نظرية التعسف في استعمال الحق في المادة العقارية – محمد القسطيط
نظرية التعسف في استعمال الحق في المادة العقارية
محمد القسطيط
خريج ماستر الدراسات العقارية (الفوج 2)
جامعة عبد المالك السعدي
ـ كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة ـ
مقدمة:
لقد كرم الله الإنسان عن سائر المخلوقات وميزه وأعلى شأنه، وأمده بأسباب مواصلة مسيرة الحياة بالطريقة التي تتناسب وكونه أرقى ما خلق على الأرض.
والفرد داخل المجتمع يتمتع بالعديد من الحقوق، وإن استعمال هذه الحقوق استعمالا سيئا قد يلحق الأذى بالآخرين بقصد أو بدون قصد، وما بين حقوق الجماعة وحقوق الفرد نشأت ما يسمى بنظرية التعسف في استعمال الحق.
وبديهيا أن الأصل في وجود القانون هو احترام قواعده من قبل الناس تلقائيا، باعتبار أن تلك القواعد وجدت تحقيقا لمصالحهم وحفاظا على توازن العلاقات الاجتماعية، إلا أن هذا الاحترام قد يفقد إما جهلا من الأفراد وعدم دراية بالأحكام، وإما قصدا واستجابة لنوازع الأنانية والأثرة والخصومة التي تعد من طبائع البشر، ولذلك اقتضت الطبيعة البشرية الأمارة بالسوء وطبيعة الحياة وجود المسؤولية بصفة عامة، والمسؤولية المدنية بصفة خاصة، باعتبارها خروج الأفراد عن المألوف ولنوازع الأنانية.
وإذا كان التعدي هو الإخلال بالتزام قانوني، فإنه يتخذ عدة صور، من بينها التعسف في استعمال الحق.
وللوقوف على مفهوم نظرية التعسف في استعمال الحق، لابد من الإشارة إلى أن الحقوق أنواع، منها شخصية ومنها عينية، وغيرها (…) كما تجب الإشارة إلى أنه لا يقتصر تطبيق نظرية التعسف في استعمال الحق على الحقوق الناشئة من الالتزامات، بل يمتد إلى كل القوانين والحقوق، وسيقتصر تركيزنا في هذا المقال على مظاهر التعسف في استعمال الحق في المادة العقارية.
وتحتل الثروة العقارية أهمية بالغة في اقتصاد كل بلد، لهذا سعت التشريعات منذ زمن بعيد إلى وضع نظم عقارية الهدف منها حماية حقوق الملاك وأصحاب الحقوق العينية.
ومنه نطرح الإشكال التالي:
ما هي صور التعسف في استعمال الحق في المادة العقارية؟
وللإجابة عن الإشكال المطروح أعلاه سنعتمد التصميم التالي:
المبحث الأول: التعسف في استعمال حق الملكية
المبحث الثاني: التعسف في استعمال حق التعرض
المبحث الأول: التعسف في استعمال حق الملكية
من البديهي أن التعسف في اللغة هو أخذ الشيء على غير طريقته ومثله الاعتساف، وعسفه عسفا أخذه بقوة، وعسف في الأمر، فعله من غير رؤية ولا تدبر، واصطلاحا اختار البعض اختار البعض تعبير المضارة في استعمال الحق، وفي لغة القانون يعرف بأنه انحراف بالحق عن غاياته أو استعمال الحق على وجه غير مشروع.
وبموجب هذه النظرية ـ نظرية عدم التعسف في استعمال الحق ـ يجب على المالك أن يمارس حقه في الحدود المقررة بمقتضى القانون أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل فإذا تعسف في استعمال حقه كان ذلك خطأ موجب لإثارة المسؤولية.[1]
ومدونة الحقوق العينية لم تختلف عن ظهير 19 رجب الملغى كثيرا فهي لم تنص بشكل واضح وصريح على نظرية التعسف في استعمال الحق إلا أنه مع ذلك يمكن الاستناد إلى بعض النصوص المضمنة بمدونة الحقوق العينية لإقرار هذه النظرية، وهكذا فإنه بالرجوع إلى المادتين 14 و19 نجدهما تنصان على أن لصاحب حق الملكية سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه لكن في حدود القوانين أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل.[2]
وتنص المادة 20 من مدونة الحقوق العينية على أنه: “إذا تعلق حق الغير بعقار فلا يسوغ لمالكه أن يتصرف فيه تصرفا ضارا بصاحب الحق”.[3]
وعلى العموم يمكن أن يقع استعمال الحق على نحو فيه الشخص مخطئا وهذا ما يسمى بإساءة استعمال الحق أو التعسف في استعماله، يعتبر الشخص متعسفا في استعمال حقه في الحالات التالية:
أولا: إذا كان لم يقصد من وراء استعمال حقه سوى الإضرار بالغير، فالحقوق يجب إلا تستعمل إلا لجلب النفع أو دفع الضرر فإذا هي استخدمت لتكون محاولة للهدم وإلحاق الأذى بالغير، أصبحت شرا تلزم محاربته.
ومن الأمثلة على هذا النوع من التعسف ما قرره القضاء الفرنسي: “أن المالك إذا قام فوق منزله مدخنة قصد الإضرار بالجار وحجب النور عنه فإنه يحكم بإزالتها”.
ثانيا: يتحقق التعسف كذلك إذا كان صاحب الحق يرمي إلى تحقيق مصلحة قليلة الأهمية بالنظر إلى الضرر الذي يصيب الغير بسببها.[4]
وينص المشرع المغربي في الفصل 94 من قانون الالتزامات والعقود على أن: ” لا محل للمسؤولية، إذا كان فعل الشخص بغير قصد إحداث الإضرار ما كان له الحق في فعله.
غير أنه إذا كان من شأن مباشرة هذا الحق أن تؤدي إلى إلحاق ضرر فادح بالغير، وكان من الممكن تجنب هذا الضرر أو إزالته من غير أذى جسيم لصاحب الحق، فإن المسؤولية المدنية تقوم إذا لم يجر الشخص ما كان يلزم لمنعه أو لإيقافه”.[5]
ومثاله ما سبق ذكره أن يعمد مالك حائط إلى هدمه مختارا، دون عذر قوي، إن كان هذا الهدم يضر الجار الذي يستتر ملكه الحائط.
ثالثا: إذا كان صاحب الحق قد تجاوز في ممارسة حقه الحدود المألوفة فقد أقر المشرع هذا النوع من التعسف في الفصل 92 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أنه: ” ومع ذلك، لا يحق للجيران أن يطلبوا بإزالة الأضرار الناشئة عن الالتزامات العادية للجوار، كالدخان الذي يتسرب من المداخن، وغيره من المضار التي لا يمكن تجنبها والتي لا تتجاوز الحد المألوف”.[6]
وبالرجوع إلى الفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود نجده يمنح الحق للجار في أن يطلب من أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة، إما بإزالة هذه المحلات، وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلم منها، وأوضح أن الترخيص الصادر عن السلطات المختصة لا يحول دون ذلك، لكن الضرر المطلوب إزالته هو الضرر المحقق وليس الضرر الاحتمالي.[7]
المبحث الثاني: التعسف في استعمال حق التعرض
بالرغم من الأهمية التي يحظى بها القطاع العقاري، باعتباره الوعاء الأساسي لإنتاج المشاريع المنتجة للثروة، كما يعد من بين أهم المجالات التي يعول عليها في جلب الاستثمار وتحقيق الإقلاع الاقتصادي، فإنه في الواقع لا زالت هناك العديد من المعيقات التي تجعله لا يستجيب لمتطلبات الاستثمار، حيث أن التعرضات الكيدية، بل وحتى طلبات التحفيظ التعسفية، تشكل أكبر إكراه يعيق تشجيع الاستثمار.
ونظرا لتزايد أهمية التحفيظ العقاري في تحريك العجلة الاقتصادية، أضحى العقار في طور التحفيظ في صلب اهتمام مجموعة من الأشخاص الذين يمتهنون مهنة إقامة التعرضات التعسفية.[8]
وكما هو معلوم أن مطلب التحفيظ يعتبر قرينة بسيطة على ملكية طالب التحفيظ، بحيث تقبل إثبات العكس، وذلك من خلال عملية التعرض، فيمكن لكل شخص أن يتقدم بتعرضه، غير أن التعرضات أحيانا تكون عن حق، وأحيانا أخرى بدون حق، وهي الفرضية الأكثر وقوعا، ولا شك أن التعرضات الكيدية من شأنها أن تؤجل إنشاء الرسم العقاري، بحيث ينتج عن تقديم التعرضات توقيف الإجراءات الإدارية للتحفيظ العقاري، وإحالة النزاع إلى الجهة المختصة من أجل الفصل فيه، وهذا يؤدي إلى إطالة أمد النزاع وعرقلة إجراءات التحفيظ.[9]
فالتعرض على مسطرة تحفيظ عقار معين، وبدون تقديم مستندات أو تقديم حجج واهية أصبح حرفة للبعض، الهدف منه التأثير الاقتصادي والنفسي على طالب التحفيظ، ولذلك ينبغي على المحافظ بسط سلطته في إلغاء كل تعرض اقتنع بعدم جديته، وذلك عملا بالفقرة الأولى من الفصل 32 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بالقانون رقم 14.07، التي نصت على أنه: ” يعتبر التعرض لاغيا وكأن لم يكن، إذا لم يقدم المتعرض خلال الأجل المنصوص عليه في الفصل 25 من هذا القانون، الرسوم والوثائق المؤيدة لتعرضه، ولم يؤد الرسوم القضائية وحقوق المرافعة أو لم يثبت حصوله على المساعدة القضائية”.[10]
غير أن الأساليب التي تؤدي إلى تعطيل عملية التحفيظ عبر إثارة تعرضات كيدية ومفتقدة لأي أساس قانوني، وواقعي، لا تقتصر على المرحلة الإدارية وحسب، بل تشمل حتى المرحلة القضائية، وذلك من خلال سلوك طرق الطعن، بغرض إطالة أمد النزاع لأكبر قدر ممكن، مما يؤدي إلى عرقلة الدور التنموي للعقار في طور التحفيظ من جهة، ويؤثر بشكل سلبي على مكانة العقار، من حيث إدماجه في الدائرة الاقتصادية من جهة أخرى.[11]
وقد انتبهت إدارة المحافظة العقارية لإشكالية التعرضات الكيدية، حيث صدرت مذكرة للمحافظ العام في هذا الشأن جاء فيها ما يلي:
“ازدياد حالات التعرض الكيدي بظهور أشخاص يمارسون باعتياد عملية التعرض على مطالب التحفيظ وذلك بهدف ابتزاز أصحابها عن طريق عرقلة إجراءات تحفيظ ممتلكاتهم ويلجأون في ذلك إلى عدة وسائل منها عدم التصريح بعنوانهم الحقيقي وعدم أداء الرسوم القضائية وحقوق الترافع وعدم الإدلاء بالحجج المؤيدة، وإذا اضطروا فإنهم يدلون بسندات لا تفيد الملك كرسم إراثة…”.[12]
غير أن اختصاص النظر في أحقية طالب التحفيظ، يرجع للسلطة التي خولها الفصل 37 من ظ.ت.ع المعدل والمغير بالقانون رقم 14.07، للمحافظ على الأملاك العقارية دون غيره، وسلطة المحافظ تقابلها مسؤولية شخصية، إذ يجب عليه التحقق من كفاية الحجج وسلامة الإجراءات، وبالتالي فمنع المحكمة من البت في طلبات التحفيظ، جعلت بعض المهتمين يرون عدم إمكانية تطبيق مقتضيات الفصل 48 من ظ.ت.ع، والذي منح للمحكمة المحال عليها طلب التحفيظ صلاحية الحكم بغرامة وبتعويض سواء لفائدة الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية، أو للمتعرضين، انطلاقا من الطلبات الكيدية والتعسفية.[13]
خاتمة:
وانطلاقا من النصوص الواردة في قانون الالتزامات والعقود أو ومدونة الحقوق العينية قانون رقم 39.08 أو من خلال الفصول الواردة في نظام التحفيظ العقاري قانون رقم 14.07، يتبين أن المشرع المغربي أخذ هو الآخر بنظرية التعسف في استعمال الحق وطبقها على الملكية العقارية، على غرار ما ذهبت إليه التشريعات الحديثة، وكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت السباقة للأخذ بهذه النظرية التي تحتل مكانة بارزة في القانون.
والخلاصة من هذا الموضوع هو أنه لابد للتأكيد على الخصومة تعد من طبائع الذي لديه مصالح، وقد يسعى إلى تحقيقها ولو أدى الأمر إلى الإضرار بمن حوله، وذلك إما قصدا واستجابة لنوازع الأنانية والأثرة، وإما بسبب عدم دراية الأفراد بالأحكام، وهي أمور لا يمكن قبولها لا أخلاقيا ولا قانونيا، لذلك كان لابد من تواجد أحكام كنظرية التعسف لتنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع وخلق التوازن في العلاقات الاجتماعية، وتعمل على مراقبة عدم خروجهم عن المألوف.
[1] ـ إدريس الفاخوري: الحقوق العينية وفق القانون رقم 39.08، طبعة 2013، دار نشر المعرفة، الرباط ـ المغرب، ص: 82.
[2] ـ المادة 14 المادة 19 من مدونة الحقوق العينية.
[3] ـ المادة 20 من مدونة الحقوق العينية.
[4] ـ أيت لحاج مرزوق: محاضرات في المسؤولية المدنية، السنة الجامعية: 2016 ـ 2017، ص: 150 ـ 151.
[5] ـ الفصل 94 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
[6] ـ بمعنى أن المشرع سمح لهم صراحة بأن يطلبوا إزالة الأضرار إذا تجاوزت الحد المؤلوف.
[7] ـ راجع في ذلك: إدريس الفاخوري، م.س، ص: 85.
[8] ـ إدريس الفاخوري: نظام التحفيظ العقاري وفق مستجدات القانون 14.07، م.س، ص: 59.
[9] ـ مجلة القانون والأعمال، العدد 52 يناير 2020، ص:11 ـ 12.
[10] ـ إدريس الفاخوري: نظام التحفيظ العقاري وفق مستجدات القانون 14.07، م.س، ص: 60.
[11] ـ مجلة القانون والأعمال، العدد 52 يناير 2020، م.س، ص: 12.
[12] ـ إدريس الفاخوري: نظام التحفيظ العقاري وفق مستجدات القانون 14.07، ص: 59.
[13] ـ بوجمعة زفو: أثار نظام التحفيظ على تداول الملكية العقارية، الطبعة: 2013، ص: 130.