في الواجهةمقالات قانونية

أثر القوة القاهرة على الكراء الفلاحي – المصطفى لحسيني 

 

 

أثر القوة القاهرة على الكراء الفلاحي

الأستاذ: المصطفى لحسيني     .

محامي متمرن بهيئة المحامين الجديدة

 

 

الكراء عقد، بمقتضاه يمنح أحد طرفيه للآخر منفعة منقول أو عقار، خلال مدة معينة في مقابل أجرة محددة، يلتزم الطرف الآخر بدفعها له[1].

وإن كان التعريف أعلاه، بمتابة الخط العريض لعقد الكراء بصفة عامة، فهناك استثناءات عدة يفرزها موضوع ومجال عقد الكراء، وما يهمنا نحن الكراء الفلاحي.

عمل المشرع المغربي على تنظيم هذا النوع من العقود في قانون الإلتزامات والعقود كقاعدة عامة، وخصه بالفصول من 700 إلى 722 بشكل خاص من نفس القانون. فضلا على بعض النصوص الخاصة المتمثلة في ظهير شريف بمثابة ميثاق الإستتمارات الفلاحية الصادر في سنة1969،[2] الذي رصد له الباب الثالث المتعلق بقواعد وكيفيات الإستغلال الفصول من 30 إلى 34 منه،بالإضافة الى الأعراف المحلية، فضلا على بعض القواعد الفقه المالكي.

وإن كان هذا العقد كباقي العقود الرضائية التي تعتبرشريعة بين المتعاقدين، والتي نظمها المشرع المغربي في الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود، تنبني على ثلاثة أسس، على رأسها ما هو قـانـونـي الذي يتجسد في احترام مبدأ سلطان الارادة بإعتباره الركيزة الأساسية لمختلف التصرفات القانونية عموما وكذلك الطابع الأخــلاقـــي والـديـنــي المتمثل في احترام العهود والمواثيق إضافة إلى الاساس ذو الطابع الاجتماعي والاقتصادي، الذي يظهر في وجوب استقرار المعاملات الذي يتحتم ان يسود في كل مجتمع.

لماذا هذا القول؟ لأن الدراسة التي أعتزم تقديمها إلى الباحثين هي تمرد وخروج على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين وفلسفة القوة الملزمة للعقد. لإنه قد يتعذر على الفلاح المكتري أن ينفذ الإلتزام الواقع على عاتقه لإسباب لا يد له فيها، كالحادث فجائي والقوة القاهرة، مما يجعله يستفيذ من بعض الحقوق، وتسمح له بالتخلص من مسؤوليته المدنية.

لكن حتى يمكننا أن نتحدث عن أثار القوة القاهرة في الكراء الفلاحي  ( المبحث الثاني) لابد من أن تتحقق بصددها بعض الشروط يجب أن يتبثها مبدئيا الفلاح المكتري أمام القضاء الذي له لوحده السلطة التقديرية في الأخد بها او رفضها(المبحث الأول).

 

المبحث الاول: التصور العام للقوة القاهرة في الكراء الفلاحي

 

تعتبر نظرية القوة القاهرة فكرة قدمية تباينت آراء الفقهاء حول مفهومها، كما أن معظم التشريعات لم تعمل على تعريفها، الشيء الذي جعل تحديد مفهوم دقيق وموحد لها أمرا صعبا، كما أن الدفع بها من طرف المدين يستوجب تحقق شروط معينة حددتها التشريعات الوضعية وكذا الفقه و القضاء (المطلب الأول). والقوة القاهرة بإعتبارها واقعة مادية وقانونية تطرح بعض الصعوبات من حيث الإثبات حتى تنتج أتارها القانونية للمستفيذ منها (المطلب الثاني).

 

المطلب الأول: مفهوم وشروط القوة القاهرة في الكراء الفلاحي.

 

سنعمل على تحديد مفهوم القوة القاهرة بشكل عام في التشريع المغربي (الفقرة الأولى) ثم سنعرج على تبيان شروط تحقق نظرية القوة القاهرة في الكراء الفلاحي والتي اعتمدها المشرع المغربي (الفقرة الثانية).

 

 

 

الفقرة الأولى: مفهوم القوة القاهرة في الكراء الفلاحي

عرف المشرع  القوة القاهرة في الفصل 269 من قانون الإلتزامات والعقود بأنـــهــــا ” “القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف، والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.”

