شكل اعتماد البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية اللاانسانية او المهينة ،في 18 دجنبر2002 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة،ودخوله حيز التنفيذ في 22يونيو 2006 ، تحول نوعي في مجال مناهضة التعذيب وتعزيز حقوق الإنسان على الصعيد الدولي ،وترجمة عملية لمسار تطور القانون الدولي لحقوق الانسان الذي انتقلت فيه المعاهدات من الاهتمام بالتصدي للانتهاكات الى الوقاية منها،وأضحت المصادقة على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب ،التعبير الحقيقي على تبني الدولة لمنهج الوقاية من الانتهاكات ،حيث يلزمها بإحداث او تعيين الية وطنية للوقاية من التعذيب في غضون سنة واحدة بعد المصادقة ،يشمل اختصاصها مهمتين رئيسيتين هما زيارة جميع اماكن الحرمان من الحرية الخاضعة لولاية الدولة الطرف وتقييم قوانين تلك الدولة.
في هذا السياق شكل انضمام المغرب الى البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب بتاريخ 24نونبر 2014 ،استجابة لإحدى توصيات هيئة الانصاف والمصالحة ،المستمدة اساسا من تحليل الهيئة لواقع الانتهاكات وتطورها وأسبابها،وخطوة اساسية لتوفير شروط احداث او تعيين الية وطنية للوقاية من التعذيب التي من شانها ضمان التطبيق الفعلي لمقتضيات البروتوكول وتعزيز الجوانب العملية والوقائية من التعذيب.
وإذا كان تصديق المغرب على البروتوكول الاختياري المفضي الى احداث الالية الوطنية للوقاية من التعذيب قد رافقه نقاش حقوقي ، غير محسوم ،حول طريقة احداث اللجنة ،بشكل عمق من تعثر ارساء المراحل السابقة على التأسيس،سواء على مستوى عمليات التشاور الممكنة او تقريب التصورات لاختيار النموذج الامثل لهذه الالية الوقائية الواجب اعتماده ، فالأكيد ان المغرب قد تأخر كثيرا في احداثها ،قبل ان تبادر الحكومة بتاريخ 12يوليوز2017 ،بإحالة مشروع القانون رقم 76.15 على مجلس النواب ،رغم الاختلاف البين في تصورات مختلف المتدخلين في الحقل الحقوقي ,هذا المشروع المتضمن لإحداث ثلاثة اليات وطنية،احداها هي الالية الوطنية للوقاية من التعذيب،واثنتين للانتصاف هما الالية الوطنية لتظلم الاطفال ضحايا لانتهاكات حقوق الطفل،والآلية الوطنية الخاصة بحماية حقوق الاشخاص في وضعية اعاقة.
فاذا كان مشروع القانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الانسان،قد انتصر للمقاربة التي تدفع لاختيار المجلس الوطني لحقوق الانسان كمؤسسة قائمة لتكون الية وطنية وقائية للتعذيب،وهمش المقاربة المدنية ،التي تتقاسمها اغلب مكونات المجتمع المدني الحقوقي في المغرب ،التي تدفع في اتجاه احداث الية وطنية مستقلة عن الجهاز التنفيذي والمؤسسات الوطنية،فالأكيد ان مشروع هذا القانون في صيغته الحالية المعروضة على لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب،منذ تاريخ 14يوليوز 2017 ،بقدرما تثير مسالة تهميش المبادئ التوجيهية الاولية بشان التطوير المستمر للآليات الوقائية ،خاصة في الجوانب السابقة على انشاء الالية الوقائية المتمثلة في اطلاق التعبئة والتشاور مع مختلف الفاعلين بالحقل الحقوقي في المغرب لإنتاج ارضية تشكل تعاقدا حقوقيا بين مختلف المتدخلين في مجال حماية الاشخاص المحرومين من حريتهم ، بقدر ما تطرح سؤال استقلالية الالية الوطنية للوقاية من التعذيب على ضوء مشروع القانون وتبرر ابداء الملاحظات التالية:
اولا :على مستوى الاستقلال المؤسساتي:
مما لاشك فيه ان البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب لم يفرض على الدول شكل او نموذج معين لإحداث الالية الوطنية للوقاية من التعذيب ،وفي مقابل ذلك تتضمن المبادئ التوجيهية بشان الاليات الوقائية الوطنية الصادرة عن اللجنة الفرعية لمنع التعذيب مقتضيات مهمة تقتضي صياغة النص المحدث للآلية الوطنية استحضارها،حيث ينبغي ان يحدد النص التشريعي المحدث لها بالتفصيل عملية تعيين اعضاء الالية ووظيفتها واختصاصاتها وصلاحياتها ومسؤولياتها وكذا كيفية تمويلها والحصانات والامتيازات المخولة لها ،لان المقتضيات القانونية التي توجد في مرتبة ادنى لا تعزز استقلالية الالية الوقائية لكونها تقع في اسفل المعايير للقانون الوطني ،والملاحظ ان مشروع القانون رقم 76.15 تنقصه مجموعة من المقومات حيث جودة التشريع والصياغة المركزة انعكست على تحديد وضعية الالية على مستوى الاستقلالية المؤسساتية،اذ ساوى بين الاليات الوطنية واللجان الجهوية للمجلس الوطني لحقوق الانسان في المادة الثالثة من الباب الاول وجعل احداثها لدى المجلس الوطني لمساعدته في ممارسة صلاحياته في اطار مهامه الحمائية (المادة 12) ،فيما نصت المادة 15 على ان تقوم العلاقة بين الالية الوطنية للوقاية من التعذيب واللجنة الاممية الفرعية لمنع التعذيب عن طريق رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان ,اذ انه هو المعني الاول بالتعاون والتشاور والمساعدة المتبادلة مع اللجنة الاممية ،بل ان الالية الوطنية بمقتضى المادة 20 من المشروع ملزمة بإحالة توصياتها واقتراحاتها وخلاصاتها الى رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان الذي يقوم بإحالتها الى المجلس قصد التداول في شانها ، كما ان تدبير علاقات التعاون والشراكة مع الادارات والهيئات العامة والخاصة الوطنية والأجنبية تتولاها الالية الوطنية تحت سلطة رئيس المجلس .
في ظل هذه المقتضيات وغيرها يتضح ان مشروع القانون رقم 76.15 حدد بشكل واضح ان الالية الوطنية لا تشكل وحدة مستقلة داخل المجلس الوطني لحقوق الانسان كما هو الشأن في بعض التجارب الدولية التي عمدت الى تعيين مؤسسة قائمة لتضطلع بمهام الالية (السويد،صربيا،التشيك،بولونيا،النرويج،لوكسمبورغ،جورجيا،الدانمارك،كرواتيا،..).
ثانيا :على مستوى استقلالية الاعضاء:
اذا كانت المبادئ التوجيهية بشان الاليات الوقائية الوطنية الصادرة عن اللجنة الفرعية لمنع التعذيب توجب ان تمتلك الالية الوقائية الوطنية القدرة على وضع سياساتها ونظامها الداخلي الذي ينبغي ان يوضح كيفية تعيين وإقالة اعضاء الالية واتخاذ القرار ،وعلى ان تحدد مدة العضوية بنص تشريعي ،فان مشروع القانون رقم 76.15 ينص في المادة 21 على ان تتألف الالية الوطنية من اعضاء يتم تعيينهم من قبل الجمعية العامة للمجلس الوطني من بين اعضائها باقتراح من الرئيس على ان يسهر على تنسيق اشغالها منسق من بين اعضائها تعينه الجمعية العامة باقتراح من رئيسها وبشكل متناقض مع مضمون المادة 22 التي نصت على ان يحدد النظام الداخلي للمجلس الوطني عدد اعضاء الالية وكيفيات انتخابهم ، الامر الذي يجعلنا لانعرف هل سيتم انتخاب اعضاء الالية ام تعيينهم ،ويؤكد ان صياغة مشروع القانون تكاد تنقصها الدقة ويكتنفها الغموض سواء على مستوى الشكل او المضمون.
ان دراسة مشروع القانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الانسان تفيد بان صياغته جاءت بشكل متسرع لتحسم النقاش حول اختيار نموذج معين لإحداث الالية الوطنية للوقاية من التعذيب بشكل جعل الغموض الذي يكتنفه له علاقة بالشكل والمضمون ،اذ تخللته اساليب وتعابير تكاد تبتعد عن الصياغة المركزة والجامعة وفضل الاعتماد على عبارات غير دقيقة وتقسيم يفتقد للتوازن والانسجام بين الابواب والمواد وعنوانيها ومضمون احالة كل مادة على مادة اخرى ،حيث رغم انه عنون الفرع الثاني من الفصل الاول بالأحكام المشتركة الخاصة بالآليات الوطنية نص في الفقرة الاخيرة من المادة 21 من نفس الفرع على مقتضى خاص بالآلية الوطنية للوقاية من التعذيب .
ان هذه الملاحظات الاولية وغيرها تجعلنا نجزم ان مشروع القانون رقم 76.15 تنقصه مجموعة من المقومات تقتضي من السلطة التشريعية الممثلة في مجلسي البرلمان تدارك مختلف النقائص سواء على مستوى الشكل او المضمون وان تلعب دورها بشكل يعيد التعبئة والنقاش حول النص القانوني المحدث للآلية من خلال تنظيم ورشات وندوات من شانها التأسيس لتعاقدات بين مختلف الفاعلين في الحقل الحقوقي بالمغرب لإنتاج قوانين تكون في مستوى المرحلة وتعبر عن ارادة فعلية لتوفير شروط الوقاية من التعذيب في مختلف اماكن الحرمان من الحرية.