حسن السايحي: باحث في العلوم القانونية (سلك الماستر)
بعض الإختصاصات المدنية والجنائية للقاضي الأسري .
مقدمة
تعتبر الأسرة النواة والخلية الأساس للمجتمع ورمز صلاحه واستقراره، لذلك حظيت باهتمام وحماية خاصة من قبل المشرع المغربي، سواء أثناء تكوينها من خلال تنظيم الرابطة الزوجية أو بعد انحلالها، بغية الحفاظ على هذه المؤسسة من الإندثار باعتبارها منظومة أخلاقية ومدرسة تربوية تهيئ أجيال الغد.[1]
ومن ثمة كان لابد من إسناد مهمة حماية هذه المؤسسة للقضاء باعتباره، الحارس والضامن الحقيقي للحقوق و الحريات الأساسية للأفراد، فالأسرة قديما بحكم التقاليد والأعراف كانت لا تلجأ للمحاكم لمعالجة مشاكلها، بل كان يحل ذلك عن طريق الصلح بين العائلتين ولا يمتد إلي غيرهما.
و في ظل تطور الحياة في شتي المجالات وانقال الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، ومن أسرة غايتها المودة والرحمة و الإستقرار إلى أسرة مادية صرفة، تفاقمت المشاكل وازدادت الصراعات وأصبحت المحاكم تعج بعدد القضايا المعروضة عليها، تشكل منها قضايا الأسرة حصة الأسد.
لقد دشن قانون الأسرة تحولا جذريا في دور القضاء وصلاحياته في القضايا ذات الصلة بالأسرة، بحيث لا يقتصر دوره فقط في الفصل في الدعاوي والمنازعات الأسرية وإصدار الأحكام، بل يمتد إلى البحث عن حلول تحمي حقوق أفرادها في نفس الوقت الذي تحمي فيه المصلحة الجماعية للأسرة.[2]
لذلك فدور القضاء في حماية الأسرة يكمن في دور واقي حمائي، عن طريق تعويض المضرور في العلاقات الأسرية، ودور رادع للتوفيق بين مقتضيات الزجر عن مختلف الأفعال التي تتمظهر بها جريمة إهمال الأسرة وبين مقتضيات الحفاظ على أمن للأسرة وحمايتها من الإندثار.
وتبرز أهمية التعويض عن الضرر في النزاعات الأسرية عامة و النزاعات الزوجية على وجه الخصوص، في إطار انفتاحها على قواعد المسؤولية المدنية الأمر الذي جعل من القواعد العامة في القانون المدني مصدرا من مصادر مدونة الأسرة، خاصة في جانبها المرتبط بتطبيق نظام المسؤولية المدنية لا سيما وأن المشرع أقر التعويض سواء في الخطبة حالة إلحاق الضرر عند العدول عنها من الطرف الآخر، أو من خلال تأكيده على الطبيعة التعويضية للمتعة في حالتي التطليق للشقاق والطلاق للضرر، إلى جانب الدور الزجري الرادع للمدونة وذلك بانفتاحها على مقتضيات القانون الجنائي، بترتيبها مقتضيات زجرية حالة إهمال الأسرة.
وبشكل أدق، فأين تتجلي بعض مظاهر التدخل المدني والزجري للقاضي الأسري؟
والتصميم كخطة لتنزيل الجواب عن الإشكالية ، ارتأيت مقاربته من زاويتين إثنتين وفق ما يلي:
- ثانيا: الإختصاص المدني للقاضي الأسري.
- أولا: الإختصاص الجنائي للقاضي الأسري
أولا: الإختصاص المدني للقاضي الأسري.
من بين المقتضيات الهامة التي كرستها مدونة الأسرة في هذا الباب، انفتاحها على قواعد القانون المدني وبصفة خاصة ما يتعلق بقواعد المسؤولية المدنية والتنصيص صراحة على إمكانية تعويض الطرف المتضرر من الزوجين إذا ثبت مسؤولية الطرف الآخر عن هذا الضرر، كما قد يمتد التعويض حتي في حالة فسخ الخطبة إذا كان هذا الفسخ من أحد الخطيبين مقرونا بالتعسف.[3]
1: تعويض المضرور عن الإنهاء التعسفي للعلاقات الزوجية.
نظرا لما تمثله الأسرة من دور هام في التماسك كخلية للمجتمع، أولتها الشريعة الإسلامية اهتماما بالغا وجعلت الزواج الإطار الشرعي المؤسس لها، واعتبرته ميثاقا غليظا لقوله تعالى: وأخذنا منكم ميثاقا غليظا”. إلا أن العلاقات الزوجية تتخللها خلافات تتسبب في تفكك هذه الأسرة، وغالبا ما تكون تعسفية لما قد يحمله أحد الزوجين من الحقد اتجاه شريكه أو تصفية لحسابات ونزوات نفسية بغرض إلحاق الضرر بالآخر وتعذيبه.
وبالرجوع لبعض مواد مدونة الأسرة يتضح بجلاء أنها أقرت مسؤولية الزوجين عن الإنهاء التعسفي للعلاقة الزوجية، وهكذا فتنص المادة 101 من المدونة: ” في حالة الحكم بالتطليق للضرر للمحكمة أن تحدد في نفس الحكم مبلغ التعويض المستحق عن الضرر.”
فإذا اقتنع القاضي بالوسائل الإثباتية التي أدلت بها الزوجة وحكم بالتطليق للضرر فإنه يحدد في نفس الحكم مبلغ التعويض المستحق للمرأة سواء كان هذا التعويض ماديا أو معنويا يراعي فيه نسبة الأضرار التي لحقها ومدى إساءة الزوج لها وهو تعويض عما لحقها من ضرر نفسي جراء الإساءة و الإفتراق.[4]
والضرر اللاحق بالزوجة يمكن لها إثباته بجميع الوسائل المعدة للاثبات، كشهادة الشهود وغيرها من الوسائل، غير أن ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن هذا التعويض لا يدخل ضمن المستحقات الأخرى التي يمكن الحكم بها نتيجة الطلاق أو التطليق.[5]
فلكون مدونة الأسرة تواقة إلى إنصاف المرأة وصيانة كرامة الرجل في ظل مقاصد الشريعة السمحة والتزامات المغرب الدولية، وذلك بتبنيها لقيم المساواة الحقيقية بين الزوجين ومبادئ العدل والشفافية، تدخل المشرع المغربي وحمل مسؤولية تفكك الأسرة للمتسبب في ذلك من الزوجين متى ثبتت مسؤوليته واقتنعت المحكمة بوجود شقاق بين الزوجين مبرر للحكم بالتعويض.
وهكذا فتنص المادة 97 من مدونة الأسرة على ما يلي: في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق تثبت المحكمة ذلك في محضر وتحكم بالتطليق وبالمستحقات طبقا للمواد 83و 84 و 85 أعلاه، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر.”
فالتعويض عن الضرر هو حق للمضرور من عمل غير مشروع المترتب عن المسؤولية، والأمر هنا يتعلق بالمسؤولية عن العمل الشخصي، أي الضرر الذي يكون قد ألحقه الزوج بالزوجة نتيجة خطأ تقصيري منه، وقد نصت عليه المادة 77 من قانون الالتزامات والعقود[6]، وللحكم به لابد للمضرور من رفع دعوى المسؤولية بحيث لا يمكن للقاضي أن يبت فيه دون دعوى من المضرور. وهي دعوى مستقلة عن دعوى التطليق لارتباطها أساسا بضرر مس بحق أو مصلحة مشروعة لشخص ما، مساسا يترتب عليه جعل مركزه أسوأ مما كان قبل ذلك.[7]
و يجدر التنبيه إلى أن المتعة يحكم بها القاضي تلقائيا ومن تلقاء نفسه، استنادا للمادة 84 من المدونة، في حين أن التعويض عن الضرر متوقف على ضرورة رفع دعوى مستقلة من الطرف المتضرر.
