عقد التسيير الحر للأصل التجاري
محمد القسطيط
خريج ماستر الدراسات العقارية ـ بطنجة ـ
مقدمة:
إن جل العلاقات المالية والمعاملات بين الناس هي روابط التزام تخضع للنظرية العامة للالتزامات، وهي التزامات تتم بمقتضى الإرادة والتي بدونها لا يمكن العيش في المجتمع.
قبل صدور مدونة التجارة، وأمام إحجام المشرع المغربي عن تنظيم عقد التسيير الحر للأصل التجاري بنصوص خاصة، كان يرجع إلى القواعد العامة للإيجار الوارد في الفصول 627 إلى 699 من قانون الالتزامات والعقود، وكذلك إلى الاجتهاد القضائي قصد تعريف هذا النوع من العقود.
أما حاليا بعد صدور مدونة التجارة، فإن تنظيم هذا العقد أضحى خاضعا، إلى جانب القواعد العامة السالفة الذكر، إلى أحكام خاصة بمدونة التجارة من خلال المواد من 152 إلى 158.
فما هو عقد التسيير الحر للأصل التجاري؟
وما هي شروط انعقاد عقد التسيير الحر؟
أولا: تعريف التسيير الحر للأصل التجاري
لا يقصد بالأصل التجاري ذلك المكان من جدران وسقف الذي يعتاد أو يحترف فيه التاجر ممارسة نشاطه التجاري، بل هو عبارة عن فكرة معنوية تدخل في إطارها مجموعة من العناصر المنقولة مادية أو معنوية تخصص لممارسة هذا النشاط.
وبالرجوع إلى المادة 79 من مدونة التجارة نجدها تنص على أن الأصل التجاري هو: مال منقول معنوي يشمل جميع الأموال المنقولة المخصصة لممارسة نشاط تجاري أو عدة أنشطة تجارية.[1]
وعليه يمكن القول بأن الأصل التجاري مال معنوي يخول مالكه قيمة اقتصادية تمكنه من استغلاله، بل تقديمه كضمان للحصول على القروض اللازمة لتنمية وتوسيع تجارته.
وقد شعر التجار منذ قدم التاريخ بأهمية هذه القيمة الاقتصادية إلى درجة أنهم أخذوا يبحثون عن طرق خاصة باستغلاله.
من ذلك ما لجأ إليه أحد الصيارفة في أثينا القديمة، حيث كان يشغل مصرفه بمساعدة أحد عبيده، ولما شعر باقتراب أجله، رغب في تنظيم إدارة أصله التجاري قبل وفاته، فأوصى بأن يستمر ذلك العبد في تسيير الأصل التجاري مقابل دفعه مبلغ سنوي لابنه.
ورغم ظهور بوادر هذا العقد منذ هذا التاريخ، فإنه لم يحظ بتنظيم خاص إلا مؤخرا، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب الذي لم يتول تعريفه وتنظيمه إلا بمناسبة صدور مدونة التجارة.
وبالرجوع إلى المادة 152 من مدونة التجارة نجدها تنص على أن عقد التسيير الحر هو: كل عقد يوافق بمقتضاه مالك الأصل التجاري أو مستغله على إكرائه كلا أو بعضا لمسير يستغله تحت مسؤوليته.[2]
أما على مستوى القضاء المغربي فقد عرفه بكونه عقد بمقتضاه يتخلى المالك للغير لمدة معينة عن حق استغلال الأصل التجاري مع احتفاظه بملكيته مقابل احتفاظ الغير بمنافع استغلاله وتحمله التكاليف الناجمة عن الاستغلال مع التزامه بأداء مبلغ ثابت إلى المالك.[3]
ويثار التساؤل حول سبب تسمية هذا العقد بالتسيير الحر، بحيث أن السبب يرجع إلى المكتري يتمتع بالحرية التامة في تسيير واستثمار الأصل التجاري وذلك دون تدخل من المكري.
فعقد التسيير الحر هو عقد كراء للأصل التجاري، بمقتضاه يمنح المكري للمكتري الحق في استغلال هذا الأصل لحسابه الخاص وتحت مسؤوليته، مقابل أدائه مبلغ ثابت إلى المكري.[4]
ثانيا: شروط انعقاد التسيير الحر للأصل التجاري
1 ـ الأركان العامة لعقد التسيير الحر
لقيام عقد التسيير الحر للأصل التجاري صحيحا لابد من تور الأركان العامة الواجب توافرها في القد إلى جانب شروط شكلية خاصة به، سنعرضها على الشكل التالي:
الرضا: يعتبر التراضي أحد أركان العقود، إن لم نقل بأنه الركن الأساسي فيها، فانعدام التراضي يؤدي إلى انعدام العقد، ونقصد بالتراضي في هذا الإطار اتجاه إرادتين أو أكثر إلى إبرام عقد من العقود.
غير أن الإرادة تعتبر مسألة كامنة في النفس البشرية ولا يكون لها بالتالي أي اعتبار قانوني إن لم يتم إظهارها للعالم الخارجي حتى يعلم بها من وجهت إليه ليكون على بينة من أمره ويعبر عن إرادته لمقابلة، والتعبير عن الإرادة يتم بأية وسيلة تعبر عن الإرادة الحقيقية للمتعاقد، حيث أن هذا التعبير لا يولد الإرادة وإنما يكشف عنها فقط، وينبغي أن يكون لهذا التعبير بعد تعاقدي أما الإرادة التي لا تتجه إلى إبرام عقد من العقود فهي ليست ذات اعتبار.[5]
والإرادة يجب أن تكون صحيحة حتى تنتج آثارها، والتراضي لا يكون صحيحا إلا إذا كان صادرا من ذي أهلية، أي عن شخص أهل للتعاقد غير منعدم أو ناقص الأهلية القانونية، وذلك ما نص عليه المشرع المغربي في الفصل الثاني من قانون الالتزامات والعقود بمناسبة حديثه عن الأركان اللازمة لصحة الالتزامات عن التعبير عن الإرادة.[6]
وعليه فإنه يشترط أن يعبر كل من مؤجر ومستأجر الأصل التجاري عن رضاهما على شروط عقد التسيير الحر، وأن يكون هذا الرضى صحيحا غير صادر عن غلط أو تدليس أو إكراه أو عن غبن أو حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة.
فإذا أجر مالك الأصل التجاري هذا الأصل إلى شخص معين قصد تسييره حرا نظرا لخبرته التجارية، ثم تبين له بعد إبرام العقد أن هناك تشابها بين الشخص الذي تعاقد معه والشخص الذي كان يعتقد أنه أبرم معه عقد التسيير الحر، جاز للمؤجر في هذه الحالة طلب إبطال العقد استنادا إلى الغلط في الشخص أو في صفة فيه.[7]
الأهلية: ويشترط توفرها في كل من مؤجر الأصل التجاري ومستأجره، بحيث أنه إذا كان مالك الأصل التجاري قاصر لم ينل الترشيد، فإن نائبه هو الذي يمكنه تأجير الأصل التجاري لفائدة القاصر، أما بالنسبة لمستأجر الأصل التجاري، فقد نص المشرع في المادة 153 من مدونة التجارة على أنه: “يكتسب المسير الحر صفة التاجر ويخضه لجميع الالتزامات التي تخولها هذه الصفة” مما يفهم معه أن يجب توفر المسير الحر المستأجر على الأهلية التجارية.[8]
المحل: يقصد بمحل العقد ما وقع عليه التعاقد وفيه تظهر أحكام العقد وآثاره ويسمى المعقود عليه، وهو مقصد العقد من قبل المتعاقدين، ولابد من محل يضاف إليه، وهو يختلف باختلاف العقود ففي البيع مثلا هو الشيء المبيع، وفي الرهن هو الشيء المرهون، وفي الإجارة هو منفعة الشيء المستأجر.
ومحل العقد في عقد التسيير الحر هو حق استغلال المحل التجاري بجميع عناصره المادية والمعنوية، فالعناصر المادية مثل: البضائع والمهمات، والمعنوية مثل: الزبناء والسمعة التجارية، والحق في التأجير والرخص والإجازات، وحقوق الملكية الفنية والأدبية وحقوق الملكية التجارية الصناعية.[9]
السبب: اختلف الفقهاء في تحديد ماهية السبب، فمنهم من يعتبره ركنا في الالتزام ومنهم من يعتبره ركنا في العقد، ومنهم من يعتبره من عناصر الإرادة، وهذا الرأي الأخير رغم صحته لا يفصل في الخلاف، لأن السبب أيا كان وضعه يعتبر من عناصر الإرادة، إذ أن الإرادة المعتبرة قانونا تتجه إلى التعاقد يحدوها غرض تهدف إليه أو باعث تتحرك بدافع منه، وسبب العقد هو الباعث الدافع إلى التعاقد.[10]
ولابد لعقد التسيير الحر من توافر ركن السبب لاعتبار العقد صحيحا، أما إذا هذا العقد لا سبب له أو كان السبب الذي بني عليه مخالفا للأخلاق الحميدة أو النظام العام أو للقانون، كأن يكون الهدف من إبرامه هو بيع المخدرات، فإن هذا العقد لا يمكن أن ينتج أي أثر بين طرفيه، ويكون عديم الأثر.[11]
2 ـ الأركان الشكلية لعقد التسيير الحر للأصل التجاري
لقد اشترط المشرع المغربي شرط شكلي يتمثل في شرط الإشهار وذلك لإحاطة العموم علما بوضعية الأصل التجاري، خاصة ما يتعلق بالمسؤول على استغلاله، وحتى لا يعتقد من يرغب في إقراض المسير الحر أن الأصل التجاري يدخل في ملكيته وأنه يشكل ضمانا لدينه.
وبالرجوع إلى المادة 153 من مدونة التجارة نجدها تنص: يكتسب المسير الحر صفة التاجر ويخضع لجميع الالتزامات التي تخولها هذه الصفة.
ينشر عقد التسيير الحر في أجل الخمسة عشر يوما من تاريخه على شكل مستخرج في الجريدة الرسمية وفي جريدة مخول لها نشر الإعلانات القانونية.
يجب على المكري إما أن يطلب شطب اسمه من السجل التجاري وإما أن يغير تقييده الشخصي بالتنصيص صراحة على وضع الأصل في التسيير الحر.
يخضع انتهاء التسيير الحر لإجراءات الشهر ذاتها.[12]
وإلى جانب ذلك يلتزم المسير الحر بأن يذكر في الأوراق المتعلقة بنشاطه التجاري، والمستندات الموقعة من طرفه لهذه الغاية أو باسمه، رقم تسجيله بالسجل التجاري وموقع المحكمة التي سجل فيها وصفته كمسير حر للأصل التجاري وإلا عوقب بغرامة تتراوح بين 2.000 و10.000 درهم، وذلك استنادا إلى المادة 154 من مدونة التجارة.[13]
خاتمة:
سعى المشرع المغرب إلى تحقيق الأمن القانوني والقضائي في المادة التجارية، وكذا تحقيق استقرار المعاملات التجارية، من خلال النص على مختلف التصرفات والأعمال التجارية، إذ جعل هذه الأخيرة منظمة وفقا لمقتضيات دقيقة وصارمة، يهدف إلى صون حقوق الناس وأموالهم من الضياع، وكذا تجنب حدوث أي نزاع قد يشوش عليهم التعامل في ممتلكاتهم.
وخلاصة القول فإن لعقد التسيير للأصل التجاري أهمية تتجلى في كونه عقد يتم اللجوء عادة إلى إبرامه عندما يتعذر على مالكه استغلاله بنفسه، فالتسيير الحر للأصل التجاري إذن يمثل أحسن وسيلة لاستغلاله بالنسبة للذي آل إليه بالميراث أو بالوصية دون أن تكون له خبرة بالتجارة، فعوضا من تصفية التجارة يتم اللجوء إلى تأجير الأصل التجاري.
كذلك في حالة أيلولة أصل تجاري إلى قاصر بالميراث أو الوصية، يمكن اللجوء إلى التسيير الحر عوض تصفية التجارة أو إدارته من طرف الولي أو القاصر.
وفي حالة أيلولته إلى شخص يحظر عليه ممارسة التجارة بموجب قوانين خاصة كالموظف، يمثل التسيير الحر للأصل التجاري في هذه الحالة وسيلة للكسب دون مخالفة الحظر المذكور.
وإذا رغب التاجر في اعتزال التجارة بعد أن أصبح عاجزا عن اعتياد أو احتراف ممارستها، فإنه بدلا من تخليه عن ملكية هذا الأصل، يمكنه الاحتفاظ بملكيته مع إمكانية استغلاله عن طريق كرائه للغير بواسطة عقد التسيير الحر.
[1] ـ المادة 79 من مدونة التجارة.
[2] ـ أنظر المادة 152 من مدونة التجارة.
[3] ـ قرار صادر عن محكمة الاستئناف بسطات تحت عدد 876 بتاريخ 1985\12\3، مجلة المحاكم المغربية ع 41 ص: 123.
[4] ـ محمد بنحساين: القانون التجاري، مع آخر المستجدات إلى غاية: مرسوم 5 أبريل 2021 لتطبيق المقتضيات المتعلقة بالشهر في السجل التجاري الالكتروني، الطبعة 2022، ص: 102.
[5] ـ سليمان المقداد: مركز الإرادة فيالعقود، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، تحت إشراف د.ة دنيا مباركة، السنة الجامعية: 2016 ـ 2017، ص: 54.
[6] ـ أنظر الفصل 2 من قانون الالتزامات والعقود
[7] ـ محمد بنحساين: م.س، ص: 105.
[8] ـ أنظر المادة 153 من مدونة التجارة
[9] ـ حمود بن محسن بن ناصر الدعجاني: أحكام عقد التسيير الحر للمحل التجاري (دراسة تأصيلية وتطبيقية ) رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الفقه المقارن، المملكة العربية السعودية، السنة: 1433 ـ 1434 ه، ص: 139.
[10] ـ ىيت الحاج مرزوق: الوجيز في نظرية الالتزام، الطبعة الثانية، السنة: 2014، ص: 214.
[11] ـ محمد بنحساين: م.س، ص: 105.
[12] ـ المادة 153 من مدونة التجارة.
[13] ـ المادة: 154 من مدونة التجارة