الإسم الكامل: زيان أمين
المهنة: باحث (قانون مدني)
المدينة: الرباط
قانون الكراء الجديد، “بين ضمان الإستقرار و تشجيع الإستثمار”.
مع ازدياد الطلب على الأماكن المعدة للكراء، بسبب قصر يد شريحة واسعة من الفئات التي لا تستطيع تملك مسكنها الخاص، ظهرت الحاجة الملحة إلى إطار قانوني يضبط العمليات الكرائية، من خلال ضمان استقرار الطرف الضعيف (المكتري) في مسكنه، وتشجيع الطرف القوي (المستثمر) على النشاط في هذا القطاع الحيوي.
إلا أن المفارقة الغريبة في هذا القانون الجديد، هي تمادي المشرع في حماية استقرار العلاقة الكرائية على حساب الأطراف المكونة لها، ففي كثير من المقتضيات تعامل المشرع مع العلاقة الكرائية بمنطق العلاقة النظامية الخارجة عن نطاق القانون الخاص، الشيء الذي انعكس سلبا على الوضيفة الأساسية المتمثلة في تأطير و ضبط إرادة أطراف العلاقة الكرائية.
و بالرجوع إلى القانون رقم 67/12 الصادر في “19 نوفمبر 2013” نجد مجموعة من المقتضيات تأكد ما سبق ذكره، فقد نصت “المادة الثالثة” من القانون على وجوب إبرام عقد الكراء بمحرر كتابي ثابت التاريخ، ما يطرح أسئلة جوهرية حول وظيفة الكتابة، هل هي للإثبات أم للإنشاء؟و هل بهذا أصبح عقد الكراء شكلي؟ و ما مصير عقود الكراء المبرمة عرفيا؟.
لقد أحسن المشرع صنعا بتنصيصه على وجوب كتابة العقد من جهة، لأنه بذلك يحمي الطرف المدعي في حالة النزاع من عبئ الإثبات و يمنح المحكمة وسيلة إثبات قوية تسرع الفصل فالنزاعات، لكنه من جهة أخرى تعامل بمنطق غامض مع الحالات التي تخالف شرط الكتابة، ففي المادة “74” من نفس القانون نص على أن العقود المبرمة قبل دخول القانون حيز التنفيذ و المخالفة لشرط الكتابة، يستمر مفعولها، و يمكن لأطرافها تغييرها في كل وقت بما يتناسب مع القانون الجديد، لكن السؤال الأهم حول مصير العقود التي ستبرم بعد دخول هذا القانون حيز التنفيد دون احترام شرط الكتابة؟
يظهر من خلال قراءة أولية للمسألة أنها تحتمل فرضيتين، الأولى تقول ببطلان العقد لتخلف عنصر الكتابة الذي يعد ركنا في العقود الشكلية، و هذه الفرضية تتحقق إذا اعتبرنا الكتابة المنصوص عليها في المادة الثالثة شرط لإنشاء العقد لا لإثباته، أما الفرضية الثانية، فهي إبقاء العقد قائما دون أن تكون له حجية تجاه الغير إلى حين إثباته في محرر كتابي ثابت التاريخ، و هذه الفرضية يأخد بها إذا اعتبرت الكتابة لإثبات العقد لا لإنشائه.
مثل هذا الغموض الذي يكتنف مقتضيات حساسة يجعل أساس العلاقة الكرائية هش و غير ثابت و يهدد استقرار الطرف المكتري خصوصا الجاهل للمقتضيات القانونية المعمول بها الذي يقبل العلاقة الكرائية الشفوية تحت وطأة الحاجة للسكن.
من جهة أخرى فقد جاء القانون الجديد بمقتضى لا يقل أهمية عن سابقه و يمس شرط مهم و خطير، و يشكل جوهر العلاقة الكرائية، يتعلق الأمر بشرط “المدة”، حيث فصل المشرع في مجموعة من المسائل و أثار أخرى و حاول حماية الطرف الضعيف مع الحرص على مكتسبات الطرف القوي.
و بالرجوع للمادة “44” من نفس القانون 67/12 نجد بها حكم قاطع و صارم و لا يقبل التأويل، فعقود الكراء لا تنتهي حسب المادة إلا بالإشعار بالإفراغ أو تصحيحه عند الإقتضاء، و هي مادة تعطل بشكل ضمني مضمون الفصل “768” من ظهير الإلتزامات و العقود الذي يقر انتهاء عقود الكراء بانقضاء المدة المقررة لها، فشرط المدة أصبح متجاوزا نظرا لغيابه في المواد المتعلقة بإنهاء العقد “45” و فسخه “56”، فانتهاء حق المكتري التعاقدي، ينشأ عنه حق قانوني هو “حق البقاء” و هو ما يصطلح عليه ب”الإمتداد القانوني لعقد الكراء”، و يشكل هذا الحق “شبحا” بالنسبة للمستثمرين و الملاك الذين غالبا ما يفضلون تضمين مدة محددة في العقد ينقضي الكراء بانقضائها، و يكون ملكهم في مأمن، و تغيير المكتري مسألة سهلة، لكن مع وجود مثل هذا الشرط الذي يعد قيدا خطيرا على حق “الملكية” فإن الكثير من الملاك يرفضون وضع عقاراتهم للكراء خوفا من أن تصبح عرضة للإستغلال اللامحدود.
و من المستجدات الأخرى البارزة التي أتى بها هذا القانون، هناك ما يطلق عليه ب “الإمتداد لصالح الأشخاص”، فوفاة المكتري لا يعني انقضاء حقه التعاقدي، فهو ينتقل بقوة القانون للأشخاص الذين ذكرهم المشرع و منحهم حق الإستفادة، و الملاحظ في هذا الإطار أن المشرع أصبح يميل إلى تضييق دائرة المستفيدين و حصرهم، فالأشخاص التي ذكرها المشرع جاءت على سبيل الحصر لا المثال و لا يمكن توسيع نطاقها بأي شكل من الأشكال، فقد نصت المادة “53” على كل من “الزوج و الأصول و الفروع المباشرين من الدرجة الأولى و المكفول و المستفيدين من الوصية الواجبة” لتنص المادة التالية “54” على “الأم المطلقة الحاضنة لأطفالها”.
وبذلك يكون المشرع قد حصر دائرة الإستفادة في ستة أصناف من المستفيدين، و هو بذلك يحمي استقرار ذوي المتوفي و يزيد من أعباء المكري الذي يصبح مضطرا للتعامل مع أشخاص وفقا لشروط حددها مع شخص آخر.
و لا يمكن الحديث عن جديد هذا القانون دون التطرق للجانب المالي الذي يعد النواة الصلبة في العلاقة الكرائية، فالمبدأ أن تحدد الوجيبة الكرائية بتراضي الأطراف، و تكون ملزمة لهم، لكن هذا لا يعني عدم وجود إمكانية تعديلها بعد ذلك، فقد يرى المكتري أن الوجيبة الكرائية لا تتناسب مع منافع العين المكتراة فيطالب بخفضها، أو يزيد جشع المكري مع التهاب أثمان العقار فيطالب برفعها، و هنا تدخل المشرع بحكم قاس بعض الشيء، حيث نص في المادة “32” على أنه لا يجوز الإتفاق على رفع الوجيبة لمدة تقل عن ثلاث سنوات من تاريخ إبرام العقد أو آخر مراجعة قضائية أو اتفاقية، أو الإتفاق على زيادة تتعدى النسب المحددة بمقتضى القانون، و هو بذلك يضع قيدا صارما على إرادة طرفي العقد خصوصا ما يتعلق بالمدة، فثلاث سنوات ليست بالمدة الهينة، خصوصا على الطرف المكري الذي يسعى دائما للزيادة، و هو نفس المقتضى المطبق على المكتري الذي لا يمكنه المطالبة بإنقاص الوجيبة في مدة تقل من الثلاث سنوات، لكن هذا لا يمنع من الإتفاق على مدة تزيد عن المدة المحددة قانونا كالإتفاق في العقد على عدم تعديل الوجيبة الكرائية إلا بعد مرور خمس سنوات، ففي هذه الحالة يكون الشرط صحيح و غير مخالف للمادة “32”.
أما ما يتعلق باحترام النسب المقررة في القانون فقد وضع المشرع قيدا آخر على حرية طرفي العقد، حيث وضع نسب محددة يخضع لها تعديل الوجيبة الكرائية، إذ لا يمكن للأطراف الإتفاق بشكل اعتباطي على مبلغ الزيادة، بل لبد من احترام النسب المقررة في القانون، وبالرجوع للمادة “43” نجد أن نسب الزيادة محددة في 8% بالنسبة للمحلات المعدة للسكنى، و 10% للمحلات المعدة للإستعمال المهني، و قد جاء في المادة الموالية “35” أن المحلات التي يقل ثمن كرائها عن 400درهم تخضع الزيادة فيها لسلطة القاضي دون أن تتجاوز نسبة 50%، و الملاحظ أنها نسب تقنية مخالفة لما كان عليه الوضع في القانون السابق “6/79” الذي كان ينص في فصله السادس على مجموعة من العناصر يأخدها القاضي بعين الإعتبار و يقرر نسبة الزيادة بناء على سلطته التقديرية، إلا أن هذه النسب التقنية لا ترقى غالبا لطلبات الطرف المكري، و فيها نوع من الإجحاف بالنسبة للأكرية البخسة و مبالغة للأكرية المهمة.
و لبد من التذكير في الأخير أن العلاقة الكرائية، هي علاقة التناقضات بامتياز، فأحد طرفيها هذفه الإستقرار، و الطرف الآخر هذفه الربح، و ما يمنح لطرف لبد أن ينزع من الآخر، لذلك وجب التعامل مع قوانين الأكرية بمنطق الموازنة لا التقييد، لأن تغييب إرادة الأطراف بكثرة القيود، غالبا مايؤدي لامتناع المالك من عرض ملكه للكراء، الشيء الذي يخلق شح العرض و غلاء الأسعار و غياب الإستقرار، فتكلفة القوانين ذات الطبيعة الإجتماعية غالبا ما تكون باهضة و قاسية و مكلفة.