عبد الحميد صبري
باحث في قانون الأعمال
كلية الحقوق سطات.
مبدأ السرية في نظام الوساطة الاتفاقية.
إذا كانت العلنية هي أحد ركائز المحاكمة العادلة، فإنه على خلاف ذلك، تعد السرية قطب رحى الوساطة، فلا يمكن بأي من الأحوال الاحتجاج بين أطراف الوساطة بما دار من مناقشات أو اعترافات أو ما تم تقديمه من وثائق ضد هذا الطرف أو ذاك امام القضاء.
وعليه، تتميز الوساطة الاتفاقية بالسرية التامة في كل ما يروج خلالها، قصد المحافظة على الأسرار الخاصة بالأطراف والتي من الممكن أن يؤدي كشفها إلى تعميق الخلاف، سيما أن القاعدة في إطار التقاضي العادي هو العلنية.
ومبدأ السرية هو المبادئ الأساسية التي تحكم نظام الوساطة، وتضمن للأطراف أن جميع المحادثات والمفاوضات وكذلك الاقتراحات والوثائق التي تم كشفها أثناء مفاوضات الوساطة، يجب أن تظل سرية للغاية.
لذلك فإن نظام الوساطة يوفر للأطراف مجالا مريحا للتعبير بكل حرية واطمئنان عن مشاكلهما وأسباب الخلاف القائم بينهما، فسرية الوساطة تؤدي الى التعايش السلمي بين طرفي النزاع في المستقبل، وبقاء العلاقة متصلة، والمحافظة على الأسرار التجارية أو الصناعية …. لدرجة أن بعض الشركات تفضل خسارة حقها على كشف أسرارها التجارية أو الصناعية أو التكنولوجية، والتي تحرص على إبقائها سرا مكتوما، لأن تلك الأسرار هي سر بقائها ونجاحها، وفي إذاعتها أمام القضاء لتحقيق مبدأ علانية التقاضي خطرا على نجاحها.
وتشجع السرية طرفي النزاع على حرية الحوار والإدلاء بما لديهم من أقوال ومستندات وتقدم التنازلات في مرحلة المفاوضات بحرية تامة دون أن يكون لذلك حجية أمام القضاء أو أي جهة أخرى في حالة ما إذا فشلت مساعي الوساطة، ومن شأن السرية أيضا مساعدة الوسيط على تقريب وجهات نظر طرفي النزاع بغية التوصل الى تسوية النزاع.
فجميع إجراءات الوساطة ومداولاتها سرية لا يجوز الكشف عنها أو الاحتجاج بها، ولا يجوز للوسيط نظر الدعوى كقاض، أو العمل فيها كمحام أو خبير أو شاهد ….
وتقتضي منا هذه الدراسة ان نتطرق للسرية من جانب الوسيط (اولا) ومن جانب أطراف الوساطة (ثانيا).
أولا: السرية من جانب الوسيط.
يقوم مبدأ سرية مفاوضات الوساطة على امتناع الوسيط من إظهار أو الاستناد على معلومات تم التعرض لها والتعرف عليها أثناء مفاوضات الوساطة لإثارتها امام محكمة في حالة فشل مفاوضات الوساطة أو حتى في دعاوى أخرى لا تهم النزاع موضوع الوساطة.
ومضمون السرية لا يقتضي فقط عدم الإفشاء ما تم تداوله أثناء مفاوضات الوساطة للقاضي والأغيار، بل هناك من يؤكد على ان الوسيط لا يجوز له إذا قام أحد الأطراف بالكشف له عن بعض الوثائق أو عن بعض الأضرار المتعلقة بالنزاع أثناء اللقاء الانفرادي معه، أن يكشف للطرف الأخر عن تلك المحادثات والوثائق إلا بعد موافقة الطرف الأول.
وعليه، وبالرجوع إلى مقتضيات قانون الوساطة الاتفاقية نجد ان المادة 66/327 قد ألزمت الوسيط بوجوب كتمان السر المهني بالنسبة إلى الأغيار تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي المتعلقة بكتمان السر المهني.
وبالتالي يكون المشرع قد أحال على مقتضيات القانون الجنائي التي تجرم البوح بأسرار الأطراف وذلك في الفصل 446 من القانون الجنائي المغربي، الذي أحالت عليه مقتضيات الفصل 66/327 من قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية. باعتبار ان الوسيط يدخل في خانة الأشخاص المعتبرون من الأمناء على الأسرار.
كما تتضمن جميع المدونات الخاصة بسلوك الوسطاء بضرورة حفاظ الوسيط على أسرار الخصوم وعدم إفشائها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن مبدأ السرية يجب احترامه إما من طرف الطرف الوسيط في إطار الوساطة الاتفاقية أو من قبل القاضي في إطار الوساطة القضائية، ونجد هذا في التشريعات التي تبنت الوساطة القضائية، فالمشرع الفرنسي باعتباره نظم هذه الأخيرة، أكد على ذلك من خلال الفصل 6131 من قانون المسطرة المدنية على أن القاضي الذي يقرر تبني نظام الوساطة للنزاع يرسل قرار تعيين الوسيط يوضح له من خلاله، مهمته ويذكره بضرورة التزامه بمبدأ السرية.
وفي هذا الإطار نصت المادة 8 من قانون الوساطة لتسوية النزاعات المدنية الأردني رقم 13 لسنة 2006 على انه ” تعتبر إجراءات الوساطة سرية ولا يجوز الاحتجاج بها أو بما تم فيها من تنازلات من أطراف أمام أي محكمة أو أي جهة كانت”.
ونصت المادة 1005 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائرية الجديد رقم 08/09 على أن ” يلتزم الوسيط بحفظ السر إزاء الغير”.
كما نصت المادة 15 من قواعد إجراءات الوساطة لمركز حل الخلافات التجارية بالأردن على الالتزام بسرية الوساطة بقولها: ” تعتبر كافة المعلومات التي يصرح بها الأفراد أثناء عملية الوساطة سرية ولا يجوز للوسيط ان يقوم بإفشائها لأية جهة أو طرف”.
وحفاظا على سرية المعلومات التي راجت أمام الوسيط في حالة فشل مسطرة الوساطة سواء أمام القضاء أو أمام الوسيط، فينبغي أن تحترم سرية كل ما يقال خلال عملية الوساطة إلا إذا اتفق الأطراف بشكل مشترك على غير ذلك، وعلى الوسيط ألا يفشي المعلومات التي يقدمها أحد أو كل الأطراف سواء كان ذلك في لقاءات مشتركة أو منفردة، إلا في حالة الموافقة الصريحة للطرف المعني.
فكل العروض أو التنازلات التي يقدمها الأطراف في جلسات الوساطة لا يمكن أن تستعمل ضدهم في نفس النزاع عندما يعرض على المحكمة.
ثانيا: السرية من جانب أطراف الوساطة.
إذا كان المشرع المغربي قد أشار إلى وجوب التقيد بالسرية حول كل ما يروج خلال مراحل الوساطة من جانب الوسيط، فإنه قد أغفل الإشارة الى السرية من جانب أطراف الوساطة، مما يعني أن المشرع من خلال الفصل 66/327 من قانون الوساطة الاتفاقية ألزم الوسيط دون أطراف الوساطة.
فهل يعتبر هذا هفوة من المشرع المغربي أم أن المسألة منطقية لا داعي للتنصيص عليها بحكم انها من الالتزامات الأخلاقية التي تفرض على الأطراف عدم البوح بأسرارهم حماية لحقوقهم ومصالحهم.
وعليه فإذا كان المشرع المغربي قد التزم الصمت بخصوص السرية من جانب أطراف الوساطة من خلال قانون الوساطة الاتفاقية، فإم الفصل 7 في فقرته الثالثة من نظام الوساطة الخاص بالمركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط على ضوابط الالتزام بسرية الوساطة بقوله: ” … لا تستعمل الوثائق والمعلومات التي تم حصول الأطراف عليها أثناء سريان مسطرة الوساطة إلا لغرض الوساطة ….”.
كما نصت المادة 3 من القواعد العامة لقواعد الوساطة الخاصة بمركز الوساطة والمصالحة فرع مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي على ضوابط الالتزام بسرية الوساطة بقولها: ” لا يجوز لأي من الأطراف أن يقدم الى أي تحكيم أو أمام القضاء أي مستند أو أي أوراق قدمها الطرف الاخر أو المحايد أثناء الإجراءات المتخذة في أي من الوسائل المعمول بها في المركز”.
وما تجدر الإشارة إليه ان أغلب التشريعات المقارنة تطرقت باختصار جد شديد لمبدأ السرية، واكتفت بإلزام الوسيط بوجوب المحافظة على أسرار جميع مراحل عملية الوساطة، ولم تتطرق الى مبدأ السرية من جانب أطراف الوساطة.
غير ان هذا النقص قد تداركته أغلبية الأنظمة الخاصة بمراكز الوساطة والتي تحدد الإجراءات الواجب إتباعها في إطار الوساطة المؤسساتية كما أشرنا سابقا.
وعليه، فإن حماية مبدأ السرية لمن يكتمل، لكون ما يلتزم الوسيط بالحفاظ على سريته قد يسربه أحد أطراف اتفاق الوساطة، مما يدفعنا للتساؤل في حالة عدم التوصل إلى تسوية أو حل للنزاع أو في حالة انسحاب طرفي النزاع أو أحدهما، ما الذي يمكن أن يضمن سرية المعلومات التي راجت في جلسات الوساطة؟
في هذا الإطار أرى أنه بالرغم من أن المشرع المغربي لم يشر بنص صريح إلى ضرورة الحفاظ على سرية المعلومات التي راجت في جميع الوساطة من قبل أطراف الوساطة، فإنه يمكن إسقاط الفصل 66/327 من قانون الوساطة الاتفاقية الذي جعل من العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي المتعلقة بكتمان السر المهني – بالرغم من انه يسري في حق الوسط-هي الجزاء الذي ينتظر كل من أفشى أسرار أطوار جلسات الوساطة في حالة عدم فشل هذه الأخيرة أو انسحاب أحد طرفي النزاع.
كما يمكننا الرجوع في هذا الحالة إلى المقتضيات العامة الواردة في ظهير الالتزامات والعقود وخاصة الفصل 77 منه، حيث يمكن للطرف المخل بمبدأ السرية أن يسأل مدنيا عن ذلك ويلتزم بالتعويض.
وفي رأينا فإن هذه الضمانات التي وضعها المشرع لضمان سرية المعلومات لا تتماشى وطبيعة نظام الوساطة، باعتبار هذه الأخيرة تتميز بالسرعة والمرونة وهو الذي يختلف مع القواعد العامة للعقاب التي تتميز بغلبة الشكلية والبطء، وكان على المشرع أن يضع ضمانات قانونية أخرى تلزم أطراف النزاع باحترام مبدأ السرية في الوساطة الاتفاقية، تحول دون كشف أطوار جلسات الوساطة وما يترتب عنها من أسرار وتنازلات في حالة عدم نجاح الوساطة.