ونستشف من خلال قرائتنا لهذا الفصل ان القوة القاهرة هي ذلك الحادث أو الواقعة التي لا يمكن يتوقعها الإنسان عادة، ويستحيل مقاومتها أو دفعها ولا يكون للمدين يد في تحقيقها علاوة على أن المشرع أعطى أمثلة على القوة القاهرة وجاء بها على سبيل المثال لا الحر الشيء الذي يدل على أن القوة القاهرة واقعة وليست قانون يمكن اثباتها جبميع وسائل الإثبات.

وحسنا ما فعل المشرع المغربي حينما عرف القوة القاهرة، ويكون بذلك خالف منهج التقنينات الحديثة المقارنة التي أحجمت عن تعريف القوة القاهرة في ترساناتها القانونية.[3]

 

الفقرة الثانية: شروط تحقق القوة القاهرة في الكراء الفلاحي.

إن الحديث عن القوة القاهرة في الكراء الفلاحي لا يعفينا من الوقوف أولا عند القواعد العامة المنظمة للقوة القاهرة تأصيلا، وصولا الى النصوص الخاصة تفصيلا[4]، لا سيما الفصل 269 من ظهير الالتزامات والعقود الذي وضع الشروط المكونة لواقعة القوة القاهرة.

تلك الشروط تعد بمتابة الخطوط العريضة التي تنسج عليها القوة القاهرة في الكراء الفلاحي قواعدها الخاصة التي تنسجم مع خصوصيات هذا الميدان، وبالتالي تكون شروط الأخد بالقوة القاهرة في الكراء الفلاحي كتالي، وهي:

 

أولا: عدم التوقع:

يجد هذا الشرط سنده في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود ويرتبط هذا الشرط أساسا بالفلاح المكتري وبتصوره الذهني بالاساس وبمفهوم المخالفة لهذا الشرط حتى يفهم أنه لا يكون من قبيل القوة القاهرة ما كان بإمكان الفلاح المكتري توقع حدوثه.

وفي جميع الحالات فإن شرط عدم التوقع مسألة واقعية وموضوعية يرجع استخلاصها للسلطة التقديرية للقضاء.[5]

 

ثانيا: استحالة الدفع

نص المشرع على هذا الشرط في نفس الفصل المومأ إليه أعلاه ويفيذ أن الفلاح المكتري لا تكون له القدرة على رد تلك القوة القاهرة او ذلك الحادث الفجائي الذي من شأنه ان يضر بالزراعة او يمنع هذا الاخير من حرث الارض موضوع عقد الكراء أو زراعتها.

ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة ما يمكن دفعه او رده بتدخل من المكتري على سبيل المثال الفلاح الذي يهمل القيام ببعض الاعمال التي من شأنها إخراج المياه من الزراعة الى المجاري وأدت الى هلاك المحصول الزراعي نتيجة عدم القيام بهذه المهمة لا يعتبر هذا الهلاك قوة قاهرة نظرا لعدم استحالة الدفع.[6]

 

 

 

ثالثا: ألا تكون القوة القاهرة، قد وقعت نتيجة خطأ المكتري.

انطلاقا من مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 269 من قانون الالتزامات  والعقود :”… وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين”.

وكذالك مقتضيات الفصل 95 من نفس القانون الذي ينص على أنه : ” لا حمل للمسؤولية المدنية… عن حادث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها او يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعى عليه “.

وأنتهاءا بالفصل 709 من نفس القانون الذي نص في فقرته الأولى:” إذا منع المكتري من حرث الأرض أو زرعها بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة، كان له حق الإعفاء من الكراء أو استرداده من المكري، إذا كان قد سبقه له. وذلك بشرط:

أولا: ألا يكون الحادث الفجائي أو القوة القاهرة، قد حدث نتيجة خطإه؛ ”

ومنه نستنتجان الواقعة التي يتسبب في وقوعها الفلاح المكتري بفعله أو خطإه، لا يمكن اعتبارها بأي حال من الاحول قوة قاهرة تعفيه من المسؤولية العقدية، لأن قواعد العدالة ولإنصاف تقضي بأن لا حق للشخص في الإستفادة من خطإه.

 

المطلب الثاني: إثباث القوة القاهرة في الكراء الفلاحي

الأصل أن البينة على المدعي[7] وإثبات الالتزام على مدعيه[8]، الشيء الذي يعطي للمدعى عليه الحق في تفنيذ مزاعم خصمه.

من الجانب النظري لموضوع اثبات القوة القاهرة في الكراء الفلاحي قد يكون محسوما نسبيا إلا هذا لا يعفينا ان نتسائل من الناحية العملية على كيفية اثبات الوقائع او الواقعة المكونة للقوة القاهرة؟

هذا السؤال بالضبط يجرنا تعسفا الى الوقوف على مقتضيات الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود الذي حدد بهذا الخصوص ما يمكن اعتباره قوة قاهرة من قبيل (الفيضانات والجفاف، والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة  والحرب …. وكل هذا جاء على سبيل المثال لا الحصر.

حيث يمكن للفلاح المكتري ان يثبت بعض الوقائع التي من شأنها تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا وفق الشروط المحددة سلفا.

إن موضوع إثبات القوة القاهرة من المواضيع الشيقة والشاقة لإمتزاجها بالواقع والقانون ويظهر ذلك من الناحية الواقعية حين ينصب المكتري نفسه أمام القضاء مدعيا من أجل التحلل من إلتزامه العقدي بإستناده لواقعة القوة القاهرة وهنا يكون الإثبات بشكل عام على الواقعة و قد ينصب فقط على شرط من شروط القوة القاهرة وخير تعليل تشريعي وفي هذا الصدد بالذات هو الفصل 268 من قانو الالتزامات والعقود حين إعتبر القوة القاهرة سببا معفيا من المسؤولية المدنية.

والمكتري الذي يدعي القوة القاهرة لابد ان يستحضر مقتضيات الفصل 709 والفصل 710 من قانون الالتزامات والعقود التي ميزت بين القوة القاهرة التي تمنع الفلاح المكتري من في البدأ بحرث الأرض او زراعتها والقوة القاهرة التي تصيب المحصول بعد زراعته.

الشيء الذي يكون معه هذا المدعي في موقف مريح شيءا ما لكون هذا المنع يتزامن مع بداية كراء الأراضي الفلاحية الذي يكون في 13 من سبتمبر من التقويم الميلادي[9] ما لم يحدد المتعاقدان تاريخا آخر. الشيء الذي يكون معه المنع واضحا.

أما إذا إذا زرع المكتري الأرض ثم هلك كل الزرع نتيجة قوة قاهرة أو هلك نصف المحصول الزراعي في هذه الحالة من الناحية العملية تطرح اشكال. هل يمكن إثبات هذه الواقعة فقط من قبل المكتري بوسائل الاثباث المحددة في الفصل 404 من قانون الالتزامات والعقود؟[10]

لا أضن ذلك لكون واقعة القوة القاهرة مادية تؤدي إلى إحداث هلاك بمحصول زراعي هذا المحصول المتنوع من حيت النوع، الشيء الذي يتوجب مع اثباث أساسا وجود هده القوة القاهرة اضافة الى العلاقة السببية بينها وبين هلاك المحصول الزراعي هذا من جهة فضلا على تقرير يبين ان إذا مكان هذا الهلاك الزراعي يتجاوز نصف المحصول ام العكس.

إذ هذه الأمور تتسم بعنصر الفنية وبعض التقنية التي تحتاج الى خبير في المجال الشيء الذي يستعصي على القاضي استنباطه بنفسه.[11]

لكن في جميع الحالات يتم اثبات القوة القاهرة بكافة الوسائل القوية الخالية من اللبس بما فيها شهادة الشهود والحجة الكتابية والقرائن.

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني: أثــــار الــــقــوة القاهرة على عقد الكراء الفلاحي.

من المتفق عليه قانونا ان القوة القاهرة تنتج عنها أثار منها ما يتعلق بعين الإلتزام الشيء الذي يمنع[12] تنفيذه وأخرى تنصب على الذمة المالية للمدين وتسلب منه مسؤوليته المدنية.[13] هذا بشكل عام؛ لكن بخصوص موضوعنا الذي يتعلق بعقد الكراء  الفلاحي، هذا الأخير بمقتضاه يمنح المكري للفلاح المكتري منفعة الأرض موضوع العقد، الشيء الذي يجعلنا أمام:

  • قوة قاهرة نتج عنها منع المكتري من حرث او زرع الأرض .
  • قوة قاهرة أدت إلى هلاك كل المحصول الزراعي.
  • قوة قاهرة نتج عنها هلاك المحصول الزراعي جزئيا.

وبهذا الإعتبار، رغم إختلاف صور القوة القاهرة في الكراء الفلاحي فإنها على العموم تجعل تنفيذ الإلتزام مستحيلا هذه الإستحالة نميز فيها بين الإستحالة المطلقة تمنع الفلاح بحرث الارض او زرعها (المطلب الأول) اوالإستحالة التي تكون في بعض الأحول نسبية أو جزئية بحيث يقوم الفلاح المكتري بحرث الأرض وزرعها لكن تأتي عليها قوة قاهرة تؤدي إلى هلاك المحصول الزراعي سواء كلية أجزئيا  ( المطلب الثاني).

 

 

 

المطلب الأول: استحالة تنفيذ عقد الكراء الفلاحي إستحالة مطلقة

تعتبر استحالة تنفيذ الإلتزام عقد الكراء الفلاحي شرطا وأثرا في نفس الوقت للقوة القاهرة، وهذه الإستحالة تجعل تنفيذ الإلتزام مستحيلا؛ بغير خطأ من الفلاح المكتري الذي يتمسك بها.

ومفاد هذه الحالة ان تكون الاستحالة مطلقة بمعنى أن تكون عامة تأتي على مجموع الأرض الفلاحية ومعنى ذلك ان يكون قد منع واستحال على الفلاح حرث او زرع الارض موضوع الكراء الفلاحي أو في حالة زراعتها أدت إلى هلاك عموم الزراعة.[14]

 

وهكذا، فقد نص الفصل 709من قانون الالتزامات والعقود في هذا الصدد على مايلي:

”   إذا منع المكتري من حرث الأرض أو زرعها بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة، كان له حق الإعفاء من الكراء أو استرداده من المكري، إذا كان قد سبقه له. وذلك بشرط:

أولا: ألا يكون الحادث الفجائي أو القوة القاهرة، قد حدث نتيجة خطإه؛

ثانيا: وألا يكون متعلقا بشخصه.”

وهو ما أكدته الفقرة الأولى من الفصل 710 من نفس القانون حينما نصت على مايلي:

” للمكتري حق الإعفاء من الكراء أو استرداده، إذا زرع الأرض ثم هلك كل الزرع نتيجة حادث فجائي، أو قوة قاهرة لا يعزيان إلى خطإه. …”

يظهر من النصين أعلاه أن القوة القاهرة في الكراء الفلاحي قد تتخد صورتين كتالي:

 

أولا: الصورة الأولى.

ومن الواضح أعلاه، أن المشرع المغربي يعفي الفلاح المكتري في حالة وجود قوة قاهرة او حادث فجائي من أداء الكراء كلية؛ بشرط أن تتوفر شروط القوة القاهرة التي سبق توضيحها والمنصوص عليها في القواعد الخاصة بالكراء الفلاحي[15] مع ضرورة وجود ضرر يتمثل في منع المكتري من الإستفادة من الأرض عن طريق حرثها أو زرعها، وهذا أمر طبيعي وعادل لكون الغاية من عقد كراء الأرض الفلاحية هي الإنتفاع بها عن طريق حرثها وزرعها وإستغلال محاصيلها، وبالتالي من باب الإنصاف وحفاظا على التوازن بين مصلحة المكري والفلاح المكتري ضحى المشرع بمصلحة الاول لصالح الثاني خدمة لخصوصية هذه الوضعية الاجتماعية والاقتصادية.

 

ثانيا: الصورة الثانية:

هذه الحالة بدورها تعطي للمكتري الحق في الإعفاء من أداء الكراء أو إسترداده كليا متى دفع بدل الكراء مسبقا، في حالة حرثه وزرعه للأرض لكن شاءت الأقدار أن تصاب هذه الزراعة بقوة قاهرة ( جفاف + فياضانات + الجراد…) الشيء الذي أدى إلى هلاكها كاملة وأن لايكون هلاك الزرع جزئيا، وإن كان كذلك لا محل للإعفاء من الكراء أو لاسترداده كاملا، فضلا على أن لا يكون هذا الأخير قد عوض عن الخسارة التي لحقته، إما من محدث الضرر وإما من إحدى شركات التأمين.[16]

وحسن ما فعل المشرع، حين ما أقر هذا لصالح الفلاح المكتري، بحيث لا يمكن أن يتكبد هذا الأخير خسارتين خسارة السومة الكرائية والمحصول الزراعي.

 

المطلب الثاني: استحالة تنفيذ عقد الكراء الفلاحي إستحالة جزئية

نص المشرع في الفقرة الثانية من الفصل 710 من قانون الإلتزامات والعقود على أنه إذا كان هلاك الزرع جزئيا، لم يكن هناك محل لتخفيض الكراء أو لاسترداده بما يتناسب مع الجزء الهالك، إلا إذا تجاوز هذا الجزء النصف.

وبهذا يعفى الفلاح المكتري جزئيا فقط من دفع أجرة الكراء لأن الخسارة هنا جزئية وليست كلية. لكن هذا الحق موقوف على ان يتجاوز الضرر نصف المحصول الزراعي، وهذا أمر يحيل على الجزء الأول من الدراسة في ما يخص بلإثبات إذ على المكتري يثبت أن هلاك تجاوز نصف المحصول سواء عن طريق إجراء خبرة ينتذب إليها خبير متخصص في المجال عن طريق المحكمة او أهل الإختصاص من الفلاحين.

موضوع الهلاك الجزئي في جميع الحالات يجب أن يكون من إختصاص المحكمة، التي لها الإمكانيات التي تمكنها من الوقوف على حقيقة الخسارة والنقصان الذي طال الزراعة، والتي تعتمد فيه على الإنتاج العادي للأرض وطبيعة المحصول.

وفي هذا الصدد جاء في قرار لمحكمة النقض:

”  الجفاف يعتبر بمثابة قوة قاهرة تعفي المكتري من أداء الكراء للدولة كليا أوجزئيا حسب نص الفصل 710 من قانون الإلتزامات والعقود.

تكون المحكمة قد عللت قضاءها بما فيه الكفاية حين صرحت بأن النقصان الواقع في المحصول الفلاحي راجع إلى حالة الجفاف التي أصابت السنة الفلاحية وأن هذا السبب الأجنبي الذي لم يكن في الوسع دفعه ولا توقعه يكون قوة قاهرة تعفي من تنفيذ الالتزام بتمامه. “[17]

ونشير إلى أن القضاء المغربي قد اضطر في هذا الصدد مرارا إلى تطبيق الأحكام المضمنة في الفصلين 710 و 712 السالفي الذكر .

وهكذا مثلا فقد قررت محكمة الاستئناف بالرباط : « الفياضانات الواقعة في ناحية بأكملها والناتجة عن أمطار قوية وذات غزارة استثنائية تشكل حدثا فجائيا من شأنه أن يبرر استرداد بدل كراء الأرض الفلاحية ، حالة حصول هلاك المحصول كلا أو جزءا .

ولايهم بعد ذلك أن تكون الأرض المكراة قد غطيت بالمياه بأكملها أم لا إذا كانت قد تضررت من الأسباب التي نشأت من فيضان الأراضي المجاورة .

لاتعد خطأ محاولة المكتري زراعة الأرض رغم بلل البذور من جراء سقوط أمطار استثنائية .

يجب ، تطبيقا لأحكام الفصل 710 ق . ا . ع أن يتم تقدير نسبة الهلاك الذي أصاب المحصول حسب مقدار المحصول الفعلي وقيمته الذاتية بالمقارنة محصول عام لنفس المزرعة . . . »

وجاء في قرار آخر : « هلاك الزرع كليا أو جزئيا بعد تعرضه لهجمة من الدود يمثل حادثا فجائيا من الوجهة القانونية . . . » [18]

 

ختاما يمكن القول أن القضاء هو الفاصل في تحديد القوة القاهرة التي لحقت المحصول الزراعي ، وتحديد الجزء من الخسارة الذي يبرر الإنقاص و مقداره . فالمسألة إذن يطغى عليها الجانب الواقعي أكثر مما يطغى عليها الجانب القانوني في هذا الصدد .

وكل ذلك حماية للمكتري الفلاح من تعسف صاحب الأرض ومن استغلال ضعف مركزه الاجتماعي والاقتصادي ، فإن المشرع المغربي قد جعل هذه الأحكام من صميم النظام العام تطبق وجوبا ، حتى في حالة الاتفاق على مايخالفها ، على مايتضح صراحة من مقتضيات الفصل 712 من قانون الالتزامات والعقود.[19]

وفي الحقيقة ، فإن المشرع المغربي ، عندما وضع المقتضيات أعلاه ، قد انطلق من منظور إسلامي لكي يحمي واقعا اجتماعيا واقتصاديا في ذات الوقت . فهو قد وازن بين مصلحة كل من المكري والمكتري وضحى بمصلحة الأول صاحب الأرض   لحساب الثاني   المنتفع بالأرض   خدمة لذلك الوضع .

فالمجال الفلاحي يخضع عندنا لظروف مناخية جد صعبة كثيرا ماتؤثر إيجابا أو سلبا في استقرار الحياة بالبوادي المغربية ، وخاصة البورية منها .

فالفلاح المكتري ليس له مايتعيش به وما يدفع منه بدل الكراء إلا ما يجنيه من الأرض بخلاف المكري الذي غالبا ما يكون ميسور الحال أو على الأقل مستقرا بالمدينة وله موارد اقتصادية أخرى.[20]

 

[1] الفصل 627 من قانون الإلتزامات والعقود.

[2] ظهير شريف رقم 1.69.25 بتاريخ 10 جمادى الأولى 1389( 25 .يوليوز 1969  )بمثابة ميثاق لالستثمارات الفلاحية.

[3] عرض حول القوة القاهرة منشور بالموقع الإلكتروني الصفحة 8 الرابط http://salahgardafi.eb2a.com

[4] الفصل  700 من قانون الالتزامات والعقود “يخضع كراء الأراضي الفلاحية للقواعد العامة السابقة، مع استثناء الأحكام الآتية:”

 

[5] يقول الأستاذ عبدالرزاق السنهوري حول الموضوع في مؤلفه الوسيط في شرح القانون المدني نضرية الالتزام ” ….أن معيار عدم التوقع معيار موضوعي لا شخصي ، ومن تم لا فلا يكفي ان  الفعل او الواقعة المكونة لحالة القوة القاهرة مما لا يمكن للمدين بالذات ان يتوقعه او ان يتلافاه، و انما يجب ان يكون عدم التوقع هذا قائما بالنسبة لاي مدين كان متى وجد في نفس الظروف التي يوجد فيها المدعى عليه…..”

[6] محمد الكشبور في كتابه “نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة، دراسة مقارنة من وحي حرب الخليج، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1993. الصفحة 33.

[7] حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

 

[8] الفصل 399 من قانون الالتزامات والعقود.

 

[9] الفقرة الثانية من الفصل 701 من قانون الالتزامات والعقود.

[10]  ينص الفصل 404 على: وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:

1 – إقرار الخصم؛

2 – الحجة الكتابية؛

3 – شهادة الشهود؛

4 – القرينة؛

5 – اليمين والنكول عنها

[11] الأستاذ إدريس العلوي العبدلاوي: وسائل الاثبات في التشريع المغربي، القواعد العامة للإثبات.

[12]  كما هو الحال بالنسبة للحالة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 709 من قانون الالتزمات والعقود:

    ”   إذا منع المكتري من حرث الأرض أو زرعها بسبب حادث فجائي أو قوة قاهرة، كان له حق الإعفاء من الكراء أو استرداده من المكري، إذا كان قد سبقه له ….  “

[13]  هذه الأثار بصفة عامة نص عليها المشرع في الفصل 268 من قانون الإلتزامات والعقود :

” لا محل لأي تعويض، إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء بالالتزام أو التأخير فيه ناشئ عن سبب لا يمكن أن يعزى إليه، كالقوة القاهرة، أو الحادث الفجائي أو مَطْـل الدائن. ”

 

[14] محمد الكشبور في كتابه “نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة، دراسة مقارنة من وحي حرب الخليج، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1993. الصفحة 67.

[15] ومن شروط التي يجب مراعاتها من أجل الإستفادة من الإعفاء من اداء الكراء او استرداده ما جاء به الفصل 711 من ظهير الالتزامات والعقود الذي نص على:   ” لا محل للإعفاء من الكراء ولا لتخفيضه:

أولا: إذا حدث الهلاك بعد فصل المحصول عن الأرض؛

ثانيا: إذا كان سبب الهلاك موجودا عند إبرام العقد، وكان المكتري حينئذ على علم به، وكان من طبيعته أن يولد الأمل في التمكن من إيقافه. ”

 

[16]  الفصل 710 من قانون الالتزامات والعقود.

[17] القرار  رقم 154 الصادر عن الغرفة الإدارية بتاريخ 14 يوليوز 1972 باسم جلالة الملك منشور بموقع محكمة النقض بوابة إجتهادات محكمة النقض المغربية تم زيارة الإطلاع على القرار بتاريخ 12/04/2020 على الساعة 21:32 على الرابط: www.juris.courdecassation.ma

[18] القرارين أوردهما الأستاذ محمد الكشبور في كتابه “نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة، دراسة مقارنة من وحي حرب الخليج، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1993. الصفحة 177.

[19] نص الفصل 712 على أنه : “يبطل كل شرط من شأنه أن يحمل المكتري تبعة الحوادث الفجائية، أو يلزمه بدفع الكراء ولو لم ينتفع بالعين لأحد الأسباب المذكورة في الفصلين 709 و710.”

[20] الأستاذ محمد الكشبور م س ص 178  .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى