مقالات قانونية

العولمة وتأثيرها على الجريمة والعقاب

traffic resources with a globe and suitcases

بقلم الأستاذة: بن زرفة هوارية من جامعة غيليزان الجزائر

مقدمـــــــــــــــــــــــــــــــــــة


يأتي الاعتداء على الحقوق والممتلكات في عالم الجريمة التقليدي عادة من أفراد على هامش المجتمع، أو عصابات معزولة، ولتحقيق الكفاية غالبا.

أما اليوم فإن الإجرام الذي يمثل التهديد الأكبر لاستتباب أمن المجتمعات والأمم والتحدي الأبرز لتشريعاتها ومؤسساتها هو ما يسميه فيراجولي “إجرام السلطة”، وهو صنف من الجريمة غير هامشي ولا استثنائي لأنه، خلافا للجريمة التقليدية، متجذر في مركز المجتمعات المعاصرة ويتحكم في مفاصلها.

وتنتمي إلى عالم الجريمة المنظمة التي تمارس من موقع السلطة، أو بالقرب منها، ثلاث فئات متميزة من حيث طبيعتها رغم أنها تكرس في حالات كثيرة تداخل المصالح، وتواطؤ المواقف بين سلطان الجريمة المنظمة ونفوذها، وبين انحرافات وجرائم السلطة سياسية كانت أو اقتصادية.

الأولى قوى الجريمة المنظمة: وفي مقدمتها الجماعات الإرهابية وكبريات منظمات المافيا. صحيح أن مثل هذه المنظمات وجدت دائما، لكنها اليوم حققت تطورا مذهلا على  مستوى الانتشار والتأثير، كما أصبح لها وزن مالي هائل جعل أنشطتها ضمن طليعة قطاعات الاقتصاد العالمي الأكثر مردودية، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن متاجرة مافيا الهجرة السرية بأحلام العاطلين، وتلاعب جماعات الإرهاب العابر للأوطان بعواطف الشباب المتمرد. والملاحظ في أغلب هذه الحالات أن هناك فرزا طبقيا تستغل “النخب” الإجرامية بمقتضاه بؤس وخصاصة وهامشية عالم الجريمة الصغيرة وتقوم بتوظيفه لتعظيم أرباحها.

الثانية: النفوذ الاقتصادي العابر للحدود: ويتجسد هذا النوع من الجريمة -الذي يمثل بامتياز أثرا مباشرا لظاهرة العولمة بما تعنيه من فراغ في القانون العام- عبر صيغ مختلفة من الفساد والعدوان على الحقوق الاجتماعية واغتصاب الموارد الطبيعية وتدمير البيئة.

وعليه هناك
ظاهرة إجرامية أصبحت ذات امتداد عالمي، كما أن هناك علاقة سبب وأثر بين العولمة وهذا التطور، ومنها أن هذا الوضع يرتبط بوجود أزمة قانونية، تتعلق بمصداقية القانون وبفعاليته.

فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل أن تأثير العولمة على القوانين الجنائية أدى إلى ميلاد سياسة جنائية دولية أم أن الأمر يقتصر على مجرد عولمة للسياسات الجنائية للدول؟

للإجابة على التساؤل المطروح، ارتأيت تقسيم موضوع الدراسة إلى مبحثين، الأول: الجريمة وعلاقتها بالعولمة،

أما المبحث الثاني:العقوبة وعلاقتها بالعولمة.

المبحث الأول: الجريمة وعلاقتها بالعولمة

تجدر الإشارة بداية أن الجريمة هي كل عمل غير شرعي يرتكبه الفرد، ويؤدي إلى المساس بالإنسان في نفسه أو ماله، أو عرضه، أو ضد المجتمع ونظمه السياسية والاقتصادية، أو هي كل فعل أو امتناع عن فعل اعتبره المشرع جريمة ورتب له جزاء. وتجريم أي فعل من طرف المشرع إنما غايته حماية الحقوق، فالجريمة في نهاية الأمر هي حماية لمصالح جديرة بالحماية الجزائية.

وظاهرة العولمة أثرت بصورة مباشرة سواء في تحديد المصالح الجديرة بالحماية الجزائية، أو بالنسبة للجريمة في حد ذاتها. فما هي هذه المصالح الجديرة بالحماية الجزائية في خضم العولمة؟ وما هي مجالات الجريمة التي تأثرت بالعولمة؟

سأتناول الإجابة على التساؤل المطروح في مطلبين، الأول: المصالح المحمية جزائيا في ظل العولمة، أما المطلب الثاني: التجريم في ظل العولمة.

المطلب الأول: المصالح المحمية جزائيا في ظل العولمة.

يعتمد المشرع لتحديد المصالح الجديرة بالحماية في أي مجتمع كان على القيم الاجتماعية التي يضفيها المجتمع على الأشياء، أو ما يعرف بالسلم القيمي وترتب المصالح، والحقوق طبقا لهذا السلم القيمي حسب درجة الأهمية والمصدر الأساسي لهذه القيم هو الإرث الاجتماعي، والثقافة الاجتماعية المتكونة أساسا من عقيدة، وأعراف وتقاليد، وتاريخ، وهو ما يؤدي بالتالي إلى القول أن القيم الاجتماعية تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر، وكما أن المصالح الجديرة بالحماية تختلف من مجتمع إلى آخر باعتبارها تنبع من ثقافة المجتمع بالدرجة الأولى، وهو ما يضفي عليها نوع من الخصوصية.(1)

فما يعد مصلحة جديرة بالحماية في مجتمع ما، قد لا يعتبر كذلك في مجتمع آخر تبعا لسلم القيم الاجتماعي الموجود في كل مجتمع، وتبعا لتقاليد وعقيدة وأعراف المجتمع، وبالتالي ما يعد جريمة في مجتمع، قد لا يعد جريمة في مجتمع آخر. ومثال ذلك: الزنا في المجتمعات الإسلامية، والتي تعتمد أساسا على تركيبة الأسرة وتلاحمها، وتحارب اختلاط الأنساب، وما ينجر عليه من تفكك داخل هذه الأسرة ، يختلف عن الخيانة الزوجية في بعض المجتمعات، والتي قد تصل أحيانا إلى عدم تجريمها، وإنما فقط تفتح المجال لفك الرابطة الزوجية.

وهذا ما يميز كل مجتمع عن آخر من حيث عقائده، وثقافته، وتقاليده ، وأعرافه المرتبطة بالتركيبة الاجتماعية له. الأمر الذي يضفي عليه نوع من الخصوصية، والتمييز انعكست بدورها على فكرة تحديد المصالح الفردية والاجتماعية.

هذه الخصوصية التي تتعارض في مضمونها مع العولمة في بعدها الثقافي، إذ أن العولمة تهدف إلى إلغاء الخصوصية الثقافية ونشر ما يعرف بثقافة العولمة عن طريق وسائل الاتصال الجد متطورة ، والتي لا يمكن للدولة بأي حال ومن الأحوال منعها من الدخول ولا فرض تأشيرة على دخولها ، والتي تعمل على احتواء جميع الثقافات في العالم وإنتاج ثقافة واحدة تفرضها الأمم التي تتحكم في هذه التكنولوجيات.

فشبكة المعلومات العالمية توفر لكل البشر على ظهر المعمورة خيارات ثقافية متعددة، تصل عبر الأقمار الصناعية إلى كل مجتمع، وإلى كل أسرة في هذا العالم من منطلق الحق في الإعلام تخترق الحدود وتوحد بين جميع أفراد المعمورة في المعلومات التي تتعلق بالحياة اليومية، ومستجدات الأحداث في العالم في المجال الفني بمختلف أشكاله، وكذا الثقافي والعلمي بما يفتح المجال واسعا أمام تعميم ثقافة واحدة هي ثقافة الدول التي أنشأت هذه الشبكة المعلوماتية العالمية. (2)

وإذا كانت الشبكة المعلوماتية والفضائيات تعمل على نشر هذه الثقافة بطريقة غير مباشرة فإن الاتفاقيات الدولية المختلفة تعمل على تجسيد هذه الثقافة بطريقة نظامية ومباشرة، وخير دليل الاتفاقية الدولية لحماية الطفل والتي صادقت عليها الجزائر في السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تتمكن من تجسيد مبادئها في القوانين الداخلية، لأن أغلب مبادئها لا تتفق ومبادئ المجتمع الجزائري والنابعة من المجتمع الإسلامي الذي يركز على الأسرة في الحفاظ على الأمة عكس الأنظمة الأوربية التي تعتمد على الفرد كعنصر أساسي ولا تعطي أية أهمية للأسرة، مما أدى بالولايات المتحدة الأمريكية عدم المصادقة على هذه الاتفاقية، وهكذا الشأن بالنسبة لأغلب الاتفاقيات الدولية.

كما بتبين تأثير العولمة على المصالح المراد حمايتها من خلال الشركات متعددة الجنسيات والتي تعمل بصورة مباشرة عن طريق المنظمات الدولية بالضغط على الدول ومن منطلق هيكلة اقتصادها وتطويره، أو الانضمام إلى هذه المنظمات والاستفادة من بعض الامتيازات في المجال الاقتصادي أو الحصول على قروض أو مساعدات مالية، مستغلة بالدرجة الأولى ظروف الدول النامية والضغط عليها لإدخال تعديلات على منظومتها التشريعية لما يحقق مصالح هاته الشركات كإلغاء التعريفة الجمركية ورفع الدعم على المنتوج المحلي.

وقد يتعدى ذلك إلى إدخال تعديلات على نصوص تجريمية كما هو الحال بالنسبة لحركة رؤوس الأموال وقانون الأسعار وبهذا يتغير معيار تحديد المصالح الجديرة بالحماية، وبدل أن تقرر الحماية لمصالح أفراد المجتمع تقرر لحماية مصالح الشركات متعددة الجنسيات. (3)

المطلب الثاني: التجريم في ظل العولمة

أصبحت ظاهرة العولمة حديث العام والخاص، كما أصبحت محل اهتمام الفرد البسيط والعادي في المجتمع.
أما تأثيراتها فلم يعد أحد بمنأى عنها، إذ امتدت إلى الأفراد في حياتهم اليومية وأوضاعهم المعيشية وقيمهم الاجتماعية، فهي اليوم ترتبط بما يرونه ويسمعونه يوميا في وسائل الإعلام العابرة للحدود.

فموضوع العولمة وعلاقتها بجزئية السياسة الجنائية التي ترتبط بسيادة الدولة من جهة وبحماية الأفراد وممتلكاتهم من جهة ثانية قلما يجري الحديث عنه أو البحث فيه.


وفي نفس السياق من الجرائم المستحدثة، والتي زاد انتشارها في الآونة الأخيرة: الإرهاب، الهجرة غير الشرعية، الاتجار بالنساء والأطفال، الاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية، والاتجار بالأسلحة.

أولا: الإرهاب


تعد الجريمة الإرهابية من الجرائم المستحدثة، فهي عابرة ومتجددة وهي نتيجة لحالة التطور اللا متكافئ، حيث لم يعرفها المجتمع في السابق أو أن حجمها كان قليلا جدا، وهي جرائم جديدة في نوعها ونمطها وحجمها، تستخدم في التكنولوجيا الحديثة، وقوة التنظيمات الإدارية والاقتصادية، حيث أصبحت متعذرة دوليا ولها قواعد. (4)

ثانيا: الهجرة غير الشرعية والجريمة

تزداد جرائم المهاجرين بزيادتهم في المجتمعات، وتنحصر تلك الجرائم بصورة عامة في عمليات السطو والتخريب، نتيجة زيادة عددهم وانعزالهم في أحياء على أطراف المدن، وصعوبة تأقلمهم في المجتمعات الجديدة، في حين يقل تأثير المؤسسة الدينية والتعليمية، فينسلخ الشباب متجها إلى المجموعات والعصابات المجرمة أو أن الشباب المهاجر يتوجه إلى طريق الجريمة للحصول بسهولة وسرعة على الثروة، أو أن الشباب يتجه إلى الجريمة كرد فعل على فقدان الاهتمام والرعاية وغياب الأمل. (5)

ثالثا: الاتجار بالنساء والأطفال

إن العولمة وسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء فزادت الأول ثراء والثاني فقرا، وهو ما أدى إلى ازدياد المتاجرة في الإنسان سواء كان طفلا أو امرأة أو رجلا، بإرادة هؤلاء أحيانا أو بغيرها غالبا، حيث يتم نقلهم للعمل كخدم أو عمالا مرتهنين، أو في أوكار البغاء، أو استعمالهم كأدوات لتنفيذ الأعمال الإجرامية، أو المشاركة في حمل السلاح ضد عدو لا يعرفونه، ليكونوا أكثر ضحاياها، وهو الوضع والعصر الذي أدى إلى زيادة شبكات الجريمة في تهريب المهاجرين، وبصورة غير مشروعة. (6)

رابعا:الاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية

جرائم المخدرات من الجرائم الدولية لأنها تمثل انتهاكا للمصالح العليا للمجتمع الدولي برمته، كما أنها من الجرائم العابرة للحدود لأن عصاباتها منتشرة في العالم، وهي تنسق فيما بينها وتتبادل المعلومات وتستخدم معطيات التقدم العلمي والتقني، لإحكام قبضتها على عنق المجتمع العالمي، لأن طبيعتها الدولية تجعل عناصرها تتوزع بين عدة دول، فالمنتج قد يكون في دولة، والمروج في دولة أخرى، والمهرب يعبر دولا للوصول.(7)

تجارة السلاح

تمثل الأسلحة الخفيفة الأداة الرئيسية للجريمة المنظمة، إذ يقوم تجارها بعقد صفقات مع الدول، أو الثوار والجماعات المعارضة، أو الجماعات الإرهابية، بحيث يتم تصديرها إلى مافيا الجريمة المنظمة العابرة لحدود الدول، وعادة ما يصاحب هذه الجريمة حالات الرشاوى، لضمان تواطؤ المسؤولين المشكلين كحرس حائل لدخولها. (8)

المبحث الثاني

العقوبة وعلاقتها بالعولمة

العقوبة -شأنها شأن الجريمة- قد تأثرت بظاهرة العولمة بصورة واضحة، إذ من منطلق البعد الثقافي للظاهرة الذي يعمل على احتواء الثقافات المختلفة وتكريس ثقافة العولمة عن طريق القضاء على خصوصية المجتمعات، تتأثر القيم الاجتماعية وبالتالي تتأثر العقوبة، على اعتبار أن القيم هي الأساس الذي تستمد منه وجودها أصلا.

يبرز تأثير ظاهرة العولمة على جانبين أساسيين الأول يتعلق بطبيعة العقوبة والثاني يتعلق بالمتابعة القضائية.

المطلب الأول: طبيعة العقوبة

العقوبة : هي الجزاء الذي يرتبه المشرع على الشخص الذي يرتكب فعل مجرم.

كذلك العقوبة هي جزاء وعلاج، فالعقوبة جزاء، وهذا الجزاء ينطوي على الإيلام، إلا أن عذاب العقوبة وألمها لم يعد يهدف إلى الانتقام والثأر وإنزال الأذى بمن اعتدى على أمن المجتمع ونظامه، بل أصبح وسيلة لإصلاحه وعلاجه، وهذا المفهوم للعقوبة دفع المشرعين لإلغاء عقوبات الحرق والتمزيق والصلب والوسم والكي بالنار،كما دفع العديد من التشريعات لإلغاء عقوبات الإعدام والأشغال الشاقة والسجن المؤبد.(9)

بالنسبة للاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية في العقوبة تتماشى مع التغير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد عمدت بعض التشريعات إلى تبديل بعض العقوبات واهتمت بصفة خاصة بالعقوبة السالبة للحرية(السجن)، وألغت بعض العقوبات وأحلت محلها عقوبات أخرى، مع مراعاة وجود توازن وتناسب بين القيم والمصالح المتطورة والمتغيرة داخل المجتمع الواحد، وبين الحقوق والحريات الفردية.( 10)

هذا وتحت مطية تدويل قضية حقوق الإنسان، عملت ظاهرة العولمة على التأثير على العقوبة رغم أن حقوق الإنسان هي مجموع الحقوق التي ينبغي الاعتراف بها للفرد وتعتبر مقدسة وخالدة تحتمها الطبيعة الإنسانية كحد أدنى وتفرضها فرضا.

لأجل ذلك يتعين على الدولة – فضلا عن احترامها وحمايتها لهذه الحقوق- أن تعمل على تحقيقها للإنسان فعليا حتى يتمكن من التمتع بها حقيقة.

لذلك إن التزام الدولة فوري وحاسم لأنه التزام بتحقيق غاية وليس ببذل عناية، وبذلك تعددت الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان بمختلف أنواعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ولكن ما يؤخذ على هذه المعاهدات أنها -وإن كانت وليدة رغبة حقيقية وصادقة بهدف حماية حقوق الإنسان- فإنها عندما حاولت حصر الحقوق التي تمثل الحد الأدنى لحقوق الإنسان عالجتها من منظور عالمي يأخذ فقط بالقيم الاجتماعية في الدول النافذة بالمجتمع الدولي، دون مراعاة للخصوصيات التي تتمتع بها باقي شعوب المعمورة حتى فيما يتعلق بالعقيدة التي تعتنقها الشعوب.

فالأحكام الشرعية النابعة من الشريعة الإسلامية -سواء ما يتعلق منها بالحدود أو القصاص- في منظور المجموعة الدولية التي تتغنى بحقوق الإنسان، أحكام غير مستساغة بل هي من قبيل الاعتداء والتنكيل بالإنسان والمساس بآدميته.

لأجل ذلك تعمل كل منظمات حقوق الإنسان وبوسائل ضغط مختلفة على الدول الإسلامية من أجل تغيير هذه العقوبات، خاصة تلك المتعلقة بعقوبة الإعدام.(11)

المطلب الثاني: المتابعة القضائية

فيما يتعلق بالمتابعة القضائية، ومن منطلق أن السياسة الجنائية بأي دولة هي موازنة بين المصالح العامة والحقوق والحريات الفردية، وبما أن بعض الأنظمة الدكتاتورية والشمولية تتخفى وراء حماية المصالح العامة للمجتمع والنظام العام، فمنظمة الأمم المتحدة عملت – وبإيعاز من منظمات حقوق الإنسان- على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي تختص طبقا للنظام الأساسي بجميع الجرائم المتعلقة بالإبادة وجرائم الحرب والجرائم الماسة بحقوق الإنسان وجريمة العدوان، مهما كان الفرد الذي ارتكبها ومهما كانت جنسيته، أو مكان ارتكابه للوقائع.

إذ تنص المادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة، على أن المحكمة تختص بالنظر في الجرائم التي تمس الأسرة الدولية، وهي جريمة الإبادة ، الجرائم ضد الإنسانية جرائم القتل العمدي، والتعذيب، وإبادة الجنس البشري، وهتك العرض والعنف الجنسي والرق. (12)

أما جرية العدوان فالمحكمة أجلت تعريفها إلى إجراء لاحق بموجب معاهدة، رغم تعريفها من قبل المواثيق الدولية، وعليه يبقى اختصاص المحكمة معلقا بشأنها أما جرائم الحرب فإن نظام المحكمة الجنائية لم يتوسع فيها .

وترتبط المحكمة الجنائية الدولية بصورة مباشرة بمجلس الأمن إذ تنص المادة الأولى من النظام الأساسي: على أن المحكمة لا تستطيع القيام بأي تحقيق أو متابعة إذا ما اعترض على ذلك مجلس الأمن.

ويرتكز مجلس الأمن في ذلك باعتباره الجهاز الأممي الوحيد المختص بحفظ السلم والأمن الدوليين، وهو ما أدى بالبعض إلى القول بأن الهيئة الأممية بإقرارها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لم تأت بجديد لفائدة البشرية، وإنما مكنت مجلس الأمن من إطار قضائي لتطبيق قراراته باسمه. (13)

إن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم هو أن المحكمة الدولية تحولت إلى محكمة سياسية تهدف إلى خدمة مجلس الأمن أو بالأحرى إلى خدمة أعضائه، عبر التكييف الجنائي لجريمة العدوان مثلا.

إذ تم استحداث ما يطلق عليه بالحرب الوقائية التي تعني أن من حق أي دولة إذا ما شعرت بخطر يهددها من دولة أخرى أن تعلن عليها حربا وقائية دون أن يشكل ذلك عدوانا، ومن ذلك أيضا تحديد مفهوم الدفاع عن الأرض والعرض مقابل ما تقوم به إسرائيل مما تعده دفاعا عن النفس.

وبهذا غاب الدور الحقيقي لهذه المحكمة، بل إن دورها الحقيقي لم يتمثل يوما في حماية الإنسان، لا من الإبادة، ولا من الحرب أو من الجرائم التي تم عدها في نظامها الأساسي، لأن مفهوم الإنسان في حد ذاته لديه مدلولات عدة في نظر المحكمة، وكذا مجلس الأمن الذي يؤدي دور المدعي العام الحقيقي لهذه المحكمة.

والذي يتشكل من دول دائمة العضوية تتمتع بحق الفيتو أو النقض والذي مؤداه أنه إذا اعترضت أي دولة لها حق النقض على قرار في مجلس الأمن يسقط حتى ولو صادقت عليه جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن، أي بما مضمونه أن صوت عضو دائم في مجلس الأمن يعادل أصوات جميع دول العام مجتمعة.

خاصة إذا كان هذا العضىو هو الولايات المتحدة الأمريكية التي أكدت رسميا أن المنظمة الدولية أصبحت غير قادرة على تسيير شؤون العالم وأعلنت الحرب على العراق بقرار منفرد وخارج إطار الشرعية الدولية ورغم معارضة جميع دول العالم واحتلت العراق ولم يتحرك مجلس الأمن، وتم خرق اتفاقية جنيف ولم يتحرك مجلس الأمن. (14)

الخاتمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

 

يتبين من كل ما سبق أن ثمة حاجة ملحة لتعبئة سياسية وثقافية حول متطلبات إصلاح القانون الجنائي لتخليصه من عيوبه الراهنة واستعادة طبيعته المتميزة نظاما للضمانات ووظيفته الأصلية أداة للحد من العنف ولحماية المصالح الأساسية للمجتمع وأفراده.

وينبغي أن يتقدم هذا الإصلاح المنشود في ثلاثة اتجاهات رئيسة:

الأول الترابط الحاصل على الصعيد الكوني الذي يستلزم تطوير فضاء عمومي عالمي واستحداث قانون جنائي دولي قادر على مواجهة الظواهر الإجرامية المعاصرة.

وفي هذا السياق يمثل تشكيل المحكمة الجنائية الدولية إنجازا تاريخيا يجب تعزيزه بتمكين المحكمة من الوسائل الضرورية للاضطلاع بمهامها وتوسيع صلاحياتها لتشمل جرائم كالإرهاب والاتجار بالمخدرات والسلاح وأنشطة الجريمة المنظمة متعددة القوميات، وكذلك الجرائم ضد البيئة والصحة العمومية، فضلا عن الانقلابات والمحاولات الانقلابية.

الثاني: أنه تتعين عقلنة المدونات الجنائية التقليدية بتعزيز نظام الضمانات ومراجعة الأولويات تركيزا على الأهم فالمهم، باعتبار ذلك شرطا لا غنى عنه لضمان فعالية القانون الجنائي.

ومن المطلوب في هذا الإطار إعادة الاعتبار إلى مبدأ الشرعية، وتقليص كتلة القانون الجنائي المتضخمة من خلال مراجعة صياغته على أساس إقرار مبدأ دستوري يمنع وضع أي قاعدة قانونية متعلقة بالجرائم، أو العقوبات، أو الإجراءات الجزائية إلا في إطار تعديلات تشريعية يتم اعتمادها بأغلبية غير عادية.

كما أنه من المطلوب أيضا محاربة السياسة التجريمية الصارمة بخصوص المتاجرة بالمخدرات التي أدت إلى سيطرة عصابات المافيا على سوق المخدرات، وأتاحت لها أرباحها المتضخمة بفعل الاحتكار فرصا لتوسيع مجالات نفوذها وتغذية ظواهر إجرامية تخدم أهدافها.

رغم ذلك يبقى هذا المسلك التجريمي مفهوما بل ومطلوبا، حتى لو كان البعض يرى أن تشريع المخدرات، بشروط وضوابط، سيجرد الجريمة المنظمة من أحد أبرز مقومات استمرارها.

لكن ما هو مطلوب أكثر، هو وضع حد للتسامح المطلق اتجاه سوق لا تقل خطورة وضررا هي سوق السلاح، فالسلاح موجه بطبيعته للقتل ووفرته تمثل أبرز أسباب الجريمة والحروب، وليس مفهوما أن لا يتم منع المتاجرة به، بل وحظر إنتاج جميع أنواعه إلا في حدود ما يتطلبه حفظ النظام العام وتحقيق مقتضيات احتكار الدولة للإكراه الشرعي.

هذا الاقتراح الذي قد يبدو موغلا في المثالية ليس كذلك في الواقع إلا بالنسبة لمن يقدسون مصالح لوبيات صناعة السلاح والمتاجرة به أو من تعجبهم السياسات العدوانية للقوى العظمى والنزعات العدمية لأمراء الحرب في بلدان العالم الثالث.

وليس من قبيل المصادفة أن تكون نسبة عالية من نزلاء السجون تنتمي دائما إلى فئات معينة هي السود في الولايات المتحدة، والمهاجرون في أوروبا، والفقراء في جميع بلدان العالم!. ”

فهذه العدالة الانتقائية هي ثمرة الخطاب الخاطئ لبعض السياسيين ووسائل الإعلام ومظهر للنزعة البيروقراطية التي تدفع أجهزة الأمن والقضاء إلى البحث عن إنجازات وهمية في مواجهة الجريمة.

من ثم فإنه من المهم إدراج الوعي بوجود هذا التمييز المنهجي المخل بمبدأ المساواة ضمن أخلاق المهنة القضائية، بما يسهم في إعادة التوازن إلى السياسة الجنائية وإرهاف إحساس القضاة بواجب مراعاة مقتضيات الكرامة الإنسانية واحترام الضمانات الإجرائية في كل الحالات، مع التركيز على ملاحقة فئات المجرمين الأكثر خطورة.

لكن هذه الإصلاحات حتى وإن كانت، موضوعيا غير محتملة الآن فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها مستحيلة التحقيق.

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش

1عثمانية لخميسي، عولمة التجريم والعقاب، دار هومة، الجزائر، الطبعة الثانية، 2008، الجزائر، ص 181.

2-المرجع نفسه،ص182.

3- المرجع نفسه،ص183.

4-
أحمد الفلاح العموش، مستقبل الإرهاب في هذا القرن،مركز الدراسات والبحوث، جامعة نايف ، الرياض، 2006، ص60،64.

5-
عثمان حسن محمد نور ياسر، عوض الكريم المبارك: الهجرة غير المشروعة والجريمة ، مركز الدراسات والبحوث، جامعة نايف، الرياض، 2008،ص71،78.

6-
خالد بن محمد سليمان المرزوق، جريمة الاتجار بالنساء والأطفال وعقوباتها في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، دراسة تأصيلية مقارنة،رسالة ماجيستير، 2008، الرياض،ص30.

7-
يحي بن محمد بن عشتل القحطاني، مدى التنسيق بين الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة جرائم المخدرات،مذكرة ماجيستير ،جامعة نايف، الرياض،2003، ص49-51.

8- www.Arabic-military.com: دراسة بقلم اللواء صلاح سويلم حول تجارة السلاح.
www.wikipedia.org.ArmsIndustry.

9- أحمد عوض بلال، النظرية العامة للجزاء الجنائي، ( دار النهضة العربية، القاهرة، ط 2، 1996م) ص 03، ومحمد محيي الدين عوض القانون الجنائي، مبادئه الأساسية في القانون الأنجلو أمريكي ( دراسة مقارنة)،(ط 1987- 1989) ، ص 154.

10-
محمود طه جلال،أصول التجريم والعقاب في السياسة الجنائية المعاصرة؛ دراسة في استراتيجيات استخدام الجزاء الجنائي وتأصيل ظاهرتي الحد من التجريم والعقاب؛ محمود طه جلال، (دار النهضة العربية، القاهرة، 2005) ، ص 194، 195، 241.

11
أحمد خيري الكباش، الحماية الجنائية لحقوق الإنسان، “دراسة مقارنة”،في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، والمبادئ الدستورية، والمواثيق الدولية،2008، ص5 .

12-سكاكني باية، العدالة الجنائية الدولية، دار هومة، الطبعة الأولى، 2003، الجزائر، ص87.

13
المرجع نفسه ص93 .

14-
المرجع نفسه ص98.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى