في الواجهةمقالات قانونية

تطور الدساتير المالية بالمغرب -دراسة في مسار وخلفيات القوانين المالية المعدلة-  

 

تطور الدساتير المالية بالمغرب

-دراسة في مسار وخلفيات القوانين المالية المعدلة-

 

أمين الصافي: باحث بسلك الدكتوراه تخصص المالية العامة

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- فاس

مقدمة:

تلعــب الماليــة العامــة دوراً كبــيرا ومهــما في حيــاة الدولــة المعــاصرة، فالماليــة العامـة هـي المـرآة العاكسـة لحالـة الاقتصـاد والظـروف السياسـية بـكل دولـة خـلال فــترة زمنيــة معينــة[1]. لأجل ذلك اعتمد المغرب، ومنذ حصوله على الاستقلال في سنة 1956، آلية التدبير الميزانياتي لموارده ونفقاته، كما عمل تدريجيا على إرساء دعائم نظام مالي وطني مستقل، حيث تم إحداث وزارة للمالية في 1956 كبديل للمديرية العامة للمالية، وتم وضع أول ميزانية وطنية تشمل جميع مناطق المغرب الموحد بعيدا عن كل تدخل أجنبي في 1958[2]، وبعد صدور أول دستور للمملكة سنة 1962 عقبه صدور أول قانون تنظيمي للمالية في 1963[3].

لقد عرف المغرب من خلال مختلف المراجعات الدستورية اصدار قانون تنظيمي للمالية جديد، والذي يعتبرا دستورا ماليا للدولة باعتبار أن هذه القوانين ذات أهمية داخل البنيان القانوني للمغرب باعتبارها امتدادا للوثيقة الدستورية، وينشأ هذا الامتداد أو الصفة التكميلية من خلال التنصيص الحصري على القوانين التنظيمية في الوثيقة الدستورية حيث إن هذه الأخيرة تنص على ضرورة صدور القوانين التنظيمية لتنظيم مسائل دستورية معينة فهي لا تصدر إلا بتكليف من المشرع الدستوري[4].

لقد تميزت القوانين التنظيمية للمالية بالمغرب منذ 1963 إلى حدود اخر قانون تنظيمي لسنة 2015[5]، بتأطيرها لثلاثة أنواع من قوانين المالية: قانون مالية السنة، قانون التصفية؛ قوانين المالية المعدلة[6] هذه الأخيرة والتي لم يعرفها المغرب الا في ثلاث مناسبات 1979و 1983 و1991 فيما مشروع القانون المالي التعديلي الرابع في طور التحضير برسم السنة المالية الحالية، جراء الأزمة الحادة التي يعرفها الاقتصاد الوطني نتيجة فيروس كرونا. وضعف والموسم الفلاحي نتيجة الجفاف.

لقد ثم اعتماد القوانين التعديلية بالمغرب في فترات الأزمات المالية نظرا، لضرورتها إذا تم تغيير “الخطوط العريضة” لتوازنات الاقتصادية والمالية المحددة بواسطة قانون المالي الأولي. وبشكل أكثر دقة، يعتمد قانون مالي تعديلي عند نقص الموارد العادية أو حذف الاعتمادات أو اتخاذ تدابير تؤثر على تنفيذ الميزانية، خلال سنة المالية[7]. وقد نصت المادة 4 من القانون التنظيمي للمالية 13-130 على أنه “لا يمكن أن تغير خلال السنة أحكام قانون المالية للسنة إلا بقوانين المالية المعدلة”. ان هذه القوانين تمكن من تعديل الترخيص الممنوح من قبل البرلمان للحكومة في بداية السنة، والموافقة على التدابير الجديدة المتخذة وفق الوضعية الاقتصادية الجديدة وتحيين المعطيات والفرضيات التي تم بناء القانون المالي السنوي حولها.

 

 

 

ان الوضعية المالية الدقيقة التي تواجد ويوجد فيها المغرب اليوم، هي التي اجبرته على اعتماد قوانين مالية تعديلية عندما اختلت موازين القوانين المالية السنوية. وهو ما يدفع لطرح الإشكالية التالية: ما هي سياقات ودواعي اصدار قوانين مالية تعديلية بالمغرب؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية بالدراسة والتحليل سيتم تقسيم الموضوع الى مبحثين:

المبحث الأول: دوافع تبني القوانين المعدلة للمالية لسنة 1979 و1983

المبحث الثاني: اكراهات اصدار القانون المالي التعديلي لسنة 1991 و2020

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول: دوافع تبني القوانين المعدلة للمالية لسنة 1979 و1983

لقد عرفت سنة 1965 أول أزمة مالية بالمغرب نجم عن إثرها اللجوء للبنك الدولي، الا أن الأزمة كان متحكما فيها وعرف الاقتصاد الوطني نموا متوازنا، الا ان المرحلة التي انطلقت من 1975 ستعرف نموا متسارعا رافقه اختلالات في التوازنات الاقتصادية حيث أن تراكمها سيستدعي اصدار اول قانون مالي تعديلي يعرفه المغرب سنة 1978(المطلب الأول)، سيعقبه بعد أربع سنوات ثاني قانون تعديلي للمالية سنة 1983 (المطلب الثاني) جاء هذا القانون من اجل محاولة تجاوز الصعوبات التي عانت منها المالية العمومية.

المطلب الأول: القانون التعديلي لسنة 1978  

لقد نص القانون التنظيمي للمالية لسنة 1963 على قانون المالية التعديلي من خلال الفصلين 2[8] و7[9]. أقر القانون التنظيمي للمالية لسنة 1963 الترابط بين قوانين المالية والمخططات المعتمدة من طرف البرلمان كما أكد الفصل بين القواعد والمبادئ الميزانياتية والمالية وتلك المتعلقة بنظامي المحاسبة والصفقات العمومية. عقب الإعلان عن حالة الاستثناء سنة 1965، ثم حل البرلمان وتمت العودة للميزانيات المعتمدة دون ترخيص[10]، ترتب عن الإعلان عن حالة الاستثناء تطبيقا للفصل 35 من الدستور 1962، استئثار جلالة الملك بممارسة كافة مظاهر السلطة، بما في ذلك سلطة إصدار قوانين المالية. فبناء على الفصل 35 المذكور أصدر الملك قوانين مالية لسنوات 1966 و1967 و1968 و1969 و1970[11].

سنة 1970 ستشهد صدور ثاني وثيقة دستورية جديدة عقبها مباشرة قانون تنظيمي للمالية[12]،. سيحافظ هذا الأخير على نفس هندسة القانون التنظيمي للمالية الذي سبقه وسيأطر القوانين المالية التعديلية من خلال المواد [13]2 و7[14] مع تغيير عبارة “قوانين المالية المصححة” بعبارة “قوانين مالية معدلة” والاحتفاظ بنفس الصياغة السابقة.

إن دستور 1970 لن يعمر الا 18 شهرا ونصف، وبرلمان 1970 لن يشتغل إلا ثلاث دورات عادية (أكتوبر 1970. أكتوبر 1971)، إذ سرعان ما أعلن الملك في خطاب 17 فبراير 1972، عن عزمه على وضع دستور جديد وطرحه على الشعب من أجل المصادقة عليه بالاستفتاء[15]. وبتصويت 98.75% من المشاركين في استفتاء فاتح مارس 1972 على مشروع دستور 1972 أصدر الملك الأمر بتنفيذه في 10 مارس 1972[16]. ومباشرة بعد صدوره، سيتم اصدار قانون تنظيمي جديد للمالية[17] في 18 شتنبر 1972. هذا القانون الذي لم يوافق عليه البرلمان لكونه صدر خلال فترة الاستثناء التي عرفها المغرب آنذاك[18]. وهو القاسم المشترك بينه وبين القانونين التنظيميين السابقين حيث تم اعتمادهما خارج إطار المؤسسة التشريعية.

مع بداية سنوات السبعينيات، تبنى المغرب سياسة توسعية للاستثمار تم تجسيدها من خلال إطلاق مخطط خماسي طموح 1973-1977، على أساس ارتفاع عائدات الفوسفاط بسبب زيادة أسعاره أربع مرات[19]. فيما شهدت النفقات العمومية وخاصة نفقات الاستثمار نموا هائلا[20].

لكن بسبب ضغط الانفاق العام وصدمة النفط لعام 1973[21]، والإنفاق العسكري (حرب الصحراء) وتسارع نمو استهلاك الدولة 41.7% ما بين سنة 1974 و1977 وما رافقه من زيادة الأجور بالنسبة للموظفين بنحو 26% أدت هذه السياسة إلى حالة من عدم التوازن في الميزانية[22]، نتيجة تراجع أسعار الفوسفاط، وارتفاع أثمنة البترول وتدهور معدلات التبادل التجاري وارتفاع نسبة الفوائد بالسوق المالية العالمية، وارتفاع قيمة الدولار[23]، مما أدى الى اختلالات عميقة في التوازنات ما نتج عنه الدخول في مرحلة من المديونية المفرطة.

قادت هذه الوضعية المغرب إلى اعتماد برنامج للاستقرار والتثبيت الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي سنة َ1978 من خلال التقليص من نفقات الاستثمار العمومي، والزيادة في الضرائب وتجميد رواتب الموظفين، وتقليص نمو القروض المخولة للمقولات الخاصة[24].  وهو ما تم تبنيه من خلال وضع قانون مالي تعديلي سنة 1978 وسن سياسة تقشفية من خلال المخطط الثلاثي الاستثنائي 1978-1980 من أجل تجاوز الأزمة وتصحيح الأوضاع. لكن هذه الإجراءات لم تسمح من بتجاوز الأزمة بشكل فعال فسرعان ما ستتفاقم الأوضع من جديد سنة 1983، ويعدل المغرب قانونه المالي السنوي لثاني مرة في تاريخه.

المطلب الثاني: القانون المالي التعديلي لسنة 1983

واصل المغرب سياسته التوسعية في الاستثمار خلال سنوات 1981 – 1983 مع استمراره في الاقتراض، حيث لم يعد دور هذه الافتراضات هو تمويل الاقتصاد، وانما تمويل العجز المالي المتزايد، فالدين العمومي الخارجي انتقل من 7.680 مليون دولار سنة 1980 إلى 12.337 مليون دولار سنة 1982 ثم 13.642 مليون دولار سنة 1983. لكن هذه السياسة تقع في سياق غير ملائم بكثير عن سياق الأزمة البترولية الأولى.

فعلى المستوى الداخلي تأثر الاقتصاد المغربي بالجفاف والذي كان خطيرا بشكل استثنائي سنة 1981، وقد عرفت القدرة على انتاج الكهرباء والري عقب ذلك انخفاضا مهما، كما استدعى الأمر مرة أخرى استيراد الحبوب. أما على المستوى الخارجي فقد تعرض المغرب لمضاعفات الأزمة البترولية وانخفاض أسعار الفوسفاط حيث تقلص السعر بالدولار بنحو 21% ما بين 1980 و1983 إضافة إلى تعرضه لانعكاسات ارتفاع سعر الدولار ومعدلات الفائدة[25]. وعوض أن تكون هناك سياسة اقتصادية متوسطة وبعيدة المدى للتحكم في هذه الوضعية، اقتصرت الحكومات، آنذاك على اتخاذ تدابير حمائية هدفها حماية السوق الداخلية وتحسين الموارد العمومية، فبدأ فرض ورفع معدل الضرائب على الاستيراد، مما أدى الى اضعاف تنافسية المنتوج الوطني في الأسواق الخارجية[26].

وقد تمثلت الأثار السلبية لهذه السياسات في تفاقم الاختلالات الاقتصادية والمالية، نتيجة تفاقم الضغوطات على التوازنات الأساسية (الداخلية والخارجية) وبالتالي حالت دون تنفيذ المخطط الخماسي 1981- 1985 الذي كان يحاول تجاوز السياسة التقشفية التي طبقت منذ 1978[27]. ومع حلول صيف 1983 صدر قانون معدل لمالية السنة[28]، واعتبر هذا القانون من طرف المتتبعين خطيرا ومهما لأنه يتعلق بتعديل جذري في السياسة المالية للدولة، والتوقيع على فترة مستحدثة في مجال التدبير لأنه أنداك أصبح المغرب عاجزا عن الوفاء بديونه، فلجأ الى إعادة الجدولة التي تتم بشروط مجحفة، فهذا القانون المعدل، جاء ليطبق ما تم الاتفاق عليه مع الدول والمنظمات الدائنة، وذلك بخصوص تحسين الوضعية المالية للمغرب، أي تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي، والتي يطلق عليها سياسة التقويم الهيكلي[29]. وهي عبارة عن سياسات اقتصادية ومالية، تهدف إلى القضاء على الأسباب العميقة للاختلال الاقتصادي، وذلك على المديين المتوسط والطويل. والتقويم الهيكلي لا يوظف فقط الوسائل ذات الطابع الاقتصادي، بل يلجأ إلى مقتضيات وتدابير ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية[30].

نجم عن هذا القانون المالي التعديلي حذف جميع المناصب المالية لسنة 1983 ومراجعة نفقات التسيير والاستثمار لنفس السنة. حيث كان الهدف هو تقليل مقدار العجز الكبير في المالية العمومية عن طريق تقليص الإنفاق العمومي وزيادة الموارد العمومية خاصة من خلال اصلاح النظام الجبائي. الذي انطلاق سنة 1984[31]، من أجل تحديثه وتبسيطه، وجعله في نهاية المطاف أكثر نجاعة حيث أن هذا القانون كان يبحث عن المردودية أكثر من العدالة بين الملزمين، وهو ما يتضح من خلال دخول الضريبة على القيمة المضافة حيز التنفيذ انطلاقا من سنة 1986 بسبب مردوديتها المرتفعة وسلاسة استخلاصها. لقد خفض هذا البرنامج مديونية الخزينة وأعادها إلى مستويات معقولة. لقد كانت فعاليته نتيجة لعدة عوامل، وهي إعادة جدولة الديون، والإيرادات الضريبية المتعلقة بالمنتجات البترولية، والهبات[32].

إن المرحلة الممتدة من 1978 إلى 1988 تعتبر مرحلة الأزمة وإدارة الأزمة، حيث ستؤدي الأزمة إلى تباطؤ الحركية الاقتصادية، وبالتالي الى اتباع إجراءات العودة الى التوازنات المالية. وقد نتج عن اتباع سياسة التقويم الهيكلي تكاليف اقتصادية واجتماعية ومالية تراجع في ظلها دور الدولة في كل من التشغيل والصحة والتعليم والأجور ودعم الأثمنة بينما لم يتعد متوسط النمو السنوي 3% بين 1980 و1987[33]. كما عرفت هذه الفترة تبنى المغرب لسياسة المخططات الخماسية في فترات الاستقرار الاقتصادي، وعندما تعرف الأوضاع الاقتصادية أزمات يتبنى مخططات ثلاثية. إن عقد السبعينات والثمانينات يعتبران عقدي تراكم الاختلالات التي لم تنتهي خلال هذه الفترة بل امتدت لبداية سنوات التسعينات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني: اكراهات اصدار القانون المالي التعديلي لسنة 1991 و2020

لقد تظافرت عدة عوامل ضاغطة ناتجة عن الاختيارات الاقتصادية التي سادت المغرب خلال، بداية التسعينيات جعلت المغرب يدخل في اصلاح قانونه المالي السنوي من خلال قانون مالي تعديلي سنة 1991 (المطلب الأول)، لكن هذه العوامل المؤثرة ستتغير سنة 2020 بسبب جائحة كرونا وأثرها الحاد على المالية العمومية مما سيدفع لإصدار القانون المالي التعديلي الرابع في تاريخ المغرب (المطلب الثاني).

المطلب الأول: قانون المالية التعديلي لسنة 1991

نتيجة للسياسات الحكومية المتبعة انطلاقا من 1983، والآثار الذي خلفتها توصيات صندوق النقد الدولي وبرنامج التقويم الهيكلي كالعجز في ميزان الأداءات، وانخفاض الاحتياطات من النقد الأجنبي، وارتفاع المستحقات المتأخرة للدين العام الخارجي. وانعكاسها على الوضع الاقتصادي بشكل عام والوضع الاجتماعي بشكل خاص.  سيشهد النظام السياسي المغربي عدة أحداث من أهمها، ملتمس الرقابة الثاني الذي عرفته الحياة البرلمانية المغربية في ماي 1990 بعد الملتمس الأول لسنة 1962، إذ تمكن مجلس النواب من تحريك المسؤولية السياسية للحكومة من خلال تقديم ملتمس ضد السياسة العامة للحكومة في التجربة البرلمانية الرابعة (1984-1992)[34]، ان ملتمس الرقابة الية سياسية تمكن مجلس النواب أن يعارض في مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها وهو ما تم تفعيله انطلاقا من الفصل 75 من الدستور المغربي لسنة 1972.

إن لكل ملتمس أسبابه وأثارة التي اختلفت بحسب الظروف السياسية التي تحكمت في تقديمه من طرف أحزاب المعارضة البرلمانية، فملتمس الرقابة لسنة 1990 أكثر حدة وقوة من حيث اللغة التي وظفتها المعارضة البرلمانية في محتوى الملتمس وذلك للدلالة على الأزمة العميقة التي تمر منها البلاد وهكذا وضحت المعارضة البرلمانية في صلب ملتمس الرقابة تأزم الوضعية المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية[35].

لقد نهج المغرب خلال تلك الفترة سياسة تقشفية، تراجع من خلالها دور الدولة في الصحة والتعليم والتشغيل في المقابل عرف القطاع الخاص نموا جد متسارع خاصة عن طريق سياسة الخوصصة؛ وتخلى الدولة عن بعض القطاعات الاقتصادية لصالح القطاع الخاص، حيث أعلن الملك الحسن الثاني أمام البرلمان سنة 1988، اعتماد برنامج الخوصصة، كاختيار استراتيجي للتنمية الاقتصادية بالمغرب[36]، وتجاوز أزمة المالية العمومية ، غير أن الوضع سيزداد تفاقما بسبب عدم مردودية سياسة الخوصصة وعدم تحقيقها للنتائج المتوخاة منها، بسبب أن عملية الخوصصة شملت مؤسسات عمومية ذات مردودية عالية، والبيع تم بأثمان غير مناسبة وصلت في بعض الأحيان الى درهم رمزي، إضافة الى غياب الشفافية والوضوح[37]. مما كان له تبعات خطيرة على تدبير المالية العمومية نظرا لصعوبة المرحلة وتوالي الأزمات الاقتصادية وتفاقم المديونية العمومية.

كل هذه الأسباب مجتمعة وفي سياق برنامج التقويم الهيكلي الذي فرض نفسه على المغرب، جعل الحكومة تصدر قانون تعديلي للمالية سنة 1991، الذي أراد أن يقلل بأكثر من 15% من اعتمادات الأداء المفتوحة بموجب ميزانية الاستثمار بموجب قانون المالية لسنة 1991، ويصحح النقطة المتعلقة بالموارد. وجدير بالذكر انه تم الاكتفاء بمناقشته أمام لجنة المالية فقط، دون عرضه على السلطة التشريعية في صيغة مشروع قانون، من أجل مناقشته وممارسة حقها الدستوري من خلال المصادقة عليه أو رفضه.

وبعد كل هذه الأوضاع سيعرف المغرب دستور 1992 ورغم حمولاته القوية فإن المبادئ والقواعد المالية لهذا الدستور لم تجد ترجمتها عبر قانون تنظيمي جديد للمالية، وان كانت نهاية سنة 1995 ستعرف بعض التغيرات[38]، غير إن اعتماد دستور سابع أكتوبر 1996، سيسفر عن ميلاد قانون تنظيمي للمالية[39] حمل ولأول مرة في تاريخ المغرب، البصمة التشريعية البرلمانية[40]. بعد أن كانت القوانين التنظيمية للمالية السابقة تستأثر وتحتكر فيها السلطة التنفيذية بورش الإصلاح، وتقصي البرلمان من القيام بوظائفه التشريعية. كما أن هذه الفترة لم تعرف أي قانون مالي تعديلي، رغم الظرفية الاقتصادية الحرجة التي خلفتها الأزمة المالية لسنة 2008.

المطلب الثاني: رهان مشروع القانون التعديلي للمالية لسنة 2020

عرف المغرب نهاية التسعينيات مجموعة من الإصلاحات السياسية والمالية والقطاعية والاقتصادية التي تهدف إلى تدعيم الحكامة الجيدة وتنمية الرأسمال البشري وتعزيز آليات التضامن والتماسك الاجتماعي والمجالي. وقد جاء دستور 2011 ليتوج هذه الإصلاحات، مكرسا لمبادئ الحكامة الجيدة خاصة في المجال المالي. وإذا كان القانون التنظيمي للمالية لسنة 1998 قد كرس التدبير الميزانياتي القائم على الوسائل، فقد كرست أحكام القانون التنظيمي الجديد رقم 13-130 لقانون المالية الإصلاحات التي تمت مباشرتها منذ سنة 2001 عاملة على الحد من النقائص التي كانت تعتري القانون التنظيمي السابق[41].

لقد جاء القانون التنظيمي للمالية 13-130 ليدعم وسائل رقابة البرلمان على المالية العمومية، ويوسع صلاحياته فطبقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 77 من دستور 2011 “يعتبر  البرلمان والحكومة مسؤولين عن الحفاظ على توازن مالية الدولة“، كما أن القانون التنظيمي للمالية 13-130  يتيح للحكومة إمكانية مراجعة وتصحيح وتغيير التقديرات المرخص بها من قبل البرلمان في إطار القانون المالي السنوي، وخصوصا تلك المتعلقة بالموارد والتكاليف، وذلك خلال مرحلة تنفيذ القانون المالي، تداركا لسوء التوقعات المدرجة في هذا القانون أو استجابة للظرفية الاقتصادية والمالية المستجدة[42]، وذلك عبر قانون مالي تعديلي.

وبما أن تنفيذ القانون المالية رقم 70.19 للسنة المالية 2020 يأتي في سياق خاص، حيث موجة الجفاف الى جانب تداعيات حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها في 20 مارس نتيجة وباء كورونا، وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، وتغير جميع المؤشرات التي تم بناء قانون المالية لسنة 2020 حولها، سواء المتعلقة بالنمو الاقتصادي او عجز الميزانية والميزان الجاري. كما أن الموارد أصبحت تعرف تقلصا ملموسا انطلاقا من شهر مارس وحدتها ستزداد انطلاقا من شهر يونيو، الى جانب طلب الحكومة من البرلمان ان يرخص لها لتجاوز سقف 31 مليار درهم المحدد برسم السنة المالية 2020 كقروض خارجية. كلها عوامل دفعت الى اللجوء إلى قانون تعديلي للمالية برسم سنة 2020.

لقد أكد وزير المالية، يوم الثلاثاء 12 ماي 2020، أمام مجلس المستشارين، أن شهرين من الحجر الصحي سيكلفان الاقتصاد المغربي 6 نقاط من نمو الناتج الداخلي الإجمالي لسنة 2020، وهو ما يمثل خسارة قدرها مليار درهم عن كل يوم من الحجر الصحي. أما على مستوى الميزانية، من المفترض أن يؤدي التباطؤ الاقتصادي إلى نقص في موارد الخزينة بما يقرب من 500 مليون درهم في اليوم خلال فترة الحجر الصحي، يضاف إلى ذلك آثار الجفاف والانخفاض في محصول الحبوب للموسم الزراعي الحالي- تقديرات محصول الحبوب لم تتجاوز 30 مليون قنطار، بدلاً من 70 مليون قنطار التي كان مخطط لها في بداية السنة -، يجب أن نتوقع انخفاضًا حادًا في معدل النمو وتفاقم عجز الميزانية. كما ستنخفض المداخيل بشكل كبير، خاصة المداخيل الضريبية[43].

ان اعتماد القانون المالي التعديلي، يخضع لنفس المسطرة التي يمر منها القانون المالي السنوي، انطلاقا من المجلس الوزاري[44] والذي سيتم خلاله تحديد التوجهات الكبرى التي يجب أن يتأسس عليها مشروع قانون المالية التعديلي. ثم يناقش النص ويعتمده مجلس الحكومة، ويعرض مشروع قانون المالية التعديلي على السلطة التشريعية قصد المصادقة عليه في أجل خمسة عشر يوما، ثمانية أيام مخصصة للمناقشة والتصويت بمجلس النواب، وأربعة أيام لمجلس المستشارين، والثلاثة أيام المتبقية تخصص لمجلس النواب من أجل البث النهائي في مشروع قانون المالية المعدل[45].

ان رهان القانون المالي المعدل هو تصحيح وتعديل السياسة المالية، التي توقعتها الحكومة خلال السنة وتحيين الفرضيات الاقتصادية التي تم بناء القانون المالي السنوي حولها، وضبط توقعات المداخيل والنفقات. من أجل تفعيل خطة لإنعاش الاقتصاد الوطني وإعادة توجيه السياسات العامة وفق الوضعية المستجدة.

 

 

 

 

 

 

خاتمة:

إن أهم ما يمكن تسجيله هو أن الحكومات المتعاقبة على المغرب تتجنب اصدار قوانين مالية تعديلية، رغم انها الية مهمة في تدبير المالية العمومية نصت علها كل القوانين التنظيمية للمالية من اجل معالجة كل الهزات المالية التي يعرفها تنفيذ القانون المالي السنوي وتصحيح الاختلالات التي تعرفها النفقات والمداخيل.

لقد ذهبت القوانين التعديلية الثلاث السابقة التي عرفها المغرب نحو سياسات تقشفية هدفها التحكم في التوازنات المالية خاصة عبر تقليص النفقات، واعتبرت قوانين مرحلية لتدبير الأزمة نتيجة الخوف من الوضع الاقتصادي القادم، حيث أن هذه السياسات لم تساعد في تجاوز الأزمة الاقتصادية بل زادت من حدتها خاصة على المستوى الاجتماعي.

ان ازمة المالية العمومية اليوم مشابهة لأزمة أمس وإن اختلفت الأسباب فالنتيجة واحدة. لذلك يجب الاستفادة من دروس الماضي واستحضارها في وضع حلول المستقبل التي ستصاغ من خلال قانون المالية التعديلي، فإلى جانب هاجس تطويق الأزمة المالية الحالية. يجب أن تكون أولى أولويات الحكومة زيادة ميزانية قطاعي الصحة والتعليم والتشغيل، وزيادة نفقات الاستثمار، وتحسين الأوضاع الاجتماعية للفئات الهشة الأكثر احتياجا ومحدودة الدخل.

[1]  رانيا محمود عمارة، المالية العامة الإرادات العامة، مركز الدراسات العربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجيزةمصر، 2015، ص 9.

[2] عسو منصور، قانون الميزانية العامة ورهان الحكامة المالية الجيدة، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الرباط 2017، ص 21.

[3]  ظهير شريف رقم 1.63.326 بشأن القانون التنظيمي للمالية، الجريدة الرسمية عدد 2664 الصادرة بتاريخ   28جمادى الثانية 1383 (15 نونبر 1963).

[4]  نور السداة حميوي، القوانين التنظيمية بين المشرع الدستوري والسلطة التشريعية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 103 مارس ابريل 2012، ص 57.

[5] ظهير شريف رقم 62-15-1 صادر في 14 من شعبان 1436 (2 يونيو 2015) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية.  

[6] لقد تم التنصيص على مدلول القانون التنظيمي للمالية من خلال المادة 2 من مختلف القوانين التنظيمية للمالية لسنوات 1963؛ 1970؛ 1972؛ 1998، 2015.

[7] Stéphanie Damarey, L’essentiel des Finances publiques, 8e édition, Gualino, 2020, p 31.

[8] المادة 2 من القانون التنظيمي للمالية لـسنة 1963، يكتسي صبغة قوانين المالية: قانون مالية السنة والقوانين المصححة؛ قانون التصفية ...ولا يمكن أن تغير خلال السنة مقتضيات قانون مالية السنة إلا بموجب قوانين مالية معبر عنها بقوانين مصححة…”

[9]  المادة 7 من القانون التنظيمي للمالية لـسنة 1963، ان قوانين المالية المصححة تعرض كلا أو بعضا طبق نفس الكيفيات التي يعرض بها قانون مالية السنة.”

[10]  سي محمد البقالي، الكتلة الدستورية للمالية العمومية، مطبعة البصيرة، الطبعة الأولى، الرباط 2017، ص 12.

[11]   عسو منصور، مرجع سابق، ص 123.

[12]  ظهير شريف رقم 1.70.207 بتاريخ فاتح شعبان 1390 (3 أكتوبر 1970)، الجريدة الرسمية عدد 3022-مكرر بتاريخ 05/10/1970 الصفحة 2415

[13]  المادة 2 من القانون التنظيمي للمالية لسنة 1970، تكتسي صبغة قوانين المالية: قانون مالية السنة والقوانين المعدلة له؛ قوانين التصفية…. ولا يمكن أن تغير خلال السنة مقتضيات قانون مالية السنة إلا بموجب قوانين مالية معبر عنها بقوانين معدلة...

[14] المادة 7 من القانون التنظيمي للمالية لسنة 1970، إن قوانين المالية المعدلة له تعرض كلا أو بعضا طبق الكيفيات التي يعرض بها قانون مالية السنة.

[15]  محمد معتصم، النظام السياسي الدستوري المغربي، مؤسسة إيزيس للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1992، ص 114.

[16] المرجع السابق، ص 115.

[17] ظهير شريف رقم 1.72.260 بتاريخ 9 شعبان 1392 (18 شتنبر 1972) بمثابة القانون التنظيمي للمالية، الجريدة الرسمية عدد 3125 بتاريخ 20/09/1972 الصفحة 2379.

[18] حماد حميدي، المالية العامة، مطبعة ابني زناسن، الطبعة الأولى، الرباط، 2000، ص 37.

[19] ارتفع ثمن الفوسفاط من 14 دولار لطن إلى 67 دولار لطن.

[20]  انتقل معدل الاستثمار على المستوى الوطني ما بين سنة 1973-1979 من 16% الى 30%.

[21] عرف المغرب أزمة للنفط عرفت بأزمة النفط الأولى في 1972-1974 ثم أزمة ثانية سنة 1978، نتيجة ارتفاع أسعاره في السوق الدولية.

[22] EL MOKRI Karim – RAGBI Aziz – TOUNSI Said, Politique budgétaire et activité économique au Maroc : Une analyse quantitative, Université Mohammed V- Rabat, Faculté des Sciences Juridiques Economiques et Sociales -Agdal, Laboratoire d’économie appliquée et OCP Policy Center, p 215.

[23]   عبد القادر برادة المسكوت عنه في المالية العمومية، المجلة المغربية للتدقيق والتنمية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2001، ص 10.

[24] عبد السلام أديب، السياسة الضريبية واستراتيجية التنمية دراسة تحليلية للنظام الجبائي المغربي 1956-2000، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1998، ص 171.

[25] المرجع السابق، ص 172.

[26] عبد القادر برادة، مرجع سابق، ص 11.

[27] الابراهيمي بن الكبير، السياسة النقدية والمالية للخزينة، المجلة المغربية للتدقيق والتنمية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2001، ص 45.

[28]  عندما تم تنفيذ قانون المالية لسنة 1983، ظهرت اختلالات كبيرة في بداية السنة المالية ومن أجل تصحيح الوضع، تم إصدار قانون مالي تعديلي والذي وافق عليه صندوق النقد الدولي، في يوليوز 1983.

[29]  عبد النبي أضريف، قانون ميزانية الدولة على ضوء القانون التنظيمي 130.13 ونصوصه التطبيقية، مطبعة بني ازناسن، الطبعة الرابعة، الرباط، 2016، صص45-46.

[30] رضوان زهرو، نموذجنا التنموي من أجل تعاقد جديد، منشورات مسالك في الفكر والسياسة والاقتصاد، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2019، ص 79.

[31]  شمل إصلاح النظام الجبائي، الذي حددت مبادئه في القانون الإطار رقم 83.3 المتعلق بالإصلاح الضريبي سن ثلاث فئات كبرى من الضرائب، حيث أفضى إلى استحداث الضريبة على القيمة المضافة في سنة 1986، والضريبة على الشركات سنة 1988، والضريبة العامة على الدخل في 1990(التي أصبحت فيما بعد الضريبة على الدخل).

[32] Abderrazak El HIRI, Les déficits budgétaires au Maroc Entre l’impératif de discipline et l’objectif de relance, Edition L’Harmattan Maroc, 1ère éd, 2018, p 119.

[33] عبد السلام أديب، مرجع سابق، ص 39.

[34]  عبد الغني اعبيزة، البرلمان المغربي والمسؤولية السياسية للحكومة، مطبعة دار القلم، الطبعة الثانية، الرباط، 2018، ص 141.

[35]  المرجع السابق، ص 143.

[36] رضوان زهرو، مرجع سابق، ص 81.

[37] عبد القادر برادة، مرجع سابق، ص 12.

[38] تجلت هذه التغييرات في تتميم بعض أحكام القانون التنظيمي لسنة 1972، أهم ما ميزه الانتقال للعمل بالسنة المالية الفلاحية عوض السنة المدنية.

[39]  ظهير شريف رقم 138-98-1 صادر في 7 شعبان 1419 (26 نوفمبر 1998) بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 98-7 لقانون المالية.

[40]  سي محمد البقالي، مرجع سابق، ص 12.

[41]  مجلة المالية لوزارة الاقتصاد والمالية، القانون التنظيمي للمالية: رافعة من أجل تحديث التدبير العمومي، العدد 35 غشت 2019، ص 6.

[42] عصام القرني، السلطة المالية للبرلمان بين الثابت والمتغير على ضوء القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، مجلة دفاتر الحكامة، العدد 2، دجنبر 2015، ص 59.

[43]Mohamed CHAOUI, Loi de finances rectificative : Le mode d’emploi, L’ECONOMISTE, N°5767, Le 22/05/2020,

[44] الفقرة 4 من الفصل 49 لدستور 2011.

[45]   المادة 51 من القانون التنظيمي للمالية 13-130.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى