فوزي أكريم ، طالب باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بطنجة ، خريج ماستر القانون المدني والأعمال
سياسة التجريم والعقاب في قانون حماية المستهلك
للسياسة الجنائية دور مهم في تحقيق أمن المواطن و سكينته و ضمان سلامة صحته و سلامة ممتلكاته، ويحتل قانون حماية المستهلك 31.08 مركزا مهما ضمن التشريع الجنائي المغربي، خصوصا وأنه أصبح يوفر الحماية القانونية للمواطن المستهلك الذي يعد طرفا ضعيفا في العلاقة التعاقدية مع المنتجين ، حيث يحتاج هذا المستهلك إلى تدخل من المشرع الجنائي لردع كل من يحاول استغلال ضعف المستهلك والاضرار بصحته أو قدرته الشرائية، هذا التدخل جاء أخيرا نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المغرب ، وكذا إلى الضغط الداخلي والدولي من أجل إيجاد آليات قانونية فعالة للحد من استغلال المستهلك والاضرار بمصالحه المالية والصحية .
كل ذلك أدى بالمشرع الى الخروج عن الأحكام العامة التقليدية في القانون الجنائي، لما كانت المقتضيات الزجرية المتضمنة في هذا الأخير غير قادرة على توفير الحماية الجنائية للمستهلك ، بحيث تغيرت المبادئ التي تقوم عليها سياسة التجريم والعقاب في المادة الاستهلاكية، فأصبحت تتسم بنوع من الخصوصية في تعاملها مع الجريمة الاقتصادية، سواء على مستوى التجريم و العقاب (المبحث الأول) أو على مستوى قواعد المسؤولية الجنائية (المبحث الثاني).
المبحث الأول : خصوصية التجريم والعقاب في قانون حماية المستهلك
يُعد مبدأ الشرعية الجنائية أساس القانون الجنائي، على اعتبار أنه يشكل ضمانة أساسية لحرية الأفراد ومصالحهم الخاصة، ويجسد في الآن ذاته روح المصلحة العامة من منطلق أنه مناط تطبيق حق الدولة في التجريم والعقاب تحقيقا لمصلحة للمجتمع[1] .
وهنا يخرج قانون المستهلك عن الأحكام العامة للقانون الجنائي فيما يتعلق بسياسة التجريم، سواء من خلال مصدر التجريم (المطلب الأولى) وكذا من خلال خصوصية قيام أركان جرائم الاستهلاك (المطلب الثاني ).
المطلب الأول : مصدر التجريم وشرعية العقاب في قانون حماية المستهلك
الفقرة الاولى : مصدر التجريم في قانون حماية المستهلك
المشرع عادة لا يمكنه أن يخلق جرائم ولا أن يعين لها عقوبات الا إذا تدخل بنص قانوني يضمن به حقوق الافراد و المجتمع ، فهو بذلك يضفي على التجريم والعقاب صفة المشروعية ، والتجريم الجنائي لواقعة معينة لا يُستمد إلا من مصدر واحد وهو القانون المكتوب الصادر عن الجهة المختصة بإصداره، على اعتبار أن المصادر الاخرى للقانون أصبحت غير ذي اعتبار في القوانين الجنائية المعاصرة.
واذا كان المشرع الجنائي وحده الذي يملك سلطة تحديد الجرائم والعقوبات المقررة لها ضمن فلسفة التجريم والعقاب المعاصرة ، فإنه مطالب خلال ذلك بمراعاة الدقة والوضوح في النصوص، حفاظا على حرية الافراد وضمانا لمصلحة المجتمع[2] ، لكن المقتضيات الزجرية في قانون حماية المستهلك تعرف تقنية الاحالة بشكل كبير، وذلك راجع الى بالأساس الى أن هذا القانون في الأصل ذو طبيعة غير جنائية ، ومن ثم فان العقوبة تتحدد في نص لاحق والتجريم في نص سابق، وتبقى تقنية الاحالة الوسيلة الوحيدة للربط بين التجريم والعقاب[3].
وإذا كانت القاعدة العامة أن مصدر التجريم هو السلطة التشريعية ، إلا أنه قد تحدث أن تحصل السلطة التنفيذية على تفويض من السلطة التشريعية، كما هو الحال في قانون حماية المستهلك ، فتتدخل الحكومة بتدابير ونصوص لمواجهة بعض المخاطر التي تهدد الأمن الاقتصادي[4]، ويرجع السبب في ذلك الى أن القيم المحمية في قوانين حماية المستهلك من طبيعتها عدم الثبات ، ومن خصائصها المرونة نظرا للسرعة التي تعرفها التطورات الاقتصادية.
ومن بين الأسباب التي دفعت المشرع المغربي إلى إصدار قانون خاص بحماية المستهلكين، عدم كفاية المقتضيات الجنائية العامة للحد من ظاهرة الاستقواء على المستهلك ، ولا أدل على ذلك من كارثة الزيوت المسمومة لسنة 1959، حيث اضطر المشرع المغربي إلى الأخذ برجعية القوانين الجديدة نظرا لخطورة هذه الجريمة ، مما أدى إلى الحكم على مرتكبيها بالإعدام[5].
هذا القانون ساهم في وضع مقتضياته كثير من الفاعلين الاقتصاديين والاداريين ، فهو ليس من صنع واضعي القانون الجنائي وحدهم، فالعديد من القطاعات ساهمت في بلورة هذه المقتضيات سواء في القطاع الفلاحي أو الصناعي أو الصحي، هذا التبلور جاء على فترات متباعدة ، حيث نجد الظهير المتعلق بالزجر عن الجرائم الماسة بصحة الأمة الذي صدر في 29 أكتوبر 1959، ثم بعده صدر الظهير المتعلق بالزجر عن الغش في البضائع سنة 1984، ثم بعد فترة لا يستهان بها صدر قانون حرية الأسعار والمنافسة في05 يونيو 2000، وأخيرا قانون 31.08 المتعلق بتدابير حماية المستهلك الصادر في 18 فبراير 2011.
العقوبة جزاء يقرره القانون ويوقعه القاضي بحكم قضائي باسم المجتمع على من تثبت مسؤوليته عن الجريمة ، ومعنى كون الجزاء عقوبة أنه ينطوي على ألم يلحق بالمجرم نظير مخالفته نصوص القانون وذلك بحرمانه حقا من حقوقه التي يتمتع بها ، وعلى هذا الأساس نص قانون 31.08 بمثابة قانون تدابير حماية المستهلك على مجموعة من العقوبات جراء مخالفة أحكام هذا القانون ، حيث خصص لهذه العقوبات قسما خاصا بها يضم 21 مادة (من المواد 173 إلى م 194)[6].
وبملاحظتنا لمضامين نصوص القسم السابع من قانون 31.08 نجد أن المشروع نادرا ما يحكم على الجاني بعقوبات سالبة للحرية، وهذا راجع إلى قناعته بعدم كفاية العقوبات التقليدية السالبة للحرية في مواجهة ظاهرة الإجرام الاقتصادي على وجه الخصوص، نشير هنا إلى أن هذه العقوبات لا ترقى إلى خطورة الفعل المرتكب في حق المستهلك وآثاره الخطيرة على سلامته وصحته الجسدية والمالية، فهي تبقى ضئيلة مقارنة مع حجم الأرباح التي يحققها المُورد المرتكب للفعل الجرمي من جراء مخالفة أحكام قانون حماية المستهلك.
المطلب الثاني : خصوصية أركان جرائم الاستهلاك
لكي نكون أمام جريمة لابد من توافر أركان الجريمة الثلاثة، الركن المادي والقانوني والمعنوي، وقانون حماية المستهلك يعتمد على المبادئ العامة للقانون الجنائي شأنه في ذلك شأن باقي القوانين الخاصة، وقد تطرقنا آنفا إلى مبدأ الشرعيّة وأشرنا إليه باعتباره الركن القانوني للجريمة متمثلا في الصفة غير المشروعة للفعل ، حيث يكتسبها عند خضوع الفعل لنص قانوني من نصوص التجريم والعقاب ، مع عدم خضوعه في نفس الوقت لأسباب التبرير والاباحة، وعليه سنقتصر في هذا المطلب على دراسة ركنين فقط، الركن المادي والركن المعنوي.
الفقرة الاولى : الركن المادي
حسب قواعد النظرية العامة للجريمة فالركن المادي عبارة عن فعل خارجي له طبيعة مادية ملموسة تدركه الحواس، ولا يعرف القانون جرائم بغير ركن مادي، إذ يشكل بطبيعته ضمانا للفرد لأنه لا يمكن أن يتابع هذا الأخير من أجل جريمة إلا إذا أحدثت اضطرابا اجتماعيا ماديا ملموسا، إعمالا للمبدأ القاضي بـ أنه لا جريمة بدون سلوك خارجي ، وهو ما يعني استبعاد التفكير والهواجس النفسية من نطاق التجريم[7].
الركن المادي له ثلاثة عناصر :
- السلوك الإجرامي: وفق الفصل 110 من المجوعة الجنائية هو نشاط يصدر عن الجاني ، ويكون إما في صورة امتناع أو فعل يمكن إدراكه بواسطة الحواس.
- النتيجة الإجرامية: ونقصد بها الأثر المترتب عن نشاط الجاني حيث يظهر في التغير الذي يحدث في العالم الخارجي كأثر ملازم لهذا النشاط ، أي ما يحدثه السلوك من اعتداء على حق أو مصلحة يحميها القانون الجنائي.
- العلاقة السببية: وهي العلاقة القائمة ما بين الفعل الجرمي والنتيجة الإجرامية التي حصلت، والتي تثبت أن ارتكاب السلوك الاجرامي هو الذي أدى الى حدوث النتيجة الاجرامية ، فلا يمكن تصور قيام الجريمة قانونا إذا انعدمت رابطة السببية ولم تتحقق العلاقة بين الجريمة والمجرم والنتيجة الإجرامية، فمع انتفاء هذه الرابطة تنتفي المسؤولية الجنائية للفاعل ، ولو كانت النتيجة متصلة بالنشاط الصادر عن المتابع اتصال السبب أو المعلول بعلته[8].
فإذا اكتملت العناصر الثلاث كانت الجريمة تامة، أما إذا لم تكتمل أصبحت الجريمة ناقصة أو في مرحلة الشروع.
لكن الأمر يختلف في ما يخص الركن المادي وفق قانون حماية المستهلك عن الأحكام العامة، حيث إن المشرع قد خرج عن هذه الأحكام لحماية القيم الاقتصادية التي لها طابع خاص، حيث نجد أن المشرع يعتمد في العديد من النصوص على الفعل المادي فقط دونما اشتراط لحدوث النتيجة الاجرامية، وهو ما يصطلح عليها بجرائم الخطر، باعتبارها جرائم تهدد النظام الاقتصادي بصفة عامة ومصالح المستهلكين بصفة خاصة [9].
مثال ذلك ما جاء به الفصل الأول من ظهير 1959 المتعلق بالزجر عن الجرائم الماسة بصحة الأمة[10]، حيث جرم المشرع وعاقب كل من تاجر بصنع منتوجات أو مواد معدة للتغذية البشرية تكون خطيرة على الصحة العمومية أو باشر حوزها أو توزيعها أو عرضها للبيع، فهي إذن أفعال مجرمة بذاتها دون النظر لما سيترتب عليها من أضرار ، وهو ما تم تأكيده في قانون 08.31 عندما اعتبرت المادة 174[11] بمثابة نص عقابي لنص تجريمي يجد أساسه في مخالفة الأحكام الواردة في المادتين 21 و 22 من نفس القانون، بغض النظر عن الأضرار التي قد يسببها الإعلان الكاذب لجمهور المستهلكين.
أكثر من ذلك فقد ذهب المشرع المغربي إلى حد تجريم الأعمال التحضيرية واعتبرها جريمة مستقلة، يظهر ذلك بوضوح حينما عاقب في الفصل 6 من قانون 83.13 على مجرد حيازة مواد غذائية أو مشروبات أو منتجات فلاحية أو طبيعية مزيفة أو فاسدة أو سامة، وهو بتنصيصه على هذه الخصوصيات على مستوى الركن المادي في قانون حماية المستهلك كان يهدف إلى الحفاظ على صحة المستهلك من أي تهديد محتمل.
الفقرة الثانية : الركن المعنوي
لا يكفي وجود فعل أو ترك منصوص ومعاقب عليه من طرف القانون الجنائي لتقوم الجريمة ، بل لابد من توافر عنصري القدرة على التمييز والإدراك ثم القدرة على الاختيار عند ارتكاب الجريمة ، وهو ما يسمى بالركن المعنوي، فالركن المعنوي علاقة تربط النشاط الإجرامي الصادر عن إرادة متبصرة بفاعله ، ويكون الهدف من ذلك هو مخالفة القانون[12].
والجنايات والجنح الواردة في القانون الجنائي لا يُعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عمدا ، ومع ذلك قد يعاقب القانون على بعض الجنح المرتكبة خطأ لكن بمقتضى خاص ، كما هو الحال هنا في الجرائم الاستهلاكية، حيث يكفي توافر الركن المادي لقيام الجريمة دون تحقق النية الإجرامية ، مثال ذلك جريمة الإشهار الكاذب والمضلل[13]، أما المخالفات فيعاقب عليها ولو ارتكبت خطأ باستثناء الحالات التي يشترط فيها الإصرار[14] .
وعلى الرغم من ذلك فإن المحاكم تعتبر أن مجرد حيازة مواد مغشوشة قرينة مطلقة لإثبات جريمة الغش، ولا يدفعها حتى ثبوت حسن النية لدى المتهم، ذلك أن سوء النية أمر مفترض ، ولا تحتاج النيابة العامة إلى أي إثبات لسوء النية، كما أن المحاكم ليست ملزمة بالبحث عن هذا العنصر والتدليل عليه[15] ، ويرجع السبب في ذلك الى خصوصية النظام العام الاقتصادي والتطورات التي يعرفها العالم نتيجة التحولات الاقتصادية الكبرى ، والتي تستوجب على المهنيين اليقظة حتى لا يتعذر تنفيذ السياسة الاقتصادية ، وبالتالي ضرب مصالح المستهلكين عرض الحائط[16].
المبحث الثاني : قواعد المسؤولية الجنائية في قانون حماية المستهلك
يقصد بالمسؤولية الجنائية في إطار القواعد العامة ذلك الأثر القانوني المترتب عن الجريمة الذي يقوم على أساس تحمل الفاعل للجزاء الذي تعرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها هذه القواعد[17]، هذا من الناحية القانونية أما من الجانب الاجتماعي فتعد المسؤولية الجنائية رد الفعل الاجتماعي الواجب اتخاذه اتجاه المخالفات التي تنتهك حرمة العلاقات الاجتماعية، فقد استقرت المجتمعات على تبني مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية كما جاء في الفصل 132 من القانون الجنائي المغربي [18](المطلب الأول) ، لكن أمام سرعة التطورات الاقتصادية المتلاحقة لم يصمد هذا الاستقرار، وأصبح من الممكن تحميل الشخص المعنوي مسؤولية جنائية (المطلب الثاني) بعدما ظهرت أنواع جديدة من الجرائم أصبحت تعرف بجرائم الشركات.
المطلب الأول : المسؤولية الجنائية للشخص الطبيعي
الفقرة الاولى : مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية
لقد استقرت القوانين المقارنة على تبني مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية ، حيث ترى بأن عقوبة الجريمة لا تصيب الا من ارتكبها كفاعل اصلي أو مساهم أو مشارك، وهو ما نص عليه الفصل 132 من المجموعة الجنائية في فقرته الأولى : ” كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن :
- الجرائم التي يرتكبها.
- الجنايات أو الجنح التي يكون مشاركا في ارتكابها.
- محاولات الجنايات” .
أما من يكون وقت ارتكاب الجريمة في حالة يستحيل معها الإدراك والإرادة نتيجة خلل في قواه العقلية فإنه يكون غير مسئول جنائيا، في حين تكون مسؤولية الشخص ناقصة إذا كان مصابا بضعف في قواه العقلية وكان من شأن ذلك أن ينقص إدراكه وإرادته[19].
والمشرع في قانون الاستهلاك لم يشذ عن هذه القاعدة ، فهو يعمل بالقواعد العامة للأهلية الجنائية المنصوص عليها في القانون الجنائي ، وعليه يعد الجاني مسؤولا جنائيا بتمامه 18 سنة، أما الحدث الذي لم يبلغ سن اثنتي عشرة سنة كاملة فيعتبر غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه، أما الحدث الذي أتم اثنتي عشرة سنة ولم يبلغ الثامنة عشرة فيعتبر مسؤولا مسؤولية جنائية ناقصة بسبب عدم اكتمال تمييزه[20].
الفقرة الثانية : المسؤولية الجنائية عن فعل الغير
تجد المسؤولية الجنائية عن فعل الغير أساسها في اختلاف النظريات التي قامت بتكييفها ، وهي نظريتان :
- نظرية النيابة القانونية :
ومؤدى هذه النظرية هو اعتبار الشخص الذي يباشر الفعل المكون للجريمة ممثلا في نظر القانون عن رب العمل، فإذا وقعت الجريمة من الفاعل المباشر ( العامل ) نُسبت إلى الفاعل غير المباشر ( رب العمل ) و اعتبرت جريمة.
وقد اعتنقت محكمة النقض الفرنسية هذه النظرية في بعض أحكامها القديمة، فقد قضت في أحد قراراتها بإدانة رب العمل مع توافر شروط و طريقة تسيير المهن الصناعية المنظمة، وتلزم أساسا رئيس أو صاحب المنشأة إذ هو المنوط به شخصيا العمل على تنفيذها، فإذا ما ارتكبت الجريمة حتى بواسطة أحد تابعيه فإنه هو الذي يعد مخالفا للقانون قبل أي اعتبار آخر.
و قد لقي هذا الاتجاه انتقادا من بعض الفقه على أساس أن فكرة النيابة غريبة على المسؤولية الجنائية ، إذ لا يقبل المنطق القانوني القول بأن بعض الناس يمثلون بعضا في ارتكاب الجرائم و المسؤولية عنها.
ب- نظرية الخضوع الإداري : و تبين هذه النظرية أن من يدير مشروعا من مشاريع مهنة من المهن يقبل الخضوع لما يفرضه القانون عليه من الالتزامات المتعلقة بنشاطه ، كما يتحمل نتائج الإخلال بهذه الالتزامات و من بين النتائج المسؤولية الجنائية التي تنشأ بهذا الإخلال.
ج- نظرية الاشتراك : فيرى البعض أن رب العمل المسؤول عن فعل الغير و المستفيد من ارتكاب الجريمة ، يعد شريكا في الجريمة سواء بالتحريض أو بالاتفاق أو بمساعدة الفاعل المادي للجريمة.
لكن يعاب على هذه النظرية أنه وفقا للقواعد العامة يلزم توافر قصد الاشتراك في الجريمة ، و هذا غير متوافر في المسؤولية المعروفة في القانون لأن الشريك يستمد صفته من الجريمة التي وقعت و من الاشتراك الذي ارتكبه و عن قصده من فعلته.
والمشرع الجنائي بعد أن قرر مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية في الفصل 132 من القانون الجنائي، أضاف استثناء على هذه القاعدة في الفقرة الأخيرة من نفس القانون ، حيث يمكن المساءلة عن فعل الغير وذلك في الحالات التي ينص فيها القانون صراحة على خلاف مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية.
وبهذا الاستثناء ترك المشرع المغربي الباب مفتوحا للمسؤولية الجنائية عن فعل الغير[21].
وبالرجوع إلى قانون حماية المستهلك لا نجد الحالات التي تطبق الاستثناء المنصوص عليه في القواعد العامة إلا نادرا ، لكننا نجد ذلك في الفصل 10 من قانون زجر الغش في البضائع (13.83)[22].
من خلال ما سبق يتضح أن المشرع المغربي لم يساير متطلبات النظام العام الاقتصادي والعصري، ولم يراع مصالح المستهلكين، حيث سيؤدي العمل بمبدأ المسؤولية الجنائية الشخصية إلى إفلات العديد من المجرمين من العقاب بالرغم من أن دورهم يكون رئيسيا في ارتكاب هذه الجرائم.
الفقرة الثانية : المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
يقصد بالأشخاص المعنوية مجموعة من الأشخاص أو الأموال ترمي إلى تحقيق غرض معين، ويمنحها القانون الشخصية القانونية بالقدر اللازم لتحقيق هذا الغرض[23]، وقد انقسم الفقه إلى مؤيد ومعارض لفكرة تحمل الشخصية المعنوية مسؤولية جنائية ، حيث نجد أن المؤيدين هم أنصار الاتجاه التقليدي الذي يرى عدم إمكانية تحميل الأشخاص المعنوية مسؤولية جنائية ، مؤيدهم في ذلك أن طبيعة الجريمة تأبي أن يكون مرتكبها شخص معنوي، بل إن حصولها من شخص اعتباري يعتبر من المحال، وهو ما ذهبت إليه محكمة النقض المصرية معتبرة أنه لا تسأل جنائيا الأشخاص المعنوية عما يقع من ممثليها من جرائم أثناء قيامهم بأعمالها.[24]
بينما يرى الاتجاه الحديث أنه من الضروري إقرار المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية نظرا للتطور الحاصل في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وما صاحبه من تزايد في النشاط والتعامل التجاري.
وبالرجوع إلى مجموعة القانون الجنائي المغربي نجده لم يأخذ بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي صراحة، ولكن كاستثناء، وذلك من خلال الفصل الأول الذي نص على أن التشريع الجنائي يحدد أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، فاستعمال لفظ الإنسان وهو ما يجعل المخاطب هنا بالضرورة شخصا ذاتيا، ويكون بذلك قد أغفل الأشخاص الاعتبارية[25] .
لكنه استدرك الأمر ونص كاستثناء على القاعدة العامة، في الفصل 127 الذي جاء فيه ” لا يمكن أن يحكم على الأشخاص المعنوية إلا بالعقوبات المالية والعقوبات الإضافية الواردة في الأرقام 5 و6 و7 من الفصل 36 ويجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62.“
كما جاء في قرار عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء حيث أدانت فيه شركة بجنحة الغش في مادة الدقيق وعاقبتها بغرامة تقدر بـ 8000 درهم مع تحمل الصائر،[26] هذا القرار جاء منسجما مع الفصل 127 من القانون الجنائي، وعلى نقيض ذلك جاء قرار آخر مخالف للفصل127 ، حيث توبعت شركة في شخص مديرها وحكمت عليه المحكمة بعقوبة الحبس لمدة شهر واحد مع وقف التنفيذ [27] وغرامة 10000 درهم في جنحة الغش في المواد الغذائية وتم تأييد الحكم من طرف محكمة الاستئناف[28].
وأمام هذا التجاذب بين الاتجاهين التقليدي والحديث نجد أن المشرع المغربي أقر بمسؤولية الشخص المعنوي في قانون حماية المستهلك حيث نصت الفقرة الثالثة من المادة 187 على أنه :” إذا كان مرتكب المخالفة شخصا معنويا، يتحمل مسيروه مسؤولية الأضرار المترتبة عن المخالفة بالتضامن معه“ أي يتضامن مع الشخص المعنوي.
هكذا يمكن القول أن سياسة التجريم والعقاب في قانون تدابير حماية المستهلك قد حاولت وضع حلول قانونية فعالة لمواجهة الجرائم المرتكبة في حق المستهلك ، ولا أدل على ذلك من خروجها عن المقتضيات العامة في القانون الجنائي ، واعتبار الجرائم المرتكبة في حق المستهلك جرائم خطر لا تستوجب تحقق الركن المادي لقيامها ، وهو إذا كان ضمانة في يد المستهلك ، إلا أن هناك عقبات حقيقية تعترض هذا الأخير خصوصا من الناحية الاجرائية التي تعتبر السبيل الوحيد لنيل الحق في دولة الحق والقانون .
هكذا نجد أن ضعف المركز القانوني والاقتصادي للمستهلك أمام موردين متمكنين اقتصاديا وقانونيا ، يحول بينه وبين تطبيق المقتضيات الجنائية الواردة في قانون تدابير حماية المستهلك رغم توسع مجال التجريم في هذا القانون، أضف إلى ذلك إشكاليات النزاع الجماعي وصعوبة حصول جمعيات حماية المستهلك على صفة المنفعة العامة من أجل اكتساب صفة التقاضي أمام المحاكم في النزاع بين المستهلك والمورد ، وأمام تعقد مساطر المتابعة يظل المستهلك غير قادر على تحقيق الحماية القضائية رغم الترسانة القانونية والحيز الواسع للتجريم والعقاب في قانون 31.08 .
طنجة في 23-10-2018
إعداد : فوزي أكريم
طالب باحث ، حاصل على الماستر في القانون الخاص ، ماستر القانون المدني والأعمال دفعة 2018، جامعة عبد المالك السعدي ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة .
لائحة المراجع
- سعاد حميدي ، الوجيز في شرح القانون الجنائي الخاص، مطبعة سيلكي الاخوين، طنجة، الطبعة الثانية 2015
- عبد السلام بنحدو : ” الوجيز في القانون الجنائي المغربي” ، مطبعة اسبارطيل ، طنجة ، الطبعة الثالثة 2008
- عبد الهاذي ابلطان : ” الحماية الجنائية للمستهلك في ضوء قانون 08 ” ، رسالة لنيل دبلوم الماستر في النظام الجمركي ، كلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية طنجة، السنة الجامعية 2015-2016
- احمد محمود علي خلف : ” الحماية الجنائية للمستهلك في القانون المصري والفرنسي ، دراسة مقارنة ” ، دار الجامعة الجديدة للنشر، الاسكندرية، طبعة 2005
- عزيز فيدة : ” الحماية الجنائية للمستهلك على ضوء قانون 31.08 “، بحث نهاية التكوين بسلك الماستر العلوم الجنائية وحقوق الإنسان ، الرباط ، سنة 2013-2012
- عبد الحفيظ دين : ” الحماية الجنائية للمستهلك في ضوء القانون المغربي “، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الجنائي والعلوم الجنائية ، وجدة ، سنة 2012-2011
- العلمي عبد الواحد : ” شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام ” ، طبعة 2015
- زكرياء البوشوكي : ” الحماية الجنائية للمستهلك، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص سنة 2006-2007 طنجة
- عبد الواحد العلمي : ” القانون الجنائي المغربي، دراسة في المبادئ العامة التي تحكم الجريمة والمجرم والعقوبة والتدبير الوقائي ” ، الطبعة الثالثة، 2009
- فتوح عبد الله الشاذيلي : ” المسؤولية الجنائية ” ، دار المطبوعات الجامعية
- محمود داوود يعقوب : ” المسؤولية في القانون الجنائي الاقتصادي ” ، منشورات الحلبى الحقوقية ، الطبعة الأولى 2008.
- ابن خدة رضى : ” محاولة في القانون الجنائي للشركات التجارية ” ، الطبعة الثانية ، سنة 2012
[1] – سعاد حميدي ، الوجيز في شرح القانون الجنائي الخاص، مطبعة سيلكي الاخوين، طنجة، الطبعة الثانية 2015، ص 15.
[2] عبد السلام بنحدو : ” الوجيز في القانون الجنائي المغربي” ، مطبعة اسبارطيل ، طنجة ، الطبعة الثالثة 2008 ، ص 78.
[3] عبد الهاذي ابلطان: ” الحماية الجنائية للمستهلك في ضوء قانون 31.08 ” ، رسالة لنيل دبلوم الماستر في النظام الجمركي ، كلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية طنجة، السنة الجامعية 2015-2016، ص 33.
[4] احمد محمود علي خلف : ” الحماية الجنائية للمستهلك في القانون المصري والفرنسي ، دراسة مقارنة ” ، دار الجامعة الجديدة للنشر، الاسكندرية، طبعة 2005، ص 224.
[5] – عزيز فيدة : ” الحماية الجنائية للمستهلك على ضوء قانون 31.08 “، بحث نهاية التكوين بسلك الماستر العلوم الجنائية وحقوق الإنسان ، الرباط ، سنة 2013-2012 ، ص 20.
[6] – عبد الحفيظ دين : ” الحماية الجنائية للمستهلك في ضوء القانون المغربي “، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الجنائي والعلوم الجنائية ، وجدة ، سنة 2012-2011 ، ص36.
[7] – عبد السلام بنحدو : ” الوجيز في القانون الجنائي المغربي ” ، الطبعة الثالثة 2008 ، مطبعة اسبارطيل ، طنجة ، ص23
[8] – العلمي عبد الواحد : ” شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام ” ، طبعة 2015، ص 166 و 171 و 172.
[9] – عزيز فيدة : ” الحماية الجنائية للمستهلك على ضوء31.08″ ، مرجع سابق ، ص17.
[10] – الفصل 1 من ظهير 1959
[11]– المادة 174 من قانون 08.31 المتعلق بتحديد تدابير حماية المستهلك ” يعاقب بغرامة من 50.000 إلى 250.000 درهم على مخالفات أحكام المادتين 21 و22 “.
[12] – عبد السلام بنحدو : ” الوجيز في القانون الجنائي المغربي” ، مرجع سابق ، ص162.
[13] المادة 21 من قانون 31.08 : ” دون المساس بمقتضيات المادتين 2 و 67 من القانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري ، يمنع كل إشهار يتضمن، بأي شكل من الأشكال، إدعاء أو بيانا أو عرضا كاذبا…” .
[14] الفصل 133 من المجموعة الجنائية
[15] – زكرياء البوشوكي : ” الحماية الجنائية للمستهلك، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص سنة 2006-2007 طنجة ، ص50.
[16] – عبد الهادي ابلطان : ” الحماية الجنائية للمستهلك على ضوء قانون 31.08 ” ، مرجع سابق ، ص35 .
[17] – عبد الواحد العلمي : ” القانون الجنائي المغربي، دراسة في المبادئ العامة التي تحكم الجريمة والمجرم والعقوبة والتدبير الوقائي ” ، الطبعة الثالثة، 2009 ، ص 201.
[18] – عبد الحفيظ دين، مرجع سابق ، ص 40.
[19] – عزيز فيدة، مرجع سابق ، ص17
[20] الفصل 138 من المجموعة الجنائية
[21] – زكرياء البوشوكي ، الحماية الجنائية للمستهلك ، مرجع سابق ، ص55.
[22]– الفصل 10 من 13.83 جاء فيه ” …ويكون المعلن المباشر الإعلان لحسابه مسؤولا بصفة أصلية عن المخالفات المرتكبة.”
[23] – فتوح عبد الله الشاذيلي : ” المسؤولية الجنائية ” ، دار المطبوعات الجامعية ، الطبعة غير متوفرة، ص26.
[24] – محمود داوود يعقوب : ” المسؤولية في القانون الجنائي الاقتصادي ” ، منشورات الحلبى الحقوقية ، الطبعة الأولى 2008.
[25] – ابن خدة رضي : ” محاولة في القانون الجنائي للشركات التجارية ” ، الطبعة الثانية ، سنة 2012 ، ص 181.
[26] – قرار المجلس الأعلى- محكمة النقض عدد 7919 ملف رقم 19756 صادر بتاريخ 02/12/1992 منشور بمجلة المرافقة العدد 7 دجنبر عن هيئة أكادير ص 109.
[27] – وقف التنفيذ نعني بها وقف تنفيذ العقوبة على المحكوم عليه لفترة محدودة وبشروط معينة حتى ترتأي المحكمة أن الجاني لن يعود إلى جرائم جديدة.
[28] – قرار المجلس الأعلى عدد642-7ملف 20384 بتاريخ 23/2/1993 منشور بمجلة المرافقة عدد 7 دجنبر 1997 عن هيئة أكادير ص 112.