مقدمة:
لا يشك أحد بأن المرافق العمومية تحتل مكانة كبرى في مجتمعاتنا المعاصرة، وتضطلع بمهام أساسية حيث اعتاد المواطنون عليها وعلى خدماتها بشكل يمكن ان نقول معه بأن الحياة لن تستقيم بدونها، إلا أن التحولات الكبرى التي عرفتها مختلف الدول في العقود الأخيرة والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نجمت عن ذلك، قد ألقت بظلالها على المرفق العمومي، فقد تم تدشين مسلسل لإعادة النظر في القطاع العام ودعم الليبرالية والمنافسة الحرة في الميدان الاقتصادي، وتم اللجوء إلى تفكيك التقنينات و إقرار تدابير التخصيص… وتزامن كل هذا مع الانتقادات التي وجهت للمرفق العمومي الذي اهتم بكون خدماته رديئة وبانتشار عدم المسؤولية و الإهمال فيه، وبأنه مرتع للبيروقراطية والتعقيد وموقع لتبديد الأموال العامة[1] و لقد تأثر المغرب بالتطور الذي عرفته فكرة المرفق العام في النظام الفرنسي، وبالرغم من ذلك فإنه ظل متمسكا بأصالته الموروثة عن تقاليده و حضارته العريقة في تدبير الشأن العام، ذلك أن فكرة المرفق العام لم تكن وليدة اليوم، بل نشأت وتطورت عبر تاريخ الإدارة المغربية [2] .
فلقد كانت هذه الفكرة في عهد ما قبل الحماية بسيطة ليست لها أثر حاسمة على مقومات النظام الإداري ولا كان القانون الذي يحكمه، ثم ظهرت في عهد الحماية بمنظورها الحديث وذلك للخروج من إدارة تقليدية إلى إدارة معاصرة، وأخيرا توجت هذه الفكرة في عهد الاستقلال بتوسيع مجالاتها.
بالنسبة لفترة ماقبل الحماية عرف المغرب نظاما إداريا تجسد مع الزمن في تنظيمات إقليمية وجهاز مركزي مخزني، بحيث كانت الدولة آنذاك تنشئ مرافق عامة لسد حاجيات السكان، علما أن مصطلح مرفق كما ورد في القرآن الكريم[3] يفهم منه وجود جهاز يقوم بنشاط قصد تحقيق المنفعة العامة للسكان، فدار المخزن كان يشرف عليها السلطان بتعاون مع وزراء وقضاء وأمناء ومحتسبون، وكان هؤلاء يسهرون على إدارة نشاط المرافق العامة المنحصرة آنذاك في مجال العدل والتعليم والدفاع والصحة وبيت المال ذلك وفقا لتعاليم الإسلام.
كما أنه على صعيد الإدارة المحلية، تم تأسيس عدة مرافق في عدة مجالات تقوم بسد حاجيات السكان تحت إشراف السلطة المحلية المتمثلة في باشوات و قواد … إلا أن هذه المرافق وإن كانت قائمة، فإن عملها كان محدودا يتناسب مع الوظائف التقليدية التي كانت تقوم بها الدولة آنذاك. كما أنها لم تكن تخضع لنظام قانوني محدد.
جاءت سنة 1906 بمعاهدة الجزيرة الخضراء التي ستشكل الانطلاقة الأولى لظهور فكرة المرفق العام في منظور حديث. هذه المعاهدة التي نصت على مبادئ عامة تتعلق بمنع تصفية مرفق عام لصالح الخواص، وبضرورة اللجوء إلى نظام المناقصة لتخويل إدارة مرفق عام إلى هيئة خاصة عن طريق مايسمى “بالامتياز”.
وبدون شك، فإن بلورة هذا الاتجاه الجديد أدى إلى إظهار فكرة المرفق العام في عهد الحماية.
و يمكن القول بأن الحماية أتت بحكم معاهدة 1912 بإصلاحات إدارية هامة تجسدت بالخصوص في إحدى مرافق عامة إدارية قائمة على إطار هيكلي وقانوني معاصر بحيث أصبحت بجانب الإدارة التقليدية، إدارة حديثة يسهر على إدارتها وتنظيمها الحاكم الحقيقي، المقيم العام الممثل للجمهورية الفرنسية[4].
فالحماية إذن تعهدت بتطبيق سياسة إدارية عصرية، تتجلى في إحداث مرافق عامة خصوصا بالنسبة للإدارات التي كان لها دور هام في الإقلاع بالتنمية الاقتصادية كإدارة الأشغال العمومية وإدارة الفلاحة، وإدارة المالية…
ومن بين الإصلاحات التي أدخلتها سلطات الحماية في المجال اللامركزي، إنشاء مرافق عامة محلية تختص بميدان النظافة والتطهير والطرق والنقل الجماعي… وبدون شك أن إحداث هذه المرافق المركزية والمحلية كان الهدف منه عصرنة الإدارة المغربية وجعل ها قادرة على تحقيق خطوة إلى الأمام خاصة في ميدان التجهيز والاستثمار، وقد تطورت فكرة المرفق العام من مفهومها الإداري إلى مفهومها الإقتصادي بحيث برزت للوجود، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية مرافق عامة صناعية وتجارية بحكم نشاطها قواعد القانون الخاص. وتبعا لهذا، يتضح أن الدولة المغربية في عهد الحماية كانت تمتاز بإدارة مزدوجة :
- إدارة تقليدية يشرف عليها الصدر الاعظم وتدار وفق التعاليم الإسلامية.
- إدارة عصرية ويشرف عليها المقيم العام وتسير وفق قوانين حديثة.
غير أن فكرة المرفق ستأخذ منحى آخر في عهد الاستقلال، كيف ذلك ؟
لقد كان من الطبيعي، وقت حصول المغرب على استقلاله أن يتجه المشرع المغربي لتجديد … القانونية وينفض غبار الاستعمار عليها، من أجل تنظيم الإدارة وسلطاتها وفق أسس وقواعد قانونية جديدى تتماشى والمغرب الجديد الذي يسعى إلى تلبية طموحات المغاربة في تسيير شؤونهم بأنفسهم متحملين على عاتقهم مسؤولية إيجاد البديل للعهد الاستعماري ومخلفاته.
فكان عمل قامت به، هو القضاء على أسلوب ثنائية الإدارة الذي أبرز بشكل سلبي عدم حسن سير المرافق العامة والنهوض بها مركزيا ومحليا[5].
و في هذا النطاق تشعبت فكرة المرفق العام وأصبحت تعيش أزمة حادة في مفهومها، نظرا لتقوية تدخلات الدولة في كثير من القطاعات الاقتصادية و منها المؤسسات العمومية والمقاولات العمومية والشركات الوطنية وشركات الاقتصاد المختلط التي أصبحت تدار بحكم أنظمة قانونية غير موحدة مما يدل على أن أساليب إدارة المرافق العامة أضحت متعددة و متشعبة. الأمر الذي أدى إلى تغيير كبير في مفهوم المرفق العام ترتب عليه تعدد واضح في نشاطات المرافق العامة و في أنواعها، كما ترتب عليه وضع شاذ بالنسبة للمرفق العام تجلى في إصابة مفهومه بغموض.
إذا ترى ما هي النتائج التي ترتبت على هذا الأخير، والتي أفرزت لنا جدال حاد بين فقهاء القانون العام والذي تم التعبير عنه بأزمة المرافق العامة؟
للإجابة عن هذه الإشكالية سوف نعتمد على التقسيم التالي :
المبحث الأول : مفهوم المرفق العام
المطلب الأول : التعريف المادي
المطلب الثاني : التعريف العضوي
المبحث الثاني : أزمة تسيير المرفق العام
المطلب الأول : مظاهر الأزمة
المطلب الثاني : أسباب الأزمة
المبحث الأول : مفهوم المرفق العام
بعد الحرب العالمية الأولى و الأزمة الاقتصادية لسنة 1929، أجبرت الدولة على اقتحام مجالات اقتصادية جديدة لإنقاذ الوضع اقتصاديا واجتماعيا، مما أدى إلى إنشاء أنواع جديدة من المرافق العامة أطلق عليها إسم “المرافق العامة الصناعية والتجارية”، تقوم بتسييرها الأجهزة العمومية وتخضع في جلها للقانون الخاص(أزمة التعريف المادي للمرفق العام). كذلك أصبح اضطلاع الأشخاص والهيئات الخاصة بمهام المرفق العام لا يستثني حتما تطبيق القانون الإداري ولو بصفة جزئية (أزمة التعريف العضوي للمرفق العام) [6].
و مع ظهور بوادر “أزمة معيار المرفق العام” أصبح من الصعب تحديد أين يبدأ و أن ينتهي مفهوم المرفق العام، مادام أن كل نشاط ذو مصلحة العامه حتى الذي تعهد به الإدارة إلى الخواص يمكن أن يعد مرفقا عاما.
المطلب الأول : التعريف المادي
عندما ظهرت “أزمة المرفق العام” تشعبت فكرة المرفق العام وأحاط بها الغموض حتى تعذر تعريفها تعريفها دقيقا، حيث أصبح من الصعب تحديد ما يقصد بالمرفق العام، وهل نأخذ بالمعيار العضوي، وننظر إلى النشاط نفسه، فالأمر لا يخلو من التحكيم.
قضائيا، بوادر الأزمة أو الانشقاق ظهرت مع صدور حكم ناقلة “إلوكا” عن محكمة التنازع في 21 يناير 1921، حيث جعلت الاختصاص للقانون العادي، رغم تعلق المنازعة بمرفق عام، بمعنى أن النشاط الممارس من قبل الأجهزة العمومية لولاية المحاكم القضائية.
تتلخص وقائع قضية ناقلة “إلوكا” أو الشركة التجارية لغرب إفريقيا، فيما يلي[7] :
حدث أن غرقت باخرة نقل الأشخاص بين ضفتي نهر مستعمر ساحل العاج، فتقدم أحد المتضررين بدعوى تعويض ضد إدارة التي تستغل هذا المرفق أمام المحكمة القضائية، لكن قضت ب اختصاصها مستندة على حكم بلانكو حيث أن الأمر يتعلق بمسؤولية الإدارة عن سير المرفق العام، وبعد ذلك عرضت القضية على محكمة التنازع، فقررت في غياب نص يجعل الاختصاص للقضاء الإداري، أن السلطة القضائية هي المختصة للبث في النتائج الضارة للحادث الذي لحق بأحد الأفراد وبالتالي فالقانون المطبق هو القانون الخاص، رغم أن المنازعة المطروحة تتعلق بمرفق عام منظم يدار من قبل الأجهزة العمومية.
في قضية ناقلة إلوكا، أكدت محكمة التنازع على مسألة التفرقة بين المرافق العامة الإدارية والمرافق العامة الصناعية والتجارية، معللة موقفها على أن العنصر الأساسي للقياس هو المقابل المادي أو الرسوم التي يدفعها المتنفع للاستفادة من خدمات المرافق العامة الصناعية والتجارية، غير أن هذه الأخيرة لا تخلو من فكرة المصلحة العامة وأن الغرض من المقابل المادي ليس دائما هو تحقيق الربح، كما هو الشأن في بعض المرافق العامة الاقتصادية كالنقل الحضري مثلا في هذه القضية، قضت كذلك محكمة التنازع بخضوع المرفق العام الصناعي والتجاري للقانون الخاص، موضحة موقفها بأن موضوع نشاطها يكتسي الطابع الصناعي والتجاري وان تسييره يشبه تدبير المشروعات الخاصة.
العنصر الحاسم الذي يميز بين المرفق العام والمشروع الخاص، يرتكز على إرادة المشرع التي قد تكون صريحة او لاتكون، فقد يكون النص كافيا لوصف المشروع بأنه مرفق عام وقد تلجأ إلى القرائن المختلفة للتعرف على المشروع و الاستدلال على غرضه، ويرى بعض الفقهاء أنه إذا تعذر الكشف عن حقيقة قصد المشرع، اعتبر المشروع مرفقا عاما، كما رأى بعض الفقهاء أن هناك أنشطة تعتبر مرافق عامة بطبيعتها دون حاجة إلى تدخل السلطات العمومية لاعتبارها كذلك.
الاجتهاد القضائي الفرنسي يستعمل مجموعة من العناصر لتحديد الطبيعة الصناعية والتجارية لنشاط المرفق، ويمكن توضيحها كما يلي:
1- هدف نشاط المرفق :
المرافق الصناعية والتجارية التي تقيمها الدولة، لا تعتبر مرافق عامة إلا إذا استهدفت تحقيق المصلحة العامة، فإذا كانت تهدف أساسا إلى مجرد تحقيق الربح، فلا تعتبر مرافق عامة، أما إذا كانت تحقق ربحا دون أن يكون ذلك من صفتها كمرافق عامة.
2- أسلوب تسيير المرفق:
المرفق العام يكون صناعيا أو تجاريا عندما يكتسي طابع مشروع أو مقاولة خاصة، مفوض الحكومة الأستاذ “لوزان”، في تعليقه على حكم “اتكاد نقابة صناعات الطيران” الصادر بتاريخ 16 نونبر 1956، عرف مفهوم المقاولة الخاصة بأنها تلك التي تقتضي تنظيما داخليا خاصا، وطرقا للتدبير ومناهج للعمل وعلاقات إنسانية ليست من النوع المعروف في المرفق العام الإداري.
3- مصدر مداخيل المرفق:
إذا كانت مداخيل المرفق عبارة عن رسوم يتقاضاها من المنتفعين من الخدمات التي يقدمها لهم، فالمرفق تكون له طبيعة صناعية وتجارية، وإذا حقق بعض الأرباح، فهي للصيانة أو لتجديد تجهيزاته.
الأزمة التي لحقت بمعيار المرفق العام أدت بالقضاء إلى تحديد العناصر التي تدخل في اختصاص القضاء الإداري ويمكن عرضها كالتالي[8] :
أ-العنصر العضوي:
اختصاص القضاء الإداري ينحصر في مجال نشاط الإدارة، وهذا يستبعد منازعات أشخاص القانون الخاص.
ب- العنصر الموضوعي:
ليست كل أنشطة الإدارة تدخل بالضرورة في اختصاص القضاء الإداري، وإنما جزء منها فقط، والمتعلق بنشاط المرافق العامة، إذ يستبعد اختصاص القضاء الإداري و إنما جزء منها فقط، والمتعلق بنشاط المرافق العامة، إذ يستبعد اختصاص القضاء الإداري بالنسبة للأنشطة التي تقوم بها الإدارة والتي لا تشكل مرفقا عاما، وأيضا ليست كل الأنشطة المتعلقة بمرفق عام تتطلب وبالضرورة، قضاءا إداريا متخصصا، وإنما فقط الجزء الذي تستخدم فيه الإدارة وسائل استثنائية في إدارة ذلك المرفق.
ج- عنصر السلطة العامة:
فمتى وجدت وسائل القانون العام، كان الاختصاص للقانون والقضاء الإداريين حتى ولو كان المرفق يقوم على إدارته شخص من أشخاص القانون الخاص.
على ضوء هذه العناصر، يمكننا أن نقول أن المعيار الحاسم هو المعيار الذي يرتكز أساسا على دراسة تحليلية لموضوع النزاع ثم مدى ظهور الوسائل الاستثنائية فيه.
المطلب الثاني : التعريف العضوي
إن نظرية المرفق العام كما بدأت قضائية، لا تزال قضائية حتى الآن، وإن دور المرفق العام متعدد الجوانب، فبالإضافة عن وصفه في نفس الوقت، معيارا لتطبيق القانون الإداري واختصاص القضاء الإداري من جهة، ومن جهة أخرى، بوصفه مكان الانتقاء والتضامن لأهم المفاهيم التقنية للقانون الإداري كالقرار الإداري و العقد الإداري، فهو يعتبر وسيلة لتحقيق تدخل الإدارة وتنظيم نشاطها.
الأحكام الصادرة عن القضاء الفرنسي بعد 1935، أثبتت أن الأخذ بالمعيار للمرفق العام، بصرف النظر عن الهيئة التي تمارس النشاط، سواء كانت عامة أو خاصة، أصبح المعيار الأكثر ملائمة مع ما طرأ من تطور على نظرية المرفق العام، حيث تقرر أن مهام المرفق العام يمكن أن يعهد بها إلى أشخاص أو هيئات خاصة.
1-اللجوء إلى التسيير الخاص للمرفق العام:
يتم تسيير المرافق العامة الإدارية عن طريق استعمال إجراءات التسيير العام، كأن تتخذ السلطات المسؤولة قرارات أحادية الجانب، وتبرم العقود الإدارية، والأشخاص الذين تستخدمهم خاضعين لنظام القانون العام، وتكون أموال المرفق العام خاضعة لنظام الملك العام، لكن مع ظهور المرافق العامة ذات التسيير الخاص تعمل وفق شروط القانون الخاص، أصبح الإجتهاد القضائي لمجلس الدولة يسلم يوما تعمل وفق شروط القانون الخاص على المرافق العامة نتيجة اللجوء العرضي إلى التسيير الخاص للمرفق العام، القرار المعروف بشركة كرانيت الصادر عن مجلس الدولة في 31 يوليوز 1912.
أما في المغرب، فقد جاء قرار معمر بلقاسم وقرار أحمد الشرقاوي الصادران في 30/4/1959 عن المجلس الأعلى، ويتعلق الأمر بالمرافق العامة الصناعية والتجارية كالإتصالات اللاسلكية وتوريد الماء والكهرباء والنقل.
ويعتبر نظام القانون الخاص النظام العادي لأن المرفق العام الصناعي والتجاري يتعاكى لعمليات الشراء والبيع أو لتحويل ولتقديم الخدمات مثل المقاولة الخاصة[9].
2-اتساع مشاركة الخواص في تسيير المرافق العامة
كان من المتفق عليه أن المرفق العام يتبع للأشخاص العمومية، غير أن تدخل الدولة في مجال التنظيم المهني بالإضافة إلى مجال الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، أدى إلى تكاثر المرافق العامة المسيرة بواسطة الخواص.
هذا النوع من تطور بشكل محدود جدا بالمغرب باستثناء عقود الامتياز، وتعد طريقة الامتياز إحدى الطرق القديمة لتسيير المرفق العام، كما أن القضاء التقليدي يعتبر الامتياز طريقة استثنائية للقاعدة التي تقضي بأن المرفق العام يسير بواسطة الأشخاص العمومية.
أما في المغرب فإن اللجوء إلى هيئات القانون الخاص، قصد تسيير مرفق عام، كان محدودا جدا، غير أنه يبدو في الوقت الحاضر، أن السلطات العمومية أصبحت تلجأ إلى طريقة التسيير من طرف الخواص بوثيرة أكثر مما كانت عليه في الماضي.
وهكذا نجد بغض النظر عن الهيئات المهنية والتي أسندت إليها حق تنظيم مزاولة المهن، بعض المقاولات الخاصة المكلفة بالتوظيف الجماعي للقيم المنقولة بالبورصة المحدثة بموجب الظهير الصادر في 21/12/1993، والتي أسندت إليها مهمة السهر على احترام القواعد التنظيمية المتعلقة بالمهنة، نجد تلك الجمعيات المحدثة بموجب القانون المتعلق بالتربية البدنية والرياضة، المؤرخ في 19 ماي 1989، هذه الجمعيات المعترف بها مكلفة بمهمة مرفق عام، والتي منحها المشرع سلطة اتخاذ الإجراءات الضرورية لتنفيذ هذه المهمة.
المبحث الثاني: أزمة تسيير المرفق العام
إن مانقصده بأزمة المرفق العام، هو تراجع هذا الأخير كمعيار للإختصاص كان يمكن من تحديد القانون الواجب التطبيق.
المطلب الأول: مظاهر الأزمة
إن تحليل مظاهر أزمة المرفق العام، يقتضي الانطلاق من فكرة الإختصاص لتحديد القانون الواجب التطبيق على المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها، ذلك أن ظهور هذه الأزمة قد ارتبط، من جهة، بظهور معايير أخرى بعدما كان المرفق العام يشكل المعيار الأساس لجعل نشاطات الإدارة تخضع لقانون خاص، أي القانون الإداري و من جهة أخرى، بما نتج عن هذه المعايير الجديدة من تنوع في طبيعة المرافق العامة[10].
أولا: أزمة المرفق العام من خلال معيار الاختصاص :
إذا كان المرفق العام قد تم اعتماده في الفكر القانوني التقليدي كمعيار أساسي لتحديد اختصاص القضاء الإداري، فإن هذا المعيار لم يبق كافيا لمعالجة جميع حالات الاختصاص في مجال النشاط الإداري، فإن التطور الحاصل في مفهوم نشاطات السلطات العمومية، نجد أن الاجتهاد القضائي قد عمل، بصفة عامة، في معالجة مسألة الاختصاص، على اعتماد نوعين من المعايير: النوع الأول ويقوم على اعتبارات تستقي أهميتها من فكرة المرفق العام، أما النوع الثاني فيتعلق بطبيعة الوضعية التي تهم النزاع المطروح أو ما يطرحه من قضايا قد تتشعب فيها المعايير أو تتكامل فيما بينها.
1- معيار المرفق العام[11]:
مضمون أطروحة هذه المدرسة هو أن القانون الإداري يعتبر قانون المرافق العانة ومن تم فإن المرفق العام هو المعيار الأساسي في تحديد اختصاص القضاء الإداري، يقول الفقيه”كاستون جيز”: “إن القانون العام الإداري هو مجموعة من القواعد التي تتعلق بالمرافق العامة”[12].
ويقيم هذا الاتجاه الذي طرحه على مجموعة من الاعتبارات التي تختص بالمرفق العام، مثل الواجبات الصارمة التي يخضع لها كالاستمرارية التي تحد من مبدأ الإضراب، ووجود قواعد خاصة في شأن الملك العام نتيجة تخصيصه لسير المرفق العام، والنظام غير المألوف في القانون العادي والمتعلق بالعقود الإدارية وبمسؤولية الأشخاص العمومية، إلى غير ذلك من الخصائص التي يتميز بها المرفق العام.
و نستنتج من هذا الطرح، أنه كلما تعلق الأمر بمرفق عام، فإن الاختصاص يعود إلى القاضي الإداري، و أنه في غياب نشاط المرفق العام فإن الإدارة تخضع في منازعاتها للقضاء العادي، وهو ما أكده الاجتهاد القضائي من خلال مجموعة من القرارات صدرت إما عن مجلس الدولة الفرنسي، أو محكمة التنازع الفرنسية، و ذلك مثل قرار “بلانكو” وقرار “تيريي”.
أما بالنسبة للمغرب، فإن نفس الاتجاه هو الذي تم اعتماده في تطور الاجتهاد القضائي المغربي في هذا المجال، ذلك أنه بحكم استباقه من القانون الفرنسي، نتيجة العوامل التاريخية.
مما سبق يتضح بأن معيار المرفق العام قد شكل منذ البداية أساسا لتطبيق قواعد القانون الإداري، لكن مع التطور الذي عرفه المجتمع، نجد بأن المرفق العام قد عرف تراجعا كبيرا، فهو لم يبق كافيا ليظل معيارا في تحديد الاختصاص، نظرا لتراجعه كمحور للمؤسسة الإدارية.
2- معيار طبيعة القضايا المطروحة :
إن مسألة معيار الاختصاص قد ظهرت بحدة عندما أصبح معيار المرفق العام غير كاف لتحديد القواعد الواجبة التطبيق، وهو موقف تبناه كل من الاجتهادين الفقهي والقضائي.
ذلك أنهما إذا كانا لايختلفان بخصوص أهمية معيار المرفق العام، فإنهما يتفقان كذلك، منذ مرحلة معينة، بأنه قد أصبح من غير الممكن اللجوء إليه بصفة مطلقة.
إن التطور الذي عرفه مفهوم المرفق العام قد كان من نتائجه تفكيك العناصر التقليدية المكونة لهذا المفهوم، حيث أصبح الاعتماد يقتصر فقط على أحد هذه العناصر، أي العنصر المادي، الذي يتسم بالطابع الغائي.
لقد تصدى”روني شابي” إلى فكرة المرفق العام، وطرح تحليلا يهدف من ورائه تفنيد التوجه التقليدي الرامي إلى جعل المرفق العام معيارا عاما وشاملا، كفيلا لوحده بتبرير اختصاص القضاء الإداري، ويحاول طرح صيغة أخرى، انطلاقا من طبيعة المعطيات التي تشكل أساسا للنزاع المطروح والتي قد تقوم معيارا رئيسيا عوض معيار المرفق العام، فهو يرى أنه إذا كانت أهمية معيار المرفق العام لازالت قائمة، فإن ذلك “يتعلق في جميع الحالات بمرافق عامة إدارية، بمرافق تسيير، بصفة عامة، وفق شروط خاصة، إلى حد أنه في الواقع نجد أن التدبير العمومي هو يشكل المعيار الحقيقي للقانون الوضعي[13]“.
المطلب الثاني: أسباب الأزمة
إن القانون الإداري لم يبق ذلك القانون المرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم المرفق العام كمعيار للاختصاص، وذلك نتيجة تظافر مجموعة من الأسباب الموضوعية، والتي يمكن طرحها على مستويين : على مستوى نشاط المرفق العام، ثم على مستوى القواعد المطبقة على هذا النشاط .
أولا : على مستوى نشاط المرفق العام :
يمكن القول، من جهة، إن النشاطات التي تمارسها المرافق العامة لا يمكن اعتبارها كلها بمثابة أعمال إدارية، ومن جهة أخرى، إن جميع النشاطات الإدارية ليست كلها نشاطات للمرافق العامة.
1- محدودية الطابع الإداري لنشاط المرفق العام :
إن الوظائف التي تقوم بها الدولة، تنقسم عموما إلى ثلاثة:السلطة التشريعية،والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، ونلاحظ أنه على مستوى المجالات المتخصصة لكل سلطة، أن السلطة التنفيذية هي التي ترتبط بمجال العمل الإداري، مما ينتج عنه أن الأعمال التي تصدر عنها هي أعمال إدارية، وبالتالي تخصيص مصطلح المرفق العام لها، غير أنه عندما ننظر إلى الواقع نجد أن تحديد المرفق العام أو العمل الإداري بهذا الشكل لايمكن من الوقوف بدقة على حقيقة الأمر، لنأخذ على سبيل المثال صنف الأعمال التي يصطلح عليها عادة “بأعمال السيادة”، فهذه الأعمال تقوم على معيارين أساسيين، فهي من جهة تصدر عن الحكومة، باعتبارها الجهاز الأسمى للسلطات العمومية، ومن جهة أخرى تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، وهي بهذا المعنى تستجيب للتعريفين العضوي والمادي للمرافق العامة الإدارية.
و مع ذلك، فإن هذه الأعمال، رغم أنها تعتبر من صميم المرافق العامة، إلا أنها لا ينظر إليها كأعمال إدارية، حيث أنها تدخل في اختصاص “السلطة الحكومية” وليست في اختصاص “السلطة الإدارية” ، مما يجعل منها أعمالا غير خاضعة لمراقبة القضاء، لأنها تتمتع بالحصانة ضد أي طعن، فالقوانين التي تصدر عن البرلمان، ثم الأعمال التي تقوم بها المحاكم؟ وكذا القرارات التي تتخذها الحكومة في مجال علاقاتها مع دول أخرى، كلها تعتبر نشاطات عمومية تهدف إلى إرضاء حاجيات جماعية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إلا أن إخضاعها لأنظمة خاصة جعل منها نشاطات لمرافق عامة وليست أعمالا إدارية.
ونفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة للأعمال الصادرة عن الملك، فهذه الأعمال تحلل على أساس أنها نشاطات للمرفق العام، لأنها قد تهم حالات تنظيمية أو فردية في مجال الحقوق والحريات، وهو ما أكده الاجتهاد الفقهي[14]، انطلاقا من المبادئ العامة المضمنة في الدستور، إلا أن الاجتهاد القضائي قد اعتبرها بمثابة أعمال غير إدارية، انطلاقا من معيار عضوي يأخذ بعين الاعتبار الوضعية الخاصة التي يتمتع بها صاحب القرار، ومن تم عدم قابليتها للطعن أمام القضاء .
2-محدودية الطابع المرفقي لأعمال الإدارة:
إن هناك أعمالا ولو أنها صادرة عن سلطات إدارية، إلا أنها لا تعتبر نشاطات المرفق العام، وقد عبر الاجتهاد القضائي عن ذلك من خلال مجموعة من القرارات، من بينها القرار الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بخصوص مؤسسات سباق الخيول التي تشرف عليها تنظيمات الجماعات المحلية، ومن تم عدم خضوعها لاختصاص القضاء الإداري.
وقد تتعدد الأعمال الإدارية التي تنتقد لصفة المرفق العام، مثل التي تتعلق بالذمة المالية للإدارة، أو التي تهم جانبا كبيرا من الاستغلالات العمومية ذات الطابع الصناعي، أو التجاري، فهذا الموقف، الذي سار عليه الاجتهاد القضائي، وهو الذي نجده أيضا لدى الاجتهاد الفقهي، مما يكون له انعكاس على القواعد القانونية المطبقة.
ثانيا: على مستوى القواعد القانونية المطبقة:
رغم كل المساجلات التي تمت بخصوص فكرة المرفق العام، فإن مايمكن أن نسجله هو أن معيار المرفق العام لايمكن أن يكون أساسا لتطبيق قواعد القانون الإداري في مجموعها، فهناك مجموعة من القرارات الصادرة عن القضاء الإداري، والتي تم تحليل بعضها فيما قبل تأكد من خلالها أن الاجتهاد القضائي، رغم اعترافه بوجود المرفق العام، نظرا لاستجابة النشاط المعني إلى حاجيات جماعية ضرورية، لم يبني أحكامه على هذا المعطى، وهو ما يتجلى من خلال قرار “نالياتو” ، بل صرح بأن قواعد القانون الخاص هي التي تطبق على النازلة ، ونفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة لبعض النشاطات ، التي وإن لم تكن نشاطات للمرفق العام ، فإن الاجتهاد القضائي قد عمل على إخضاعها لقواعد القانون الإداري[15].
ويمكن أن نجمل مسألة القواعد القانونية المطبقة في مجال المرافق العامة من خلال استعراضنا لما عبر عنه “أمسيليك” في هذا الشأن، حيث يرى”… إنه لمن المؤكد أنه ليست فكرة المرفق العام هي التي تحدد الأنظمة القانونية المطبقة على النشاطات الإدارية للمرفق العام، بل من الممكن القول بأن هناك اعتبارات مضادة هي التي تحدد هذه الأنظمة القانونية، بمعنى أنه إذا كانت هذه النشاطات خاضعة لنفس القواعد التي يخضع لها عمل الخواص، فذلك لأنها تشبه، رغم طبيعتها كمرافق عامة، نشاطات الأفراد، وتمارس حسب نفس الشروط، وبعبارة أخرى، فإن فكرة التشابه مع أوضاع القطاع الخاص، هي التي دفعت المشرع إلى إخضاع النشاطات الإدارية للمرفق العام إلى قواعد مشابهة لتلك التي يتضمنها القانون الخاص، وإن القواعد تجد أصلها في اعتبارات ترمي إلى التقليص من فكرة المرفق العام، أو أن فكرة المرفق العام قد فقدت من تأثيرها …”.
خاتمة :
إن الاستمرار في مسلسل إهمال المرافق العمومية الاجتماعية وتقليص الدعم المالي عنها والأخذ بالخوصصة إلى المدى البعيد دون رؤية استراتيجية جماعية تأخذ في العمق البعد المتعدد للمغرب جهويا، طبقاتيا، وحتى ثقافيا المغرب النافع، غير النافع، المغرب العميق، المغرب المنتفع… لمن شأنه تعميق أوضاع الفئات المحرومة والتي تعاني أصلا كل أشكال الإقصاء الاجتماعي مما سينذر باتساع رقعة الفقر وتراجع مؤشراتنا في التنمية البشرية، الصحة، التعليم، السكن… إلخ
إن تعزيز المرفق العمومي بمبادرات إصلاحية حقيقية كتخليق للإدارة و محاربة كل أشكال التسيب فيها، وإعادة النظر في وسائلها واستراتيجياتها، وتحديثها ومدها بالإمكانات البشرية المؤهلة، والوسائل المادية اللازمة، سيعزز الثقة لا محالة لدى المواطن المغربي الذي لديه انتظارات بحجم كرة الثلج وسيتوق إلى رؤية مغرب أفضل، مغرب كل المغاربة.
لائحة المراجع
الكتب :
- رضوان بوجمعة:”قانون المرافق العامة” طبعة 2000
- أحمد بوعشيق، المرافق العامة الكبرى، الطبعة الثانية، دار النشر المغربية بالدار البيضاء، سنة 2004
- رأفت فودة، قضاء المسؤولية الإدارية، دار النهضة العربية، 1944
- محمد كرامي، القانون الإداري، التنظيمي والنشاط الإداري، الطبعة الثانية مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، سنة 2003
- Francois Burdeau , l’histoire du droit administratif , P.u.f , Paris 1995
- Rousset M et autres ,Droit Administratif marocain, imprimerie royale,4 éme édition, Rabat 1984
المجلات :
- المرفق العام في مواجهة التحديات الجديدة، من أجل تجديد المرفق العام ، المجلة المغربية للإدارة و التنمية المحلية، العدد 35 سنة 2002
[1] المرفق العام في مواجهة التحديات الجديدة ، من أجل تجديد المرفق العام ، المجلة المغربية للإدارة و التنمية المحلية ، العدد 35 سنة 2002 ص19.
رضوان بوجمعة:”قانون المرافق العامة” طبعة 2000، ص23 و مايليها[2]
“…سورة الكهف، الآية 16 ” ويهيئ لكم من أمركم مرفقا[3]
رضوان بوجمعة ، مرجع سابق ، ص25[4]
رضوان بوجمعة، مرجع سابق، ص26 و مايليها[5]
أحمد بوعشيق، المرافق العامة الكبرى، الطبعة الثانية، دار النشر المغربية بالدار البيضاء، سنة 2004، ص47[6]
رأفت فودة، قضاء المسؤولية الإدارية، دار النهضة العربية، 1944، ص125[8]
أحمد بوعشيق، مرجع سابق، ص51[9]
2003،ص175 محمد كرامي، القانون الإداري، التنظيمي والنشاط الإداري، الطبعة الثانية مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ، سنة [10]
[11] هذا المبدأ تم اعتماده في النظام القضائي الفرنسي ولا مثيل له في الأنظمة الأجنبية الأخرى، مثل النظام القضائي الأمريكي، الذي لم يرم إلى فصل النزاعات العادية والإدارية، رغم اعتماده بصرامة على مبدأ فصل السلطات
Cité par François Burdeau:l’histoire du droit administratif , Puf , Paris 1995 ,p19 [12]
[13] محمد كرامي، مرجع سابق ، ص195
Rousset M et autres : Droit Administratif marocain, imprimerie royale,4 éme édition, Rabat [14] 1984 ,p58