مظــــــاهر استــقـــــلال الســــــطــلـــة الــقضــــائيــة فــــــــــي قــــــانـــــــــون الـــتــنـــظيــــــم القـــضــــائــــي رقــــــــــــم 38.15 – عماد أكضيض
مظــــــاهر استــقـــــلال الســــــطــلـــة الــقضــــائيــة فــــــــــي قــــــانـــــــــون الـــتــنـــظيــــــم القـــضــــائــــي رقــــــــــــم 38.15
عماد أكضيض
باحث بسلك الدكتوراه – مختبر الدراسات الجنائية والإدارية
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية مراكش
يعد القضاء إحدى أهم الدعامات الأساسية لبناء دولة الحق والقانون، وهو يضطلع بمهمة الفصل في الحقوق المتنازع حولها، وفق مساطر قانونية تتضمن شروط المحاكمة العادلة شكلا ومضمونا، إذ أن الحق في محاكمة عادلة وحق اللجوء الى القضاء، ومبدأ ضمان حقوق الدفاع وغيرها من الضمانات الأخرى تدور كلها في فلك الاستقلالية، وبالتالي استقلالية القاضي كشخص ذاتي والقضاء كمؤسسة دستورية وحياد العدالة هو محور كل تلك الضمانات.[1]
وقد أسس دستور 2011 لهذا المرتكز وارتقى بالقضاء كسلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بموجب الفصل 107 منه، بالإضافة إلى العديد من الخطابات الملكية السامية والتي أشار فيها جلالة الملك محمد السادس نصره الله بشكل واضح وصريح الى ضرورة العمل على تحقيق الاستقلال التام للقضاء ولعل من أبرز هذه الخطابات، الخطاب الملكي السامي لـ 20 غشت 2009 والذي شكل خارطة الطريق نحو الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة،[2] وكذا الخطاب الذي تلى اصدار الوثيقة الدستورية في 9 مارس 2011، حيث دعا فيه جلالته الى ضرورة الارتقاء بالقضاء الى سلطة مستقلة.
وتعزز ذلك بإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتحديد اختصاصاته وتركيبته، فظلا عن اصدار القانونيين التنظيميين، القانون رقك 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وجعل رئاسته لجلالة الملك الذي يعتبر بصريح الفصل 107 من الدستور الضامن لاستقلال السلطة القضائية، والقانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
ويعد استقلال السلطة القضائية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التنظيم القضائي المغربي، والذي نصت عليه المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويقتضي من جهة أن تتمتع السلطة القضائية باستقلال تام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما يضمن عدم تدخل أي منها في وظيفة وعمل القضاء بأي شكل من الأشكال، فلا يخضع القاضي لأوامرهما أو تعليماتهما أو توجيهاتهما، ضمانا لحياده واستقلاله وتجرده في قضائه من جهة أخرى، واكتمل هذا المبدأ السامي باستقلال النيابة العامة عن وصاية الوزير المكلف بالعدل ونقل اختصاصاته للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيسا للنيابة العامة.[3]
وقد جاء القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي ليكرس استقلال السلطة القضائية، والتأكيد على ضرورة احترام هذا المبدأ وجعله أولى المبادئ ولبنة أساسية لترسيخ قواعد العدل والإنصاف واحقاق الحقوق، ويكتسي هذا القانون كما جاء في الدورية الصادرة عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أهمية بالغة، لاسيما فيما يتعلق باستكمال البناء المؤسساتي للسلطة القضائية ببلادنا وإعادة ضبط وتنظيم العلاقة بين مختلف المكونات داخل المحاكم وفقا للوضع المؤسساتي الجديد الذي أفرزه دستور 2011 والقانون التنظيمي رقم 100.13.
وإذا كان القانون الجديد المتعلق للتنظيم القضائي جاء من جهة بمقتضيات تؤكد المبدأ السالف الذكر، ومن جهة أخرى أتى بمرتكزات جديدة تأصل وتدعم من استقلالية السلطة القضائية، فما هي مظاهر هذه الاستقلالية؟
وعليه سنحاول في النقاط التالية ابراز مظاهر هذه الاستقلالية على الشكل التالي:
أولا: على مستوى مبادئ التنظيم القضائي
نص القانون الجديد في المادة الرابعة على أن التنظيم القضائي يقوم على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا ما هو إلا إعادة التأكيد على أهمية هذا المبدأ ومكانته في بناء النظام القضائي ببلادنا وضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات وسيادة القانون، كما يعد هذا التنصيص التشريعي تجسيدا للفصول 56 و 57 و 107 و 108 من الدستور.
أكد القانون 38.15 في المادة السابعة على أن المحاكم تمارس مهامها القضائية تحت سلطة المسؤولين القضائيين بها مع مراعاة المادة 42 من القانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
ثانيا: على مستوى تنظيم عمل الهيئات القضائية
تأكيدا على ضرورة بناء الجسم القضائي واستكمال لاستقلال السلطة القضائية تنص المادة 15 على أنه يمارس مهام النيابة العامة قضاتها تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة ورؤسائهم التسلسليين.
تم التأكيد في المادة 15 على أن الأحكام القضائية تصدر وتنفذ باسم جلالة الملك وطبقا للقانون وفقا لما ينص على ذلك الفصل 124 من الدستور، وأن هيئة المحكمة هي التي تحدد التاريخ الذي يتم فيه النطق بالحكم.
ثالثا: على مستوى منظومة تدبير المحاكم
أشار المشرع في قانون التنظيم القضائي الجديد إلى أن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل هي من تتولى الإشراف الإداري والمالي على المحاكم بتنسيق وتعاون مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والمسؤولين القضائيين والاداريين بالمحاكم.
ويعهد اليها كذلك بإعداد برامج نجاعة أداء المحاكم في إطار الاحترام التام لمبدأ استقلال السلطة القضائية طبقا للمادة 21 من القانون السالف الذكر.
يمارس كل من رئيس كتابة الضبط ورئيس كتابة النيابة العامة مهامهما ذات الطبيعة القضائية تحت سلطة ومراقبة المسؤولين القضائيين بالمحكمة كل في مجال اختصاصاته.
رابعا: على مستوى التنظيم الداخلي للمحاكم
تم احداث منصب مكتب المحكمة على مستوى محاكم أولى درجة وثاني درجة تحت رئاسة رئيس المحكمة والرئيس الأول ويضم في عضويته عضو النيابة العامة وباقي أعضاء السلك القضائي كما حددهم المشرع في المادة 27 28، والذي يتولى وضع برنامج تنظيم المحكمة، ويتضمن هذا البرنامج تحديد الغرف والهيئات وتأليفها، وتوزيع القضايا والمهام على قضاة المحكمة، وضبط عدد الجلسات وأيام وساعات انعقادها.
تأكيدا من المشرع كذلك على مبدأ استقلال السلطة القضائية، جعل تركيبة الجمعية العامة للمحاكم الدرجة الأولى والثانية تقتصر فقط في تركيبتها على قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة، مع الحضور الاستشاري لكل من رئيس كتابة الضبط وكتابة النيابة العامة.
خامسا: على مستوى حقوق المتقاضين
جاء المشرع في المادة 35 من القانون الجديد للتنظيم القضائي ليؤكد مرة أخرى على ضرورة ممارسة القضاة لمهامهم باستقلال وتجرد ونزاهة واستقامة ضمانا مساواة الجميع أمام القضاء، ويتولون حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون طبقا لأحكام الفصل 117 من الدستور، باعتبار القضاة العمود الفقري لاستقلال السلطة القضائية.
سادسا: على مستوى التعيين
جاء القانون 38.15 بمستجدات غاية في الأهمية تكرس وبشكل واضح للاستقلالية التي تتمتع بها السلطة القضائية، وذلك من خلال جعل مهمة تعيين القضاة ورؤساء الأقسام والغرف بالمحاكم من اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
فقد نصت المادة 46 على أنه يتم تعيين رؤساء أقسام قضاء الأسرة ورؤساء الأقسام المتخصصة في القضاء الإداري ورؤساء الأقسام المتخصصة في القضاء التجاري بقرار للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وأضافت المادة 47 أنه يعين من بين قضاة المحكمة الابتدائية رؤساء الغرف ورؤساء الهيئات ونوابهم، وقضاة التنفيذ، وكذا القضاة المنتدبون في قضايا صعوبات المقاولة بالأقسام المتخصصة في القضاء التجاري، والمفوضون الملكيون للدفاع عن القانون والحق بالأقسام المتخصصة في القضاء الإداري على مستوى المحاكم الابتدائية، بالإضافة الى قضاة منتدبون في قضايا صعوبات المقاولة والسجل التجاري بالمحاكم التجارية،[4] وقاضي أو أكثر للقيام بمهمة قاضي التنفيذ بالمحاكم الإدارية.[5]
وفي نفس الإطار يعين قضاة الأسرة المكلفون بالزواج، والقضاة المكلفون بالتوثيق، والقضاة المكلفون بشؤون القاصرين، والقضاة المكلفون بالتحقيق، وقضاة الأحداث، وقضاة تطبيق العقوبات لمدة ثلاث سنوات بقرار للمجلس الأعلى للسلطة القضائية باقتراح من رئيس المحكمة.[6]
تفاديا للتكرار نفس الشيء بخصوص التعيين على مستوى محاكم ثاني درجة أصبح المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الجهة المختصة بتعيين القضاة بعد أن كان ذلك من اختصاص الوزير المكلف بالعدل.
سابعا: على مستوى التفتيش والإشراف القضائي على المحاكم
حتى على مستوى التفتيش والاشراف على المحاكم راع المشرع المغربي وهو يضع نصوص قانون التنظيم القضائي مبدأ استقلال السلطة القضائية، وذلك من خلال جعل التفتيش القضائي للمحاكم من اختصاص المفتشية العامة للشؤون القضائية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا لما تنص عليه المادة 99.[7]
أما بخصوص الإشراف القضائي فقد أناطه المشرع بالمسؤولين القضائيين بالمحاكم بالإضافة إلى اشراف أعضاء النيابة العامة وفق للتسلسل، بحيث جعل الرئيس الأول لمحكمة النقض على قمة هذا الإشراف بأن أناط به الاشراف على الرؤساء الأولين لمحاكم ثاني درجة ورؤساء محاكم اولى درجة، والوكيل العام للملك يشرف على أعضاء النيابة العامة باعتباره رئيسا لهذه الأخيرة.[8]
وهذه لم تكن إلا بعض المستجدات التي أتى بها القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي في إطار استكمال البناء المؤسساتي والتشريعي للسلطة القضائية وتعزيز استقلاليتها، وكذا تجسيدا للمقتضيات الدستورية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
ونشير في الأخير إلى أن تنزيل هذه المقتضيات على أرض الواقع لن يتأتى إلا من خلال ارادة قوية تقوم على المسؤولية والمثابرة ومضاعفة الجهود من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ومشاركة الوزارة المكلفة بالعدل وكافة الفاعليين في قطاع العدالة.
[1] – لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدث عن ضمانات حماية الحقوق والحريات بمنأى عن استقلال السلطة القضائية كسلطة واستقلال القاضي كشخص ذاتي بعيدا عن كل التأثيرات الخارجية التي يمكن أن تحول دون أدائه لرسالته.
[2] – ومما جاء في هذا الخطاب:” إن الأمر يتعلق بورش شاق وطويل، يتطلب تعبئة شاملة، ال تقتصر على أسرة القضاء والعدالة، وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات، بل وكل المواطنين.
وإننا لنعتبر الإصلاح الجوهري للقضاء، حجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية ي والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة”.
[3] – وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن استقلال السلطة القضائية هو موضوع يقودنا بالضرورة الى تبيان وضعية النيابة العامة في منظومة القضاء، بحيث أصبحت هذه الأخيرة مستقلة عن السلطة التنفيذية وذلك تعزيزا لمبدأ الاستقلالية، وقد استحدث هذا الوضع بموجب القانون 106.13 الذي نص في مادته 25 على ما يلي:” يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين”، على خلاف ما كان عليه الوضع سابقا.
[4] – أنظر المادة 59 من قانون التنظيم القضائي.
[5] – كل هؤلاء القضاة يتم تعيينهم بنفس الكيفية.
[6] – بعد أن كانوا يعينون في ظل القانون القديم بقرار لوزير العدل.
[7] – ويبقى التفتيش الإداري والمالي من اختصاص المفتشية العامة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل.
[8] – أنظر المواد من 101 الى 105 من قانون التنظيم القضائي.