الإشكال المطروح بالنسبة للأساس القانوني لمساءلة الناقل المجاني
الإشكال المطروح بالنسبة للأساس القانوني لمساءلة الناقل المجاني
يعتبر النقل وسيلة لتدعيم النشاط الإقتصادي والتجاري غير أنه كثيرا ما تستغل المركبات للإستعمال الخاص، وأثناء السير قد يسمح أحد الأشخاص لأي شخص يصادفه بأن يركب معه في السيارة ويقله إلى أي جهة معينة دون أن يأخذ منه مقابل ذلك أجرا فإذا أصيب المنقول بحادث من جراء ركوب السيارة تسبب في ضرره، فهل للمنقول أن يطالب بالتعويض عن الأضرار التي أصابته ؟
قد أثارت قضية التعويض عن الأضرار الحاصلة في هذا النطاق صعوبات قانونية كثيرة تتعلق خاصة بالكيفية التي ينبغي التعويض بها و تحديد الأساس القانوني الذي يتعين على القاضي الإعتماد عليه في حكمه وهل يكون القاضي قد وفق إذا اختار النظام العمومي للمسؤولية التقصيرية أو عكس ذلك يتوجب عليه الأخذ بالقواعد العقدية.
هذه هي أهم التساؤلات التي من الممكن إثارتها في هذا النطاق وهو ما سنحاول الإجابة عليه في نقطتين: أولهما: عند تكييف الطبيعة المميزة للمسؤولية الحاصلة. وثانيهما: عند عرض آخر ما توصل إليه الفقه والقضاء بصدد الأساس القانوني لها.
أولا: مسألة التكييف القانوني للمسؤولية في إطار العلاقات الناشئة عن خدمة النقل بدون أجر:
إن نقل شخص لصديق له في نزهة أو أي مكان آخر دون أن يقابل ذلك أجر يعتبر نقلا مجانيا ولكن الإشكال يطرح عند إصابة الشخص المنقول بضرر فكيف يوصف النقل الذي تم بينهماأيعتبرعقدا كالنقل بأجر تماما أو يخرج عن نطاق العقد وماذا عن طبيعة العلاقة التي يرتبط بها مقدم الخدمة فهل هي من طبيعة تعاقدية للقول بالمسؤولية العقدية التي تجعل مقدم الخدمة مسؤولا بمجرد حدوث ضرر للراكب بحيث لا تنتفي مسؤوليته إلا إذا ثبت السبب الأجنبي أم أنها مسؤولية تقصيرية مناطها ثبوت صدور خطأ الناقل أو أن طبيعة المسؤولية تخضع لنظام قانوني معين آخر.
أ- إعطاء الوصف القانوني للنقل المجاني: إن النقل المجاني: هو ذلك الذي يتم على سبيل المجاملة وآداب اللياقة من جانب الناقل، بحيث لا يتقاضى مقابلا عليه. وقد احتدم النقاش وتضاربت آراء الفقهاء حول جدية اعتبار النقل المجاني عقدا أم لا.
رأى فريق من الفقهاء أن النقل المجاني يعتبر عقدا، وقد اقترح البعض منهم أن النقل المجاني يعتبر عقدا بدون عوض ذلك كونه يتوفر على جميع عناصر العقد من اقتران إيجاب مقدم الخدمة بقبول المنقول مجانا وتوافر المحل وهو الركوب وسبب العقد وهو نية التبرع وأنه يقع على عاتق الناقل المجاني التزاما بضمان سلامة الراكب ولكنه التزام بوسيلة عكس النقل بأجر حيث يكون فيه التزام الناقل التزاما بنتيجة، فإن لم يصل المنقول مجانا سالما إلى الجهة المقصودة وجب عليه أن يقدم الدليل على خطإ الناقل لكي يطالب بالتعويض.
بينما عارض الكثير في اعتبار النقل المجاني عقدلأنه لا يمكن النظر إليه باعتباره عقدا ملزما بحيث لا يتصور أن يسأل الناقل المجاني عقديا عن تنفيذ النقل. وذكر أحد الفقهاء الفرنسيين أنه حتى يصبح النقل المجاني عملا قانونيا وجب اتفاق الأطراف على إحداث أثر قانوني في حين هو ليس كذلك مؤكدا على أن أي طرف من الأطراف لا يلتزم قانونيا تجاه الآخر حتى يكون لأحدهم الحق في ممارسة دعوى قضائية أو الحق في تنفيذ النقل المجاني.
وهناك من شدد في الإنكار على الصفة التعاقدية للنقل المجاني ذلك أن القضاء يستبعد من الخدمات المجانية أن تكون عقدا، وأن مجرد الإتفاق ما بين شخصين لا يكون عقدا.
ويرى الدكتور السنهوري: بأن النقل المجاني ليس بعقد لأن الطرفين لم يقصدا الإرتباط ارتباطا قانونيا
بينما استقر اتجاه مخالف وعلى رأسه الأستاذ روجيه بوت على اعتبار النقل المجاني عملا من أعمال الفضالة حيث يؤدي الناقل المجاني الخدمة من تلقاء نفسه وخدمة للغير وهو ما تتضمنه الفضالة، وأخذ على هذا الرأي بأنه لا يمكن للناقل المجاني بأن يلتزم بنفس الإلتزامات التي يتحملها الفضولي إضافة إلى أن الفضالة تعتبر شبه عقد وإذا ما اعتبرنا النقل المجاني كذلك فلم نبتعد كثيرا عن فكرة العقد.
وأخيرا ننوه بأن: فكرة العقد لتكييف النقل المجاني لم تفلح إلى حد كبير نتيجة لشدة الإعتراضات التي وجهت لها. بيد أننا نرى في هذا الصدد: أنه وباعتبار أن العقد حسب ما نصت عليه المادة 59 من القانون المدني الجزائري يتم بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتيهما المتطابقتان وقياسا على النقل المجاني: فهناك وضوح جلي لتوافق إرادة كل من الناقل المتبرع و المنقول من أجل القيام بعملية النقل، فالمنقول مجانا لم يركب سيارة صديقه مثلا سوى رضا منه و قبولا لإيجاب عرض صاحب السيارة. بغض النظر عن سبب النقل الذي أراداه بحيث يكون نقلا على سبيل اللياقة والمجاملة وبذلك يوصف النقل الذي تم بينهما بأنه عقد نقل و إن كان بدون أجرة.
الطبيعة المميزة لمسؤولية الناقل المتبرع:
مع تطور فكرة المسؤولية لم يعد للمضرور مانع يحول دون مطالبته بحقوقه إلا أن طبيعة المسؤولية الناشئة كانت محل العديد من التساؤلات والتي لا تتأتى الإجابة عنها إلا بالتعرض للتضارب الفقهي الذي هو حقيقة علمية حول البحث في طبيعة العلاقة ما بين الناقل المجامل والراكب.
فهناك إتجاه فقهي يرى أن العلاقة ما بين الناقل المجاني والمنقول هي من طبيعة عقدية تستلزم تطبيق القواعد المنظمة للمسؤولية العقدية، غير أنهم اختلفوا فيما يتعلق بتبريرهم للفكرة
حيث أن الأستاذ: "لالو" اعتبر الرابطة التي تربط الناقل المتبرع بالراكب هي من طبيعة عقديةوأن انعدام الأجر وإن كان شرطا لصحة عقد النقل إلا أن انعدامه لا يزيل الرابطة التعاقدية فالناقل المجاني مسؤول عما يصيب الركاب من أضرار، ولا ترتفع عنه هذه المسؤولية إلا بإثباته السبب الأجنبي.
غير أن ما يؤخذ على رأي الأستاذ "لالو" أنه قصر فكرة العقد على النقل المجاني الذي يطبق في حالتين:
حالة قيام شركة السكك الحديدية بنقل أحد الأشخاص الحاملين لتصريح ركوب مجاني وكذا حالة قيام صاحب الفندق بنقل نزلائه من المحطة إلى الفندق أما في باقي حالات النقل المجاني فاعتبرها مسؤولية تقصيرية كنقل صديق له في نزهة و أقر البعض الآخر أن العلاقة بين الناقل المجامل والمنقول قائمة على أساس عقد حقيقيvéritable contrat . ولكنه بدون أجر ولا تتأثر عند الإخلال به سوى المسؤولية العقدية لأن الناقل الغير المأجور ملزم بسلامة المنقول.
ويمكن أن يكون النقل مقابل خدمة ما بين الناقل والمنقول فيعتبر بذلك عقد معاوضة لا يترتب عند الإخلال به سوى المسؤولية العقدية وهذا ما أخذت به بعض المحاكم الفرنسية عندما قضت أن النقل الذي يهدف إلى إبرام صفقة مشتركة تقوم على أساس خدمات متقابلة هو تنفيذ لعقد معاوضة، وفي هذا الشأن يرى الأستاذ « Savatier » بأن النقل المجاني هو من عقود الخدمات كعقد الوديعة حيث نجده يقول: نحن نعتقد بأن من العدل أن نطبق مباديء المسؤولية التعاقدية ولكن مع التخفيف من أحكامها لأن النقل قد جرى بدون عوض.
وقد يكون النقل جزءا من عقد أوسع شمولا كأن يقوم ناقل بنقل العامل تنفيذا لعقد قد تم بين الناقل ورب العمل ففي هذه الحالة لا يكون التعويض الحاصل عن الأضرار الناتجة إلا طبقا لقواعد المسؤولية العقدية كون أن العلاقة بين الناقل والعامل المنقول تدخل ضمن الإلتزامات التي يفرضها العقد الأصلي ما بين الناقل ورب العمل.
وكنتيجة للآراء السابقة اعتبر النقل الذي يتم على سبيل المجاملة والمروءة عقد نقل والمسؤولية الناشئة عن هذه العلاقة من طبيعة عقدية لوجود تبادل الرضاو هذا الرضا كاف لقيام العقد.
غير أن اعتبار علاقة الناقل المجامل بالمنقول تعاقدية لم يكتب لها النجاح ولم تفلح كاساس يلجأ إليه المنقول من أجل المطالبة بالتعويض باعتبار أن إرادة الطرفين لم تتطرق بأي حال من الأحوال إلى ترتيب أي أثر أو التزام قانوني وكذا لانتفاء المقابل المادي الذي على أساسه يقوم التزام الناقل بالمحافظة على سلامة الراكب.
وحصيلة لما استطرد من نتائج استقر القضاء والفقه الفرنسي على أن لا يسأل الناقل بالمجان في مواجهة الراكب إلا وفقا للقواعد العامة للمسؤولية التقصيرية إن تحققت شرائطها.
غير أننا نتساءل أتقوم المسؤولية على أساس الفعل الشخصي للناقل أوعلى أساس فعل السيء (أي المركبة)؟
بعد التخبط الطويل الذي كان يرزح تحته كل من الفقه والقضاء صدر عن الدائرة المدنية حكم بتاريخ 27 مارس (2)1928 كان له القول الفصل : حيث اعتبر مسؤولية الناقل المجاني شخصية تقوم على أساس إثبات خطأ الناقل معتمدا في ذلك على المادتين 1382 و 1383 قانون مدني فرنسي بحيث أن المضرور لا يتحصل على حقه في التعويض إلا عند إثباته لخطإ الناقل وفيما إذا كان عليه إثبات الخطأ اليسير أو الجسيم فإن بعض المحاكم اشترطت حدوث خطإ جسيم بيد أن أغلبية قرارات القضاء الفرنسي كانت تتطلب إثبات خطإ الناقل حتى ولو كان يسيرا.
هذا وقد استبعد تطبيق المادة 1384 فقرة أولى من القانون المدني الفرنسي التي نصت على المسؤولية عن فعل الأشياء و سبب ذلك أن المنقول كان يعلم ما يتعرض له من مخاطر. غير أنه أخذ على هذا التسبيب أن المنقول بأجر هو كذلك يعرض نفسه لمخاطر النقل ومع ذلك فإنه يتمتع بحماية كافية وإن اعتبر أن معنى قبول المخاطر أن المنقول مجانا قد اتفق على إعفاء الناقل من المسؤولية فإن النقل المجاني ليس عقدا و أن المسؤولية المترتبة عليه هي تقصيرية وهي من النظام العام، وكل اتفاق ضمني أو صريح على إبطالها أو تخفيفها باطل بطلانا مطلقا
وقد أخذ البعض بفكرة المنفعة حيث أن الناقل المأجور يحصل على المقابل وبالتالي يحصل على المنفعة بينما الناقل المجاني لا يحصل عليها وكنتيجة لذلك يستطيع المضرور في النقل بأجر أن يتمسك بالمادة 1384 فقرة أولى بينما المنقول مجانا فليس له أن يتمسك بهذه المادة.
ثانيا: الاجتهاد الفكري والقضائي بشأن إرساء أساس لمسؤولية الناقل بالمجان:
لما حسم القضاء المواقف المتغيرة ما بين الفقهاء في حكم: 27 مارس 1928 بجعله مسؤولية الناقل التقصيرية انجر عن ذلك عدة نتائج تجافي المنطق وظهرت عدة إشكالات حيث أنه:
– في حالة التصادم إذا لم يعرف سببه يرجع المنقول مجانا على المتصادم الآخر يطالبه بكل التعويض طبقا لأحكام المادة 1384/1 من القانون المدني الفرنسي وإذا دفع المتصادم الآخر كل التعويض رجع به على الناقل المجاني. حيث ينتهي الأمر إلى أن يدفع الناقل المجاني كل التعويض ولكن بطريقة غير مباشرة. وبدون أن يثبت خطأ الناقل المجاني وكان ذلك منتقدا من الفقه فعالج القضاء هذا الوضع الشاذ بصدد قضية شهيرة هي قضية Pilastére التي أصدر بشأنها حكما بتارخ 09 مارس 1962 عن محكمة النقض حيث قالت بأنه ليس للمنقول مجانا أن يطالب المتصادم الآخر إلا بنصف التعويض وليس لهذا المتصادم الآخر أن يرجع على الناقل المجاني بهذا النصف وإذا دفع المتصادم الآخر كل التعويض فلا يرجع على الناقل المجاني إلا بالنصف إذا أثبت المنقول مجانا خطأ الناقل ويكون الرجوع بهذا النصف بطريق الحلول محل المنقول مجانا.
ونتيجة لصعوبة إثبات خطإ الناقل المجاني من المنقول شعر القضاء بالظلم والقسوة بالنسبة إليه وعمد إلى بعض الوسائل من أجل التخفيف من عبء إثبات الخطأ:
1)- التخفيف من فكرة المجانية.
2)- التوسع الكبير في خطإ الناقل المجاني وابتكار فكرة الخطإ الكامن أو بالقوة: La faute virtuelle ومقتضى هذه الفكرة أنه بمجرد وقوع حادث من سيارة الناقل المجاني يدل على خطإ منه. يعفى المنقول من إثباته لأن الناقل المجاني مخطئ بالقوة.
– مسؤولية الناقل المجاني على أساس الخطإ مفترض لا يقبل إثبات العكس:
أمام الإنتقادات اللاذعة التي وجهت إلى اعتبار مسؤولية الناقل شخصية وبعد أن سن المشرع الفرنسي قانون التأمين الإجباري عن حوادث السيارات بتاريخ 27 جانفي 1957 اضطر القضاء إلى العدول عن إخضاع المنقول مجانا للمادة 1382 مدني فرنسي وجعل له الحق في التمسك بالمادة 1384 فقرة أولى والتي تقضي بمسؤولية حارس الشيء وتقوم على أساس خطإ مفترض لا يقبل إثبات العكس.
وذلك بأحكام ثلاث صدرت عن المحكمة المختلطة بتاريخ 20-ديسمبر 1968.
وكان من نتائج ذلك:
(1) التيسير على المنقول مجانا الحصول على التعويض.
(2) إختفت فكرة الخطإ وأصبح للمنقول مجانا أن يطالب ناقله بكل التعويض دون أن يطالبه أن يثبت خطأ وأصبح له الحق في حالة التصادم أن يطالب كلا من المتصادمين بكل التعويض على أساس التزامهما التضاممي ويكون على ذلك دفع الكل أن يرجع بنصف ما دفع على الآخر.
– موقف القانون الجزائري:
لقد تعرض المشرع الجزائري تعرض لعقد نقل الأشخاص في القانون التجاري ضمن النصوص القانونية المواد من 62 إلى 68، غير أنه لم يتعرض للنقل المجاني وقد أراد أن يأخذ بآخر مرحلة وصل إليها القضاء الفرنسي.
فأورد نص المادة: 138 من القانون المدني والمتعلقة بالمسؤولية عن فعل الأشياء الغير حية وطبقها على كل حارس للشيء بغض النظر فيما إذا كان هذا الحارس مأجورا أو غير مأجور وهو ما اتجهت إليه قرارات المحكمة العليا ويظهر ذلك جليا في قرار لها بتاريخ 20 جانفي 1982 حيث اعتبرت مسؤولية الناقل المجاني مفترضة خضوعها لأحكام حارس الشيء. ولا يمكن الإعفاء منها إلا بثبوت الإستثناءات المنصوص عليها في المادة 138 من القانون المدني: القوة القاهرة. عمل الضحية أو عمل الغير وخاصة بعد أن أصدر المشرع الجزائري الأمر الذي جعل التأمين عن حوادث السيارات إلزاميا. وهو الأمر رقم 74-15 المؤرخ في 30 جانفي 1974 والذي نص في المادة الثامنة منه أن: " كل حادث سير سبب أضرارا جسمانية، يترتب عليه التعويض لكل ضحية أو ذوي حقوقها. وإن لم تكن للضحية صفة الغير تجاه الشخص المسؤول مدنيا عن الحادث." فتطبيق هذا النص يكون على إطلاقه شاملا للمضرورين سواء من جراء نقل بمقابل أو نقلا مجانيا.
وفي الأخير: نجد أن المشرع الجزائري اعتبر مسؤولية الناقل المجاني تقصيرية بتطبيق قواعد مسؤولية حارس الشيء التي تقوم على أساس الخطإ المفترض افتراضا لا يقبل إثبات العكس ولا يدحض إلا بإثبات السبب الأجنبي أي القوة القاهرة أو الحادث المفاجئ أو خطأ الغير الذي يكتسب صفات القوة القاهرة أو خطأ المضرور.