سلسلة الابحاث الجامعية و الأكاديميةفي الواجهة

المسؤولية المدنية في عمليات البورصة – سلسلة الابحاث الجامعية والأكاديمية العدد 32 يوليوز 2020

 

المقدمة:

      عرفت الأسواق المالية منذ سنوات خلت تطورات كبيرة وجذرية، فبعدما كانت مجرد أماكن مادية ذات موقع جغرافي معروف يلج إليه الجميع، أصبحت اليوم تعتمد بشكل كبير على أنظمة معلوماتية متطورة تضمن استمرارية المعاملات وتستوعب حجمها الهائل[1].

وفي المغرب، لم تعرف السوق المالية انطلاقتها الحقيقية كسوق عصرية سوى في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في ظل ظروف سادت فيها مفاهيم جديدة كالليبرالية والعولمة، نتيجة للتطورات الاقتصادية الداخلية والخارجية التي حتمت على السلطات العمومية بعد الخروج من برنامج التقويم الهيكلي 1983/1992، إصلاح القطاع المالي بأكمله لتعبئة قدراته نحو تمويل الاقتصاد الوطني[2]، فكانت البداية بإصلاح الترسانة القانونية الذي تكلل بصدور عدة قوانين من أبرزها الظهير الشريف بمثابة قانون المتعلق ببورصة القيم[3] الصادر سنة 1993، إضافة إلى نصوص قانونية أخرى.

وبعد مرور ما يربو عن عقدين من الزمن، اتضحت محدودية هذه الإصلاحات القانونية عن مسايرة التطورات الحاصلة على المستوى الاقتصادي وطنيا ودوليا، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، حيث إن الفتور الذي أصبح يعرفه نشاط البورصة دفع بالمشرع المغربي إلى تجديد الإطار القانوني والتنظيمي لبورصة القيم من أجل إعطائها نفسا جديدا حتى تتمكن من إقلاع جديد وتفتح المجال أمام الشركات المتوسطة والصغرى لتنوع مصادر تمويلها، بالإضافة إلى تعزيز قواعد السلامة المؤطرة لهذه السوق.

من هذا المنطلق، بادر الشرع المغربي سنة 2016 إلى إصدار القانون رقم 19.14 المتعلق ببورصة القيم وشركات البورصة والمرشدين في الاستثمار المالي[4]. حيث يندرج هذا القانون في إطار “مشروع إصلاح كامل ومندمج يهدف إلى إنعاش البورصة وتعزيز دور سوق الرساميل في تمويل وتطوير الاقتصاد”[5].

ولم يكن صدور القانون رقم 19.14 نقطة انطلاق الإصلاحات، بل سبقته سنة 2013 مراجعة القانون المتعلق بدعوة الجمهور إلى الاكتتاب[6] بغية “تعزيز شفافية ونزاهة السوق المالي”[7]. ثم جاء بعد ذلك إصدار القانون رقم 43.12 المتعلق بالهيئة المغربية لسوق الرساميل[8] التي حلت محل مجلس القيم المنقولة، “بغية تعزيز استقلالية الهيئة وتقوية أدوات تدخلها من أجل تحسين حماية الادخار وتعزيز ثقة المستثمرين”[9].

هذا الاهتمام التشريعي بالسوق المالية وإحاطتها بعدد مهم من النصوص القانونية المتجددة يعكس الأهمية الكبرى التي تحظى بها سواء في المغرب أو الدول المتقدمة، لاسيما أنها تحتضن كبريات الشركات ويتم فيها تداول أموال ضخمة عبر عمليات بيع وشراء الأدوات المالية من طرف المستثمرين (أفراد ومؤسسات) بتدخل إجباري لشركات وساطة معتمدة خصيصا لهذا الغرض.

وغير خفي أن السندات التي تطرحها الشركات المسعرة في بورصة القيم هي المركز الذي تدور حوله رحى السوق المالية، فالمعاملات في البورصة يكون أساسها هذه السندات، والوساطة المالية يكون موضوعها كذلك تنفيذ المعاملات على تلك السندات، ومن هذا المنطلق، فإن الشركات المسعرة في بورصة القيم لها دور أساسي في عمليات البورصة من خلال القيم المنقولة التي تطرحها للتداول ما يلزم هذه الشركات أن تتحلى بمجموعة من الضوابط القانونية والأخلاقية[10].

وعلى اعتبار أن الهدف الرئيسي لهذه الشركات يعتمد على تحقيق الأرباح وفقا لقواعد السوق، فقد بدأت هذه الشركات تركز جل اهتمامها على الزيادة في أسعار أسهمها على حساب مؤشرات الأداء الأخرى، وقد كانت محاولة الزيادة هذه تبرر أي سلوك من السلوكيات لدى جهات إدارة تلك الشركات؛ حيث أدى ذلك إلى تبرير ارتكاب تصرفات لا أخلاقية كتزييف الحسابات وتداول الأسهم بناء على معلومات داخلية خاطئة ومضللة، هذه المعلومات التي تعتبر الأساس الذي تبنى عليه قرارات المستثمرين[11]، ومن هنا اكتسبت المسؤولية المدنية للشركات المدرجة في بورصة القيم أهمية كبيرة من طرف التشريع والقضاء، ومن شأن تكريسها ضمان حكامة جيدة لهذه الشركات[12].

في هذا الإطار تبرز أيضا الأهمية التي تحظى بها شركات البورصة[13]، كونها تنتصب كوسيط إلزامي من أجل تنفيذ المعاملات على الأدوات المالية المقيدة في جداول أسعار بورصة القيم[14]، وتتمتع أيضا بصلاحية مزاولة أنشطة أخرى مرتبطة بنشاطها الرئيسي، كتلقي أوامر لحساب الغير وإرسالها، توظيف السندات الصادرة عن الأشخاص الاعتبارية أو الهيئات التي تدعو الجمهور إلى الاكتتاب في أسهمها أو سنداتها، وتسيير محافظ السندات بموجب وكالة بالإضافة إلى أنشطة أخرى[15]. مع الإشارة هنا إلى أن نشاط تسيير محافظ السندات يحظى بأهمية خاصة بالمقارنة مع الأنشطة الأخرى، ذلك أن الطبيعة المعقدة لعمليات البورصة والتقلبات المتواصلة التي تطرأ على أسعار الأدوات المالية تحتم في أحايين كثيرة على المستثمرين أن يعهدوا بإدارة محافظ السندات الخاصة بهم إلى وكيل تكون له من الخبرة والدراية ما يكفي لمواجهة مخاطر الاستثمار في البورصة[16].

واعتبارا لهذه الأهمية التي تحظى بها شركات البورصة فقد كان لزاما أن تتقيد بمجموعة من الضوابط القانونية تجاه العملاء وتجاه الغير تحت طائلة قيام مسؤوليتها المدنية، بغض النظر عن قيام مسؤوليتها الجنائية والتأديبية. وما يلاحظ في هذا الجانب هو تزايد حجم المنازعات بين هذه الشركات وعملائها في السنين الأخيرة نتيجة الإخلالات القانونية والعقدية التي تتسبب فيها.

وحسب بعض الفقه، فقد ارتبط تزايد تلك المنازعات بتزايد عدد العمليات والمتدخلين في سوق البورصة، وقد زاد من تفاقم هذا الوضع حساسية الأسواق المالية وطبيعتها المعقدة[17]. كما يمكن تبرير ذلك التزايد بعنصر “الخطر” الذي يعد من أبرز خصائص العمليات الرائجة في سوق بورصة القيم[18].

هذا المعطى على وجه التحديد، كان وراء إسراع العديد من المستثمرين نحو طرق أبواب القضاء في محاولة للحصول على تعويض للخسائر التي لحقت بهم جراء الأخطاء التي ترتكبها شركات الوساطة المالية أو الشركات المسعرة. وإذا استطاع المستثمر إثبات أركان المسؤولية المدنية لهذه الشركات فإنه يكون جديرا بالحصول على تعويض يجبر ما لحقه من أضرار.

 أولا: أهمية الموضوع

نود بداية التأكيد على أن موضوع المسؤولية المدنية في عمليات البورصة يعرف ندرة من حيث الدراسات والأبحاث، ويرجع سبب هذه الندرة من وجهة نظرنا إلى الطبيعة التقنية والخصوصيات التي يتميز بها قانون الأسواق المالية، من ناحية صعوبة وتعقيد المفاهيم المؤطرة له والتي تبقى مغلفة في معظمها بطابع تقني واقتصادي[19]. لكن هذا القانون يظل رغم ذلك مجالا رحبا لإعمال المنطق  القانوني و حقلا بحثيا خصبا يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتنقيب[20].

ومهما كان، فإن مقاربة موضوع هذه الدراسة تحظى بأهميتين: أهمية نظرية وأهمية عملية؛ فالأهمية النظرية تتجلى في تسليط الضوء على مجموعة من الإشكالات التي تطرحها المسؤولية المدنية في عمليات البورصة في ظل محدودية القواعد العامة وقصورها لوحدها عن تنظيم مختلف جوانب هذه المسؤولية. إضافة إلى ضعف الاهتمام الفقهي بالموضوع وندرة الاجتهادات القضائية التي تناولته في المغرب، مما يدفعنا إلى طرق أبواب القانون المقارن الذي قطع أشواطا مهمة في هذا الجانب، وبالضبط في فرنسا المصدر التاريخي للتشريع المغربي، في أفق الاستفادة من الحلول التي تم التوصل إليها هنالك، لاسيما من طرف الفقه والاجتهاد القضائي.

وأمام ارتفاع وتيرة العمليات الرائجة داخل بورصة القيم المغربية في العقدين الأخيرين وتطور الترسانة القانونية المؤطرة لها وتشعبها، يمكن القول إن الباب أصبح مفتوحا أمام تزايد المنازعات المرتبطة بهذا الجانب لاسيما منازعات المسؤولية المدنية، من هنا تبرز الأهمية العملية لهذه الدراسة المتواضعة في تسليط الضوء على شروط قيام المسؤولية المدنية في عمليات البورصة وتحديد الأحكام المتعلقة بإقامة الدعوى بخصوصها أمام الجهة القضائية المختصة.

      ثانيا: تحديد نطاق الدراسة

أمام تعدد الفاعلين في عمليات البورصة وتضخم النصوص القانونية المرتبطة بتنظيم نشاطهم[21]، يبقى من الصعب إن لم نقل من المستحيل الإحاطة بمسؤوليتهم المدنية في بحث واحد أو حتى في عدة بحوث.

لهذا كان لزاما علينا تحديد النطاق الذي تغطيه هذه الدراسة، حيث اقتصرنا في هذا الإطار على معالجة المسؤولية المدنية لشركات البورصة باعتبارها وسيطا ماليا يتوسط في تنفيذ المعاملات على الأدوات المالية المسعرة، وباعتبارها مدبرة لمحافظ العملاء التي تتشكل من مزيج مختلف من الأدوات المالية التي نتجت عن المعاملات في الحالة الأولى.

وقد أحاط المشرع المغربي النشاطين المذكورين بمجموعة من المقتضيات القانونية التي يترتب عن مخالفتها قيام مسؤولية شركات البورصة المدنية، ولعل اهتمامنا بها يرجع بالدرجة الأولى إلى الدور المركزي للوساطة المالية في قانون بورصة القيم المغربي، وإلى وفرة الاجتهاد القضائي المقارن الذي تصدى للمسائل المرتبطة بها من زاوية المسؤولية المدنية.

كما ستركز هذه الدراسة من ناحية ثانية على معالجة المسؤولية المدنية للشركات المسعرة أسهمها وسنداتها في بورصة القيم وكذا المسؤولية المدتية لمسيريها، وذلك فيما يخص نشر المعلومات المتعلقة بوضعيتها المالية والاقتصادية بين يدي جمهور المدخرين. فهذه المعلومات كما لا يخفى تلعب دورا محوريا في توجيه إرادة جمهور المدخرين نحو اختيار الاستثمار في أسهم وسندات تلك الشركات من عدمه. لهذا ارتأينا دراسة المسؤولية المدنية المترتبة عنها والإشكالات التي تثيرها.

ذلك إذن هو النطاق الذي تغطيه هذه الدراسة، والذي يشمل:

-1 المسؤولية المدنية لشركات البورصة باعتبارها وسيطا ماليا وباعتبارها مدبرة محافظ السندات.

-2 المسؤولية المدنية للشركات المسعرة ومسيريها فيما يخص نشر المعلومات المتعلقة بوضعيتها المالية والاقتصادية.

     ثالثا: إشكالية الموضوع

لا تخرج المسؤولية المدنية في عمليات البورصة عن نطاق القواعد العامة، فمقتضيات قانون الالتزامات والعقود لا تزال حاضرة بثقلها فيما يتعلق بمجال البورصة وأنشطتها المختلفة، حيث تعد مرجعا تقليديا راسخا تقوم عليه المسؤولية المدنية للفاعلين في عمليات البورصة بشكل عام[22]، فهذا القانون الأصيل والعتيد الذي لم تستطع القوانين الخاصة للمسؤولية المدنية إزاحته كليا، يشكل الإطار العام والشريعة العامة التي تتضمن أسسا صلبة للمسؤولية المدنية يصعب هدمها[23].

غير أن الحضور القوي لقانون الالتزامات والعقود لم يجرد القواعد القانونية المنظمة لعمليات البورصة من خصوصياتها[24]، فهي تعرف تطبيق قواعد خاصة غير مألوفة في القانون المدني، حيث إن نظام التعاقد المطبق على بيع وشراء الأدوات المالية المسعرة في بورصة القيم أتى بقواعد جديدة قلبت كل المؤسسات التقليدية المعروفة في نظرية العقد، فأصبح لمبدأ حرية الإرادة مفهوم جديد في عمليات البورصة، وأصبح تدخل الغير الوسيط في إتمام العملية التعاقدية أمرا لا بد منه، تحت تأثير اعتبارات أهمها: حماية الادخار الموظف في الأدوات المالية، وحدة الأسعار وشفافية السوق[25].

وما يميز عمليات البورصة أكثر هو تدخل المشرع لتنظيم العلاقة بين العملاء ومهنيي السوق بموجب عقود خاصة، كما هو الحال بالنسبة لعقود الوساطة المالية وعقود تدبير محافظ الأدوات المالية التي تتضمن مزيجا من البنود الاتفاقية القائمة على إرادة الأطراف، والبنود الإلزامية التي فرضتها إرادة المشرع وفلسفته في تنظيم مثل هذه الاتفاقات، فهذه البنود ترسم بدقة نطاق التزام طرفي العقد مما يسمح بترتيب الآثار القانونية اللازمة في مواجهة كل طرف يعمد إلى خرق التزامه الذي ارتضى تحمله عند إبرام العقد.

من جهة أخرى، تبقى الغاية الأساسية من تدخل المستثمر في السوق عبر وسيطه المالي هي حصوله على أدوات مالية تصدرها جهات معينة (المصدرون)، ويترتب عن عملية الإصدار هذه التزامات محددة على عاتق المصدر ذات صلة بنشر المعلومات والوثائق المتعلقة بوضعيته المالية والاقتصادية أثناء دعوة الجمهور للاكتتاب وطوال الفترة التي تظل فيها سنداته مسعرة في البورصة، هذه المعلومات يمكن أن تكون مصدرا للمسؤولية وللمنازعات إذا لم تكن محددة ودقيقة وصادقة[26].

نحن إذن أمام قانونين مختلفين من حيث الخصوصية والفلسفة التي يقومان عليها: قانون الالتزامات والعقود الصادر في بداية القرن العشرين (12 أغسطس 1913) والذي يعرف هيمنة مبدأ سلطان الإرادة، وطغيان النزعة الفردانية على غرار القانون المدني الفرنسي، وذلك بوجود أحكام تستهدف عددا محدودا من الأطراف[27].

وقانون الأسواق المالية حديث النشأة والذي لم يعرف ولادته الحقيقية بالمغرب سوى في بداية التسعينيات من القرن الماضي وبالضبط بعد صدور الظهير الشريف بمثابة قانون المتعلق ببورصة القيم لسنة 1993. هذا القانون يعرف تراجع الحرية التعاقدية للمستثمرين (إجبارية الاستعانة بوسيط معتمد لإجراء عمليات في البورصة )، وهيمنة النزعة الجماعية (تعدد المتدخلين في عمليات البورصة: وسطاء، مستثمرين، شركات مصدرة، هيئات رقابية؛ عمليات بيع وشراء لآلاف السندات من طرف عدد كبير من المستثمرين واحتمالية حدوث أضرار جماعية لهؤلاء خاصة عند نشر الشركات المسعرة لمعلومات خاطئة…).

نتيجة لما سبق، تبقى أحكام المسؤولية المدنية الواردة في ق.ل.ع غير كافية من أجل الإحاطة بجميع الإشكالات القانونية التي تطرح في هذا الجانب. لهذا تبرز الإشكالية المحورية لهذه الدراسة من خلال محاولة الإجابة على التساؤل التالي:

 – ما هي خصوصيات نظام المسؤولية المدنية في عمليات البورصة على ضوء القواعد العامة؟

    رابعا: منهج وخطة الدراسة

تقتضي دراسة الإشكالية أعلاه اعتماد منهج تحليلي، عبر تحليل أهم السمات والخصوصيات التي تميز عمليات البورصة والمسؤولية المدنية المترتبة في ظلها ومحاولة فهم النصوص القانونية التي تؤطر كل ذلك. ومنهج مقارن من خلال عرض موقف الفقه والاجتهاد القضائي المقارن من المسائل والإشكالات التي يطرحها هذا الموضوع، لاسيما في فرنسا باعتبارها مصدرا تاريخيا للتشريع المغربي ومرجعا أساسيا لمنظومتنا القانونية.

على ضوء ما تقدم سنقسم هذه الدراسة إلى فصلين كالتالي:

الفصل الأول: الإطار العام للمسؤولية المدنية في عمليات البورصة

الفصل الثاني: قيام المسؤولية المدنية في عمليات البورصة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى