في الواجهةمقالات قانونيةوجهات النظر

إلى لجنة السيد  “بنموسى” : من أجل أمصال قادرة على علاج الأعطاب التنموية والجروح المفتوحة على المستقبل. ( البرنامج الملكي “إنطلاقة” لتمويل ودعم المقاولات، مدن المهن والكفاءات، الجيل الأخضر واستراتيجية غابات المغرب.)*

إلى لجنة السيد  “بنموسى” : من أجل أمصال قادرة على علاج الأعطاب التنموية والجروح المفتوحة على المستقبل. ( البرنامج الملكي “إنطلاقة” لتمويل ودعم المقاولات، مدن المهن والكفاءات، الجيل الأخضر واستراتيجية غابات المغرب.)*

 

*  محمد أقريقز، دكتور وباحث في القانون العام، طنجة.

 

إن المستقبل بناء، كما قال “بول فاليري  Paul Valéry  ” وعملنا يتوقف على استذكارنا للماضي، وتحليلنا للحاضر واستباقنا للمستقبل. وبلادنا اليوم، تعرف تحولات عميقة على مستوى الفعل التنموي، جعلتها تراهن على فلسفة مغايرة، فلسفة تستحضر لغة المخططات والبرامج والنماذج كآليات وتقنيات عمل تحكم السياسات العمومية التنموية، متجاوزة بذلك مرحلة القرارات والتوصيات والتوجيهات. إننا حقا نسير بخطى راسخة نحو مرحلة الفعل التنموي الواقعي في بنائه، الشمولي والتشاركي في إعداده، تتبعه وتقييمه. وهي المرحلة التي لم تعد خلالها المقاربة التشاركية مبدأ دستوريا ذو طبيعة نظرية فقط، بل تجسدت فعليا وبشكل ملموس في العديد من المحطات التنموية الحاسمة في تاريخ بلادنا وفترات فاصلة ومؤسسة في حياته السياسية والاقتصادية والثقافية والتنظيمية والإدارية.  ولعل منهجية الاشتغال على نموذج تنموي جديد للبلاد ولأجيالها المقبلة خير دليل على ذلك، فاللجنة في تركيبتها البشرية  التي تسهر على بلورته، توحي على مغربيتها وتعددها، كما أن طريقة عملها وانفتاحها على كافة القوى الحية بالبلاد، تكرس المقاربة التشاركية الميدانية وفق معطى القرب والإنصات لنبض المجتمع، ينبني ويعتمد البعد المجالي كدعامة أساسية وركيزة مهمة للاشتغال. نظرا لما تضمنه العدالة المجالية من أسس ومقومات تحقيق العدالة الاجتماعية وتوطيد المسار الديمقراطي وكسب رهان التنمية المستدامة. وهي القناعة التي أفصح عنها جلالة الملك في خطابة بتاريخ 13 أكتوبر 2017، بمناسبة ترؤس جلالته لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية العاشرة، حيث يقول جلالته: ” أن المغاربة اليوم، يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة ، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية التي يطمح إليها كل مواطن.” فغياب هذه المقومات جعلت جلالة الملك يقربأن ” النموذج التنموي  الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين ، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الإجتماعية.” وعليه كانت دعوة جلالة الملك لكل من الحكومة والبرلمان وباقي المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال تخصصه، من أجل إعادة النظر في نموذجنا التنموي بما يناسب تطورات وطموحات بلادنا من أجل كسب رهانات الرقي لمصاف الدول الصاعدة.

 

فإذا كنا مجمعين على أن التنمية في أبعادها الشمولية، فعل يستوجب تدخل الدولة وتوجيهاتها بما تملكه من إمكانيات قانونية، بشرية ومالية من جهة أولى، وتحمل مسؤولياتها عن مدى نجاح أو فشل تلك التدخلات والتوجيهات من جهة ثانية. وباعتبار التنمية عموما، حتى دون ربطها بنموذج أو رؤية أو مخطط، هي فلسفة وسياسة الدولة في الميادين الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية والحقوقية وغيرها من المجالات ذات الصلة بالمواطن فيما يخدم كرامته ويصونها ويضمن حقوقه ويحفظها.

 

وإيمانا منا، بأن مشكل محدودية التنمية وفشل مشاريعها ونماذجها، أو ما يمكن تسميته بأعطاب التنمية عموما، إن لم تعالج في الوقت المناسب واللحظة التاريخية الملائمة، تصبح جروحا مفتوحة على المستقبل، وعبئ ثقيل مثبط لأي نماذج إصلاحية جديدة مرتقبة.

 

وفي سياق ما يمنحني إياه لقب مواطن مغربي من أحقية المساهمة في كل النقاشات العمومية  التي من شأنها الرقي بهذا الوطن ونمائه وصيانة مكتسباته والذوذ عن مقدساته وتثمين عنصره البشري. وكلنا عزم على أن الانخراط الجاد والموضوعي  وبروح المسؤولية ، يصب في إطار التعبئة الجماعية وتلبية لنداء الواجب الوطني، سعيا لمصلحة الوطن والمواطن والتي تسمو عن كل الاعتبارات الأخرى.

فانطلاقا، من هاته القناعات الراسخة  أريد أن أدلي بدلوي في هذا الأمر  من خلال بعض الملاحظات التي سأمزج خلالها بين دراسة التنمية كنظرية وما يرتبط بها من مخططات ونماذج…( كمحور أول)، ثم سأخصص (المحور الثاني) لدراسة حالة  أعالج  من خلالها  الواقع المعاش لفئة معينة من ساكنة  بلدنا، وهذا ليس من باب الفئوية في بعدها القدحي ووفق منظورها المحدود ولكن نظرا للخصوصية التي فرضتها إحدى أوجه الأعطاب التنموية بامتياز على هذا المجال الترابي من وطننا العزيز، والتي سأجعلها ذات بعد ميداني أكثر منه تدخل أكاديمي علمي يلامس المشروع التنموي الجديد، مرتكزاته،  أهدافه ومخرجاته …وغيرها من المقومات التي تحكم بلورته.

 

المحور الأول:  مقاربة لمفهوم النموذج التنموي والمفاهيم المتقاربة.

 

حتى داخل مجال الدراسات الاقتصادية المحضة، ليس هناك مفهوم محدد أو تعريف جامع مانع متفق حوله للنموذج التنموي، إذ أن جميع النماذج التنموية المعمول بها دوليا أو أغلبها ماهي إلا محصلة وضعية كل دولة بناء على مقدراتها الاقتصادية ومواردها البشرية علاقة بمكتسباتها الاجتماعية وثوابتها التي تتأسس عليها سياساتها العمومية. إلا أن الأمر المجمع والمتفق عليه، هو أن النموذج التنموي المأمول بلورته بناء على الخطاب الملكي، بعيد كل البعد عم كونه برنامج حكومي مؤقت، أو أنه منظور اقتصاد صرف. بل هو ورش مستقبلي ومستدام، هدفه تحول ونقلة مجتمعية من مرحلته الراهنة إلى مرحلة جديدة تتأسس على بعد اقتصادي يلامس خلق الثروة، توازيا مع البعد الاجتماعي له المتمثل في كيفية توزيع تلك الثروة توزيعا عادلا ومنصفا، يسمح للمواطن بتلمس الفرق بين الأمس واليوم، والإحساس بكونه فاعل في الديناميكية اليومية لمجتمعه. فهاته الشمولية والموازاة بين خلق الثروة، واستفادة الجميع من مقدراتها اجتماعيا ومجاليا، هي  المقومات التي تضفي على النموذج التنموي سمة الشمولية. كما يجب التمييز في هذا الإطار  بين  بعض المفاهيم المهمة  مثل مفهوم النمو، ومفهوم التنمية، النموذج الاقتصادي والنموذج التنموي. النمو كمفهوم هو عبارة عن مؤشر اقتصادي يتم من خلاله احتساب كل ما تم خلقه من سلع وخدمات خلال السنة. فيما التنمية منظومة عامة وشاملة وتمس مجالات مجتمعية مختلفة وأساسية تفترض استفادة جميع أفراد المجتمع من معدل النمو. فالعلاقة بين المفهومين يمكن تلخيصها في أنه من الممكن تحقيق النمو من دون تنمية، لكن لا يمكن تحقيق التنمية بدون معدلات نمو تصاعدية، مسترسلة ومستمرة لمدة معينة.

 

كذلك يجب الإشارة إلى أن النموذج الاقتصادي هو طريقة اشتغال آليات ومكانيزمات الاقتصاد علاقة بتنظيمه وضبطه ارتباطا بقطاعاته المختلفة من فلاحة، صناعة وخدمات وعلاقات خارجية مع باقي دول المعمور. على خلاف النموذج التنموي الذي هو إطار مرجعي فكري لبلورة طريقة ومنهجية اشتغال كل آليات وقطاعات النموذج الاقتصادي من أجل إنتاج الثروة، خدمة  للمواطن والفرد وفق مسار مستمر ودامج. بعبارة أخرى، خدمة الاقتصاد لكرامة الإنسان وفق منحى متطور ومسترسل زمنيا. فالنموذج التنموي رؤية بعيدة المدى قابلة للتنزيل والتحقيق قوامها معطيات اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، فكرية وجغرافية صلب وجوهر اهتماماتها الإنسان ، عبر مسار أساسي ذو دعامتين متوازيتين:  دعامة خلق الثروة من جهة أولى، ودعامة  التوزيع العادل لثمارها بين كل أفراد المجتمع من جهة ثانية.

وإذا كان المغرب منذ استقلاله وهو يعيش في حركية دؤوبة وعمل تنموي مستمر، دخل معه مؤخرا عصر التحولات الكبرى التي تأذن وتفرض ضرورة السرعة المضاعفة من أجل كسب رهان الرفع من معدل النمو، إلا أن ما يجب الوقوف عنده والإقرار به، هو أن الدولة ظلت لوقت طويل الفاعل الوحيد في حقل السياسات التنموية  والفاعل الاقتصادي الأساسي في كل القطاعات الحيوية . فخلال هذه المرحلة بالأساس، انصب التوجه التنموي نحو تكثيف وتقوية تدخلات الدولة كفاعل اقتصادي رئيسي من خلال تبني سياسة “المخططات الخماسية للتنمية“، التي رغم أهدافها المسطرة ونتائجها التي تحققت في بعض القطاعات والمجالات ، إلا أنها ظلت تغيب عنها الرؤية الشمولية والمقاربة الالتقائية. وهي مؤثرات سرعان ما أبانت عن محدودية نتائجها، وحكمت عليها بالقصور في تحقيق الأهداف التنموية المنشودة. فرغم العديد من محاولات السلطات المركزية من أجل التأسيس لنوع من الرفاه الاقتصادي وتحريك عجلة التنمية من خلال خلق وتأسيس بعض المقاولات والمؤسسات العمومية والمجموعات الإنتاجية الكبرى المملوكة للدولة عبر آليتي  الإنتاج والتشغيل، إلا أن الواقع أبان  خلال منتصف التسعينيات في ظل ما عرف “بأزمة القطاع العام“، عن أن هذه المقاولات نفسها أصبحت عبء يثقل كاهل الدولة. ومعه دخلنا مرحلة الخوصصة، والتي أثير حولها الكثير من النقاش سار في اتجاه هل فعلا القطاع العام يعاني أزمة كما صور الوضع، وأن ضخامة القطاع العام يشكل دولة داخل الدولة، أم أن الأمر لا يعدو خوصصة تحت الطلب، وأن البلاد تتعرض للمصادرة من طرف الخواص؟

 

بعد ذلك تبنت السياسة التنموية للدولة، خيارا آخر في إطار تدبيرها المباشر لبعض القطاعات الاستراتيجية الكبرى يقوم على منح الأولوية للمشاريع الكبرى المهيكلة للاقتصاد الوطني في ظل خلق بيئة مناسبة ومجال ملائم للاستثمار الأجنبي والوطني من خلال تقوية ودعم البنية التحتية والمرافق الأساسية لذلك، إلا أن العائق الذي واجه هذا التحدي هو التباينات المجالية، والفشل في استفادة معظم التراب الوطني من مكتسبات ونتائج هذا التوجه التنموي. حيث برزت معه مشاكل عميقة مرتبطة بالتباينات الاقتصادية والاجتماعية  جعلت من المغرب مغربين مغرب المركز ومغرب الهامش أو المغرب العميق، وهو ما كرس المقولة الاستعمارية “المغرب النافع والمغرب غير النافع.” الأمر الذي عجل بمناداة  الأكاديميين والخبراء الاقتصاديين والسياسيين بمطلب العدالة المجالية والإنصاف الترابي.

فالحديث عن “النموذج التنموي المغربي “، لم يكن متاحا ومطروحا قبل سنة 2002،وهي السنة التي اعتمد خلالها المغرب مسار “التدبير الاستراتيجي للتنمية” بدل “التخطيط الاستراتيجي”.

ونظرا، لما  لقدرات الدولة ومؤسساتها الحية داخل المجتمع في اختيار وتبني الاستراتيجيات المدروسة والجيدة ، وأن تسخر لذلك العنصر البشري الكفء والمؤهل لتنزيل وأجرأة تلك الاستراتيجيات وفق أبعاد تنموية منسجمة وبطرق تلامس نبض المجتمع ، ليعد رهان أساسي في نجاح أي نموذج تنموي. فالظرفية تستدعي بلورة نموذج تنموي جديد تطلع فيه الحكومة – بناء على انتظارات وتطلعات الساكنة –  بمهمة هندسة جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، قصد اعتمادها كدعامات ورافعات حقيقية لبناء مقومات النموذج التنموي الجديد وتنزيل مخرجاته التي ينبغي أن تجيب عن تساؤلات التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المغربي من جهة، وعلى تفاعلات السياسات المالية الدولية والتكتلات الاقتصادية والسياسية العالمية من جهة ثانية. بعبارة أوضح، أن النموذج التنموي الجديد مطالب بأن يحقق ضمان تكافؤ الفرص لمجموع المواطنين، وأن يسهر إلى أبعد حد على التقليص من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمجالية. إنها رزنامة من الإجراءات والرؤى الإصلاحية التي من شأنها إعادة صياغة الاختيارات الماكرو- اقتصادية للبلاد في مجال السياسات الاقتصادية ، سيما الضريبية والمالية والنقدية.  فالحديث عن وضع وصياغة  أي “نموذج تنموي” لا بد أن يرتكز على دعامتين أساسيتين:

* دعامة مرتبطة بآليات إنتاج الثروة والقيمة الاقتصادية المضافة، أي الوجه الاقتصادي للنموذج.

* ودعامة آليات توزيع الثروة وثمار النمو الاقتصادي ، أي الوجه الاجتماعي للنموذج.

 

فالجميع يقر اليوم بحاجة بلادنا الملحة لنموذج تنموي جديد، وهي الحاجة التي طغت على السطح بعدما أصبحت  الخطط والبرامج التنموية المطبقة غير قادرة على الاستجابة لحاجيات المواطنين واستنفذت كل امكانياتها في تنمية الغد والمستقبل على المديين المتوسط والبعيد. وبات من الضروري اعتماد نموذج يسمح للمجتمع المغربي بمواجهة التحديات المستقبلية الكبرى.

ومسألة تبني وبلوة نموذج تنموي تطرح العديد من الإشكالات التي تتطلب الإجابة الصريحة والمسؤولة عنها، تتسم بالموضوعية وبعيدة كل البعد عن أساليب المجاملة والتنميق ولغة الخشب. فجلالة الملك في خطابه يلح ويدعو ” للتحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي ، إننا نريدها وقفة وطنية  جماعية قصد الإنكباب على القضايا والمشاكل التي تشغل المغاربة، والمساهمة في نشر الوعي بضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام تحقيق التقدم الشامل الذي نطمح إليه… ”  فالأمر يقتضي تحديد أي نموذج تنموي نريد؟ طبيعته؟ مجالاته؟ مدى واقعيته؟ متطلباته المالية والبشرية؟ ممكناته وحدوده؟ أي قطاع خاص نريد كرافد ودعامة من بين دعامات النموذج التنموي؟ طريقة وسبل مساءلة الوضع الاقتصادي الراهن؟ هي كلها اشكالات عميقة تجسد كنه وجوهر اشتغال اللجنة المختصة، المؤسسات الإدارية وهيئات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وكل القوى الحية داخل المجتمع ، من أجل إنتاج  وخلق الثروة وتوزيع مصادرها وثمارها بشكل عادل وطنيا، جهويا ، إقليميا ومحليا بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش للأفراد والجماعات والمجالات الترابية  ودون أدنى خلق للاستثناءات والمفارقات في ظل اقتصاد الندرة، حيث قلة الثروة في مواجهة انتظارات تتطور وحاجيات  تتنوع وتتعدد.  وكل هذا رهين وفي جزء كبير منه بضرورة مساءلة ذواتنا والإجابة بمصداقية على سؤال: النخبة التي ستقود النموذج التنموي؟ إنه سؤال/ رهان تجديد النخبة الذي ظلت الإجابة عنه مستعصية داخل المجتمع المغربي ضمن محطات متعددة ولزمن ليس بالهين ظل يراوح مكانه. فمن التناقض وغير المنطقي وهدرا للوقت والإمكانات أن نبلور نموذج تنموي جديد تقوده أفكار وعقليات نخبة قديمة، هي ذاتها غير قادرة على التكيف مع محيطها وعاجزة عن كسب رهان العصرنة والتحديث. فلا يكمن الحديث عن نموذج تنموي جديد بنخب قديمة، لكل زمن رجالاته، ورجالات النموذج التنموي الجديد عليها أن تبدع وتبتكر في تجسيد مقومات نموذج تنموي يواكب التحولات العميقة للمجتمع المغربي بما يتلاءم والإكراهات الدولية التي لا محيد لبلادنا في التعامل معها. فإذا استطاع النموذج التنموي الجديد الإجابة عن هاته الإشكالات التي هي انشغالات وانتظارات، وفق مقاربة ذات بعدين تشاركي وشمولي، موازاة مع رفع تحدي تجديد النخب وإعادة النظر بشأنها، سوف يوفر الأرضية الملائمة  لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية  وإنعاش النمو الاقتصادي ارتباطا بتثمين الديمقراطية في علاقتها بكل أوجه  الحق في التنمية من قبيل: الحق في الكرامة، الحق في التعليم، الحق في الصحة والحق في الشغل والسكن اللائق. إنها التنمية التي أساسها الإنسان ومن أجل الإنسان. فبالرغم من أن السياسة ومخرجاتها هي إمكانية الاختيار دونما إقناع الجميع بنجاعة الحل ،كما يقول أستاذ علم السياسة الفرنسي “جان ماري دانكان “،  إلا أنها تتطلب حدا معقولا من العدالة الاجتماعية  والتوزيع العادل  لثمارها وثرواتها.

فبلورة نموذج تنموي جديد، مختلف عما هو عليه الوضع الراهن ، حيث الاشتغال لا يعدو عن كونه  نموذج للتدبير العمومي للشأن العام، يتطلب أولا: الإيمان والدفاع عن كون الاقتصاد علم اجتماعي بالأساس، والغاية المثلى وراء العملية الاقتصادية هي تلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين والمواطنات وفق استراتيجية القرب منهم وتبني انشغالاتهم وتطلعاتهم واحترام  الخصوصية في أولوياتهم والتجاوب معها. وثانيا: الانخراط الجاد والمسؤول في الخيار الديمقراطي والتنموي للبلاد والرفع من نجاعة المؤسسات عبر الاشتغال على تغيير العقليات لدى مسؤولي التنمية في بعدها الوطني والترابي. فتدبير الشأن العام يحتاج وعلى وجه السرعة إلى ثورة فعلية ثلاثية الأبعاد والمنطلقات، تهم مبادئ التبسيط، النجاعة والتخليق. إننا فعلا نريد مغرب قرارات القرب والفعالية. إذ من أهم أسباب أزمة التنمية بالمغرب، غياب الحكامة في التخطيط، وضعف الرقابة في التنفيذ، فضلا عن هيمنة المقاربة التكنوقراطية على المقاربة التشاركية، مع الاشتغال بمرجعية ليبرالية عبارة عن وصفات لصندوق النقد الدولي الذي كان يفرض علينا لحدود أواخر التسعينيات طريقة العمل ومجالاته،  وبالتالي اتضح جليا أن هناك مغرب يسير بسرعتين ، مغرب المخططات الكبيرة والضخمة التي استفادت من تمويلات باهضة ومكلفة، ومغرب وقع  وتأثير تلك المخططات على المواطن التي تظل محدودة وحصرية، الأمر الذي أدخلنا في دوامة الفقر ينتج الفقر.

 

المحور الثاني: دراسة حالة وتشخيص وضع: منطقة زراعة “نبتة الكيف”.

 

من وجهة نظرنا المتواضعة، نؤمن أن لحظة التشخيص والتوقع يجب أن تقود إلى الوقاية، وإلى إنتاج أمصال اقتصادية، اجتماعية، سياسية، فكرية وثقافية. إنتاج أمصال عقليات قادرة على الحد من آفات الأعطاب التنموية وإيقاف شرورها.

فالرهان اليوم، بل التحدي التاريخي الذي جادت به هذه الظرفية ليس الركون لاعتقاد أن الوضع ومعه المستقبل بالغ التعقيد وعديم اليقين، وبالتالي الاكتفاء بالحاضر ونترك أنفسنا وأشرعة سفن سياساتنا العمومية  للرياح والتيارات تأخذنا حيث تشاء. فمن السهل جدا العودة إلى الوراء وانتظار ظهور الصعوبات واستفحالها لمحاولة تقديم حلول لها. والتي لن تكون سوى مسكنات وردود أفعال في سياق مرتجل، أي ما يعرف بمنطق “الأجل القصير”، حيث طغيان الأمور الطارئة والملحة، وغياب للزمن في بعده التنموي المبني على التوقع والتخطيط، بل فقط وضع يلغي من خلاله الحاضر للماضي،ويظل أعمى عن المستقبل. وهو ما طبع ولازال يطبع بعض قطاعاتنا التنموية وسياساتنا العمومية التي عبر أبسط نبش للذاكرة، تقدم لنا وبخطوط عريضة وضمن جوانب ومجالات متعددة عجز أسلافنا خلال القرن العشرين وما قبله، عن مواجهة الأعطاب المتصاعدة للتنمية. فديكتاتورية “الوقت الفوري”  وغياب الفكر والرؤية، وعدم الاستعداد المزمن وبحماس عقيم في ظل هيمنة للمكسب القصير المدى للزمن التنموي، لا تترك للأفراد والمجتمعات بمؤسساته وتنظيماته خيارا سوى الاستسلام لطغيان اللحظة، أو خيار التكيف مع التطورات لكن بعد فوات الأوان غالبا.

ولكي لا نكون تحت رحمة الظروف في مستقبل يزداد تعقيدا وغير يقيني، ورغبة في استعادة السيطرة على مصيرنا، يجب أن نستعيد الزمن الطويل، يجب أن نمد أنظارنا إلى الأمام، إلى أبعد حد ممكن. يجب أن نتوقع الاتجاهات،وأن نكتشف الحاضر عن عمق باعتباره الحضانات التي ينشأ فيها المستقبل، وتفرخ من خلاله معالمه وآفاقه وانتظاراته. ففي هذا الباب، وإذا كنا مدركين بأن هناك نقص في العمل والفعل التنموي، فأيضا يجب أن ندرك بالموازاة، أن هناك نقص في الرؤية وفي الشجاعة السياسية للحكومات المتعاقبة. وهو ما يجعلنا الآن مجبرين على طرح المشكلات على أنفسنا مهما كانت ضخامتها وقساوتها، حتى لا نكون غدا وبعد غد مطالبين بمحاسبة ذواتنا كقوى حية داخل هذا المجتمع، وكمسؤولي ومدبري الشأن العام به، على القرارات التي لم تتخذ أو تلك المتخذة بعد فوات الأوان. كما أننا لم نعد قادرين على تقديم المزيد من الاعتذارات داخل حيز الأعطاب التنموية التي عرفتها وتعرفها بلادنا. سيما وأننا أمام لحظة تاريخية بمثابة ساعة الحقيقة، لتفادي عبئا على مجريات المستقبل. وهذه اللحظة التاريخية تفرض علينا طرح سؤال أني وراهني على ضميرنا الجمعي مفاده، هل من الممكن أن نسمح لأنفسنا بأن تلومنا أبناءنا والأجيال القادمة على أننا كنا ربابنة سيئين، وبدلا من أن نكون في مستوى تحديات الزمن واللحظة التاريخية ذات الحمولة التنموية، قذفنا بسفينة أمتنا إلى صخور دلت عليها الخرائط البحرية، وكشفت عنها أنظمة الملاحة بوضوح؟؟.

لقد قال ثيوسيديد THUCYDIDE   منذ زمن بعيد بأن ” القائد السياسي لا يجب فقط أن يكون له يدان نظيفتان، بل يجب أن تكون له أيضا عينان صافيتان“. وهو الأمر الذي يجب أن ينطبق اليوم على المسؤول والمدبر الإداري. فنحن نعيش لحظة أزمة نموذج تنموي، وفي لحظات الأزمة “يغدو الخيال أهم من المعرفة”  كما قال ألبيرت أينشتاين. إنه الخيال في التوقع وبعد النظر في الأبحاث والتقديرات المستقبلية التي يجب ترجمتها إلى فعل واحتياط ووقاية. فالاشتغال على التنمية حسب النموذج التنموي الذي جاء به خطاب جلالة الملك هو اشتغال ذو بعد شمولي، أي التنمية في تمثلاتها التي تتجاوز التنمية الاقتصادية المادية وبنيات تحتية  وغيرها، إلى صناعة وتركيب العقل الاستراتيجي وصناعة القدرات والفكر، وإلا سنسقط في تنمية حسب الطلب وبالتالي سنكون نسيء للمستقبل وربما نسهم في إذكاء وتوسيع هوة اختلالات وتفاوتات الماضي القريب. فكلنا مجمعين على أننا نريد مغرب المواطنة، مغرب تكافؤ الفرص، مغرب الاعتراف بقدرات الفرد وضمان حرياته الفردية والجماعية…، مغرب البناء المشترك.

وفي هذا السياق أريد أن أتحدث عن حياة والمعيش اليومي لشريحة مهمة من سكان بعض أقاليم جهة الشمال، سيما ساكنة أقاليم شفشاون، وزان، العرائش، تطوان والحسيمة، والتي تمتهن زراعة نبتة الكيف، لظروف أملتها عدة عوامل تاريخية ومعطيات جغرافية في ظهورها وانتشارها، لا يسمح المجال للتفصيل فيها. وإذ نثمن انفتاح اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على الفعاليات السياسية والاجتماعية وهيئات المجتمع المدني وبعض الهيئات الدستورية والمؤسسات العمومية واقعيا، وكذلك في العالم الافتراضي، وتبنيها للمقاربة التشاركية لما لها من أهمية في بلورة وتنزيل نموذج تنموي يعكس نبض المجتمع ومختلف قواه الحية كما دعا لذلك جلالة الملك . ويتضح أن واقع الحال فرض على أعضاء اللجنة النزول إلى الميدان في بعض جهات وأقاليم المملكة للإنصات عن قرب إلى مطالب الساكنة وتطلعاتها وانتظاراتها ، وأيضا لمعاينة الحقيقة عن قرب وملامسة كل جوانبها في مهدها بعيدا عن ما يحكى أو ما تشير إليه  بعض التقارير والدراسات الرسمية أو الصحفية وغيرها. إن مثل هذا النهج  فعلا سيجعل اللجنة تقف على حقيقة مغايرة ، تتجاوز لغة الأرقام والإحصائيات وحتى قد تكشف الكثير من القصور في رؤى ونظريات ومذكرات العديد من الفعاليات السياسية والحزبية وغيرها.

في هذا الإتجاه، نرجو من اللجنة أن تضع ببرنامجها حيزا مهما للزيارات الميدانية لكل مناطق العالم القروي والأرياف المعزولة  بالمغرب العميق، لما تتيحه هذه الزيارات لأكبر قدر من إمكانية رصد نبض الساكنة، والوقوف على حجم معاناتها  وأزماتها السوسيو اقتصادية  والاختلالات البنيوية  والخصاص المهول على مستوى البنيات التحتية من طرق ، وتجهيزات المرافق العمومية الأساسية  من  مستوصفات صحية ، مدارس ونقل… دون الحديث عن بنيات ووحدات القرب الخاصة بالشباب من ملاعب القرب ودور الشباب وغيرها…..، وبالتالي توجيه البوصلة نحو عمق الاولويات الملحة و الجوهرية لهاته الشريحة السكانية التي تتلخص معاناة آلاف منهم في الشعور الدائم بالخوف بسبب الاعتقال أو البحث عنهم لمخالفتهم  القانون باستمرار والتي هي مخالفة مستمرة في الزمان والمكان بحكم زراعة نبتة الكيف، التي جعلت من هذه الفئة من الساكنة تعيش وضع سجناء مع وقف التنفيذ. وإذا كانت القاعدة القانونية تقول أن المتهم بريء حتى تثبث إدانته، فالوضع بالنسبة لهذه الفئة من  الساكنة أن الجميع متهم  حتى تثبث براءته. وهو ما جعل العنصر البشري في هذه المنطقة خارج الزمن التنموي وخارج العمل المؤسساتي بكل أشكاله، وفي تنافر وخوف دائم من الإدارة، بل الى حد الصراع بينه وبين السلطة المحلية ، الدرك الملكي وإدارة المياه والغابات، ثلاثي الرعب بالنسبة له. فالعائلات تعيش خوفا متواصلا من اعتقال أحد أفرادها، إلى حد بات اجتماع كل الأفراد على مائدة واحدة حلما صعب تحقيقه. فالساكنة بهذه المنطقة تعيش مآسي اجتماعية ونفسية كبيرة كونها ملاحقة، ويرفض الكثير من المزارعين الظهور في الأماكن العمومية خشية الاعتقال.  لدرجة أصبح اقليم شفشاون  يعرف نسبة مرتفعة جدا على المستوى الوطني في ظاهرة الانتحار. والتي أضحت  الوصفة المفضلة والوجبة الخلاص لاحتساء المرارة بطعم مأساوي .

فواقع مزارعي نبتة الكيف يغني عن السؤال والقضية تحتاج حلولا جذرية وواقعية وملموسة بعيدا عن وصف الثراء المزيف المشاع بهتانا عن المنطقة عموما. ففعلا اذا كانت زراعة الكيف قد أغنت فئة المهربين الذين يتوزعون بين القليل من أبناء المنطقة، والغالبية من الوافدين من خارجها، إلا  أنها من جهة ثانية ساهمت في عزلة وتهميش المنطقة وتشويه سمعة أبنائها. فشباب المنطقة يعيشون بين مطرقة السمعة السيئة التي تطال أبناء مزارعي نبتة الكيف من طرف المجتمع، وسندان افتقار المنطقة لأبسط البنيات التحتية من طرق ومستشفيات ومرافق عمومية ومؤسسات ثقافية. علاوة على غياب بدائل اقتصادية حقيقية تسهم في الاستغناء عن زراعة هذه النبتة.

فالظرفية الراهنة تستدعي أن نكون عمليين أكثر من اللازم، وأن نقيس الأمور بما يخدم الواقع ويرفع تحدياته الجمة، عبر الأخذ بعين الاعتبار ما خلصت إليه مخرجات التشخيص الجريء والإلمام بكل شجاعة بالمشاكل الحقيقية للوضع ونتائجه، قصد بلورة بدائل اقتصادية واجتماعية وفق مقاربة شمولية بعيدة عن البيروقراطية والمقترب الأمني المحض، حتى نقترب من صناعة  معالم تنمية محلية، تحكمها آليات  وبرامج العمل التشاركي، وليست تنمية مركزية الصنع. وتحقيق ذلك رهين في جزء كبير منه بنزول لجنة النموذج التنموي لهذه المناطق من أجل الوقوف  عن قرب  وميدانيا على أحوال المنطقة، أعطابها وانتظارات ساكنتها، حتى يتسنى القيام بتشخيص دقيق وعميق للوضع، نستطيع من خلاله طرح بدائل اقتصادية واجتماعية قابلة للتحقيق ومتوافق بشأنها لما يخدم المنطقة وساكنتها ومعها الاقتصاد الوطني. سيما ونحن ندرك أن المهام المنوطة باللجنة الخاصة للنموذج التنموي تتمحور حول هدفين أساسيين: أولهما، تشخيص دقيق وموضوعي للوضع الحالي بغية رصد الاختلالات التي يجب تصحيحها وتحديد معالم القوة من أجل تعزيز المكتسبات. وثانيهما، رسم معالم النموذج التنموي المتجدد الذي من شأنه أن يمكن المغرب من الولوج على مصاف الدول المتقدمة. فمشروع التنمية الناجحة في عصرنا الحاضر،وحسب العديد من التجارب المقارنة، مقرون بمنح المواطن أيمنا تواجد وأينما كان، الإيمان والقناعة بأنه قادر على المساهمة بمجهوده الفكري والمادي وبرؤيته في تنميه محيط  عيشه وبيئته الثقافية في تفاعل الانسان ، التراب والخصوصية المحلية من أنشطة وتقاليد ومعتقدات وأعراف. فالنموذج التنموي الجديد نريده أن يؤسس ويوطد تحالفا مجتمعيا جديدا من أولوياته، إعادة بناء التضامن والحد من الفوارق الطبقية والمجالية التي تؤدي إلى اليأس والحرمان.  إنه فعلا علينا أن نبدع لأنفسنا ولمجتمعنا طرقا للنضال ضد “الأبارتهايد الحضري”، وكيف يمكن أن نغير المدينة والعالم القروي، ومعها تغيير الحياة وأساليبها. علينا أن ننتقل من تقسيم ترابي قائم على الخيارات السياسية إلى تقسيم ترابي مبني ومؤسس على خيارات ومقاربات  تنموية، و التي بدورها يجب أن تكون واضحة المعالم من أجل إرساء أسس عقد اجتماعي جديد لا يقوم على الإقصاء، بل على احترام أكبر لكرامة كل فرد ولطموحاته المشروعة. إنها جدلية التنمية بالديمقراطية التي تعني في جانب من جوانبها توسيع خيارات الإنسان واختياراته وضمان حقوقه وكرامته، مما يسهم في ترسيخ شعور الانتماء والمواطنة الصادقة لدى المواطنين، ويدفع بهم لمزيد من الرغبة في التقدم والرقي والبناء في إطار علاقة ثقة متبادلة بينهم وبين الدولة. وهي الثقة التي تظل أساسية وضرورية لبناء أي نموذج تنموي كيفما كانت طبيعته، والتنمية  تنضج  وتعطي ثمارها في جو مفعم بالثقة وحب الوطن. لهذا فالنموذج التنموي الجديد يجب أن يحرص على إعادة الثقة بين المواطن والدولة، من خلال تجسيده للفعل الديمقراطي الرصين، المتجذر في الوعي الجماعي  بعيدا عن الديمقراطية باعتبارها مجرد قوانين ومؤسسات، بل ضرورة إعادة ربط المواطنين بمؤسسات الدولة التي ينبغي أن تكون في اخر المطاف انعكاسا لإرادتهم وسلطتهم. على اعتبار أن بناء نموذج تنموي ليس مهمة مؤسسة من المؤسسات أو سلطة من السلط، وإنما هو مهمة الأمة وبكل قواها الحية. فالتراب بالنهاية هو نتاج تفاعلات خاصة تتداخل فيه معطيات مادية من موارد طبيعية وجغرافية متعددة، ومعطيات لامادية مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية والمعرفية وحتى السياسية… والتي في في تفاعلاتها المستمرة والمتواصلة تشكل هوية خاصة وخصوصية لمجال ترابي معين تميزه عن باقي المجالات الترابية الأخرى. أي أن التراب بعبارة أوضح ليس مجرد معطى جغرافي، بل كيان وفضاء معاش من لدن مجموعة بشرية ذات صلة وثيقة به وارتباط ات متينة له، تشكل بالنهاية الانعكاس الطبيعي لهاته الارتباطات والعلاقات في تفاعلاتها وتدافعها.

وبالعودة إلى تركيز الحديث على هذه الفئة من ساكنة أقاليم الشمال، وبعيدا عن المزايدات السياسية والخرجات الحزبية التي يظل همها الأكبر الانتخابات ودغدغة مشاعر المواطنين بهذه المناطق واللعب على وترهم الحساس، في إطار ما يرتبط  بفكرة تقنين نبتة الكيف. وهي الفكرة التي لا نرى فيها الأمل والمستقبل للمنطقة، بقدر ما يجب من وجهة نظرنا تشجيع السياحة الجبلية وخلق الجو الملائم  والبيئة المناسبة للاستثمار في هذا القطاع، واستغلال الإمكانيات الطبيعية للمنطقة والاستثمار في العنصر البشري من أجل أن يتصالح كمرتفق مع الإدارة أولا، ثم من أجل تأهيله للانخراط في العمل الجمعوي ومؤسسات المجتمع المدني، وكذلك إذكاء روح العمل التعاوني لديه من خلال تأسيس تعاونيات تخدم منتوجات الاقتصاد المحلي من صناعة تقليدية ومنتوجات فلاحية وغيرها. وعلى الدولة والجماعات الترابية أن تلعب دورا رياديا في مسألة تشجيع ورش السياحة الجبلية بالمنطقة وتسويقها من خلال العديد من الآليات من قبيل: تشجيع الإنتاج التلفزيوني والسينمائي بالمنطقة قصد التعريف بمؤهلاتها الطبيعية، وكذا تنظيم معارض وطنية ودولية تخدم المنطقة وثقافتها وموروثاتها التاريخية. سيما وأن الوضع جد مناسب حاليا في ظل البرنامج المندمج الذي أطلقه جلالة الملك نصره الله والمتعلق بدعم وتمويل المقاولات، والذي في جزء كبير منه يركز على المستثمر / المقاول القروي، ويحمل في طياته جينات ثورة خضراء وعالم قروي منتج قادر على تجاوز ومحو المعالم القدحية في واقع مقولة المغرب العميق. حيث جيل جديد من القروض لدعم المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة ، مصحوبا بالمواكبة والمصاحبة والتكوين النظري والتقني وفق نسب فائدة جد مشجعة وغير مسبوقة بعيدا عن الضمانات الشخصية المادية التي ظلت إلى جانب التمويل، الإشكال الأساسي وحجر عثرة التي عانت منه البرامج الوطنية السابقة في هذا المجال. فبلادنا، أضحت ورشا مفتوحا على جميع الأصعدة، فقط على شبابه  الذي هو عماد التنمية ، وعلى ومسؤوليه ومدبري الشأن العام  من  رجال سلطة، منتخبين، فاعلين اقتصاديين ومهنيين ومراكز جهوية للاستثمار  والقطاع البنكي  أن  يلتقطوا الإشارات ويبادروا وينطلقوا  نحو التغيير من أجل إقلاع المغرب. وذلك عبر تأهب الجميع و التعبئة الشاملة  من أجل العمل يدا في يد لإنجاح هاته الأوراش التنموية. فخوض غمار التنمية محليا، جهويا، وطنيا وقاريا هي الطريق نحو تنمية وطنية مستقبلية شاملة ومتكاملة. وانفتاح بلادنا على مزيد من الأوراش هدفه الجوهري سد الحاجيات وتأمين المتطلبات والخصاص وتحقيق النماء وتنويع المشاريع والمنجزات في إطار مقاربة تصبو إلى تأهيل العنصر البشري وتثمين مؤهلات الجهات لكسب رهان التنمية المندمجة والمتوازنة. ولعل خريطة طريق من أجل تطوير قطاع التكوين المهني  وبرنامجه الخاص المتعلق بخلق مدن المهن والكفاءات، التي هي جيل جديد من مؤسسات التكوين والتتبع ذات أقطاب متعددة حسب القطاعات الأساسية للاقتصاد الوطني، مهامها الأساسية توفير التكوين في المهن  الأساسية الكلاسيكية مع تحيينها وجعلها مواكبة للمستجدات العصرية، إضافة إلى المهن الجديدة ، مهن المستقبل التي تستجيب لحاجيات النسيج الاقتصادي للجهة، من أجل تحفيز تنافسية المقاولات وخلق القيمة على المستوى المحلي.

وأمام الطفرة المهمة التي يشهدها النشاط السياحي خلال السنوات الأخيرة ، والتي أصبحت معها منطقة البحر الأبيض المتوسط قطبا سياحيا بامتياز لأكثر من 100 مليون سائح. يمكن للقطاع الغابوي ببلادنا، والذي يمتد على ما يقارب حوالي تسعة ملايين هكتار، أن يلعب دورا أساسيا في  السياحة البيئية . سيما في ظل الاستراتيجية الأخيرة “غابات المغرب”، التي جاءت لتصالح بين المجال الغابوي والساكنة المجاورة له، من خلال  أربعة ركائز مهمة، والتي تتمثل في :

1- خلق نموذج جديد في تدبير القطاع الغابوي، يعتمد على مقاربة تشاركية تسمح للساكنة المحلية بالأساس في بلورة هذا التدبير والسهر عليه. وهو أمر أساسي جدا يمكن تسخيره في خدمة السياحة الجبلية عبر محميات طبيعية محلية تتماشى ومؤهلات الجهة وخصوصياتها، تخدم التسويق الترابي أولا، وتذر مدا خيل جديدة لفائدة الساكنة المحلية والاقتصاد الجهوي ثانيا.

2- تدبير وتطوير الفضاءات الغابوية  عبر عدة برامج منها تشجيع الاستثمار الخاص. وهنا التوجه  نحو خلق وحدات ومشاريع سياحية تتماشى والمؤهلات الطبيعية للمنطقة. وإعطاء الأولوية في هذه المشاريع  لأبناء الساكنة المجاورة للقطاع الغابوي، وتشجيعهم على مثل هذه المشاريع وفق أساليب تحسيسية  وتوعوية بأهمية الغابة في التنمية المحلية ببعد إيكولوجي يحافظ ويثمن هذا الموروث الطبيعي.

3- تطوير وتحديث المهن الغابوية ، وانشاء مشاتل غابوية حديثة بمواصفات عصرية بشراكة مع القطاع الخاص ولا سيما المحلي منه.

4- الإصلاح المؤسساتي لإدارة المياه والغابات، بما يخدم مصالحة المغاربة بمختلف شرائحهم مع المجال الغابوي ، مع ضرورة تخصيص الساكنة المجاورة للغابة بوضع خاص ومقتضيات قانونية خاصة تسمح بكسب رهان أن يصبح الغابة في صلب اهتما تهم التنموية، ومجالا تدبيريا  بالنسبة لهم في ظل الوصول لحس الحرص التلقائي على ضرورة حماية الغابة وباقي عناصر الثراث الطبيعي.

 

فالنموذج التنموي المأمول، بناء يهم الأجيال الصاعدة والمستقبلية، والبناء للمستقبل يتطلب أساسات وأرضية صلبة ومتينة. ومن بين البناءات الصلبة التي راهن عليها المغرب اليوم هي المقاولة الشابة – نسبة للشباب- ،في تقاطعها مع الجامعة والتكوين المهني في خارطة طريقه نحو مدن المهن والكفاءات، وبرنامج الجيل الأخضر باعتباره الامتداد الرسمي لبرنامج المخطط الأخضر، علاوة على البرنامج الوطني 2020- 2027 للماء، واستراتيجية غابات المغرب ، في إلتقائية بأوراش مهيكلة أخرى من قبيل: إصلاح الإدارة وتنزيل اللاتمركز الاداري، علاقة بالاستثمار ومؤسساته العمومية من رجال السلطة ومنتخبين وقطاع خاص ومجتمع مدني كدينامية جماعية وشمولية قادرة على أن تعطي ثمارها  الأولى في المستقبل القريب والمتوسط. إلا أن مسألة تنزيلها وفق حس المواطنة المسؤولة والجدية في العمل، بعيدا عن الحسابات الضيقة والانسياق وراء امتيازات ريعية نفعية لطرف على أخر أو مجال على حساب أخر، هي السبيل خلال العقود اللاحقة، لدخول بلادنا نادي الدول الصاعدة في المستقبل القريب، وتجاوز نادي الدول السائرة في طريق النمو.

 

فمستقبلنا ليس مكتوب في أي مكان ، إنه بين أيدينا جميعا. ”  “وبعد النظر واجب، وقصره جريمة”. “وفكرة التنمية في القرن الواحد والعشرين تقوم على الذكاء أكثر مما تقوم على المادة، وعلى التعليم والمعرفة أكثر مما تقوم على الدم والعرق.”

 

إننا في حاجة إلى استقرار بناء وحقيقي، استقرار اقتصادي، اجتماعي ونفسي … قادر على صيانة الحقوق والحريات وتكريس العدالة الاجتماعية، لا فرق بين المواطنين أمام القانون، وفي ولوج خدمات المرفق العمومي من تعليم، صحة وشغل… مغرب تكافؤ الفرص من أجل شق طريق نحو مستقبل مشترك يضمن حياة آمنة للأجيال الصاعدة. ففي تنمية الاستقرار، استقرار للتنمية واستمراريتها.

 

إن الاستراتيجيات المجالية الحديثة، والتي تحمل قيم تقاسم السلطة بين المركز والمحيط، والاعتراف بالبعد الاستراتيجي للتراب في التنمية، جعلت من الوحدات الترابية في تصوراتها الجديدة، انعكاس وإسقاط مباشر للفكر المقاولاتي ، وبالتالي فالمجال الترابي ما هو إلا مقاولة وجب عليها أن تكون فاعلة  ومنافسة وقادرة على تسويق ذاتها ومقدراتها ومؤهلاتها الطبيعية والرمزية ورأسمالها المادي واللامادي من أجل جذب الاستثمار وعقد اتفاقيات تعاون وشراكات، خدمة للفعل التنموي ونواته الصلبة الذي هو الإنسان باعتباره محور التنمية الترابية.  وهذا هو رهان ورش الجهوية المتقدمة في فلسفتها العميقة، وأهدافها الكبرى في المستقبل القريب.

وختاما، يقول جلالة الملك  نصره الله في إحدى خطبه السامية : ” إننا نعرف جيدا أن هناك من يخدم الوطن بكل غيرة وصدق، كما أن هناك من يريد وضع الوطن في خدمة مصالحه. هؤلاء الذين جعلوا من الابتزاز منهجا راسخا، ومن الريع والامتيازات حقا ثابثا، ومن المتاجرة بقضايا الوطن مطية لتحقيق مصالح ذاتية.”

 

 

 

 

 

 

 

 

*  محمد أقريقز، دكتور وباحث في القانون العام، طنجة.

 

 

 

 

 

  • لائحة بعض المراجع المعتمدة:

 

1- دستور المملكة  لسنة 2011.

2- القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية.

3- التقارير الرسمية .

4- البرامج الإذاعية و التلفزية.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى