في الواجهةمقالات قانونية

شرط التحكيم المضمن باتفاقيات تأسيس الوكالات الدولية المتخصصة.

شرط التحكيم المضمن باتفاقيات تأسيس الوكالات الدولية المتخصصة.

محمد أوبالاك، محام و باحث في مجال القانون الدولي الاقتصادي.

مقدمة :

يعد التحكيم من بين أقدم الوسائل الودية لحل المنازعات، وقد تطرقت إليه جميع النصوص ذات المصدر الديني والوضعي، للدور الذي يلعبه كطريقة مثلى بديلة إلى جانب الصلح والوساطة والتوفيق، في حل المنازعات بين أطراف ذاتيون ومعنويون وطنيون ودوليون، وهي منازعات ناتجة أساسا عن وجود صعوبات تتعلق بتنفيذ بنود اتفاق أو عقد مبرم بينهم.

إلا أنه عادة ما يتم اللجوء إلى التحكيم بهدف استغلال المميزات التي يتمتع بها كالنجاعة والسرعة في تحقيق النتائج المرجوة بين الأطراف التي تتفادى خوض تجربة وضع ملف المنازعة بين يدي القضاء،  توجسا منها لبطء اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب لتحقيق النتائج المنتظرة.

مما يجعل الحديث عن تقنيات التحكيم في مدلولها العام (النظري والعملي)، وكذا الحديث عن أنواعه وشروطه، هو حديث عما يمكن أن يستوحي من خلال ما بسطه الجانب القانوني والفقهي من تعريفات، أو ما يمكن أن يستقى من الواقع العملي في تطبيق مقتضيات التحكيم كشرط مشار إليه كبند من بنود العقد الأصلي أو كمشارطة ينص عليها اتفاق لاحق.

وقياسا عليه، فإننا نجد أن التعريف المخصص للتحكيم على الصعيد القانوني، هو ما تطرق إليه القانون الوطني لمجموعة من الدول، والذي نتخذ منه كنموذج ما نص عليه  المشرع المغربي من خلال القانون رقم 05/08 الذي نسخ وعوض بمقتضاه الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية، وهو القانون الصادر بتاريخ: 2007/12/06، حيث أشار إلى أنه: ” يراد بالتحكيم حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الأطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم”.

بيد أننا نجد أن التعريف الفقهي للتحكيم هو ما أجمع عليه مجموعة من الفقهاء الرواد في هذا المجال، كموتوسكلي ودوبواسيسو وجون روبير ود.دافيد، الذين رأوا في التحكيم آلية لفض النزاع بواسطة شخص أو هيئة، يصدر عنها مقرر تحكيمي مضمن به اتفاق الأطراف التي اختارت سبيل فض النزاع وديا بعيدا عن دواليب المحاكم[1]، في حين يرى الفقيه علي صادق أبو هيف أن “التحكيم هو النظر في نزاع بمعرفة شخص أو هيئة يلجأ إليه أو إليها المتنازعون مع التزامهم بتنفيذ القرار الذي يصدر في النزاع”، ليعرفه الفقيه أحمد أبو الوفا بـ: “التحكيم هو وسيلة لحل المنازعات التي تثور بين أشخاص القانون…، بواسطة قضاة يتم اختيارهم، واستنادا إلى قواعد قانونية يجب احترامها وتنفيذها”.

وكما أن للتحكيم مفهومه ومدلوله القانوني والفقهي، فإن له بالمقابل أنواعه، والذي يقسمه العارفون بالمجال إلى: تحكيم داخلي يتعلق بالمنازعات التي تجتمع فيه عناصر تعلقه بدولة واحدة لا غير من حيث وحدة جنسية الخصوم والمحكمين والقانون الواجب التطبيق ومكان انعقاد التحكيم وصدور مقرره، ثم تحكيم دولي الذي يتعلق بمصالح خصوم دوليون ذوي جنسيات مختلفة ويحتكمون لقوانين مختلفة، قد يتنازعون حول مكان انعقاد التحكيم والقانون الواجب التطبيق والجهة الموكول إليها مهمة المصادقة على المقرر التحكيمي وكذا البت فيه في حالة رفع مسطرة الطعن في مضمناته، ثم تحكيم حر يلبي رغبة الخصوم في تحديد القواعد والإجراءات التي قد يتبعها المحكم، وتحكيم مؤسسي تتولاه منظمات دولية أو وكالات متخصصة متفرعة عنها أو هيئات وطنية تنصاع لقواعد وإجراءات موضوعة ومحددة مسبقا، ثم تحكيم اختياري وهو الذي لا يختلف اختلافا عميقا عن التحكيم الحر، إلا أنه ينفرد عنه في صيغة الاختيار بين اللجوء إلى محكم حر أو عرض الملف على جهة قضائية مختصة محليا ونوعيا أو حتى قيميا، وأخيرا نجد التحكيم الإجباري الذي تنعدم فيه إرادة الأطراف كونه يصدر عن جهة محتكرة لاتخاذ القرار من قبيل منظمة دولية أو هيئة حكومية لا يمكن الاتفاق على مخالفة إرادتها لسابق التوقيع على اتفاق أو اتفاقية ضمن بها شرط التحكيم كإجراء إجباري لا يمكن الاتفاق على مخالفته.

واستنادا إلى ما سلف ذكره بخصوص التحكيم كشرط من حيث تعريفه ومدلوله ونطاقه، وهي الأمور التي قد لا تثير إشكالا أو خلافا كبيرا لو أقرنا تقنيات التحكيم بالمنازعات التي تحكمها وتؤطرها مقتضيات القانون الخاص الوطني أو القانون الدولي الخاص والجهة القضائية الوطنية التي سوف تقضي بالمصادقة على القرار التحكيمي، لكن الإشكال قد يتسع مجاله و تفتح له أقواسا كثيرة، إذا ما أقرناه بالمنظمات الدولية أو الوكالات الدولية المتخصصة المتفرعة عنها، التي تضمن شرط التحكيم باتفاقيات تأسيسها، وهنا يجدر الحديث عن تحكيم من نوع خاص، يمكن إدخاله في زمرة التحكيم المؤسسي والإجباري والدولي في آن، وهو التحكيم الرامي إلى حل منازعات استثنائية تدخل في زمرة مهام المنظمة الدولية أو الوكالة الدولية المتخصصة، وهو ما سوف يكون موضوع بحثنا المتواضع هذا الذي سوف يسلط الضوء على إشكالية ” شرط التحكيم المضمن باتفاقية تأسيس الوكالات الدولية المتخصصة” متخذين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير وباقي المؤسسات المنبثقة عنه، كنموذج لوكالات متخصصة عهد إليها بمهام تنظيم العلاقات المالية والنقدية الدولية ومراقبة نظام الصرف والبحث عن حلول جذرية للصعوبات الاقتصادية التي قد تعصف بالدول الأعضاء بها ومحاولة تقويضها عن طريق تشجيع المشاريع التنموية والاستثمارية، وهو ما سوف يتيح لنا الفرصة في استعراض الإطارين القانوني والمؤسساتي المنظمين لعملية تفعيل شرط التحكيم المنصوص عليه في اتفاقيتي تأسيس هتين الوكالتين، وكذا التطرق للإشكاليات الناتجة عن تنفيذ مقررات التحكيم في مواجهة الأطراف.

إنه وتسهيلا لمأمورية التحكم في خيوط البحث ومحاولة استجماع المعلومات اللازمة حوله، تحقيقا للهدف وتعميما للفائدة المرجوتين من طرح ومناقشة الموضوع، سوف نعمد أولا إلى معالجة إشكالية الإطار القانوني المنظم للوكالتين المتخصصتين ” صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات التابعة له” من حيث إلزامية قراراتها تجاه الدول الأعضاء في مبحث أول، ثم ننتقل في مبحث ثان إلى التطرق لشرط التحكيم المضمن باتفاقيتي التأسيس، والجهة المعهود إليها بتفعيله والبت فيه وكذا تنفيذ مقتضيات، مع ما يتخلل ذلك من رصد لأهم الإشكالات القانونية والواقعية الناتجة عنه.

 

المبحث الأول: الإطار المنظم لعمل الوكالتين الدوليتين المتخصصتين: صندوق النقد الدولي

والبنك الدولي للإنشاء والتعمير

 

إن الحديث عن إلزامية بنود اتفاقية تأسيس منظمة دولية ما أو وكالة دولية متخصصة معينة، يجرنا للحديث عن الآليات القانونية والواقعية الممنوحة لهذه الكيانات الدولية التي تستمد سيادتها واستقلاليتها من سيادة واستقلالية الدول الأعضاء بها، لأداء المهام المنوطة بها، وهي ما تعبر عنه – مثلا – المادة الأولى (القسم 1.02) من الشروط العامة لاتفاقية تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير ” الشروط العامة للإقراض”، التي أشارت بصريح العبارة إلى: ” إذا ظهر تعارض بين الأحكام المنصوص عليها في أية اتفاقية قانونية وبين الأحكام المنصوص عليها في هذه الشروط العامة، تكون العبرة بأحكام هذه الاتفاقية القانونية”.

واختصارا للوقت والجهد، سوف نخصص بحثنا هذا، لاتخاذ الوكالتين الدوليتين المتخصصتين: صندوق النقد الدولي ومعها البنك الدولي للإنشاء والتعمير[2] كنموذجين مهمين لاختصار مهام باقي الوكالات الدولية المتخصصة الأخرى، مخصصين هذا المبحث لرصد الإطار المنظم لعملهما سواء من الناحية القانونية أو المؤسساتية[3].

المطلب الأول: الإطار القانوني لمهام الوكالتين المتخصصتين صندوق النقد الدولي

والبنك الدولي للإنشاء والتعمير:

ففي الوقت الذي منح لصندوق النقد الدولي مهمة المراقبة المالية والنقدية ثم التمويل والاستثمار المتعلقة بالدول الأعضاء بها، وكذا استفادة البنك الدولي بمجموعاته الخمسة بالوصفة الصحيحة في علاج الاختلالات الاقتصادية من خلال ما ينجزه صندوق النقد الدولي من تقارير استشارية ومن دراسات تقنية، مما يجعل الوكالتين على السواء مؤسستين ذات كيان قانوني واقتصادي وسياسي دولي، وأنهما بذلك تعدان أحد الأجنحة الاقتصادية لمنظمة الأمم المتحدة، وهما الوكالتين اللتين انبثقتا سنة 1944 عن مقررات مؤتمر بروتون وودز بالولايات المتحدة الأمريكية[4].

وإن الجواب عن الإطار القانوني المنظم للوكالتين، هو ما نجده في المواد 57 و58 و59 و60 و 63 من ميثاق الأمم المتحدة كنص عام مؤطر لمهام المنظمات الدولية وما يتفرع عنها من وكالات دولية متخصصة، كما نجده بالمادة التاسعة من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي – النص الخاص – التي تشير في القسم الأول منها على أن الصندوق يتمتع بشخصية قانونية كاملة ولديه القدرة على وجه التحديد، على ممارسة حق التعاقد وحق اكتساب الأموال الثابتة والمنقولة والتصرف فـيها والحق في التقاضي، في حين تشير المادة السابعة من اتفاقية تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير من خلال البند 1 منها الذي يشير إلى تمتع البنك الدولي في أراضي الدول الأعضاء بالوضع القانوني والحصانات والامتيازات التي تنص عليها هذه المادة، وذلك لتمكينه من القيام بالوظائف المسندة إليه، كما يشير البند 2 إلى كون البنك الدولي يتمتع بشخصية قانونية كاملة، وتكون له على وجه الخصوص أهلية التعاقد واكتساب ملكية العقارات واتخاذ الإجراءات القانونية والقضائية (حق التقاضي) .

وإمعانا منا في قراءة مقتضيات المادة التاسعة من اتفاقية إنشاء الصندوق وكذا المادة السابعة من اتفاقية إنشاء البنك الدولي، وتفكيكا للحمولة القانونية للعبارات المضمنة بهما وقياسا على الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية وقانون الالتزام والعقود المغربي- على سبيل المثال-، سوف نلاحظ أن عبارات من قبيل:

“يتمتع الصندوق بشخصية قانونية كاملة” وله ” حق التقاضي”، ويتمتع البنك الدولي بالوضع القانوني والحصانات والامتيازات والشخصية القانونية وحق التقاضي، هي العبارات التي تحيل على أن للصندوق وللبنك الدولي شخصية معنوية عـــــــامة، وأنهما مؤسستان قائمتا الذات، وهما بذلك كيانين قانونيين وواقعيين يتمتعان بالصفة والأهلية والمصلحة في رفع الـدعاوى والتصدي لها، وحق الدفاع عن مصالحهما أمام المحاكم المختصة نوعيا ومحليا.

كما يمكن أن نستشف إلزامية بنود الاتفاقية، من واقعة أن الدول الأعضاء وبمجرد التوقيع والمصادقة أو الانضمام إلى الاتفاقية التأسيس[5]، تمنح مباشرة للصندوق وللبنك الدولي الحق في تمثيلها بكل ما يتعلق بالمهام الموكولة إليهما، وهو ما تنص عليه صراحة مقتضيات المادة الواحدة والثلاثون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي الفقرة (ز) التي تنص على أنه:”تصبح الحكومات بمجرد التوقيع على هذه الاتفاقية ملتزمة بأحكامها…”[6]، وكذا مقتضيات المادة 11 من اتفاقية إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير من خلال البند 1 المتعلق بنفاذ الاتفاقية من خلال عبارة: ” تدخل هذه الاتفاقية حيز النفاذ عندما يوقع عليها ممثلو حكومات لا تقل اكتتاباتها عن 65 بالمائة من مجموع الاكتتابات المبنية في الملحق “ألف”….”، إذ أنه تنصهر سيادة واستقلالية الدول الأعضاء في سيادة واستقلالية هتين الوكالتين[7].

بيد أن الحسم الناجع لهذه الجزئية، هو الذي سوف يبنى على واقعة سمو الاتفاقية أو المعاهدة على بعض القوانين الوطنية، إذ تعتبر الاتفاقية مصدرا من مصادر التشريع في القانون الدولي كونها تعتبر المصدر الأصلي للتشريع المعبر عن إرادة الدول داخل المجتمع الدولي[8] ، وهو المصدر الذي يؤخذ به في تأطير الأحكام والفتاوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية بلاهاي، وهو ما نستنبطه من خلال إطلاعنا على مقتضيات المادة 38  من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية[9]، وكذا ما تشير إليه الفقرة 2 من المادة 43 من لائحة محكمة العدل الدولية من خلال عبارة ” في حالة ما إذا كان تفسير اتفاقية أحد أطرافها منظمة دولية عامة مطروحا في قضية معروضة على المحكمة، تنظر المحكمة فيما إذا كان يتعين على رئيس القلم أن يخطر بذلك المنظمة الدولية العامة المعنية…” .

بيد أن تقنيتي التنزيل والملاءمة تمنحان الاتفاقية الدولية هذه القيمة القانونية والسياسية، وهو ما قد نجده على سبيل المثال لا الحصر في تصدير دستور المملكة المغربية لسنة 2011 الذي جعل من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو- فور نشرها- على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة[10].

أنه وبعد أن بسطنا مجموعة التبريرات القانونية والسياسية التي تقر بسمو الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، بمجرد توقيعها من طرف دولة معينة، فإن المجال يصبح مناسبا لننتقل إلى بسط مضمنات المبحث الثاني من هذا الموضوع، في شقه المتعلق بتضمين شرط التحكيم في اتفاقيتي تأسيس الوكالتين الدوليتين المتخصصتين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات التابعة له.

المطلب الثاني: الإطار المؤسساتي لنشاط الوكالتين المتخصصتين صندوق النقد الدولي

والبنك الدولي للإنشاء والتعمير:

تضم الوكالتين الدوليتين المتخصصتين مجموعة من الهياكل التنظيمية التي تترجم الإطار المؤسساتي لهما، من باب ما عهد إليهما من مهام مراقبة العمليات المالية للدول الأعضاء وكذا اقتراح المشاريع التنموية والاستثمارية التي تساهم بشكل فعال في خلق الرواج الاقتصادي المطلوب، المساعد على الموازنة العامة لمواردها المالية، فنجد الإطار المؤسسي لكلا الوكالتين مترجم في مجلس المحافظين والمجلس التنفيذي والمدير العام والموظفين بالنسبة لصندوق النقد الدولي، ومجلس المحافظين والمديرون التنفيذيون والرئيس وجهاز الموظفين بالنسبة للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، إضافة للمكاتب الفرعية والمجالس الإقليمية لكلا الوكالتين عبر العالم.

بيد أننا سوف نجد أن مجلسي المحافظين في كلا الوكالتين، يعد هو العمود الفقري لتسيير المؤسستين والتحكم في عملية انخراط الأعضاء أو انسحابهم، حيث أنه بناء على كون الوكالتين الدوليتين متفقتين ومنسجمتين من باب التكامل والتنسيق فيما بينهما، وهو ما يمكن استجلاؤه من خلال قراءتنا القانونية للمقتضيات القانونية المتضمنة لاتفاقيتي تأسيس الوكالتين الدوليتين.

فإن كانت المادة السادسة والعشرين من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي (الأقسام 1 و2 و3)، تشير إلى كون أغلبية خمس وثمانون بالمائة من مجموع القوة التصويتية لمجلس المحافظين، يجيز مطالبة العضو العاجز عن الوفاء بأي من التزاماته بموجب الاتفاقية، الانسحاب الإلزامي من الصندوق لتتوقف بعدئذ عمليات الصندوق ومعاملاته العادية بعملة هذا العضو، لتتم تسوية كافة حساباته مع الصندوق، فإن مكوث العضو أو انسحابه الاختياري أو الإلزامي من الصندوق، هو الذي يحدد مصير مكوثه أو انسحابه من البنك الدولي، وهو ما تشير إليه مقتضيات المادة 6 من اتفاقية إنشاء البنك الدولي من خلال البند 3 التي تربط بين وقف العضوية في صندوق النقد الدولي واحتمالية عدم بقاء المنسحب كعضو بالصندوق، وذلك بناء على أغلبية ثلاث أرباع الأعضاء مع مراعاة القوة الوظيفية لمجلس المحافظين من خلال  الفقرة 3 من البند 2 من المادة 5 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي.

 

 

المبحث الثاني: قراءة في شرط التحكيم المنصوص عليه باتفاقيتي تأسيس صندوق الدولي

والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات التابعة له:

يبدو أن شرط التحكيم الذي تتضمنه اتفاقيتي تأسيس الوكالتين الدوليتين المتخصصتين صندوق الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات المنبثقة عنه، هو وثيق الصلة باتفاقية نيويورك لسنة 1958 التي تسمى اتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها، والتي دخلت حيز التنفيذ سنة 1959 ، إذ أنه من خلال إطلاعنا على محتوياتها نجدها، تسري على الدول والمنظمات الدولية والوكالات الدولية المتخصصة على السواء[11].

وأنه استنادا إلى مقتضيات هذه الاتفاقية سوف يتسنى لنا قراءة شرط التحكيم المضمن في اتفاقيتي تأسيس الوكالتين، مع التطرق لنقط التشابه والاختلاف والإشكاليات التي يطرحها إلزامية التحكيم في كل وكالة متخصصة على حدا، وبالتالي استجلاء أهم إشكالات تنفيذ أحكامها في مواجهة أطراف التحكيم الذي يطرح نفسه بقوة في النزاعات الناتجة عن عمليتي القرض والضمان اللتان تتبناهما اتفاقية تأسيس البنك الدولي والمؤسسات المنبثقة عنه.

المطلب الأول: شرط التحكيم المضمن باتفاقية إنشاء صندوق النقد الدولي[12]:

تنص الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على أنه: “عند نشوء خلاف بين الصندوق وعضو منسحب أو بين الصندوق أو أي عضو خلال تصفية الصندوق، يحال هذا الخلاف إلى التحكيم أمام هيئة تحكيم مؤلفة من ثلاثة محكمين، أحدهم يعينه الصندوق، وآخر يعينه العضو أو العضو المنسحب، وثالث هو المحكم المرجح الذي يعينه رئيس محكمة العدل الدولية أو أي سلطة أخرى بموجب الأنظمة التي يعتمدها الصندوق، ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك، ويتمتع المحكم المرجح بكامل الصلاحية للفصل في جميع المسائل الإجرائية والحالات التي التي يختلف فيها الطرفان”.

وبناء على تفكيك مقتضيات هذه الفقرة من حيث صياغتها وإجراءاتها والأطراف المخول لهم تفعيل شرط التحكيم، سوف نجد أن الصيغة آمرة ولو لم تسبق بكلمة “يجب” أو “يلزم” فكلمة “يحال” المبنية لفعل أمر، تعني أنه يجب اتخاذ القرار المأمور به بشكل لا خيار فيه، مما يعني أن التحكيم هنا إجباري وليس اختياري، وأنه صادر عن مؤسسة لها كيان قانوني وسياسي دولي مما يعني أن التحكيم مؤسسي ودولي، وأن شرط التحكيم هذا، يفعل في حالات عدة : عند قرار حكومة معينة الانسحاب اختياريا من الصندوق أو عند قرار الصندوق بإلزام العضو بالانسحاب مجبرا أو عند تصفية الصندوق لحساباته، وهي كلها تقنيات مالية  ونقدية جد معقدة، تدخل في مهام الصندوق التي يناط القيام بها إلى خبراء الصندوق وموظفوه المختصين، تحت وصاية المدير العام ومجلس المحافظين والمجلس التنفيذي للصندوق.

  • حالة الانسحاب الإجباري أو الاختياري للعضو من الصندوق:

فعملية انسحاب عضو من الصندوق مثلا، تنظمها مقتضيات المادة السادسة والعشرين من اتفاقية التأسيس المتعلقة بالانسحاب من عضوية الصندوق، وهو إما أن يكون انسحابا إلزاميا يجبر عليه العضو في حالة تماطله أو امتناعه عن الوفاء بالالتزامات المضمنة بالاتفاقية، وذلك عملا بمقتضيات القسم الثاني من نفس المادة وهو لا يثير أي إشكال في وجود نزاع حول القدر المستحق له في حالة انسحابه، فالانسحاب الإجباري يعني أنه مدين للصندوق وأنه مطالب بالسداد وليس بعرض منازعته وفق مسطرة التحكيم[13]، أو أن يكون انسحابا اختياريا من الصندوق وهو ما يجعل العضو المنسحب خاضع لمسطرة تسوية الحسابات مع مراعاة مقتضيات القسم الأول من نفس المادة وكذا الملحق “ياء” من الاتفاقية وما ينتج عنهما من إجراءات ومساطر دقيقة محددة بآجال [14].

  • حالة تطبيق مسطرة تصفية حسابات الصندوق:

في حين نجد أن مسطرة تصفية حسابات الصندوق المشار إلى مقتضياتها بالمادة السابعة والعشرين المتعلقة بأحكام الطوارئ من اتفاقية تأسيس الصندوق (القسم 2)، وهي المادة التي تحيل على ما ينص عليه الملحق “كاف” من اتفاقية التأسيس المفسر لإجراءات ومساطر مقيدة بشروط وآجال معينة، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بكمية احتياطي الذهب وقيمته، وكذا بسلة العملات المقبولة للتداول دوليا، وكذا بحقوق السحب الخاصة التي تطلق على العملات الورقية الافتراضية التي تحل محل الذهب وعملات التداول المالي والنقدي، وهي التقنية التي تمكن من سد الفراغ الذي قد يحدثه نقص المعدن الثمين أو النقد ذي القوة الشرائية الكبيرة عالميا[15].

  • الهيئة التحكيمية الموكولة لها بمهمة فض النزاعات:

أنه وبعد أن تم الحديث عن صيغة المادة السادسة والعشرين من اتفاقية التأسيس، ومحاولة تفسيرنا لمصطلحي الانسحاب والتصفية، فإن ذلك يمهد لنا السبيل للحديث عن الهيئة الموكولة إليها تفعيل شرط التحكيم المضمن بالفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرون، إذ أنه تم الإشارة بهذه المادة إلى: تنصيب محكم عن الصندوق ومحكم عن العضو المنسحب أو المستفيد من نتائج التصفية ، ثم محكما ثالثا يدعى المحكم المرجح والذي يعهد بمهمة تعيينه إلى رئيس محكمة العدل الدولية أو إلى أية هيئة معتمدة من طرف الصندوق نفسه، مع مراعاة السلطات الواسعة الممنوحة للمحكم المرجح في حالة وجود خلاف مستعص عن الحل بين طرفي النزاع (العضو والصندوق).

وتجدر الإشارة إلى أنه لا نجد الصعوبة الكبيرة لدى صندوق النقد الدولي في اختيار محكم يمثلها، فهي تتوفر على أطر كفؤة في المجالين الاقتصادي (المالي والنقدي) وكذا في المجال القانوني،  من خيرة الخبراء والتقنيين ذووا التكوين العالي في مجالات المال والأعمال والاستشارات القانونية، يتقنون فن التفاوض والتحاور بناء على استيعابهم لمهام الصندوق استنادا إلى المقتضيات المضمنة باتفاقيات تأسيس الصندوق وما نتج عنها من تفسيرات وتعديلات على مر التطبيق العملي لمقتضياتها على أرض الواقع.

كما أنه – وفي اعتقادنا – فلن يجد العضو (الدولة) المنسحب إجباريا أو اختياريا، أو الذي يريد الاستفادة من ثمار تصفية حسابات الصندوق،  صعوبة في ترشيح محكم ينوب عنه، فنفس ممثليه في علاقته العادية بالصندوق، هم من قد يرشح منهم أحدهم  ليتخذ صفة محكم، فالمغرب مثلا يمثله لدى الصندوق، الوزير المكلف بالاقتصاد والمالية بما في هذه الوزارة من أطر كفؤة ومتخصصة في العلاقات الاقتصادية الخارجية، أو أنه قد يعهد بالمهمة إلى والي بنك المغرب، بحكم العلم والتجربة التي يتوفر عليهما، أو إلى أي محكم ملم بعلم وفن العلاقات الاقتصادية بالشق القانوني.

لكن الإشكال الجوهري هو الذي ينصب حول اختيار المحكم المرجح الثالث، فهو يعهد باختياره إلى رئيس محكمة العدل الدولية بلاهاي، عن طريق جسر التواصل المتمثل في منظمة الأمم المتحدة التي لها الوصاية على الصندوق وعلى محكمة العدل الدولية في آن، أو أن هذا المحكم قد يعتمد من طرف الصندوق نفسه، فصندوق النقد الدولي – إذن- لما لديه من سلطة فرض الرأي استنادا إلى بنود الاتفاقية التي نجد بها علامات شروط نموذجية وإذعانية، له حق اختيار المحكم الأول و المحكم الثالث المرجح كذلك، مما قد يجعل الصندوق بمثابة خصم وحكم في نفس الوقت.

فاختيار المحكم المرجح عن طريق رئيس محكمة العدل الدولية بحكم اختصاصه المنصوص عليه في المادة  21من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وما يناط للمحكمة التي يترأسها من مهام نابعة من ولايتها على جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق “الأمم المتحدة” أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها، عملا بمقتضيات المادة 1-36 من نفس النظام الأساسي، يعني أن انعقاد الاختصاصين المحلي والنوعي يكون لهذه المحكمة، بخصوص البت في مقتضيات اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي وكذا تفسير مضمنات هذه الاتفاقية أو انتداب محكم من لدنها.

بيد أننا نعتقد – غير جازمين – بكون المحكم المرجح الثالث إن لم يكن معينا من طرف رئيس محكمة العدل الدولية، أو أنه لم يكن شخصا عاما أو خاصا ينتمي لهيئة تحكيم خاصة معتمدة من طرف الصندوق[16]، فإنه قد يعهد بمهمة اختياره إلى الممثل القانوني للمحكمة الدائمة للتحكيم، التي قد يعهد إليها بانتداب عضو محكم مرجح ثالث، بمناسبة أنها هيئة دولية قضائية عهد إليها بالبت في المنازعات التي تنشأ بين الدول والوكالات الحكومية والمنظمات الدولية، ولكونها هيئة قضائية انبثقت عن مقتضيات معاهدتي سنتي1899 و1907 ، وهي المعاهدتين التي تستمد منهما المهام والاختصاصات، خاصة ما أشير إليه بالمواد20  و29 و37 من اتفاقية لاهاي[17].

 

  • نماذج من مقررات تحكيمية عن منازعات بين الصندوق والأعضاء:

بيد أنه وإلى حدود الساعة وعلى رغم من طفو الإشكالية التي تدور حول الصيغة والطريقة التي يتم بها اختيار المحكمين الثلاثة تفعيلا لشرط التحكيم المنصوص عليه في الفقرة (ج) من المادة التاسعة والعشرين من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، فإن الأمور تبدو – إلى حد ما – واضحة ، لكن الإشكال المحوري الآخر الذي قد يطرح، مع مراعاة تطبيق – قياسا-  مقتضيات التحكيم الذي يؤطره القانون الوطني الخاص أو القانون الدولي الخاص وكذا ما قد نستخلصه من نصوص اتفاقية نيويورك لسنة1958  بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية[18]، ثم مراعاة للاختصاصين النوعي والمحلي المنعقدين لمحكمة العدل الدولية وللقوة القانونية والسياسية لاتفاقية تأسيس الصندوق، ثم لعدم وجود أي قانون ينظم جهة مختصة يعهد إليها بمهام التحكيم في المنازعات التي تنشب بين صندوق النقد الدولي وأي عضو منسحب أو راغب في الاستفادة من ثمار تصفية حسابات الصندوق، وذلك على غرار ما نجده حاضرا في تخصيص مقتضيات تحكيم وجهة مختصة للبت في كل ما قد ينشأ من منازعات عن تنفيذ اتفاقية قانون البحار ومنطقة التجارة العالمية[19]، ثم لانعدام أية مسطرة واقعية مست إجراءات انسحاب أو تصفية حسابات أي عضو بالصندوق، اتبع فيها المسطرة وظهرت بمقتضاها صعوبات أو إشكاليات في التطبيق، اللهم مثال الانسحاب السياسي الاختياري لفنزويلا [20]أو الانسحاب الإجباري لدولتي ليبيريا والسودان، الذي كان في جوهر مجرد تجميد عضوية وهو الإجراء الذي سرعان ما توصل بشأنه إلى تسوية ودية عن طريق جدولة ديون الدولتين، والاتفاق على صيغة معينة لسداد الديون المتراكمة[21].

إلا أن ذلك كله لن يمنعنا من افتراض نازلة تتعلق بوجود مقرر تحكيمي مفعل من خلال مقتضيات الفقرة (ج) من المادة التسعة والعشرون من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، وهو الافتراض الذي لن لا يحول دون اقتراح الحلول المستقبلية لهذه النازلة، وذلك من باب إصدار “استشارة استباقية”، خاصة وأن بوادر فشل الصندوق في أداء مهامه ظهرت إرهاصاتها خلال فترات متباعدة، وكان آخرها ما نتج عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لسنة 2008 وتسجيل مدى الدور السلبي الذي لعبه الصندوق بخصوص عدم التنبؤ بانفجار الأزمة والاستعداد التقني لتفاديها، بحكم وظيفته والمهام الموكولة إليه، وربما قد تظهر – مستقبلا- بوادر انسحاب أعضاء من الصندوق بشكل إجباري ناتج عن التوقف عن السداد أو أداء الاشتراكات، لسقوط مجموعة من دول عدة في أزمات مالية ونقدية كبيرة ومتكررة، أو قد يكون الانسحاب بشكل اختياري لتنامي الحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المناوئة لتحكم الدول الغنية (الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وفرنسا) في اتخاذ القرارات الانفرادية والتحكمية بالصندوق، وهو ما قد يعجل – كذلك- بالمضي في إجراءات الطوارئ وبالتالي تصفية حسابات الصندوق.

  • شكليات المقرر التحكيمي في نزاعات الصندوق:

وأنه على ضوء ما هو مسطر أعلاه، يمكننا طرح التساؤلات المحورية التالية حول المقرر التحكيمي وآثاره ، وذلك من قبيل: ما هي اللغة التي يصدر بها المقرر التحكيمي الاتفاقي؟ وهل أن إصدار المقرر الاتفاقي يكون كتابا أو شفويا؟ وهل هو مجاني أو مؤدى عنه؟ وأية جهة تراقب المقرر التحكيمي هذا ؟ وأية جهة تصادق عليه؟ وأية جهة تنظر في مسطرة مراجعة مضمناته؟

فإذا افترضنا مثلا أن هناك انسحاب إلزامي أو اختياري لعضو ما، أو أن هناك مضي في إجراءات تصفية حسابات الصندوق، ونتج عن هذا كله خلاف بين الصندوق والعضو المنسحب أو العضو الذي ينتظر تسلم قيمة اشتراكاته المالية في الصندوق والفوائد الناتجة عنها، وأنه نتج عن ذلك نزاع تم بمقتضاه تفعيل شرط التحكيم وتم اختيار المحكمين الممثلين للصندوق وللعضو، في حين عهد إلى رئيس محكمة العدل الدولية بلاهاي، اختيار المحكم الثالث المرجح، فإننا لا محال سوف نؤسس افتراضنا على مقتضيات النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، بما فيه من مواد تنظم عملية إصدار حكم أو فتوى تقاس على إصدار مقرر تحكيمي، الذي غالبا ما يكون صادرا بشكل كتابي، استنادا إلى مقتضيات اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وكذا مقتضيات اتفاقية نيويورك لسنة 1958 (الأونيسترال) .

إنه وقياسا عليه فإن مسطرة التحكيم غالبا ما تكون مسطرة مؤدى عنها، كما أن التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، هو تقاض مؤد عنه سواء من خلال المتقاضين أنفسهم أو من خلال إحلال منظمة الأمم المتحدة في الأداء عند الاقتضاء، وذلك وفق شروط وإجراءات معينة (المادة 33) من النظام الأساسي للمحكمة، في حين نجد أن اللغة التي تصدر بها الأحكام أو الفتاوى هي نفسها اللغة التي سوف تصدر بها المقررات التحكيمية نفسها  في حالة عدم اختيار الطرفين للغة صدور المقرر، هي كقاعدة عامة تتوزع بين صدورها باللغة الفرنسية أو اللغة الانجليزية أو كلاهما معا، مع وجود استثناءات في اختيار أحد المتقاضين للغة صدور الحكم (المادة 39) من نفس النظام الأساسي، لنجد أن الأحكام والفتاوى والمقررات الصادرة عن هذه المحكمة نهائية وغير قابلة للاستئناف كقاعدة عامة، مع وجود إمكانيات تتعلق بتطبيق مسطرة تفسير الحكم (المادة 60) من النظام الأساسي، أو تفعيل مسطرة طعن غير عادية متمثلة في مسطرة إعادة النظر، التي يحدد لها أجل ستة أشهر من تكشف الواقعة الجديدة وعشرة سنوات من تاريخ الحكم (المادة 61 )، مع السماح بإمكانية تدخل الغير الخارج عن الخصومة والذي لوحظ تضرره بصفة فعلية من المقرر التحكيمي والمتوفر على المصلحة والصفة في تقديم دعوى الطعن في المقرر التحكيمي، وذلك حالما توجد وقائع تثبت مساس هذا المقرر من خلال مقتضياته، وهو يبت في تمكين عضو منسحب أو مستفيد من تصفية حسابات الصندوق، بمصالح عضو آخر قد يرى في الأمر إجحافا فادحا في حقوقه المالية المكتسبة، خاصة و أن مالية صندوق النقد الدولي تعود للدول الأعضاء بها، وأن الصندوق – فقط – هو بمثابة تعاونية مالية ونقدية دولية، تزاول مهامها بناء على اشتراكات ومساهمات الأعضاء بها[22].

المطلب الثاني: شرط التحكيم المنصوص عليه باتفاقية تأسيس البنك الدولي ووثيقة

الشروط العامة للٌإقراض:

أنه وقبل التطرق للإشكاليات التي قد تطرحا عملية صدور الحكم التحكيمي، وما يتلوها من إجراءات للتنفيذ، سوف يكون لزاما علينا استعراض النصوص القانونية التي تنظم عملية التحكيم الإلزامية والمؤسسية التي يتبناها البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات المنبثقة عنه، سواء من خلال مقتضيات اتفاقية إنشاء البنك الدولي أو من خلال الشروط العامة للإقراض[23].

بناء على مقتضيات البند 4 من المادة 6 المتعلقة بالانسحاب وإيقاف العضوية، وما يترجمه نص البند 04.8 المتعلق بالمادة 8 من الشروط العامة للإقراض المتعلقة بالبنك الدولي من خلال الفقرات ذات الحروف الهجائية: ألف وباء و جيم وذال وواو وزاي وحاء وطاء وياء وكاف ولام وميم، فعلى غرار شرط التحكيم المضمن باتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، فإننا نجد بالمقابل بأن المادة  8 استهلت بدورها بعبارة تدل على فعل الأمر “يحال”  أي خلف بين أطراف اتفاقية القرض أو أطراف اتفاقية الضمانات، وأية مطالبة من جانب أي طرف تجاه أي طرف تنشأ في إطار اتفاقية القرض أو اتفاقية الضمانات بالاتفاق بين الطرفين، إلى التحكيم أمام هيئة التحكيم، وهو ما يدل على الإلزامية والوجوب إلى فض المنازعات بناء على شرط التحكيم،  الذي يعد البنك طرفا وأطراف القرض من جانب آخــــر (الفقرتين ذات الحرفين ألف وباء).

ونجد أن هيئة التحكيم بمنازعات البنك الدولي كطرف مع أطراف القرض، تتكون كمثيلها صندوق النقد الدولي، من ثلاث محكمين مع مراعاة الفروق الطفيفة بين الأمرين لكن نجد ان نفس الإشكاليات المطروحة بخصوص شرط التحكيم المضمن باتفاقية إنشاء الصندوق النقد الدولي هي التي سوف تنصرف على شرط التحكيم المقرر باتفاقية تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير، إذ يتم تعيين أحد المحكمين من طرف البنك الدولي ومحكم ثان يعينه أطراف القرض، وفي حالة عدم الاتفاق يعينه الضامن، وفي حالة عدم الاتفاق يعينه رئيس المحكمة محكمة العدل الدولية، وأنه في حالة فشل هذا الأخير، يعينه الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، وفي حالة الإخفاق يتم تعيين المحكم الثاني من طرف المحكم الثالث الذي يلعب دور المحكم المرجح، هذا الأخير الذي يعين من طرفي النزاع في اجل أقصاه ستين يوما من تاريخ الإخطار الذي يوجهه طرف لآخر وهو الإخطار الذي يضمن به طبيعة الخلاف أو المطالبة الذي يحال على التحكيم وطبيعة التعويض المطلوب واسم المحكم المعين من جانب الطرف طالب هذه الإجراءات، وذلك في غضون ثلاثين يوما من تاريخ هذا الإخطار، وفي حالة استقالة أحد المحكمين الأول أو الثاني أو وفاة أحدهما يتم التعيين بناء على نفس الإجراءات السابقة (الفقرات ذات الحروف جيم و دال وواو).

وأنه بعد اختيار المحكمين الثلاثة، يتم الاتفاق على تفاصيل اجتماع هيئة التحكيم من حيث الوقت والمكان اللذين يحددهما المرجح، ليتم البدء في عملية التحكيم من باب تحديد الاختصاصات والإجراءات، لتصدر جميع قرارات هيئة التحكيم بأغلبية الأصوات بعد إتاحة هيئة التحكيم لطرفي النزاع جلسة استماع عادلة وتصدر حكمها بشكل كتابي ولو بشكل غيابي موقع من طرف المحكمين الثلاث مع مراعاة عملية تقديم نسخة حكم لكل طرف من أطراف النزاع وهو حكم نهائي وملزم لأطراف اتفاقية القرض واتفاقية الضمانات، مع وجوب الامتثال لمقتضياته والتقيد بها (الفقرات ذات الحروف زاي وحاء وطاء).

وأنه بناء على مقتضيات الفقرة ذات الحرف ياء، التي تنظم عملية تحديد أطراف النزاع لمبلغ أتعاب المحكمين المختارين للبت وإصدار حكم التحكيم، سواء قبل بدء عملية التحكيم أو بعد صدور الحكم، وعند عدم اتفاقهما على المبلغ، تتولى هيئة التحكيم نفسها تحديد مبلغ معقول كأتعاب لما قامت به من مهام، إذ تسدد المبالغ بالتساوي بين جانبي المنازعة المنتهية بحكم تحكيمي.

وأنه بعد أداء تكاليف صدور حكم التحكيم، يحين موعد تنفيذ هذا الحكم الذي يغني عن أي إجراء سابق آخر لتسوية النزاع، ويحل حكم التحكيم محل أية تسوية للخلافات بين طرفي اتفاقية القرض واتفاقية الضمانات أو تسوية أية مطالبة تخص الاتفاقيتين، ليتم تحديد أجل ثلاثين يوما لتنفيذ الحكم الصادر بعد توصل طرفي النزاع بنسخة من الحكم المراد تنفيذه مع جواز استصدار حكم قضائي أمام أية محكمة متخصصة (نوعيا ومكانيا) ذات ولاية على الطرف الذي عليه تنفيذ ما قرر الحكم التحكيمي هذا، إذ ان المحكمة المختصة تتولى قرار تذييل الحكم التحكيمي ومنحه الصيغة التنفيذية (الفقرتين ذات الحرفين كاف ولام).

وأنه من خلال ما أوردناه من نصوص قانونية/اتفاقية بخصوص شرط التحكيم وطرق البت فيه وصدور حكمه أو مقرره، ثم تذييله بالصيغة التنفيذية عن طريق المحكمة المختصة نوعيا ومكانيا التي يقع ضمن نفوذها مقر الطرف المنفذ عليه، فإنه بالمقابل سوف يكون من الواجب تفسير بعض المفاهيم التقنية التي احتوتها النصوص القانونية المفصلة أعلاه (اتفافية تأسيس البنك الدول والشروط العامة للٌإقراض (لوائح قرض أو دفتر تحملات)، من قبيل محاولة ربط ذلك بالطبيعة القانونية لاتفاقيتي القرض والضمانات التي تدخل ضمن مهام البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسات المنبثقة عنه، ثم ننتقل بعد ذلك إلى استعراض أهم طرق تنفيذ أحكام أو مقررات التحكيم، وكذا إبراز الصعوبات التي قد تعتري عملية التنفيذ هذه من الناحية الواقعية.

  • الطبيعة القانونية لاتفاقية قروض البنك الدولي:

إن الحديث عن الطبيعة القانونية لاتفاقية القرض التي تربط بين البنك الدولي لجهة مقرضة والدولة العضو كجهة مقترضة، هو حديث عن الخانة التي يمكن وضع هذه الاتفاقية ضمنها وكذا تحديد المعايير التي قد تفسرها، لنجد أنفسنا نطرح مجموعة من التساؤلات من قبيل: هل هي اتفاقية عامة أم اتفاقية سياسية؟ هل هي اتفاقية تحتكم إلى سلطان الإرادة الثنائية للأطراف أو أنها اتفاقية ذات صبغة إذعانية؟ هل هي اتفاقية قرض تتداخل بها مقتضيات القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص؟

وإن معيار التفرقة بين الاتفاقيتين نجده حاضرا في مجموعة من آراء بعض من فقهاء القانون الدولي العام والقانون الدولي الاقتصادي وقانون المنظمات الدولية، فنجد مثلا أن الفقيه الفرنسي H.Adam الذي يرى أن اتفاقية القرض المتبناة من طرف البنك الدولي تنظم مواضيع ذات مصلحة مباشرة أو موحدة بالنسبة للدول الأعضاء مما يجعلها اتفاقيات عامة لا دخل للاتفاقيات السياسية بها، وهي بذلك تعتبر من قبيل دفتر التحملات أو كراسة الشروط التي تطبق بفرنسا والدول ذات الفكر الإداري الفرنكفوني (المستعمرات القديمة بأفريقيا)، في حين يرى الفقيهSalamon  أن اتفاقية القرض الصادرة عن البنك الدولي تقترب أكثر من عقد الإذعان الذي تكون شروطه نموذجية وموضوعة مسبقا، ولا يمكن للطرف المقترض والذي غالبا ما يكون طرفا ضعيفا في عملية إبرام أو الانضمام للاتفاقية، التدخل لتعديل بنود الاتفاقية أو مناقشة شروطها، لنجد الفقيه Olmstead يرى أن اتفاقية القرض تحتكم إلى مقتضيات القانون الدولي العام وليس إلى مقتضيات القانون الدولي الخاص، ما دام أن الجهة المقرضة وكالة دولية متخصصة نابعة من إرادة دول ذات سيادة تربطها داخل المجتمع الدولي علاقات دولية تحتكم للمصادر الأصلية والثانوية التي تتبناها مقتضيات القانون الدولي العام[24].

في حين نجد أن الرأي الراجح هو الذي تبناه الفقيه Salamon بخصوص اعتبار اتفاقية التحكيم ذات طبيعة إذعانية مع ربطه بعملية تنفيذ المقرر التحكيمي وفق مقتضيات القانون الدولي الخاص بعد تذييله بالصيغة التنفيذية أمام القاضي الوطني لدولة المنفذ عليه (البند ذي الحرف لام من القسم 8.04 من المادة 8 من الشروط العامة للإقراض) وهو المقتضى الاتفاقي الذي نجده يخالف من جانب معين رأي الفقيه Olmstead، وعودة إلى الصبغة الإذعانية لاتفاقية القرض فإننا نجد  أن مناط تطبيقها من خلال ما تضمنته مقتضيات  المادة الثالثة من ميثاق البنك الدولي التي تنص على أن: “أطراف اتفاقية القرض هم البنك الدولي من جهة والطرف (الحكومة أوالهيئات والمؤسسات العامة والخاصة في إقليم الدول الأعضاء) المقترضة من جهة أخرى”، وهو نفس الطرح الذي تتبناه المادة 9 من الشروط العامة للإقراض، خاصة القسم 9.01 و التي أشارت إليه تحت عبارة: “1- حقوق والتزامات المقترض والضامن والبنك بموجب اتفاقية القرض واتفاقية الضمان تكون شرعية ونافذة بما يتفق وتعبيراتهم بغض النظر عن قانون أي دولة أو قسم سياسي أو العكس. 2- لن يخول البنك أو المقترض أو الضامن في أي دعوى قضائية بموجب هذا النص المطالبة بعدم شرعية أو عدم نفاذ أي من نصوص الشروط العامة أو اتفاقية الضمان بسبب أي نص من ميثاق البنك أو لأي سبب آخر”[25].

  • الطبيعة القانونية لاتفاقية ضمان قروض البنك الدولي:

لا يمكن الحديث عن اتفاقية قرض دون اشتراط ضمانات سداد هذا القرض التي تعد بمثابة اتفاقية مكملة لاتفاقية القرض الأصلية، وهذه الضمانات يمكن أن تتضمنها اتفاقية خاصة ومستقلة أو تتضمنها اتفاقية القرض نفسها، إذ تتحدد مسؤوليات الضامن في جميع أمواله وممتلكاته الحالية والمستقبلية، وهي ضمانات قد تكون عينية أو شخصية، سواء قدمت من المقترض أو من الغير، وهو ما تنص عليه الفقرة ذات الحرف ألف من القسم الرابع من المادة الثالثة من اتفاقية تأسيس البنك الدولي من خلال الإشارة إلى أنه: “إذا لم يكن المقترض هو العضو الذي سوف يقام المشروع على إقليمه، فإن العضو أو البنك المركزي أو بعض الوكالات المماثلة المعتمدة لدى البنك، ستضمن بشكل كامل الوفاء بالأصل والفائدة والرسوم الأخرى المقررة على القرض”.

بيد أننا نجد ضمن مسودة 5 يناير 2012 المتعلقة بوثيقة النهج المقترح لتحديث سياسة عمليات البنك الدولي بشأن الضمانات[26]، ما يعبر بجلاء عن ترسيخ إلزامية إبرام اتفاقية الضمان جنبا إلى جنب مع اتفاقية القرض، وقد تضمنت الوثيقة معلومات مفيدة سواء من حيث التفسير والتبرير وتحديد المسؤوليات الملقاة على عاتق البنك الدولي المقرض والمقترض (حكومة أوهيأة عامة أو مؤسسة خاصة)، بنسب متفاوتة، محددة بذلك الطبيعة القانونية للضامن وللمدين المتضامن، وكذا تحديد الحقوق والالتزامات المتصلة بإجراءات الضمان والجهة المطالب بإحلال نفسها محل المقترض الرئيسي المعسر عند الاقتضاء، وهو ما وجدناه في عدة اتفاقيات قرض تخللتها اتفاقيات ضمان وقعت خلال أربعينيات وخمسينيات القرض الماضي أو ما وجدناه من خلال مضمنات بعض مقررات التحكيم التي طبقت مقتضيات اتفاقية نيويورك لسنة 1958 من خلال السوابق القضائية للأونسيترال[27] .

وأنه ومن خلال استقراء الوثائق القانونية والسوابق القضائية المنبثقة عن اتفاقية ضمان الديون، نجد أن محل الضمانات قد يكون سيولة جارية أو عقارات ذات قيمة عالية، أو مناجم تحتوي على احتياطات مهمة من معادن نفيسة، أو آبار بترول.

  • حالات تنفيذ مقررات التحكيم:

بعد أن تستنفذ عملية التحكيم جميع الإجراءات، بدءا من اختيار أطراف النزاع للمحكمين الذين يعهد إليهم بمهمة فض النزاع وفق ما جاء باتفاقية تأسيس البنك الدولي وكذا اتفاقية الشروط العامة للإقراض، ثم ترجيح دفوع المتنازعين والتوفيق بينها، ثم أخيرا صدور حكم أو مقرر التحكيم، يأتي دور تنفيذ مقتضيات هذا المقرر، سواء في مواجهة البنك الدولي بصفته الجهة المقرضة أو في مواجهة أحد الأطراف الخاصة أو في مواجهة الدولة المقترضة أو الجهة الضامنة، وهو ما سوف يجعلنا نتحدث عن حالات التنفيذ في مواجهة كل طرف من الأطراف على حدا.

  • حالة تنفيذ مقرر التحكيم في مواجهة البنك الدولي كجهة مقرضة:

أنه في حالة صدور مقرر تحكيمي ضدا عن مصالح البنك الدولي كجهة مقرضة، فإن تنفيذ الحكم من قبل البنك الدولي دون امتناع أو عراقيل لا يشكل أي إشكال، لكن الإشكال الحقيقي يظهر مع امتناع البنك الدولي عن تنفيذ مقتضيات المقرر التنفيذي وهي جهة ذات حصانة قضائية عملا بمقتضيات البند 3 من المادة 7 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي نفسه التي تنص على أنه: “لا يجوز إقامة دعاوى ضد البنك إلا أمام محكمة مختصة في أراضي الدولة العضو التي للبنك فيها مكتب أو عيّن فيها وكيلاً لاستلام إعلان أو إخطار الدعاوى، أو أصدر فيها أوراقاً مالية أو ضَمنها. ومع ذلك لا تُقام دعاوى من الدول الأعضاء أو من أشخاص يعملون نيابة عن دول أعضاء أو يستمدّون ادعاءاتهم منها. وتتمتّع أموال وأصول البنك الدولي حيثما وجدت وأياً كان حائزها بالحصانة ضد كافة أشكال وضع اليد أو الحجز أو التنفيذ قبل صدور الحكم النهائي ضد البنك.”، مما يجعل القانون الدولي العام الذي تحتكم إليه الوكالة المتخصصة البنك الدولي يصطدم بمقتضيات القانون الدولي الخاص من قبيل تطبيق قاعدة الإسناد التي تمنح للقاضي الوطني للدولة العضو بالبنك الدولي، هذا الأخير الذي قد يمثلها مكتب تابع لها أو وكيلا لاستلام إعلان أو إخطار الدعاوى[28]ن مما يعني أن تنفيذ البنك الدولي لمقررات التحكيم عملا بمقتضيات الشروط العامة للإقراض هو بمثابة “تنازل عن حصانة جزئية البنك من ولاية المحاكم المحلية”، كون نص البند 3 من المادة 7 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي وإن كانت تمنح حق رفع الدعوى أمام محكمة مختصة نوعيا ومكانيا، فإنها بالمقابل تمنع اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية والتحفظية لضمان تنفيذ مقرر التحكيم، من قبيل تضمين هذا البند عبارة: “كافة أشكال وضع اليد أو الحجز أو التنفيذ قبل صدور الحكم النهائي، وذلك لما تتمتع به أموال وأصول البنك الدولي أينما وجدت وفي أي يد كانت بالحصانة”[29].

  • حالة تنفيذ مقرر التحكيم في مواجهة أحد الأطراف الخاصة كجهة مقترضة:

أنه في حالة فض مقرر التحكيم لنزاع ربط البنك الدولي بأحد الأطراف الخاصة بضمانة دولة عضو بالبنك، وفي حالة عدم كفاية الأموال المنفذ عليها طبقا لقرار التنفيذ، فإن نسب استطاعة البنك على التنفيذ بالحجز على أموال الدولة الضامنة تبقى هزيلة جدا لاصطدامها بجدار السيادة والحصانة اللتين تتمتع بهما الدول، لكن – ومع ذلك – يبقى أمامها إعمال سلطتها المعنوية التي تمنح لها من خلال احتكار عملية الإقراض الدولي تطبيق نظام الجزاءات المنصوص عليه بالبند 2 من المادة 6 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي التي تشير إلى أنه: “يجوز للبنك أن يقرّر بأغلبية عدد من المحافظين يمثلون أغلبية المجموع الكلّي للأصوات إيقاف عضوية الدولة العضو إذا أخلت تلك الدولة بأي من التزاماتها تجاه البنك. وتعتبر الدولة العضو الموقفة عضويتها على هذا النحو منفصلة بصورة تلقائية بعد مرور سنة على تاريخ صدور قرار إيقاف العضوية ما لم تقرر الأغلبية ذاتها إعادة عضويتها. ولا يحق للدولة العضو الموقفة عضويتها ممارسة أي من حقوقها بمقتضى هذه الاتفاقية فيما عدا حق الانسحاب من العضوية، كما أنها تبقى مكلّفة بكافة التزاماتها”، وهي المقتضيات التي تسهل على البنك الدولي مهمة التنفيذ في حالة استصدار حكم بتذييل المقرر التحكيمي بالصيغة التنفيذية عن المحاكم الداخلية المختصة نوعيا ومكانيا[30].

  • حالة تنفيذ مقرر التحكيم في مواجهة الدولة المقترضة أو الضامنة:

أنه ولتنفيذ مقرر التحكيم الصادر في مواجهة دولة مقترضة (حكومة أو هيأة عامة) أو في مواجهة ضامنتها، يجب الأخذ بعين الاعتبار بعض النقط الأساسية المتعلقة بحصانة الدولة ذات السيادة ضد أي إجراء قد يمس بماليتها العامة إلا في الحدود التي تقررها تشريعاتها الداخلية وما تمنحه للمحكمة الوطنية المختصة نوعيا ومكانيا من اختصاصات لتفعيل مقتضيات المقرر التحكيمي، من باب هل أن الحصانة تشمل جميع جوانب حصانة الدولة ذات السيادة، أو أن الحصانة تشمل فقط الأعمال الحكومية وما تخصصه من ميزانية لتسيير دواليب الدولة، في حين تبقى الأعمال ذات الصبغة الاقتصادية والمالية والتجارية غير خاضعة لأي حصانة.

بيد أنه مع ذلك يمكن للبنك الدولي استغلال بعض النقط المتعلقة بتنازل الدول عن سيادتها وحصانتها وخضوعها للتنفيذ الجبري لمقررات التحكيم، التي تنص عليها بعض المعاهدات والاتفاقيات الدولية المحتكرة لأنشطة التمويل الدولي، التي تملك طرقا مباشرة وغير مباشرة لإرغام الدولة المقترضة أو ضامنتها على الأداء، من قبيل الحجز على نصيب الدولة الممتنعة عن التنفيذ أو الحجز عن أموالها ومشاريعها بدولة ثالثة لما تتمتع به ديون البنك الدولي من امتيازات تتيح لها حق التتبع والأفضلية من باب تطبيق مبدأ الحلول، كما يجوز لها تفعيل مقتضيات تطبيق الجزاءات المنصوص عليها بالبند 2 من المادة 6 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي.

كما أنه زيادة على المقتضيات المشار إليه أعلاه، فنجد إمكانية البنك الدولي وما معهما من مؤسسات تنسق معها أو مؤسسات منبثقة عنها، أرشفة سوابق الدولة المقترضة في امتناعها عن السداد بشكل ودي ودون اللجوء إلى وسائل الضغط المباشرة، والأخذ بذلك بعين الاعتبار عند لجوء هذه الدولة إلى معاودة مسطرة الاقتراض، فالبنك الدولي يملك سلطة تقديرية واسعة في الموافقة على القرض من عدمه مع التستر في ذلك على الوصفة الخبراتية والاستشارية السلبية التي تقوم بها الوكالة الدولية المتخصصة “التوأم: صندوق النقد الدولي” من خلال تفعيل مقتضيات المادة 4 من اتفاقية تأسيس الصندوق[31]، أو من خلال تفعيل مقتضيات المادة 3 من اتفاقية تأسيس البنك الدولي، إذ تشير الفقرة 2 من البند 4 إلى أنه: “إذا اقتنع البنك بأن الدولة طالبة القرض لا يمكنها، في ظل ظروف السوق السائدة، الحصول على القرض بغير هذه الوسيلة بشروط يراها البنك مناسبة للمقترض”، في حين تشير الفقرة 5 من البند 4 إلى انه: ” عند منح قرض أو ضمان له، على البنك أن يولي اهتماما خاصا بمقدرة المقترض أو الضامن – إذا لم يكن المقترض عضوا – على القيام بالتزاماته الناشئة عن القرض؛ وعلى البنك أن يحرص في معاملاته على مصلحة كل من الدولة العضو التي يقع في أراضيها المشروع والدول الأعضاء ككل”، مع تسجيل السلطة التي تمتلكها على باقي المؤسسات المنبثقة عنها خاصة الوكالة الدولية لضمان الاستثمار والمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار.

خاتمة:

إن قراءتنا المختصرة لتضمين شرط التحكيم باتفاقيتي تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، من خلال المقتضيات القانونية المضمنة بها والمتعلقة بإلزامية اللجوء إلى مساطر التحكيم والتحكم في مسطرة تنفيذ مقررات التحكيم هذا، جعلنا نقف من خلال قراءة شرط التحكيم المضمن باتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على عدة إشكالات قانونية وعملية، فتحت أعيننا على وجود ثغرات عدة ناتجة أساسا عن عدم وجود وقائع فعلية تتعلق بانسحـاب عــضـو- اختياريا أو إجباريا – أو تصفية حسابات الصندوق، ليتسنى لنا الحديث عن تفعيل حقيقي لشرط التحكيم، وبالتالي استنباط التراكمات القانونية والقضائية التي تساعدنا على استجلاء الفكرة بوضوح، في حين وجدنا أن تنفيذ مقررات التحكيم الصادرة عن هيئة تحكيمية بثت في النزاع الرابط بين البنك الدولي للإنشاء والتعمير كمقرضة وباقي الأطراف كمقترضة أو ضامنة، قد نحت منحى آخر، لا لشيء غلا لكون صندوق النقد الدولي جهة مدعمة تقنيا وخبراتيا واستشاريا فقط وغير مقرضة بالمعنى الصحيح للكلمة، في حين ان البنك الدولي للإنشاء والتعمير وما معها من مؤسسات منبثقة عنها، هي جهات قرض رئيسية ولها علاقات جد مباشرة مع الجهات المقترضة، وبالطبع سوف تكون المنازعات جد متشابكة بتشابك العلاقة بينهما .

غير أن هذه القراءة جعلتنا نقف عند وجود شرط تحكيم مؤسسي ودولي وإجباري مضمن باتفاقية تخص وكالتين دوليتين متخصصتين تابعتين لمنظمة الأمم المتحدة ، خاضعتين في مقتضياتهما لبنود خاصة مضمنة باتفاقية تأسيسهما، بها معطيات استثنائية لها صبغة إذعانية، بحكم المهمة الموكولة إليهما في تسيير وتوجيه دواليب السياسة المالية والنقدية للدول الأعضاء وكذا مراقبة سعر الصرف الدولي ومنع التضخم ومحاربة الاستعمال الخطر للنقد وكذا تفعيل مساطر التمويل الدولي للتنمية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، وهي الشروط التي قد لا نجدها في الاتفاقيات والعقود ذات الصبغة الوطنية أو الدولية في مجالات المال والأعمال – مثلا-، والتي تحتكم لمقتضيات القانون الخاص الوطني لدولة معينة أو القانون الدولي الخاص الذي قد يطبق حالما يلاحظ وجود دعاوى بها طرف أجنبي يثير مسألة تنازع القوانين من حيث المكان، ولا تحتكم للقانون الدولي العام ومبادئ القانون الدولي الاقتصادي كما هو الشأن لاتفاقيتي إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.

إلا أننا وعلى الرغم من ذلك، حاولنا أن نقيس مقتضيات شرط التحكيم الخاص هذا – من باب الإحالة – على شروط ومساطر التحكيم الدولي أو تطبيق الإطار التنظيمي لمساطر التحكيم المتعلقة باتفاقية نيويورك لسنة 1958، متخذين من الترجيح المتحفظ بشأنه بخصوص اختلاف توجهات هذه المساطر من حيث مجالات الاختصاص والمهام والأهداف، سبيلا للمقارنة واستجلاء النتائج.

انتهى بتوفيق من الله.

 

 

 

 

 

 

[1]  في نظرنا المتواضع ومن الناحية العملية الصرفة الذي تنص عليه مقتضيات قانون المسطرة المدنية المغربية في باب التحكيم أو من خلال ما يستشف من العمل القضائي الصادر عن المحاكم المغربية، هو عدم الاعتداد بما ضمن بمقرر التحكيم دون اللجوء إلى قرار رئيس المحكمة، الذي يتولى مهمة مراقبة مدى انسجام المقرر التحكيمي هذا، مع المقتضيات القانونية الآمرة والنظام العام، وهي المراقبة التي تعطي الحق في المصادقة او عدم المصادقة على مضمناته ومنحه الصيغة التنفيذية، والجهة القضائية هي التي يرفع إليه طلب الطعن في مقرر تحكيمي ويطلب منها إبطاله عند وجود أي خلل شكل أو جوهري مس مقرر الحكيم هذا.

 كان يسمى البنك الدولي للإنشاء والتعمير قبل أن تتفرع عنه مجموعة من المؤسسات التي تعد الدينامو النشط في التمويل والتنمية والاستثمار،. [2]

[3]  وسام نعمت إبراهيم السعدي: الوكالات الدولية المتخصصة “دراسة معمقة في إطار التنظيم الدولي العالمي المعاصر”، دار الفكر الجامعي، الصفحة 13 وما يليها.

[4]  أنظر محمد أوبالاك، تمهيد الفصل الأول من الرسالة المقدمة لنيل شهادة الماستر المتخصص في ” الاستشارة القانونية” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، الموسم الدراسي 2015/2014، تحت عنوان ” الدور الاستشاري لصندوق النقد الدولي”.

[5]  عبد القادر القادري: قضايا القانون الدولي العام، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1987، الصفحة 25 وما يليها، ثم عبد الكريم بوزيد المسماري: دور القضاء الوطني في تطبيق وتفسير المعاهدات الدولية، دار الفكر الجامعي، طبعة 2010، الصفحة 39 وما يليها.

[6]  أنظر الترجمة العربية لاتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي على الموقع الإلكتروني:

www.imf.org/externa/ pubs/ft/aa/ara/index.pdf

 

[7]   أنظر رأي أستاذ القانون الدولي فايز أنجاك على الموقع الالكتروني: www.arabsgate.com/showtheread.php?t=515747

 

[8]  ليلى عيسى لابو القاسم: تدرج القواعد القانونية الدولية وقوتها الإلزامية، مجلة جامعة تكريت للحقوق، السنة 8 المجلد 29، 2016، الصفحة 446 وما يليها، أربيل – قسم القانون.

[9]  أنظر اتفاقية تأسيس محكمة تأسيس محكمة العدل الدولية على الموقع الرسمي: www.icj-cij.org/homepage/ar/icjstatute.php

[10]  أنظر تصدير الدستور المغربي لسنة 2011  موضوع استفتاء الفاتح من يوليوز لسنة 2011 .

[11]  الوثيقة المترجمة إلى اللغة العربية، تحت الرقم مرجعي: V15.05574، المتعلقة باتفاقية الأونيسترال الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري خلال سنة 1958، والتي تم طباعتها وترجمتها على اغلب اللغات المتداولة عالميا، فيينا 2015، وهي الاتفاقية التي تضم جزأين، خصص الجزء الأول منها لاستعراض 16 مادة منظمة لعملية اشتراط التحكيم والأطراف المعنية به وطرق تفعيله، في حين خصص الجزء الثاني لتفسير الفقرة 2  من المادة الثانية وكذا الفقرة 1 من المادة السابعة من الاتفاقية، خلال الدورة 39 من سنة 2006.

[12]  الترجمة الرسمية إلى اللغة العربية لاتفاقية إنشاء صندوق النقد الدولي والتعديلات التي عرفتها خلال الفترة الممتدة من سنة 1968 إلى حدود سنة 2008.

[13]  تعلق الانسحاب الإجباري بكل من دولتي ليبيريا والسودان لتماطلهما وامتناعهما عن سداد الديون المتراكمة وأداء الاشتراكات والمساهمات، ولقد كان بمثابة تجميد عضوية أكثر منه انسحاب إجباري، انتهى بجدولة الديون ورفع قرار تجميد العضوية.

[14]  لم يسجل – لحد الساعة – أي انسحاب اختياري لأي عضو من صندوق النقد الدولي، سوى دولة فنزويلا التي قررت الانسحاب الاختياري بواسطة قرار سياسي فقط لم تفعل فيه الإجراءات والمساطر المنصوص عليها بالمادة السادسة والعشرون من اتفاقية التأسيس.

[15]  لمزيد من الإطلاع المعمق، المرجو مراجعة المادة السادسة والعشرون والملحقين “ياء” و”كاف” من اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي، نفس المرجع السابق.

[16]  توجد مؤسسات دولية وإقليمية ومتخصصة تتخذ التحكيم كوظيفة: والتي نجد منها على سبيل المثال: رابطة التحكيم الأمريكية/إيكدر  ومعهد التحكيم التابع للغرفة التجارية في ستوكهولم ورابطة التحكيم الفرنسية ( أفا)..: https://international-arbitration-attorny.com

[17]  أنظر مزيدا من المعلومات عن محكمة التحكيم الدائمة في موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/ ، كما يرجى كذلك الإطلاع على  المقال المهم الذي يتطرق إلى نفس الموضوع :

Droit international -11eme édition de Dominique CARREAU et Fabrizio MARELLA : Chapitre 13 : LE RECOURS A L’ARBITRE  INTERNATIONAL : www.pedone.info/di/carreau-Marella_Chap23.pdf

[18]  أنظر مزيدا من التفاصيل حول اتفاقية نيويورك بالموقع الإلكتروني: aladalacenter.com/index.php/130-1958/3675-1958

كما يستحسن الإطلاع على المرجعين المهمين التاليين:

18 كمال عبد العزيز ناجي: ” دور المنظمات الدولية في تنفيذ قرارات التحكيم الدولي”، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2007.

Stéphanie BELLIER Avant –propose d’Ahmed MAHIOU, Justice internationale, DROIT, JUSTICE : «  LE RECOURS A L’ARBITRAGE PAR LES ORGANISATIONS INTERNATIONALES ».

[19]  جميل محمد حسين: القضاء والتحكيم الدولي، تجميع وإعداد لنماذج من أهم الوثائق الدولية، راجع الموقع الإلكتروني: www.olc.bu.edu.eg/olc/images/326.pdf

[20]  أنظر تفاصيل تبعات الانسحاب السياسي الاختياري لفنزويلا من صندوق النقد الدولي على الموقع الإلكتروني: www.aleq.com/2007/05/05/article_90384.html

 

[21]  أنظر الموقع الإلكتروني: www.mof.gov.sd/document/general/international_fund_ar.pdf

[22]  محمد أوبالاك، نفس المرجع السابق.

[23] http://web.worldbank.org  et http://siteresources.worldbank.org/INTLAWJUSTICE/Resources/IBRDGC-Arabic-05-Amd08.pdf

[24]  كمال عبد العزيز ناجي، نفس المرجع السابق، الصفحة 285.

[25]  كمال عبد العزيز ناجي: نفس المرجع السابق، الصفحة 287 وما يليها.

[26] http://siteresources.worldbank.org/EXTRESLENDING/Resources/Arabic_Approach_Paper.pdf

[27]  كمال عبد العزيز ناجي: المرجع السابق، الصفحة 290 وكذا الموقع الالكتروني الرسمي للأونسيترال: www.uncitral.org/clout/indesx.jspx?lng.ar

[28]  تنص الفقرة ذات الحرف ميم من القسم 8.04 من المادة 8 من الشروط العامة للإقراض على مسطرة الإخطار والتي تحيل بدورها على المادة 10 من خلال القسم 10.01 منها.

[29]  كمال عبد العزيز ناجي: نفس المرجع السابق، الصفحة 293.

[30]  الجوانب القانونية لنشاط البنك الدولي للإنشاء والتعمير، الصفحة 93، المحيل عليه من طرف كمال عبد العزيز ناجي: المرجع السابق: الصفحة 294.

[31]  محمد أوبالاك: نفس المرجع السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى