في الواجهةمقالات قانونية

زلفي عبدالسلام : خدمة التعليم عن بعد..من أجل “نيوديل”وخطة جديدة في مواجهة الأزمة

 

خدمة التعليم عن بعد..من أجل نيوديل“وخطة جديدة في مواجهة الأزمة

 

بقلم: زلفي عبدالسلام

باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام بجامعة ابن زهر – أكادير

 

إن العالم وهو يواجه اليوم فزاعة الكورونا فيروسىcorona virus  جعل دول المعمور مذعورة من هول تفشيه واختراقه لأنظمتها الصحية، ذعر وهوس عالمي تحول معه نمط الحياة الجماعية المشتركة إلى وقود يشعل فتيل هذا الفيروس وينشر مداه على نطاق واسع ممتد عبر الحدود والقارات، مما يهدد الوجود الإنساني الدولي، هذا الخوف والدعر العالمي يمكن أن نجد له مدخلا تفسيريا ضمن كتابات عالم الإجتماع والفيلسوف البولندي زيجمونت باومانZygmunt Bauman” حول السوائل التسعة، خاصة في مؤلفه “الخوف السائل”. فأزمة الكورونا اليوم تعبر عن خوف وقلق عالمي تعيشه البشرية جمعاء بشكل اختياري أو إجباري يجسده الحضر الصحي والمنزلي، و بتداعيات سيكولوجية تبررها عدم القدرة على السيطرة على الفيروس الخفي الذي تحول إلى تريند دولي يتحدث عنه العالم بأسره، لينتقل من وباء ناء إلى خطر اني، ومن تصور هلامي إلى إجراءات عملية واحترازية، في مقابل تدفق عدد الإصابات والوفيات ضمن نطاق مجتمع دولي حداثي، تشكلت وتناسلت أركانه ضمن سيرورة تاريخية بعقيدة نيوليبرالية، ادعت انتصارها الواهي بتعبير الكاتب “حسن أوريد” نقلا عن الكاتب Amin Maalouf” في كتابه “اختلال العالم” ، والذي يحتفظ براهنيته في نبوءته حول عودة الجوائح وتهديدها للبشرية والعولمة السعيدة القائمة على الشعور الجشع والاناني، والترابط والاعتماد المتبادل دون تضامن بتعبير الفيلسوف ادغارمورانEdgar Morin“”، زمن تتهدد معه عدد من الأمم المتقدمة خاصة الأوروبية  منها إثر تفشي الوباء الجائحة بعدد من هذه الدول، كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، حيث أضحت أوروبا عالما ثالثا جديدا بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفرايMichel Onfray“.

إن الفيروس covid 19  الجديد ينير اليوم المصير المشترك للبشر بشكل فوري ومأساوي على حد قول الفيلسوف وعالم الاجتماع ادغار موران “Edgar Morin، وهو الذي أرغم دولا على اتخاذ تدابير في مستوى الوباء، لكنها تكرس الإغلاق الأناني لهذه الدول حول ذاتها، كأن المستقبل ينم عن تحول عميق، تنبّأ فيه جاك أتاليJacques Attali“، المنظر الفرنسي، وعالم الاجتماع والمستشار السابق للرئيس الفرنسي الرّاحل فرانسوا ميتران، بحدوث تغييرات عميقة سيشهدها العالم بأسره، تغييرات ستطالُ بنى العولمة التقليدية وتعيدُ تشكيل ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى،هذا الفيروس الذي يخبرنا وبقوة أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية من أجل سياسة مضادة للأزمة     (New Deal) (نيوديل) اجتماعية وبيئية، دائما بتعبير Edgar Morin.

ومن موقعنا كباحثين ومنتمين إلى جسم التربية والتكوين سنحاول مقاربة أزمة الكورونا التي يشهدها المغرب اليوم من منظور تربوي يتخذ من التعليم عن بعد منطلقا للتحليل والوصف، باعتبار الأزمة زمن غير طبيعي ومختلف، يوصف بالطارئ والإستثنائي ويختلف عنه في الظروف العادية، زمن يفرض على صانعي القرار اتخاذ اجراءات استعجالية في وقت محدد وقياسي وفي ظروف معقدة لاتعطينا المزيد من الوقت، مما يفرض علينا استقراء الوضع ونحن في قلب الأزمة ، سعيا إلى كسب الدروس وربح العائد التربوي والتعليمي.

 

فالتعليم يعتبر إحدى أهم المجالات التي شملته رزمانة التدابير والإجراءات الوقائية، والمغرب نموذجا لذلك، حيت بادرت الوزارة الوصية على التعليم بتوقيف الدراسة بكافة المؤسسات العمومية والخصوصية، تزامنا مع المرحلة الأولى من مراحل تفشي الوباء، خوفا من انتقال العدوى وبحكم طبيعة الحقل التعليمي وما يعرفه من تجمعات بشرية داخل المؤسسات التعليمية، وذلك حفاظا على سلامة وصحة الناشئة من تلاميذ وطلبة وكذلك الأطر التربوية والإدارية تنزيلا للفصل 21 من دستور 2011، وانسجاما مع مضامين المخطط الوطني لليقظة والتصدي لهذا الفيروس.

غير أن هذا الإيقاف لم يكن نهائيا بل صاحبه بادرة الوزارة الوصية إلى تعويض الدراسة النظامية والحضورية بالأقسام، يالدراسة عن بعد في إطار مايسمى بالتعليم الإلكتروني، حيث أصدرت عدة بلاغات توضيحية وتوجيهية تشرح مجمل الإجراءات وكيفية تنزيل هذه العملية، ومذكرات وزارية تقعد لهذه الممارسة التربوية الجديدة في نظامنا التعليمي، من خلال المذكرة الوزارية رقم 20/231 في شأن تفعيل خطة الإستمرارية البيداغوجية، والمذكرة الوزارية رقم 20/271بتاريخ 23 مارس 2020 في شأن استعمال مسطحة Team  المدمجة في منظومة مسار Massar  للتعليم عن بعد، حيث سيتم تفعيل التعلم عبر الفصول الافتراضية، وهو مايعني إحداث بيئة تعليمية رقمية افتراضية تجمع كلا من المتعلم والأستاذ والمنهج، تكون مشابهة للفصول الحقيقية الحضورية، تمكن الأستاذ من التواصل مع التلاميذ وطرح الأسئلة وتلقي الإجابات وتقديم التغذية الراجعة، وتتميز بتقديم مجموعة متكاملة من أدوات التقويم المختلفة، مع قدرة الأستاذ على تصحيح الامتحانات وتسجيلها واجراء المعالجات المطلوبة منه.

فالتعليم الإلكتروني عن بعد E-Learning  هو علم نظري وتطبيقي ونظام تعليمي متكامل مبني على أسس فكرية ونظريات تعليمية تربوية حديثة، وأسلوب من أساليب التعلم يعتمد تقديم المحتوى التعليمي وإيصال المهارات والمفاهيم للمتعلم بناء على تكنولوجيا المعلوميات والاتصالات ووسائطهما المتعددة، بشكل يتيح للمتعلم التفاعل النشيط مع المحتوى والمدرس والأقران، بصورة متزامنة أو غير متزامنة في الوقت والمكان والسرعة التي تناسب ظروف المتعلم وقدرته. وفي المغرب التجربة لازالت في بداياتها، حيث انطلقت قبل ذلك مع بعض الجامعات المغربية من خلال إطلاق تكوينات عن بعد كمسطحة الجامعة الرقمية المغربيةwww.mun.ma

 

عديد هي الملاحظات التي نستشفها من هذه العملية ونحن نودع الأسبوع الرابع  من انطلاقها، لنجعل منها مؤشرات أولية  indicateurs initiauxتنم عن شجاعة المبادرة رغم حداتثها، وبالرغم من الصعوبات والإكراهات التي تواجهها، وذلك من خلال التتبع اليومي لهذه العملية عبر مختلف المنافذ المخصصة لها من مجموعات واتساب و فيسبوك والمنصات الالكترونية الرسمية https://telmidtice.men.gov.ma)) والقنوات التلفزية الوطنية، وأساسا بحكم اشتغالنا بالميدان وتواصلنا اليومي مع الأساتذة والاباء والأمهات وأولياء الأمور. ونجملها فيما يلي:

  • تجند الوزارة الوصية على قطاع التعليم في الخط الأمامي لمواجهة تفشي الفيروس بوصلات اشهارية واعلامية تحسيسية وعلنية،عززت بها المضامين الرقمية والتلفزية المصورة عبر قنوات التلفزة الرسمية وعدد البلاغات التوضيحية لتيسير تنفيذ هذه العملية.
  • الانخراط الواسع لمختلف الفاعلين بالمنظومة من أطر تربوية وإدارية ومختلف الشركاء.
  • انضباط شريحة واسعة من التلاميذ ومواكبتهم المستمرة لمختلف الدروس عبر الأنترنيت.
  • انخراط الاباء والامهات وأولياء الأمور وتواصلهم الدائم مع الأساتذة والإدارة عبر مختلف وسائل الإتصال تتبعا للدروس الرقمية التي يتوصلون بها.
  • دينامية كبيرة تشهدها المنصات الإلكترونية التي تعنى بتقديم الدروس لكافة المستويات الدراسية خاصة الإشهادية منها.
  • بروز حركية مكثفة ودينامية على مستوى المديريات والأكاديميات الجهوية للمملكة لصياغة وتجميع مختلف الموارد والمضامين الرقمية وتقاسمها.
  • مبادرة عدد كبير من الأساتذة والأطر الإدارية إلى إحداث تطبيقات خاصة بجميع الأجهزة التي تشتغل بنظام الأندرويد من هواتف ولوحات الكترونية وتلفاز ذكي Smart  تهم جميع المستويات خاصة الإشهادية منها، وانجاز مسطحات الكترونية للتعلم عن بعد تحوي دروسا تفاعلية.
  • طفو نوع من التنافس الإيجابي بين مختلف الأساتذة والفاعلين التربويين من خلال تصوير عدد من الدروس بشكل يومي وتقديمها عبر الصفحات الرسمية للمديريات الإقليمية بتشجيع من المسؤولين الإقليميين، وبمساعدة مديري المؤسسات التعليمية الذين يوفرون الأقسام والوسائل الضرورية لتقديم هذه الدروس للتلاميذ عن بعد.
  • اعتماد مصادر المعلومات الرقمية القائمة على جانب التخزين السحابي مثل قنوات التعليم في اليوتيوب حيث يلجأ المدرسين إلى تصوير فيديوهات لشرح الدرس والقاء المحاضرات وتقديمها بصورة مجانية للتلاميذ.
  • عدد من الفئات من التلاميذ الانطوائيين بدعم ومساعدة من ابائهم وأمهاتهم، بادروا إلى إنجاز المشاريع التربوية المقدمة لهم من طرف أساتذتهم بنجاح إلى درجة تحفيز بعضهم البعض على ذلك، وذلك بشهادة ابائهم.
  • خلق فضاء جديد للتعلم يتميز بالتتبعية traçabilité للموارد التعليمية والمعنيين بالفعل التعليمي.
  • تحسين المعارف وسرعة الولوج إلى المعلومة.
  • تطوير قدرات وكفاءات الأساتذة والمتعلمين نتيجة الاحتكاك بالأنظمة التعليمية الرقمية والانفتاح على بقية الأنظمة العالمية.
  • بروز ميول أغلبية التلاميذ إلى الاشتغال بالتكنولوجيا الرقمية في الدروس باعتبارهم ألفوا التعامل مع هذه الأجهزة ومنهم من يتقن استخذامها.
  • ارتفاع نسبة مشاهدة القنوات العمومية بالمغرب، حيث أكد مركز قياس نسب المشاهدة التلفزيونية “السيوميد” أن معدل المشاهدة اليومية للأفراد ارتفع من 4 ساعات إلى 6 ساعات يوميا منذ يوم 16 مارس 2020 تاريخ بداية إغلاق المدارس كجزء من التدابير الاحترازية التي اتخذتها الحكومة للوقاية من الفيروس.
  • الإستفادة من الموارد البشرية العالية التكوين غير المتواجدة بنفس المكان.
  • التركيز على تطبيقات الاتصال مثل الواتساب حيث يقوم الأساتذة بعمل مجموعات تعلم تضم جميع التلاميذ في المادة الواحدة.
  • التركيز على تطبيقات التواصل الاجتماعي تتضمن الفيسبوك باعتباره الأكثر انتشارا بين السكان لسهولة تقاسم المعلومات والوصول إليها وتجميعها، ونظرا لشعبيته في صفوف الأساتذة والتلاميذ والاباء والامهات على حد السواء.
  • انخراط بعض الفاعلين الاقتصاديين في ميدان الإتصالات لضمان وتوفير مجانبة الولوج إلى المنصات التعليمية الإلكترونية الرسمية حيث صدر بلاغ مشترك مع المعنيين في هذا الشأن.
  • انخراط بعض الفاعلين الترابيين من المجالس الجماعية والمجالس الإقليمية لتوفير أجهزة من ألواح إلكترونية وهواتف ذكية لتيسير عملية التعلم عن بعد خاصة في صفوف الفئات المعوزة بالعالم القروي وتلاميذ الأقسام الإشهادية.

 

فالثابث اليوم في أزمة الكورونا أن المجهود المبدول في تنزيل التعليم الالكتروني عن بعد ببلادنا من طرف مختلف الفاعلين بهذا الحقل وباختلاف مواقعهم، ينم عن إجماع ووعي جمعي مشترك حول قضية كبرى محورها المتعلم، قضية يتأكد اليوم بالملموس أهميتها ودورها المحوري داخل المجتمع. صحيح أن العملية رافقها مشاكل في التنزيل ببعض المناطق النائية التي تفتقر إلى التغطية الشبكية والامكانات المادية الكفيلة بتوفير الأجهزة الإلكترونية لممارسة التعلم عن بعد، أمام تفشي الأمية ومظاهر الهشاشة والفقر وارتفاع معدل البطالة في صفوف الاباء وأولياء الأمور، مما يقتضي التعجيل باتخاذ حزمة من التدابير الإجرائية المواكبة لتصريف المهارات التي يتطلبها تفعيل التعليم عن بعد، والمرتبطة أساسا باستخدام الأجهزة الرقمية والبحث عبر شبكات الأنترنيت والتعلم الذاتي  وحل المشكلات ومواجهة الأزمات على محمل من الجدية لا الاستهتار، وذلك عن طريق توفير التقنيات والأدوات الرقمية المناسبة والبنية الخدماتية اللازمة و التكوين والتدريب .

رغم القصور الذي يعرفه النظام التعليمي بالمغرب، غير أن هذا الأخير وفي زمن الكورونا أظهر قدرة الفاعل على تبني وتنفيذ مسار وخطة جديدة مضادة للأزمة  “Newdeal”  تؤمن الاستمرارية البيداغوجية، خطة لاتعوض المؤسسات التربوية والتعليمية، ولكن تعضد دورها تحقيقا لغايات المنظومة وتأمينا لنبض المجتمع وتحصين عافيته وحقنه بجرعات تربوية تضامنية وتحسيسية مضادة للأزمة.

فالتجربة فتية ولاتزال في بدايتها الأولى، غير أنها لامحالة ستؤسس لبناء رؤية استراتيجية للرقمنة البيداغوجية تضع لبناتها الأولى بشكل يتماشى مع مناهجنا وسياستنا التعليمية، تجربة في حاجة إلى غوص فكري وعلمي رصين، يمهد لفعل منهجي ومسار تسلسلي وتعاقبي بناء، يأخذ بعين الاعتبار الفاعلين بالمنظومة واستراتيجياتهم والموارد المادية والرمزية، وينظر إلى التعليم الرقمي عن بعد ليس فقط بديلا يتم اللجوء إليه في وقت الأزمات، ولكن كأساس من أسس ودعائم النظام التعليمي انسجاما مع الدور الجديد للتعليم كالية لتحقيق التنمية المستدامة، لاسيما أنه قطاع تضامني أظهر تعاطفه زمن الأزمة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى