرى، كجريمة السرقة والنصب وخيانة الأمانة.
إلا أنه إذا رجعنا إلى المقتضيات المنظمة للكمبيالة لا نجد أية حماية جنائية خاصة بالنسبة للمتعاملين بها، عكس ما فعله المشرع بالنسبة للشيك الذي حصنه المشرع بحماية جنائية خاصة في مدونة التجارة، وهذا في نظري يعد فراغا تشريعيا، كون أن حتى الكمبيالة باعتبارها سند تجاري شكلي تبقى عرضة لنفس الأفعال الجرمية التي يتعرض لها الشيك، لهذا كان من المفروض شملها بحماية جنائية خاصة للحفاظ على وظيفتهما وتمتين ثقة المتعاملين بها.
لكن هذا لا يعني أن الشخص الذي سولت له نفسه بأن يجعل الكمبيالة محلا للفعل الجرمي الذي اقترفه لا يسأل جنائيا، بل على العكس من ذلك، فإذا رجعنا للمقتضيات الزجرية العامة المضمنة في مجموعة القانون الجنائي المغربي نجدها جرمت مجموعة من الأفعال منها تلك التي قد تمس بالكمبيالة، مما أمكن معه القول أن تلك المقتضيات الزجرية يمكن تفعيلها ضد مرتكبي الجرائم الماسة بهذه الورقة، وذلك للحفاظ على وظيفتها الطبيعية، باعتبارها مقتضيات ذات طابع زجرية من شأنها أن تردع و ترهب المتعاملين بهذه الورقة وتُقوِّم طريقة التعامل بها، دون إهمال مقتضيات قانون الصرف التي تبقى هي الشريعة العامة المنظمة لها.
وهذا ما جعلنا نتساءل عن مدى كفاية القواعد الجنائية العامة لحماية حامل الكمبيالة؟
وللإجابة عن التساؤل أعلاه يقتضي منا معرفة الجرائم التي يمكن أن تمس بالكمبيالة كورقة تجارية شكلية ودراستها، وهذا ما سنعمل عليه في هذه الدراسة من خلال نهجنا التقسيم التالي:
المحور الأول: الحماية الجنائية للكمبيالة من حيث الشكل
المحور الثاني: الحماية الجنائية للكمبيالة من حيث الأشخاص
المحور الأول: الحماية الجنائية للكمبيالة من حيث الشكل
من المسلم به أنه لا يمكن الحديث عن الكمبيالة كورقة تجارية إلا إذا توفرت الشكلية المتطلبة وتضمنت البيانات الالزامية المحددة قانونا[5]، لتعتبر بذلك سند تجاري شكلي تسري عليه المقتضيات المتعلقة بقانون الصرف الواردة في الكتاب الثالث من مدونة التجارة، وبما أنها كذلك -أي أنها عبارة عن سند-، فإنها قد تكون عرضة لمجموعة من الأفعال التي قد تمس بشكلها من قبيل التزوير أو التزييف أو استعمالها بعد تغيير الحقيقة فيها بسوء نية، الأمر الذي دفعنا نتساءل عن؛ لماذا المشرع المغربي لم يشمل الكمبيالة بحماية جنائية خاصة كما هو الشأن بالنسبة للشيك؟ وفي حال ما إذا مستها إحدى الجرائم المومأ إليها أعلاه؛ فهل تطبق حينئذ القواعد الجنائية العامة أم ماذا؟
بداية لا بد وأن نشير إلى أن الواقع العملي أثبت أن الكمبيالة كثيرة التداول بين التجار، وهذا بطبيعة الحال راجع للوظائف التي تقوم بها، الأمر الذي يستوجب ترسانة قانونية من شأنها أن تصون ثقة المتعاملين بها وتدعم حقوق حاملها، وفي ذات الوقت تحافظ على مكانتها الرئيسية في التبادل التجاري.
وأن معظم الدول التي تأخذ بقانون جنيف الموحد لا تقتضي تشريعاتها الداخلية أية حماية جنائية خاصة للكمبيالة، بما فيها المشرع المغربي، عكس الشيك الذي حظي بحماية جنائية خاصة إلى جانب الحماية الصرفية، رغم أن الكمبيالة قد تقوم بنفس الدور الذي يقوم به الشيك باعتبارها وسيلة صرف وأداء، الأمر الذي يجعلها محلا لبعض الجرائم التي تقع على شكل الشيك.
وهكذا، فقد اخترنا لدارسة هذا المحور المتعلق بالجرائم الماسة بشكل الكمبيالة، الاقتصار على جريمة التزوير وجريمة استعمال عن علم كمبيالة مزورة لتكون موضوعا له، وهي طائفة من الجرائم التي وصفها المشرع الجنائي بالخطيرة والمضرة بالمصلحة العامة، وهذا ما سنتطرق إليه على النحو التالي:
أولا: جريمة تزوير الكمبيالة
تعتبر جرائم التزوير من أبشع الجرائم الماسة بالثقة العامة، كونها تقوم على تغيير الحقيقة بغية الاضرار بالغير[6]، وقد خص لها المشرع الجنائي حيزا هاما ضمن نصوص مجموعة القانون الجنائي، نظرا لكثرتها وتأثيرها على الاستقرار في المعاملات وسائر مظاهر الحياة القانونية في المجتمع.
ويتمثل التزوير في الكمبيالة في كل تغيير مادي يقع في بيان فأكثر من البيانات الالزامية للكمبيالة بعد كتابتها بدون رضا ولا علم الأطراف المعنية، وغالبا ما يكون التزوير في التوقيعات أو في تاريخ الاستحقاق أو في مبلغ الكمبيالة خاصة إذا كان مكتوبا بالأرقام، يسعى من خلاله المزور إلى تغيير الحقيقة في الكمبيالة لإيهام الغير وجعله يصدقها.
وعلى اعتبار أن الأوراق التجارية محكومة بنظرية الظاهر، فإن موقف قانون الصرف من فعل التزوير يختلف كثيرا عن موقف القانون الجنائي، لهذا فإذا رجعنا إلى مقتضيات قانون الصرف المضمنة في الكتاب الثالث من مدونة التجارة، نجد أنها رتبت آثار تتناسب ونظرية الظاهر عن فعل التزوير، حيث تقتضي الفقرة الثانية من المادة 164 من مدونة التجارة ما يلي: “إذا كانت الكمبيالة تحمل توقيعات أشخاص لا تتوفر فيهم أهلية الالتزام بها أو توقيعات مزورة لأشخاص وهميين أو توقيعات ليس من شأنها لأي سبب آخر أن تلزم الأشخاص الموقعين لها أو الأشخاص الذي وقعت باسمهم، فإن التزامات غيرهم من الموقعين عليها تظل مع ذلك صحيحة”، وتقضي كذلك المادة 227 من ذات المدونة بأنه:” إذا وقع تغيير في نص الكمبيالة، فإن الموقعين اللاحقين لهذا التغيير ملزمون بمقتضى النص كما هو بعد التغيير، أما الموقعون السابقون فيلزمون بما ورد في النص الأصلي”.
بمعنى أن التزوير بمنظور قانون الصرف لا يؤثر على صحة الكمبيالة، طالما أن هذه الأخيرة نشأة صحيحة مستوفية لجميع الشروط التي استلزمها قانون الصرف، بل فقط تختلف المسؤولية بحسب ما إذا كان التزوير قد جاء قبل التوقيع أو بعده[7]، أي أنه إذا وقع تزوير في نص الكمبيالة بعدما نشأة صحيحة، فإن الموقعين اللاحقين لهذا التزوير يظلون ملزمون بنص الكمبيالة بعد التزوير، أما الموقعون السابقون له يبقون فقط ملزمون بنص الكمبيالة الأصلية، باعتبار أن الموقع يسأل في حدود المبلغ الوارد في الكمبيالة عند التوقيع.
أما إذا نظرا إلى فعل التزوير من منظور القانون الجنائي، فإنه يعد جريمة يعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية وبغرامة مالية.
لذلك رغم عدم وجود حماية جنائية خاصة للكمبيالة، إلا أنه باعتبار الكمبيالة محرر تجاري شكلي، فإن الفاعل لا يفلت من العقاب، وإنما يخضع لعقوبة جريمة التزوير المنصوص عليها في الفصل 357 من مجموعة القانون الجنائي ، والذي جاء فيه: “من ارتكب بإحدى الوسائل المشار إليها في الفصل 354، تزويرا في محرر تجاري أو بنكي، أو حاول ذلك، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين وخمسين إلى عشرين ألف درهم”.
وهكذا، يعاقب كل شخص غيَّر الحقيقة في الكمبيالة باعتبارها محرر تجاري بإحدى الطرق المنصوص عليها في القانون تغييرا من شأنه إحداث ضرر مقترن بنية استعمالها فيما أعدت له، بالعقوبة المنصوص عليها في الفصل 357 أعلاه.
وبالتالي فلا يمكن الحديث عن جريمة تزوير الكمبيالة، إلا إذا تم إدخال تغيير على الكمبيالة بعدما أنشئت صحيحة، كما يجب أن يكون هذا التغيير بسوء نية وأن يلحق ضررا بالغير.
عموما، فباعتبار الكمبيالة محرر تجاري شكلي، فإنها تكون عرضة لمجموعة من الأفعال الجرمية التي قد تقع على شكلها من قبيل التزوير أو التزييف[8]، أو التحريف[9]، وهي نفس الأفعال التي قد تمس بشكل الشيك، سواء في مرحلة الانشاء أو التداول أو الانقضاء، لهذا كان على المشرع التجاري شملها بالحماية الجنائية مثلها في ذلك مثل الشيك، نظرا لما لهذه الورقة من أهمية داخل الوسط التجاري، ونظرا لكثرة استعمالها وتداولها بين الناس سيما التجار منهم.
ثانيا: جريمة استعمال عن علم كمبيالة مزورة
لقد اعتبر المشرع الجنائي كلا من جريمة تزوير محرر تجاري و جريمة استعمال ورقة مزورة جريمة مستقلة بذاتها عن الأخرى، وذلك بموجب الفصل 359 من ق ج الذي جاء فيه “من استعمل ورقة مزورة في الحالات المشار إليها في هذا الفرع، مع علمه بتزويرها، يعاقب بالعقوبات المقررة للتزوير حسب التفصيلات المنصوص عليها في الفصول السابقة”، والعلة في ذلك أن عدم تجريم استعمال ورقة مزورة من شأنه تخليص عدد من المزورين من العقوبة المقررة في القانون بادعائهم الجهل به، لهذا المشرع كان فاطنا عندما جرم استعمال ورقة مزورة للحد من التعدي على حقوق المتعاملين بالأوراق كيف ما كانت طبيعة هاته الأخيرة.
ويمكن تصور قيام جريمة استعمال كمبيالة مزورة، عندما تستعمل هذه الأخير عن علم بعد تغيير الحقيقة فيها أثناء تداولها، وبالتالي فجريمة استعمال كمبيالة مزورة تفترض وجوبا أن تكون الكمبيالة متداولة بين عدة أشخاص، وأن تتداول عن علم بعد تغيير الحقيقة فيها.
ولم يقتصر المشرع على تجريم فعل استعمال محرر عن علم بعد تغيير الحقيقة فيه، وإنما عاقب كذلك بنفس العقوبة المقررة لهذه الجريمة الشخص الذي حاول استعمال كمبيالة مزورة عن علم.
وهكذا، فإن الكمبيالة قد تصدر مستوفية لجميع الشروط الشكلية المتطلبة قانونا، إلا أنه أثناء تداولها قد تحدث عدة تغييرات في شكلها، مما لا شك فيه أن هذه التغييرات تعد تزويرا، وبالتالي فمن البديهي أن يترتب عن ذلك آثار جنائية[10]، لذا ينبغي على المشرع التجاري الأخذ بعين الاعتبار ما قد يلحق الكمبيالة من تغييرات بعد صدورها التي من شأنها أن تزعزع ثقة المتعاملين بها وعرقلة نشاطهما، والتنصيص على حماية جنائية خاصة لها مثلها في ذلك مثل الشيك، إن أراد تحصين المتعاملين بها تحصينا متكاملا.
المحور الثاني: الحماية الجنائية للكمبيالة من حيث الأشخاص
لم يكفل المشرع التجاري للأوراق التجارية نصيبا واحدا متساويا من الحماية الجنائية، وإنما اهتم فقط بالحماية الجنائية للشيك عن طريق تنظيم أحكام زجرية خاصة به في مدونة التجارة، وأهمل الكمبيالة، وهذا ما يعاب عليه، خاصة وأن الكمبيالة ورقة يمكن أن تتعرض تقريبا لنفس الجرائم التي قد تقع على شكل الشيك، ربما كان مرد ذلك في اقتناع المشرع واكتفاءه بالحماية التي تكفلها مدونة التجارة، رغم أن هذه الأخيرة أضحت غير كافية لتوفير الحماية المطلوبة لحامل الكمبيالة.
وهكذا، فمن الجرائم الأخرى التي قد تقع على الكمبيالة من غير تلك التي تمس بشكلها، هناك جريمة السرقة والنصب وانتزاع التوقيعات وخيانة الامانة وجريمة التفالس، وكل هذه الجرائم لها أحكام مشتركة على اعتبارها تمثل اعتداء على حق الملكية، وهذا ما سنحاول التفصيل فيه أكثر على النحو الآتي:
أولا: في جريمة انتزاع التوقيعات
قد نظم المشرع الجنائي هذا النوع من الجرائم في الفصل 537 من القانون الجنائي الذي جاء فيه :”من انتزع توقيعا أو حصل على محرر أو عقد أو سند أو أية ورقة أخرى تتضمن أو تثبت التزاما أو تصرفا أو ابراء، وكان ذلك بواسطة القوة أو العنف أو الاكراه، فإنه يعاقب بالسجن من خمس سنوات إلى عشر”، وذلك لحماية التوقيعات والمحررات والعقود والسندات والأوراق.
وباعتبار الكمبيالة لها أهمي بالغة وخاصة في التعامل القانوني، كونها قد تثبت حقا ذا قيمة كبيرة يتوقف عليه مصير مؤسسة أو مؤسسات ذات أهمية اقتصادية بالغة، وهذه الأهمية تميزها عن مختلف المنقولات الأخرى وتفرض حماية أكثر لها، وبالتالي من البديهي أن تدخل الكمبيالة ضمن نطاق هذه الحماية باعتبارها ورقة تجارية شكلية لها قوة في الاثبات، بالإضافة إلى ذلك، فإن لفظ “محرر” الوارد في النص أعلاه جاء عاما يشمل أي محرر بما في ذلك المحرر المتضمن البيانات الالزامية للكمبيالة.
هذا وبالرجوع إلى الفصل 537 أعلاه نجد بأن المشرع الجنائي حدد الوسائل التي يرتكب بها فعل الانتزاع، والمتمثلة في القوة أو العنف أو الاكراه كركن مادي لهذا النوع من الجرائم، شريطة أن يرد الانتزاع على ورقة أو توقيع، تم أن يتوفر القصد الجنائي لدى الفاعل.
لذلك تكون جريمة انتزاع التوقيعات قائمة كلما توفرت الأركان المشار إليها أعلاه، ويعاقب مرتكبها بالسجن من خمس إلى عشر سنوات طبقا للفصل 537 من القانون الجنائي.
ثانيا: في جريمة النصب
نظم المشرع جريمة النصب في الفصل 540 من القانون الجنائي، وبين الوسائل التي تستعمل في ارتكابها وحدد العقوبة المقررة لها في الحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من خمسمائة إلى خمسة آلاف درهم مع امكانية رفع هذه العقوبة إلى الضعف والحد الأقصى للغرامة إلى مائة ألف درهم، إذا كان مرتكب الجريمة أحد الأشخاص الذين استعانوا بالجمهور في إصدار أسهم أو سندات أو أذونات أو حصص أو أي أوراق مالية أخرى متعلقة بشركة أو بمؤسسة تجارية أو صناعية.
وتجد هذه الجريمة تطبيقا لها في الكمبيالة الوهمية[11]، كون هذه الأخيرة قد تتوفر فيها جميع الشروط القانونية اللازمة لصحتها، لكنها تستعمل كوسيلة لاحتيال على الغير وإيهامه بوجود ائتمان، وذلك عندما لا ينوي أحد الموقعين عليها الالتزام بها فعلا، وإنما يريد من وراء ذلك مساعدة شخص آخر في محاولة لإنقاذ وضعه المالي المتردي[12].
وبالتالي فقد تكون الكمبيالة محلا لجريمة النصب عندما توظف لتحقيق غايات منفعية ذات قيمة مالية لا غير، عن طريق استعمال الحيل والخداع والمكر لتوقيع المجني عليه في الغلط وجعله يصدق المعلومات والتأكيدات التي لا أساس لها في الحقيقة من أجل الاستيلاء على أموال المجني عليه، ومثال ذلك، الكمبيالة الوهمية التي تصدر باسم شخص وهمي لا وجود له في الواقع، فهذه الكمبيالة تكون متضمنة جميع البيانات الالزامية ومع ذلك فهي كمبيالة احتيالية يوحي مظهرها بأنها كمبيالة حقيقية عن طريق سحبها على مسحوب عليه وهمي أو سحب كمبيالة على تاجر مقبل على التصفية القضائية، أو سحب كمبيالة على مسحوب عليه يعلم أنها وهمية لا أساس لها في الحقيقة وإنما الغرض منها إزاحة المجني عن الحقيقة وجعله ينخدع بها ويقع تحت وطأة جريمة النصب.
هذا وتجدر الاشارة إلى أن هناك جرائم أخرى ملحقة بالنصب في القانون الجنائي المغربي، إلا أنه بالرجوع إلى الفصول المنظمة لهذه الجرائم الملحقة وبالضبط إلى الفصول 542 و 543 و 544 لم نجد فيها ما يتلاءم والكمبيالة، باستثناء البند الثالث الوراد في الفصل 542 الذي جاء فيه: ” أن يستمر في تحصيل دين انقضى بالوفاء أو التجديد”، حيث يمكن تكييف جريمة النصب مع الكمبيالة إذا استمر المستفيد منها في تحصيل الدين المثبت بموجبها رغم كونه انقضى إما بالوفاء أو بالتجديد[13].
كما تجب الإشارة إلى أن مجرد إصدار كمبيالة بدون مقابل الوفاء أو بوجوده لكنه غير كاف لا يعتبر نصبا، لأنه يصعب والحالة هذه تصور قيام عمل احتيالي في غياب الوسائل الاحتيالية المتمثلة في الحيل والخداع والمكر، والتي من شأنها أن توهم المستفيد من الكمبيالة بأن الساحب له دين عند المسحوب عليه من أجل تغليطه وإقناعه بقبول الكمبيالة، ثم أن سحب كمبيالة وهمية بدون تواجد طرف ثاني فلا يكون جريمة النصب لأن على الضحية أيضا أن يكون حذرا ويبحث هل الكمبيالة جدية أم مجرد ورقة وهمية.
ثالثا: في جريمة خيانة الأمانة
لقد عالج المشرع المغربي جريمة خيانة الأمانة في الفصول من 547 إلى 555 من القانون الجنائي، وجعلها جريمة مستلقة عن باقي جرائم الأموال الأخرى، وهكذا فإذا رجعنا إلى الفصل 547 من القانون الجنائي نجد بأن المشرع الجنائي حدد فيه محل وأركان هذه الجريمة والعقوبة المقررة لها[14].
وعلى اعتبار أن الكمبيالة ورقة قد تنشئ التزاما أو تتضمن ابراء، مما قد يجعلها عرضة لجريمة خيانة الأمانة متى تحققت أركان هذه الأخيرة، كما أن المشرع الجنائي قد تعرض لبعض الأفعال القريبة من جريمة خيانة الأمانة واعتبرها ملحقة بها، كجريمة خيانة الأمانة في ورقة موقعة علي بياض[15]، هذه الأخيرة قد تكون الكمبيالة محلا لها، وذلك عندما تكون موقعة على بياض سيما وأن مدونة التجارة تجيز ذلك[16]، بحيث يمكن تصور أن المجني عليه سلم إلى المتهم كمبيالة تحمل توقيعه على بياض لكي يضيف بيانات معينة، لكنه خان الثقة التي وضعت فيه فوضع بيانات مخالفة قصد من خلالها احداث ضرر للمجني عليه مقترن بالقصد الجنائي[17].
والعلة في تجريم خيانة الأمانة في ورقة موقعة على بياض، تكمن في كون أن هذه الجريمة تنطوي على تغيير ما اتجهت إليه ارادة صاحب التوقيع على بياض وخيانة الثقة التي وضعها فيمن تسلم الورقة أو الكمبيالة الموقعة على بياض أو أي ورقة من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو ابراء طبقا لمفهوم الفصل 547 من القانون الجنائي.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن في حالة ما إذا سرق شخص كمبيالة موقعة على بياض أو وقعت بين يديه بعد صياغتها أو فقدها من حائزها ثم ملأ البيانات التي تعلو التوقيع، فالواقعة هنا تعد تزويرا، وإذا حصل المتهم على الكمبيالة باستعمال وسائل احتيالية للاستيلاء عليها، فإن بمجرد تسلم الكمبيالة تقوم جريمة النصب، أما إذا ملأ ذلك الفراغ الذي يعلو التوقيع يسأل الفاعل هنا عن جريمة التزوير ولا وجه هنا لخيانة الأمانة، لأن جريمة خيانة الأمانة تفترض تسليم الكمبيالة تسليما ناقلا للحيازة الناقصة، أي مادام الفاعل لم يؤتمن على الكمبيالة باعتبارها لم تسلم إليه في اطار عقد لا يمكننا الحديث عن جريمة خيانة الأمانة.
رابعا: في جريمة التفالس
قد يلجأ أحد مسيري المقاولة إلى وسائل مجحفة قصد تجنب أو تأخير فتح مسطرة المعالجة في وجهه[18]، ومن أبرز هذه الوسائل كمبيالة المجاملة[19]التي يكون الهدف منها هو الحصول على ائتمان وهمي، أي أن الموقع عليها لا ينوي الالتزام بها فعلا وإنما إيقاع الغير في غلط وجعله يقبلها ظنا منه أنها صحيحة، الأمر الذي جعل المشرع أن يعاقب على هذا النوع من الجرائم، لما له من تأثير سلبي على الثقة وعلى الاقتصاد الوطني[20].
وهكذا فإذا رجعنا إلى مدونة التجارة نجد بأن الشخص[21] الذي لجأ إلى وسائل مجحفة من أجل خلق رواج أو ائتمان وهمي يتابع بجريمة التفالس ويعاقب بالعقوبات المقررة في المادة 755 من ذات المدونة.
الخاتمة
حاولنا من خلال هذه الدراسة أن نسلط الضوء على بعض الأفعال الجرمية التي قد تمس بالكمبيالة كورقة تجارية شكلية، وأدركنا أن هذه الورقة قد تكون محلا لبعض الجرائم التي قد تمس بالشيك كالتزوير والتزييف أو استعمالها أو محاولة استعمالها رغم العلم بزوريتها أو كونها مزيفة، بل أكثر من ذلك هناك جرائم يمكن أن تقع على الكمبيالة ولا يمكن تصورها في الشيك كجريمة امتناع عن إرجاع كمبيالة في حالة تم أداؤها بواسطة شيك المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من المادة 198 من مدونة التجارة التي أخضعها المشرع لمقتضيات الفصل 547 من القانون الجنائي.
وهكذا، فكان على المشرع أن يمتع الكمبيالة بحماية جنائية تتناسب وطبيعتها القانونية، سيما أن الواقع أضحى يعكس أهميتها داخل الوسط التجاري، باعتبارها أداة صرف ووفاء وائتمان، وبالتالي فللمحافظة على وظيفتها القانونية يجب التفكير مليا وبصورة جدية في وضع نصوص زجرية خاصة تنظمها كما هو الأمر بالنسبة للشيك، وليس الاقتصار فقط على النصوص الجنائية العامة التي لم تعد كافية لحمايتها، مما يجعلنا نطالب ونأمل أن تُشمل هذه الورقة بحماية جنائية خاصة.
[1] محمد مرابط، الأوراق التجارية في التشريع المغربي، الكمبيالة – السند لأمر – الشيك، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة بالدارالبيضاء 2005، الصفحة 9.
[2] الكمبيالة أداة صرف أي أنها استعملت لهذه الغاية تفاديا لمخاطر حمل ونقل النقود من مكان لآخر.
[3] الكمبيالة أداة وفاء أي عن طريقها يمكن تسديد العديد من الديون الناشئة عن طريق سلسلة من التظهيرات، والتي بموجبها تنقضي مجموعة من علاقات الدائنية والمديونية دون الحاجة إلى استخدام النقود مطلقا.
[4] الكمبيالة أداة ائتمان أي أداة لتأخير الوفاء إلى أجل معين أو قابل للتعيين.
[5] انظر المادة 159 وما يليها من مدونة التجارة.
[6] عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم الخاص، الطبعة العاشرة 2019، مطبعة النجاح الجديدة بالدارالبيضاء، ص 164 وما يليها.
[7] محمد الشافعي، الأوراق التجارية في مدونة التجارة، سلسلة البحوث القانونية 11، الطبعة الثالثة 2006، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، ص 62 و 63.
[8] نكون أمام تزييف في حالة وضع توقيع مزور أو تقليد في الكتابة أي باصطناع التوقيع أو الكتابة.
[9] التحريف هو التغيير الطارئ على التوقيع أو الكتابة بجميع وسائل أو أساليب التغيير.
– انظر كتاب الأستاذة لطيفة الداودي، الأوراق التجارية، الحماية القانونية لحامل الكمبيالة، الحماية الجنائية، الطبعة الأولى 2001، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، ص 43.
[10] لطيفة الداودي، المرجع السابق، ص 20.
[11] [11] الكمبيالة الوهمية هي كمبيالة مستوفية لجميع الشروط القانونية اللازمة لصحتها، إلا أن الغرض منها ليس هو الالتزام بها فعلا وإنما هو إيقاع الغير في غلط وإيهامه بأنها صحيحة من أجل استيلاء على أمواله.
[12] محمد مرابط، المرجع السابق، الصفحة 90.
[13] لطيفة الداودي، المرجع السابق، ص 139 و 140.
[14] في الفصل 547 من القانون الجنائي ما يلي: ” من اختلس أو بدد بسوء نية، اضرار بالمالك أو واضع اليد أو الحائز، أمتعة أو نقودا أو بضائع أو سندات أو وصولات أو أوراقا من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو إبراء كانت سلمت إليه على أن يردها، أو سلمت إليها لاستعمالها أو استخدامها لغرض معين، يعد خائنا للأمانة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم”.
[15] انظر الفصل 553 و 554 من القانون الجنائي المغربي.
[16] انظر المادة 168 من مدونة التجارة.
[17] لطيفة الداودي، المرجع السابق، ص 166 و 167.
[18] جاء في المادة 754 من مدونة التجارة ما يلي: “يدان بالتفالس في حالة افتتاح التسوية أو التصفية القضائية الأشخاص المشار إليهم في المادة 736 أعلاه الذين تبين أنهم ارتكبو أحد الأفعال التالية:
- قاموا إما بعمليات شراء قصد البيع بثمن أقل من السعر الجاري أو لجأوا إلى وسائل مجحفة قصد الحصول على أموال بغية تجنب أو تأخير فتح مسطرة المعالجة؛…”
[19] كمبيالة المجاملة هي كمبيالة تتوفر فيها جميع الشروط الشكلية والموضوعية التي تكون لازمة لصحتها، إلا إن الهدف من سحبها ليس الالتزام بها فعلا وإنما من أجل الحصول على ائتمان وهمي، لتنجب فتح مسطرة المعالجة، عن طريق ايهام الغير بأن العلاقات القائمة بين الموقين عليها هي علاقات حقيقية مع أنها ليست كذلك، في سبيل خصم هذه الكمبيالة والحصول على أموال، ولهذا المشرع المغربي جرم فعل سحب كمبيالة قصد إيهام الغير بأن الوضع المالي للمقاولة سليم.
– وتجدر الإشارة إلى أن كمبيالة المجاملة في التشريع المغربي باطلة، ليس لأن مقابل الوفاء غير موجود، لأن هذا الأخير ليس ضروريا لصحة الكمبيالة، وإنما تتضمن في الواقع الرغبة في خداع الغير عن طريق خلق اعتماد وهمي، وهذا يعتبر كافيا للحكم ببطلانها.
– علي جمال الدين عوض، الأوراق التجارية (السند لإذني – الكمبيالة – الشيك)، دراسة للقضاء، دون ذكر الطبعة، مطبعة جامعة القاهرة الكتاب الجامعي 1995، ص 145.
[20] لأن فعل اصدار كمبيالة المجاملة يروج لسيولة ليس لها وجود في الواقع.
[21] حدد المشرع على سبيل حصر الأشخاص الذين يمكنهم اللجوء إلى وسائل مجحفة قصد الحصول على أموال بغية تجنب أو تأخير فتح مسطرة المعالجة في المادة 736 من مدونة التجارة.