وهذا التعويض نتيجة المسؤولية التقصيرية فماذا عن التعويض المستحق حالة المسؤولية العقدية، أي حالة وجود إخلال بشرط في عقد الزواج؟
عقد الزواج من العقود الملزمة للجانبين (العقد شريعة المتعاقدين الفصل 230 ق ل ع ) يرتب حقوقا والتزامات لكلا الزوجين، من بينها حقهما في الاشتراط (المادة 47- 48 -49)، لذلك فعدم الوفاء بالشرط (أي حالة إخلال أحد الزوجين بأحد الشروط التي اشترطها عليه الزوج الآخر) يعد سببا مبررا لطلب التطليق وفق ما تنص عليه المادة 99 من المدونة، حيث جاء في حكم صادر عن قسم قضاء الأسرة بمكناس:” وبناء على إدراج الملف بغرفة المشورة قصد إجراء الصلح أكد المدعي الطلب للأسباب الواردة بمقاله وأضاف بأن زوجته عندما تقدم لخطبتها كانت محتجبة وأنها قبلت ارتداء الخمار والبرقع نزولا على طلبه، إلا أنها ارتدت قفطانا وإنه اعتبره لباسا غير لائق وأنه منعها يوم الزفاف من التقاط الصور من طرف الغرباء لكنها فعلت العكس.”[8]
لذلك فالتطليق بناء على إخلال بشرط أو بشروط عقد الزواج التي اتفق عليها الطرفان وتراضيا عليها، توجب التعويض على الطرف المخل بها لكونه ألحق ضررا بالزوج الآخر جراء إخلاله بأحد الشروط التي التزم بضرورة احترامها وفق ما جاءت به الفقرة الثانية من المادة 99 من المدونة ما نصه:” …. يلحق بها إساءة مادية أو معنوية تجعلها غير قادرة على الاستمرار في العلاقة الزوجية”، فمعنى الإساءة أي إلحاق ضرر أو أذى بالشخص ماديا كان أو معنويا، كلما ثبت ضرر مبرر للحكم بالتعويض ويبقي للمحكمة السلطة التقديرية في الحكم به.
ومن التطبيقات القضائية التي استجابت المحكمة فيه لطلب التعويض، حكم المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء والذي جاء فيه:”….. وحيث إن المحكمة قامت بمحاولة الصلح الأولى…. وحيث إن زوج المدعى عليه بدون علم الزوجة الأولى ورضاها يلحق بها ضرارا ماديا ومعنويا مما يجعلها محقة في طلب التعويض عن هذه الأضرار”.[9]
وفي حكم آخر للمحكمة الابتدائية بالناظور جاء فيه : “وحيث ثبت من خلال استقراء مجمل وثائق الملف وما تضمنته جلسات الصلح أن طلب التعويض المقدم من طرف المدعية مؤسسا طالما ثبت أن تصور المدعى عليه للحياة الزوجية جعل استمرارها متعذرا وأدى إلى تضرر المدعية من ذلك وعدم إلحاقها بعملها كأستاذة لرغبته، وبذلك يكون المدعي مسؤولا فيما آلت إليه العلاقة الزوجية والتي انتهت بالتطليق، وحيث إنه تبعا لذلك ووفقا لمقتضيات المادة 97 من المدونة يكون طلب التعويض المقدم من طرف المدعية مؤسسا ويتعين الاستجابة إليه”.[10]
وفي حكم آخر للمحكمة الإبتدائية قسم قضاء الأسرة بوجدة جاء فيه:” وحيث إن تقاعس المدعى عليه عن أدائها بالرغم من استصدار حكم من طرف الزوجة على زوجها بالأداء وسلوكها لمسطرة التنفيذ التي انتهت بتحرير محضر امتناع بتاريخ 28/07/2011 اضطرت معه الزوجة لسلوك مسطرة إهمال الأسرة كما هو ثابت من الوثائق المدلى بها بالملف يشكل إخلالا بالحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين والمنصوص عليها في المادة 51 من المدونة نتج عنه ضرر للمدعية وابنها نظرا للطابع المعيشي الذي تلعبه النفقة في الحياة الأسرية مما يكون معه طلب التعويض مؤسسا ويتعين الإستجابة له،…. وحكمت المحكمة بجلستها العلنية نهائيا في التطليق وابتدائيا في الباقي وغيابيا، وبأدائه لها كذلك تعويضا عن الضرر قدره (5000.00) درهم”.[11]
و مسألة التعويض عن الضرر لها ما يبررها وذلك لوضع حد للأضرار التي تلحق بالزوجات على وجه الخصوص، باعتبارهم الحلقة الأضعف في العلاقة الزوجية والمتضرر الأكبر حالة إنهائها كيفما كانت الأسباب.
2: التعويض حالة العدول عن الخطبة.
الخطبة هي تواعد رجل وامرأة على الزواج وفق ما تقضي به الفقرة الأولى من المادة 5 من مدونة الأسرة، غير أنه قد يحدث أن يعدل أحد الخطيبين عنها، لأن مجرد الوعد لا ينشأ التزام،[12] فمن حق كل واحد من الخطيبين العدول عنها دون إحداث أي ضرر بالآخر، الذي يوجب التعويض (الضرر) وليس العدول هو من يوجب التعويض، بحيث تنص المادة 7 من المدونة في فقرتها الثانية على أنه إذا صدر عن أحد الطرفين فعل سبب ضررا للآخر يمكن للمتضرر المطالبة بالتعويض، حسب ما يقضي به الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود : “كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح له به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير ألزم مرتكبه بتعويض الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر.
هنا يتضح أن النص (المادة 7 من المدونة) جمع ما بين أحقية العدول عن الخطبة من قبل أحد الطرفين من جهة، وأحقية المطالبة بالتعويض في حالة الضرر من جهة أخري، مما يعتبر معه أن المشرع المغربي كان جريئا في إقراره لأحقية التعويض حالة ثبوت الضرر من فعل ارتكبه أحد الطرفين فألحق ضررا بالآخر.
وهكذا فإذا لازمت العدول عن الخطبة أفعالا مستقلة عنه استقلالا بينا وألحقت هذه الأفعال ضررا ماديا أو معنويا بأحد الخاطبين، كانت هذه الأفعال موجبة للتعويض على من صدرت منه باعتبارها أفعالا ضارة بذاتها لا نتيجة العدول في حد ذاته. ويبقي للقضاء السلطة التقديرية في تقدير وتكييف هذه الأفعال، هل هي أفعال توجب التعويض أم لا، والتعويض الجابر للمتضرر متى قامت أسبابه.[13]
مما يتحتم على المتضرر بصورة عامة إقامة الدليل على وجود الضرر وإبراز العلاقة السببية[14]، وهي الخيط الرفيع بين الضرر والفعل الذي أوجده وذلك طبعا إلى جانب إثبات وجود العلاقة الأصلية، أي الخطبة وتلك هي أركان المسؤولية المدنية التي يتحتم أن تتوفر مهما كان الأساس القانوني المعتمد في القيام بدعوى جبر الضرر سواء أكان على أساس المسؤولية العقدية أو التقصيرية.[15]
وبھذا الرأي أخذ الأستاذ أحمد الخملیشي، حیث تبنى إمكانیة الحكم بالتعویض تأسیسا على قواعد المسؤولیة التقصیریة، ومعلوم أن ھذه المسؤولیة لا تقوم إلا إذا كان الضرر نتیجة خطأ صادر عن المدعى علیه، مع إثبات للعلاقة التي تربط بین ذلك الضرر والخطأ.
ومن التطبيقات القضائية على هذه المسألة أي إقرار التعويض عن الخطبة، ما جاءت به المحكمة الابتدائیة بمراكش في أحد أحكامھا :” ….على الخاطب عندما طلب من خطیبته التوقف عن العمل، ثم عدل عن الخطبة بدعوى عدم موافقة زوجته الأولى، یكون قد سبب للمخطوبة أضرارا بحرمانھا من مورد رزقھا ویلزمه التعویض”.[16]
وبذلك یلاحظ أن القضاء المغربي یسیر نحو اعتبار المسؤولیة التقصیریة أساسا
للتعویض عن ضرر العدول عن الخطبة، شریطة أن یكون الضرر قد حصل على إثر أفعال
خاطئة ومستقلة عن العدول في حد ذاته.
ثانيا: الإختصاص الجنائي.
معلوم أن الأصل في تنظيم الأسرة المودة والرحمة و الإستثناء هو الزجر، والذي هدف منه المشرع ردع بعض التجاوزات والممارسات التي فرضت نفسها على الواقع. إضافة إلى التعسف في إستعمال الحق، بحيث تتجلى أهمية الزجر بالدرجة الأولى في حماية الأسرة من الإندثار والتشتت من جهة وإقرار حماية فعالة للطرف المتضرر من جهة ثانية.
1: التوقف عن أداء النفقة.
النفقة في اللغة اسم لما ينفقه الإنسان على غيره، وفي الإصطلاح الشرعي هي إخراج الشخص مالا ينفق به على من تجب عليه نفقته.
والنفقة من الركائز والدعامات التي يقوم عليها نظام الأسرة ونظرا لطابعها المعيشي، ومن الموضوعات الحساسة التي تثير العديد من الإشكالات على مستوى الواقع المعاش، ومعلوم أن وجوب النفقة على الغير إما بالزوجية، أو القرابة ، أو بالالتزام حسب ما تقضي به المادة 187 من المدونة.
غير أن التوقف ممن تجب عليه النفقة عن أداءها من غير عذر مشروع تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة، حسب ما تقضي به المادة 202 من مدونة الأسرة : ” كل توقف ممن تجب نفقة الأولاد عن الأداء لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة.”
وكقاعدة عامة فإنه لا تجب على الإنسان نفقة غيره إلا بعد أن يكون له ما ينفق به على نفسه ويفضل له عن حاجته ما يصرف به على غيره،[17] حسب ما تقضي المادة 188 من المدونة : ” لا تجب على الإنسان نفقة غيره إلا بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه وتفترض الملاءة إلى أن يثبت العكس”.
وغني عن البيان أن التوقف عن أداء النفقة، لابد أن يتوفر على القصد الجنائي المتمثل في الإمساك عن أداء النفقة عن طواعية واختيار(الركن المعنوي). و الإمتناع الفعلي عن الأداء المتمثل في ذاك المظهر الخارجي للجريمة وبه يتحقق الإعتداء على المصلحة المحمية، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة. فالمشرع الجنائي كما هو معلوم حينما يتدخل بالتجريم والعقاب، يعتد بالأفعال المادية المحسوسة التي تشكل عدوانا على المصالح أو الحقوق المشمولة بالحماية الجنائية،[18] لأن توقفه هذا إذا كان ناتجا عن عدم القدرة( إذا كان معسرا) أي انتفاء القصد الجنائي فلا يساءل جنائيا، غير أنه يجب عليه اثبات عسره لكي لا يتملص من المسؤولية وحتى لا يتخذ الإعسار مطية للتخلص من أداء النفقة.
وعليه فينص الفصل 479 من القانون الجنائي: على أنه :” يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من 200 إلى 2000 درهم أو بإحدي هاتين العقوبتين فقط:
- الأب أو الأم إذا ما ترك أحدهما بيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد على شهرين وتملص من كل أو بعض واجباته المعنوية والمادية….”
لذلك يتبين أن صفة الجاني المهمل لأسرته تقتصر على الأبوة والأمومة دون أن تتعداها إلى الأصول لا من جهة الأب أو الأم.
كما أن النفقة على الأبوين حالة إعسارهم تجب على أبنائهم، فإذا امتنع الأبناء عن الإنفاق على أبيهم/ أمهم عليهم التقدم للمحكمة لمطالبتهم بالإنفاق عليهم ويحكم بالنفقة من تاريخ تقديم الطلب حسبما تقضي به المادة 204 من المدونة.
وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 480 من ق ج مدد النفقة إلى جميع الأصول دون استثناء، غير أن المدونة تقتصر فقط على الأب و الأم من خلال المادة 197 مما خلق تناقضا بين القانونين ؟
في حين أن النفقة على الزوجة فواجبة على الزوج، حيث تقضي المادة 194 من المدونة: ” تجب نفقة الزوجة على زوجها بمجرد البناء وكذا إذا دعته للبناء بعد أن يكون قد عقد عليها.” فالمشرع المغربي ساير بخصوص هذه النقطة منظور الفقه الإسلامي خاصة المذهب المالكي الذي يعتبر الزوج وحده من يتحمل النفقة لفائدة زوجته حتي لو كانت غنية أو لها مدخول شخصي قار.[19]
واعتبر المشرع المغربي الامتناع عن دفع النفقة لمن صدر عليه حكم بالنفقة قابل للتنفيذ، بالإهمال النقدي ( الفصل 480 ق ج).
وعليه يلاحظ أن للقضاء دور زجري على كل مخالف للمقتضيات القانونية وامتناعه عن أداء النفقة سواء ما تعلق بمن تجب عليه النفقة بحكم القانون (المادة 187 من مدونة الأسرة) أو فيمن صدر في حقه حكم قضائي بأداء النفقة. وما ذالك إلا في مصلحة حماية الأسرة وحفظ مراكزها وأمن استقرارها.
2: ترتيب جزاء جنائي على الزوج المتحايل في التبليغ
قد يحدث وجود تحايل من قبل الزوج في الإدلاء بعنوان الزوجة أو تحريف في اسمها( المادة 43 – 81 من مدونة الأسرة)، تطبق عليه مقتضيات الفصل 361 من القانون الجنائي، بحيث تقوم النيابة العامة بتحريك المتابعة ضد الزوج المتحايل بناء على طلب من الزوجة المتضررة بعد علمها بإعطاء عنوان غير صحيح بسوء نية، غي أنه ما يجدر التنبيه إليه هو عدم ترتيب هذا الجزاء في حق الزوجة المتحايلة والراغبة في تضليل العدالة وأن النص اقتصر فقط ترتيب هذا الجزاء على الزوج وحده، خاصة وأن النص الجنحي لا يمكن التوسع في تفسيره ولا يقاس عليه تطبيقا لمبدأ :” لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص”، وكأن الجريمة هي صنعة ذكورية محظة، وبغض النظر على ذلك فالهدف الأساسي للمدونة هو تكريس المساواة بين الزوجين وهذه المادة 78 من المدونة، جعلت حل ميثاق الزوجية من حق كلا الطرفين ( الزوج والزوجة) بطريقة متساوية، وحق الإجراءات الشكلية والموضوعية كل لا يتجزأ، فلما هذا الميز إذا ؟
إلا أنه من الناحية العملية فالفقرة الأخيرة من المادة 43 ستعرف تطبيقا لها فيما يتعلق بالإدلاء بعنوان غير صحيح للزوجة، بينما يبقي تحريف اسم الزوجة أمر مستبعد(والمادة 81 اكتفت فقط بذكر التحايل عن عنوان الزوجة) لكون المحكمة تلزم طالب التعدد بإرفاق طلبه بنسخة من رسم الزوجية حتي يتبين للمحكمة اسم الزوجة الصحيح.
غير أن الإشكال الذي قد يطرح في هذا الصدد يتعلق بالحالة التي يتقدم فيها الزوج إلى المحكمة بطلب الإذن له بالتعدد ولا يتوفر على رسم الزوجية، فكيف ستتعامل المحكمة مع هذه الوضعية، هل ستطلب منه سلوك مسطرة ثبوت الزوجية المنصوص عليها في المادة 16 من مدونة الأسرة ( التي انتهي العمل بها لمرور الفترة الانتقالية في انتظار الحسم فيه من قبل المشرع)، أم أن الزوج سينكر زواجه بالأولي ويفتح ملفا جديدا أمام المحكمة لإبرام عقد الزواج وفقا للقسم السادس من المدونة (المواد من 65 إلى 69) منكرا إياه أي علاقة تربطه بالزوجة الأولى ؟ وما الإجراء الذي ستتخذه المحكمة في حقه حالة رفع الدعوى من زوجته الأولى؟
3- المهام الجنائية للقاضي الأسري.
تتكرس الصلاحيات الجنائية لمحكمة الأسرة ليس فقط من خلال علاقاتها التنظيمية مع باقي الغرف المكونة للمحكمة الإبتدائية والتي تجعلها ذات صلاحية للنظر في كل القضايا التي تعرض على أنظار المحكمة الإبتدائية على اعتبار أنه ليس هناك نص قانوني يمنع هذه المحاكم من النظر في كل القضايا التي تعرض على المحكمة الإبتدائية بغض النظر عما إذا كانت هذه القضايا تتعلق بالأسرة أو ليس لها أي تعلق بها، بل إن الفصل 2 من ظهير التنظيم القضائي أجاز لمحكمة الأسرة أن تبحث وتحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة كيفما كان نوعها بينما منع باقي الغرف الأخرى من النظر في القضايا المتعلقة بالأسرة.[20]
لذلك قد يعمد أحد المعاقدين إلى التدليس من أجل الحصول عل الإذن في الزواج كالتدليس في الخبرة قصد الزواج دون السن القانوني أو زواج شخص مصاب بإعاقة ذهنية أو إعطاء بيانات خاطئة قصد الحصول على الإذن بتعدد الزوجات وعيره مما هو محدد في البندين 5 و 6 من المادة 65[21] والتدليس في جميع هذه الحالات تطبق فيه مقتضيات الفصل 366 من القانون الجنائي[22].
والتدليس هو استعمال خديعة توقع الشخص في غلط يدفعه إلى التعاقد ، فالمتعاقد تحت التدليس يتعاقد تحت تأثير الوهم الذي يدفعه إلى التعاقد، هذا الوهم أو التدليس يؤدي إلى الغلط والغلط يجعل الإرادة معيبة، لكن الغلط هنا لا يكون تلقائيا يقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه بل يكون نتيجة الإحتيال والتضليل من طرف المدلس.
وعليه فالتدليس في الزواج يقتضي من المتضرر ضرورة إثبات وجود نية للتدليس من الطرف الآخر أو من المتواطئ معه، وإثباته للوسائل الاحتيالية المستعملة ولولاها لما أقدم على التعاقد معه.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع في مجال حماية عقد الزواج لا يقتصر العقاب على حالات المساس بالعقد الصحيح الذي يتطلب لزوما وجود عقد، بل إن بطلان الزواج (المادة 57 من المدونة) أو فساده ( المادة 59 وما بعدها من المدونة) لا يشكل سببا من أسباب الإعفاء من العقاب على اعتبار أن مرتكب التصرف غير القانوني –الاكراه أو التدليس- لم يأخذ بعين الاعتبار هذا البطلان أو الفساد بل اتجهت نيته إلى القيام بفعل غير مشروع ومعاقب عليه، فالحكمة من تجريم الإكراه والتدليس في الزواج هي ضمان مصداقية العلاقة وحسن نية الطرفين الأمر الذي يبرر قيام الجريمة متى توافرت شروطها وذلك بغض النظر عن وجود عقد زواج صحيح أو باطل أو فاسد. ولا يقتصر العقاب هنا على الفاعل الأصلي مرتكب الإكراه أو التدليس في الزواج فقط بل إن المشرع وسع من دائرة المسؤولين جنائيا وأضاف إلى الفاعل المشاركين معه وذلك على عكس التعويض المدني الذي لا يطال سوى أحد الزوجين مرتكب الإكراه أو التدليس غي الزواج.[23]
خاتمة
يحرص القانون على أن تكون علاقات الأفراد، علاقات تقوم على أساس من التعاون والتفاهم لحفظ كيان المجتمع وبالأحرى في العلاقات الأسرية المبنية أصلا بل ولتكون ناجحة لابد لها أن تكون على رابط من المودة والرحمة. لذلك فالقانون يحمل رسالة مشتركة مع الأخلاق وهي رسالة نشر الطمأنة وكف كل أشكال العدوان وخلق الثقة ومحاربة سوء النية، مما أقر القانون ذاته معاملة ذوي النفوس والنيات السيئة بنقيض قصدهم وذلك عن طريق إقرار عقوبات مدنية والمتمثلة أساسا في تعويض المضرور عما لحقه من أذي وضرر جراء تصرف المتسبب في ذلك، وعقوبات جنائية للردع والزجر بهدف حماية الأسرة من الإندثار والتفكك رغم ما أبانت عنه المقاربة الزجرية من عدم فعاليتها.
لائحة المنابع:
- مصطفي لمحمدي الشرادي الوضع الشرعي والقانوني للطفل القاصر الطبعة الأولي 2017 درا السلام للطباعة والنشر الرباط
- نور الدين العمراني : شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي مطبعة سجلماسة مكناس
- محمد الأزهر، شرح مدونة الأسرة الطبعة الثامنة 2017 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء
- عبد القادر قرموش: الدور القضائي الجديد في قانون الأسرة المغربي الطبعة الأولي 2014 مطبعة دار السلام بالرباط
- محمد الكصبي جريمة إهمال الأسرة على ضوء التشريع المغربي والعمل القضائي رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية أكدال الرباط.
- ادريس الفاخوري ، تعويض المضرور في العلاقات الأسرية بين نصوص قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة مقال منشور على الرابط التالي : espacedroit.com تاريخ الإطلاع 10 مارس 2020 على الساعة 10:00.
[1] : د أحمد اليسسفي: تدخل النيابة العامة أثناء استقرار العلاقة الزوجية مقال منشور بمجلة البوغاز للدراسات القانونية والقضائية العدد2 ، ص 31
[2] : عبد القادر قرموش: الدور القضائي الجديد في قانون الأسرة المغربي الطبعة الأولي 2014 مطبعة دار السلام بالرباط ص 1
[3] : د ادريس الفاخوري ، تعويض المضرور في العلاقات الأسرية بين نصوص قانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة مقال منشور على الرابط التالي : www.espacedroit.com تاريخ الإطلاع 10 مارس 2020 على الساعة 10:00
[4] : محمد الأزهر، شرح مدونة الأسرة الطبعة الثامنة 2017 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء ص 192- 193
[5] : د ادريس الفاخوري م س
[6] : كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح له به القانون فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر
[7] : محمد الأزهر م ، س ص 181
[8] : حكم المحكمة الابتدائية قسم قضاء الأسرة بمكناس 27/02/2018
[9] : حكم المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في الملف رقم 05/3026 تحت عدد 06/343 بتاريخ 07/05/2006 ( غ منشور) أشار إليه د ادريس الفاخوري في مقاله : تعويض المضرور م، س.
[10] : حكم المحكمة الابتدائية بالناظور عدد 1105 في الملف رقم 1517/ 2005 بتاريخ 21/06/2006 أورده ادريس الفاخوري في كتابه العمل القضائي الأسري الجزء 2 التطليق للشقاق الطبعة الأولي 2009 مطبعة الأمنية الرباط ص 149
[11]: حكم صادر عن المحكمة الإبتدائية قسم قضاء الأسرة وجدة في الملف رقم 307/2012 صادر بتاريخ 10/07/2012
[12] : وهكذا يقضي الفصل 14 من قانون الالتزامات والعقود: مجرد الوعد لا ينشأ التزاما.
[13] : عبد القادر قرموش م، س ص 167
[14] : فالعلاقة السببية هي تلك العلاقة ما بين الفعل الضار والنتيجة
[15] : د ادريس الفاخوري م س
[16] : حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بمراكش بتاريخ 17/06/2009 عدد 83/03/09.
[17] : مصطفي لمحمدي الشرادي، الوضع الشرعي والقانوني للطفل القاصر الطبعة الأولي 2017 درا السلام للطباعة والنشر الرباط ص 76
[18] : نور الدين العمراني : شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي مطبعة سجلماسة مكناس الصفحة 108
[19] : محمد الكصبي جريمة إهمال الأسرة على ضوء التشريع المغربي والعمل القضائي رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية أكدال الرباط ص 24
[20] : عبد القادر قرموش م،س، ص 192
[21] : التدليس في الحصول على الإذن أو شهادة الكفاءة المنصوص عليها في البندين 5 – 6 من المادة السابقة أو التملص منهما تطبق على فاعله والمشاركين معه أحكام الفصل 366 من القانون الجنائي بطلب من المتضرر
[22] : يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من مائة وعشرين ألف درهم أو بإحدي هاتين العقوبتين فقط ما لم يكن الفعل أشد جريمة من:
- صنع عن علم إقرارا أو شهادة تتضمن وقائع غير صحيحة
- زور أو عدل بأية وسيلة كانت إقرارا أو شهادة صحيحة الأصل
- استعمال عن علم إقرارا أو شهادة غير صحيحة أو مزورة
[23] : عبد القادر قرموش م، س، ص 196