في الواجهةمقالات قانونية

يونس الكنيبي : مبدأ الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي ما بين التوسيع والتقييد

“مبدأ الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي ما بين التوسيع والتقييد ”

 

 

تقديم :

يختلف الإثبات في المادة المدنية عن المادة الجنائية ،فيقصد بالإثبات في الميدان المدني إيجاد الدليل على قيام تصرف قانوني او واقعة مادية بين المدعي المكلف بالاثبات وبين خصمه بالطريقة والوسائل التي حددها القانون، أما الاثبات في الميدان الجنائي فهو إقامة الدليل على وقوع الجريمة أو عدم وقوعها وبالتالي إسنادها إلى المتهم او تبرئته منها بكافة وسائل الاثبات.

ومن خلال هذه التعاريف يتضح لنا أن جوهر الاختلاف في الإثبات أمام القاضي الجنائي والقاضي المدني في كون هذا الأخير قاضي الأوراق والحجج وبالتالي مقيد بوسائل الإثبات التي حددها المشرع المغربي على سبيل الحصر في الفصل 404 [1] من قانون الالتزامات والعقود ،وعكس ذلك فالقاضي الجنائي قاضي تنقيبي  يبحث عن وسائل الإثبات عملا بالقاعدة العامة في المادة الجنائية التي تقوم على مبدأ حرية الإثبات أو كما عبر عنها المشرع “الاقتناع الصميم”وذلك في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها ” يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا في الاحوال التي يقضي القانون بخلاف ذلك ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب ان يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند الثامن من المادة 365 الآتية بعده

إذا ارتأت المحكمة ان الاثبات غير قائم صرحت بعدم ادانة المتهم وحكمت ببراءته ”

فالمبدأ  إذن من خلال النص أعلاه هو أن الإثبات في الميدان الزجري حر بمعنى أن كل وسائل الإثبات التي يقررها القانون يمكن الاستدلال بها أمام القضاء الجنائي الذي لا يجوز له أن يرفض ما لم يقضي القانون بذلك لأحد الأطراف تقديم دليل يراه منتجا في إقناع المحكمة بوجهة نظره [2] وعليه  فحرية الإثبات من الخصائص التي تميز الإثبات الجنائي وهي إثبات الجريمة بكل الوسائل الممكنة باعتبارها واقعة مادية   وهذا ما لا نجده في المادة المدنية التي تعتمد على مبدأ الإثبات المقيد.

ويعود تبرير مبدأ حرية الإثبات إلى أن محل الإثبات في المادة الجنائية عبارة عن وقائع مادية ونفسية وبالتالي من حق سلطة الاتهام ( النيابة العامة) أن تثبت تلك الوقائع بكل الوسائل ،وللمتهم نفي وكسر تلك الوسائل ، كما أن للقاضي الجنائي تقصي الحقيقة  بجميع الوسائل [3]

فمن هنا فإذا كان المشرع أقر بحرية القاضي الجنائي في تكوين قناعته في مجال تقدير الأدلة  فما هي حدود هذه الحرية في الاثبات وماهي القيود الواردة عليه ؟

للإجابة عن هذه الإشكالية يقتضي منا الأمر الحديث أولا عن  حدود مبدأ الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي ( المطلب الأول) ، إلا أن نتطرق في الأخير للحديث عن  الاستثناءات الواردة على هذا المبدأ ( المطلب الثاني).

 

المطلب الأول : حدود مبدأ الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي

إن المشرع المسطري وهو ينظم وسائل الإثبات في المادة الجنائية ترك للقاضي الجنائي كقاعدة عامة حرية تقدير الادلة المقدمة في الدعوى دون ان يقيد بأدلة معينة ، كما ترك له حرية ترجيح دليل على اخر وبالتالي فعملية الإثبات خاضعة للقناعة الوجدانية للقاضي الجنائي بصريح الفصل 486 من قانون المسطرة الجنائية .فمن اجل الوصول الى الحقيقة يستطيع ان يختار اي دليل يراه صالحا لإدانة المتهم او براءته حسب ما يمليه عليه ضميره و اقتناعه الشخصي دون إغفال مبدأ قرينة البراءة والشك يفسر لصالح المتهم .

كما أن القاضي الجنائي قد يعتمد على أسلوب المقارنة بين وسائل الإثبات وبالتالي له أن يختار الدليل الذي اطمئان له ضميره واقنعه فقد يطرح أمامه دليل كتابي واعتراف وشهادة…فهنا قد يعتمد على واحد من هذه الادلة ويبعد الآخر ، ويجوز له كذلك تجزئة الاعتراف شأنه في ذلك شأن القاضي المدني في ميدان الإقرار طبقا للفصل 414 ق ل ع [4 ] كالاعتراف بجريمة بالقتل مع اضافة وصف اخر لها ( الدفاع الشرعي مثلا ) فالقاضي الجنائي هنا قد يأخذ بالجزء الأول المتعلق بالقتل ويستبعد الجزء الثاني المتعلق بحالة الدفاع الشرعي.كل ذلك حسب قناعته الوجدانية واطمئنانه وما يمليه عليه ضميره .

إلا انه ما يمكن قوله هنا أن الاثبات وإن كان حر في الميدان الجنائي فلا يعني انه مطلق لا يخضع لأي ضوابط ، فالمشرع يفرض على القاضي الجنائي بخصوص الإثبات عندما ينظر في الدعوى العمومية ضوابط يجب التقيد بها من قبل ضرورة تقييده بقواعد القانون المدني إذا كانت المسائل التي يراد إثباتها خاضعة لذلك القانون طبقا للمادة 288 من ق م ج [5] ، فمثلا عندما تكون الدعوى العمومية متعلقة بجريمة خيانة الامانة حيث يتعين وجود عقد الوديعة الذي يخضع لأحكام قانون الالتزامات والعقود لا القانون الجنائي.ونفس الشيئ بالنسبة لجريمة الرشوة فشرط الموظف العمومي شرط مفترض ينبغي توفره مسبقا وقد عرفه المشرع في المادة الاولى من قانون الوظيفة العمومية[6] ووسع في مفهومه في الفصل 224 من القانون الجنائي [7].

ويضاف الى ذلك كذلك ما قررته المادة 294 من ق م ج . أن الحجة الكتابية لا يمكن استيفاؤها من المراسلات المتبادلة بين المتهم ومحاميه والغاية من ذلك الحفاظ على حقوق الدفاع واحترام السر المهني،وهذا ما اكدته كذلك المادة 334 من قانون المسطرة الجنائية حيث نصت على ” لا يمكن سماع شهادة محامي المتهم حول ما علمه بهذه الصفة.

يمكن الاستماع الى الاشخاص المقيدين بالسر المهني وفق الشروط وفي نطاق الحدود المقررة في القانون ”

بالاضافة الى ذلك اشتراط المشرع في المادة 213 [8]من ق م ج عدم امكانية الرجوع الى وثائق التحقيق التي ابطلت بهدف استخلاص ادلة منها ضد أطراف الخصومة الجنائية.

ويرى البعض  أن الحكمة من هذه الاستثناءات هي تحقيق بعض الضمانات الهادفة الى اظهار الحقيقة او حماية حقوق الدفاع أو الحفاظ على بعض الاعتبارات الاجتماعية والأسرية[9].

 

 

 

 

المطلب الثاني : الاستثناءات الواردة على مبدأ حرية الاثبات في المادة الجنائية

لقد خرج المشرع عن المبدأ المقرر في الإثبات في المادة الجنائية المنصوص عليه في الفصل 486 من ق م ج والقائم اساسا على حرية القاضي الجنائي في تكوين قناعته من أي دليل يطمئن له[10] .لذلك الزمه في الفصل 493 من القانون الجنائي[11] في بعض الجرائم بوسائل إثبات محددة وهذه الجرائم هي المنصوص عليها في الفصل 490 من القانون الجنائي ( جريمة الفساد ) والفصل 491 منه ( جريمة الخيانة الزوجية ) وهذه الادلة هي إما محضر محرر من طرف أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس بالجريمة ،وإما باعتراف متضمن في مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم ، واما باعتراف قضائي .ويلاحظ في هذا الاطار ان الاجتهاد القضائي كثيرا ما يتوسع في تفسير هذه الأدلة حيث جاء في قرار حديث [12]لمحكمة النقض بتاريخ 17/10/2018 مايلي ” حيث يتجلى من تنصيصات القرار المطعون فيه أن المحكمة المصدرة له استندت  عن صواب في إدانة الطاعنة من أجل جنحة الخيانة الزوجية إلى  اعترافها في محضر الضابطة القضائية بتبادل القبل مع رجل أجنبي عنها، وهو فعل يشكل خيانة زوجية في حق زوجها فهو خيانة الرابطة الزوجية والوفاء والثقة بين الزوجين وأن هذا الاعتراف ينزل منزلة الاعتراف الذي تتضمنه مكاتيب أو أوراق صادرة عنها وبالتالي وسيلة إثبات قانونية طبقا لمقتضيات الفصل 493 من القانون الجنائي ،وتكون المحكمة قد طبقت القانون تطبيقا سليما و الوسيلتان على غير أساس ”

وبالإضافة إلى ما ذكر أعلاه فإن المشرع أعطى قوة ثبوتية مطلقة لبعض محاضر الضابطة القضائية والتي تحد من سلطة القاضي تجاه وسائل الإثبات حيث جاء في الفصل 492 من قانون المسطرة الجنائية مايلي ” إذا نص قانون خاص على أنه لا يمكن الطعن في مضمون بعض المحاضر أو التقارير إلا بالزور ،فلا يمكن تحت طائلة البطلان إثبات عكسها بغير هذه الوسيلة ”

والقاعدة أن محاضر الضابطة القضائية طبقا للفصل 490 من ق م ج يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الإثبات ، والاستثناء ما جاء في الفصل 492 اعلاه حيث اعطى المشرع للمحاضر التي تنجز في إطارها قوة ثبوتية مطلقة ومثال هذه المحاضر نجد :

  • محاضر أعوان المياه والغابات
  • المحاضر الجمركية
  • قانون الصيد في المياه الداخلية…

 

خلاصة القول فإن السلطة التقديرية للقاضي الجنائي في ميدان الاثبات  تقوم على مبدأين أساسين أولهما يتعلق  بالقاضي الجنائي وهو مبدأ الاقتناع الصميم لوسائل الاثبات،والثاني يستفيد منه المتهم ويتعلق بمبدأ الشك يفسر لصالح المتهم والذي يعتبر أهم نتائج قرينة البراءة .وبالتالي فإن إقرار هذا المبدأين مؤشر على مدى تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد المتابع،ومصلحة المجتمع التي تقتضي معاقبة وردع كل من ثبت في حقه ارتكاب فعل يجرمه القانون الجنائي.

الهوامش:

1- الفصل 404 من ق ل ع ” وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي :

1- إقرار الخصم

2- الحجة الكتابية

3- شهادة الشهود

4- القرينة

5- اليمين والنكول عنها ”

 

2- عبد الواحد العلمي شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، مطبعة النجاح الجديدة ،الطبعة الثانية السنة 2010 ص 381

3- الحبيب بيهي شرح قانون المسطرة الجنائية الجديدة ،البحث التمهيدي ، التحقيق الإعدادي الإثبات الجنائي الطبعة الثانية ، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع الرباط 2006 ص 246

4-

5- الفصل 288 من ق م ج ” إذا كان ثبوت الجريمة يتوقف على دليل تسري عليه أحكام القانون المدني أو أحكام خاصة تراعي المحكمة في ذلك الأحكام المذكورة”

6- المادة 2 من قانون الوظيفة العمومية ” يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة ”

7- الفصل 224 من القانون الجنائي ” يعد موظفا عموميا، في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه، في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية، أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.

وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها.”

8- الفصل 213 من ق م ج “تسحب من ملف التحقيق وثائق الإجراءات التي أبطلت وتحفظ في كتابة الضبط بمحكمة الاستئناف، ويمنع الرجوع إليها لاستخلاص أدلة ضد الأطراف في الدعوى، تحت طائلة متابعات تأديبية في حق القضاة والمحامين.”

9- الحبيب بيهي، م س ص 286

10- عبد الواحد العلمي شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، الطبعة الثانية 2009 ص 214

11- الفصل 493 من القانون الجنائي ” الجرائم المعاقب عليها في الفصلين 490 و491 لا تثبت إلا بناء على محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي”

12-  قرار محكمة النقض عدد1431الصادر بتاريخ 17/10/2018 في ملف جنائي عدد 21974/6/3/2017 منشور بموقع al9anat.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى