العمل القضائي وتحديد طبيعة القرارات الصادرة عن النيابة العامة
العمل القضائي وتحديد طبيعة القرارات الصادرة عن النيابة العامة
هشام العقراوي: باحث بسلك الدكتوراه كلية الحقوق المحمدية
مختبر الحكامة الأمنية والفعل العمومي وحقوق الانسان
تعتبر النيابة العامة الجهاز القضائي الزجري تتمتع بصلاحيات واسعة و سلطة تكييف المتابعة، وتعد جهازا قضائيا مستقلا بذاته داخل المنظومة القضائية، وإن استقلاليته تنبعث من الخصوصيات التي تميز هذا الجهاز سواء على مستوى هيكلته أو على مستوى وظيفته أو على مستوى الدور الذي يتولاه في العمل القضائي والحقوقي، وهذه الخصوصيات ينفرد بها الجهاز وحده إذ لا يمكن أن تلحق بغيره من الأجهزة القضائية، والسبب في ذلك يرجع إلى الموقع المتميز الذي يحتله الجهاز في النسق القضائي وينبثق من كونه الجهة المخول لها قانونا صلاحية تمثيل المجتمع والدفاع عن الحق العام والسهر على احترام القانون.[1] وقد أثار سؤال تحديد طبيعة القرارات الصادرة عن النيابة العامة بتسخير القوة العمومية، اختلاف مواقف الفقه والقضاء، مما أدي إلى بروز توجهين، وقد عمل القضاء على التميز بين الأعمال التي تتخذ طبيعة قضائية للنيابة العامة والتي لا تعتبر قرارات إدارية وتخرج عن اختصاص القضاء الإداري وتكون محل مخاصمة أمام محكمة النقض، وبين الأعمال التي تكتسي طبيعة قرار إداري وتعتبر معه النيابة العامة سلطة إدارية مما يجعل الاختصاص ينعقد للقضاء الإداري وفق مقتضيات المادة 8 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية[2]، سنعمل على محاولة إبراز المواقف والتصورات الرافضة لاعتبار النيابة العامة سلطة إدارية والرأي الذي يعتبر القرارات الصادرة عنها قرارات إدارية.
أولا: الرأي المعتبر لقرارات النيابة العامة قرارات إدارية وانعقاد الاختصاص للقضاء الإداري.
يميز هذا التوجه بين أعمال النيابة العامة التي تتخذ طبيعة قضائية وتكون محل مساءلة وفق مسطرة مخاصمة القضاة وبين تلك التي تتخذ طبيعة إدارية مما يجعل الاختصاص ينعقد للقضاء الإداري.
في هذا الإطار ذهبت محكمة النقض في قرار لها عدد 74/1 الصادر بتاريخ 1/1/2014 في الملف عدد 3020/4/1/2013 إلى اعتبار أن الإجراءات المتعلقة بتسخير القوة العمومية بمساعدة كتابة الضبط على تنفيذ الأحكام المدنية ليست إجراءات قضائية وإنما هي إجراءات إدارية ترتبط بميدان الشرطة الإدارية، وبالتالي ما تصدره النيابة العامة في هذا المجال يشكل قرارات إدارية قابلة للطعن بالإلغاء مما يجعل الاختصاص ينعقد للمحكمة الادارية[3]، ونفس التوجه أكدته محكمة النقض في قرار لها عدد 59 الصادر بتاريخ 16 أبريل 2014 في الملف الإداري عدد 3398/4/2013، وأكدت على أن تسخير القوة العمومية لتنفيذ الأحكام المدنية ليست إجراءات قضائية، وإنما هي إجراءات إدارية ترتبط بميدان الشرطة الإدارية وإن ما تصدره النيابة العامة في هذا المجال عملا بالفصل 433 من قانون المسطرة المدنية يشكل قرارات قابلة للطعن بالإلغاء للشطط وتختص بالنضر في مشروعيتها المحكمة الإدارية[4] .وأضافت الغرفة الإدارية لمحكمة النقض في قرار لها صادر 6 أبريل 2014 ملف عدد 3398/4/1 2013، أن القرارات الصادرة عن النيابة العامة لتسخير القوة العمومية لتنفيذ الأحكام المدنية تعتبر قرارات إدارية يجوز الطعن فيها بالإلغاء[5].
وأقرت محكمة النقض بانعقاد الاختصاص للمحاكم الإدارية للنضر في طلبات التعويض عن الضرر الناتج عن الاعتقال الاحتياطي في قرار لها عدد 755 بتاريخ 17/10/2007 في الملف الإداري عدد 392/4/1/2007[6]، وحافظت المحكمة الإدارية بالرباط على نفس التوجه في حكم لها رقم 3020 الصادر بتاريخ 27/5/2014 في الملف رقم 301/12/2012، نفس توجه محكمة النقض، وأشارت أن وكيل الملك يسهر على تنفيذ الأحكام القضائية ويملك الحق في تسخير القوة العمومية مباشرة استنادا الى مقتضيات المادتين 30 و31 من قانون المسطرة الجنائية، وعدم اقدام وكيل الملك على تسخير القوة العمومية الكافية واللازمة لإتمام عملية الافراغ رغم تبليغه من قبل مأمور إجراءات التنفيذ بمحاضر إخبارية ومحاضر عصيان وتمرد يشكل خطأ مرفقيا موجبا لتعويض عن الضرر تحدده المحكمة في إطار سلطتها التقديرية[7].
كما قررت المحكمة الإدارية بالرباط في حكم لها مسؤولية النيابة العامة عن القرارات الإدارية التي تصدرها حيث قضت بأن النيابة العامة وإن كانت مهمتها تنحصر في القيام بإجراءات الدعوى العمومية وغيرها من الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، فإنها تصدر قرارات إدارية تخضع في ذلك لرقابة القضاء الإداري، وبالتالي فإن القرارات المتخذة من طرف وكيل الملك لتسخير القوة العمومية وخارجا عن وضيفته الأساسية تدخل في الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية[8].
ومن أثار اعتبار القرارات الصارة عن النيابة العامة قرارات الإدارية وانعقاد الاختصاص للنضر في مشروعيتها للقضاء الإداري ثم ترتيب عنها التعويض، في هذا السياق حكمت المحكمة الإدارية بالرباط على النيابة العامة بالتعويض عن قرار الاعتقال الاحتياطي الصادر عن النيابة العامة بمناسبة حكم عدد 188 بتاريخ 23/1/2013 وصرحت بأنه من شروط التعويض عن قرار الاعتقال الاحتياطي كصورة من صور الخطأ القضائي أن يكون خاطئا أو تعسفيا ونتج عنه ضرر مادي أو معنوي، واكتساب قرار الاعتقال صبغة الخطأ أو التعسف المرتب للمسؤولية القانونية[9].
ونفس التوجه المعتبر لعمل النيابة العامة قرارات إدارية قابلة للطعن بالإلغاء ذهبت المحكمة الإدارية بمكناس بأن تجاوز ضباط الشرطة القضائية لاختصاصاتهم المحددة قانونا يعتبر من قبيل العمل الإداري القابل للطعن فيه أمام المحاكم الإدارية[10]، كما صرحت المحكمة الإدارية بالرباط في أحد أحكامها بأن النيابة العامة، وإن كانت مهمتها تنحصر في القيام بإجراءات الدعوى العمومية، وغيرها من الإجراءات المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، فإنها تصدر قرارات تخضع لرقابة القضاء الإداري، وبالتالي فإن القرارات المتخذة من طرف وكيل الملك بتسخير القوة العمومية، وخارجا عن وضيفته الأساسية تدخل في الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية[11].
ومقابل هذا التوجه هناك موقف أخر إلى رفض اعتبار الأعمال الصارة عن النيابة العامة قرارات إدارية وبكونها سلطة إدارية بل تعتبر سلطة قضائية سنعمل الوقوف على ذلك في النقطة التالية.
ثانيا: التوجه الرافض لاعتبار النيابة العامة سلطة إدارية.
أخد هذا التوجه بمعيار التمييز بين العمل الإداري والعمل القضائي في القرارات الصارة عن النيابة العامة، فالعمل القضائي هو العمل الذي يؤدي من قبلهما في نطاق الاختصاصات المحددة من قبل قانون المسطرة الجنائية، وكل عمل تمارسه النيابة العامة خارج ما هو محدد في قانون المسطرة الجنائية يعتبر عملا إداريا يخضع لاختصاص القضاء الإداري إلغاء وتعويضا، تأكيدا لما سبق قوله صرحت المحكمة الإدارية بفاس في حكمها عدد 3754 بتاريخ 28/9/1999 بأن صفة قاضي التحقيق القضائية تدور مع مهامه كلها، وحيث إنه بالترتيب على ذلك ولما كان عمل قاضي التحقيق عملا قضائيا وليس عملا إداريا ولا نشاطا من نشاطات أشخاص القانون العام طبقا للمادة 8 من قانون 90/41، مما يبقى معه الاختصاص المحكمة الإدارية بالتعويض غير منعقد للبت في دعوى التعويض عن عمل قضائي[12].
وذهبت المحكمة الادارية بفاس في حكمها عدد 1085 بتاريخ 15/1/1998 إلى اعتبار أن عمل النيابة العامة عمل قضائي لا تختص المحكمة الإدارية بالنضر فيه استنادا على الحيثية التالية: وحيث أن حجز الحافلات قد صدر عن الشرطة القضائية بأمر من النيابة العامة التي تتوفر على صفة سلطة قضائية، حيث إن أعمالها وقراراتها تندرج تبعا لذلك في إطار تسيير مرفق القضاء لا في الأعمال الإدارية الموكول جانب منها للنيابة العامة، وعلى هذا الأساس لا يمكن مساءلتها في نطاق الفصل 8 من قانون 90/41 الذي يعتبر الإطار العام لمسؤولية أشخاص القانون العام عن الأضرار الناتجة للغير من التصرفات التي أضرت بهم، ومن جهة أخرى فإن القرارات الصادرة عن النيابة العامة وهي بصدد مباشرة سلطتها بوصفها مسؤولة عن إقامة الدعوى العمومية تعتبر قرارات قضائية لا تخضع لولاية القضاء الإداري على غرار الأحكام الصادرة عن الجهة القضائية[13].
كما قضت المحكمة الإدارية بأكادير في حكم لها بتاريخ 24/11/2009 بأنه من صميم عمل النيابة العامة تلقي الشكايات المتعلقة بالدعوى العمومية ومتابعتها أو حفضها في إطار السلطة التقديرية المخولة لها، ومادام القرار المطعون فيه مرتبط باختصاص وكيل الملك في مدى تحريك الدعوى العمومية فهو عمل قضائي بطبيعته يخرج عن ولاية القضاء الإداري[14].
كما قضت المحكمة الإدارية بوجدة في حكمها عدد 25 بتاريخ 6/2/2007 بأنه تعتبر القرارات التي تتخدها النيابة العامة بمناسبة القيام بإجراءات الدعوى العمومية من تحقيق واتهام وإصدار أوامر بالإيداع بالسجن كما هي منصوص عليها بقانون المسطرة الجنائية من قبيل الأعمال القضائية التي لا تختص المحاكم الإدارية بمراقبة مشروعيتها سواء في إطار دعوى الإلغاء أو في إطار المسؤولية عن الأضرار الناتجة[15].
وزكى هذا الطرح توجه قرار لمجلس الدولة الفرنسي صدر بتاريخ 15دجنبر 2019 عن الغرفة الجنائية والقاضي في منطوقه بعدم اعتبار قضاة النيابة العامة سلطة قضائية لانتفاء عنصري الحياد والاستقلالية مع اعتبارهم جهة إدارية، مما أثار نقاشا واسعا داخل الأوساط القضائية والحقوقية، وأدى إلى إعادة فتح نقاش محسوم بنص القانون وحسب ما نص عليه الدستور (الفصل 110 – 128 منه) وكذا القوانين الداخلية الجاري بها العمل، حول استقلال السلطة القضائية[16].
وبالتالي يمكننا اعتبار أن طبيعة الأعمال الصادرة عن النيابة العامة تجمع بين اعتبارها قضائية وأخرى ذات طبيعة إدارية.
[1] : النيابة العامة كجهاز يرجع نشأتها إلى القرن الرابع عشر ميلاي حيث هناك من ارجعه إلى الملك فليب الخامس والتي وجهها لوكلائه لتمثيلية في المحاكم الفرنسية والانتصاب نيابة عنه كأطراف في قضايا، وتم تسميتهم بالقضاة الواقفون، وبالنسبة للمغرب تطور نضام النيابة العامة كمؤسسة قائمة الات عبر ثلاثة مراحل: مرحلة قبل الحماية ومرحلة الحماية ومرحلة الاستقلال، والتشريع المغربي لم يعرف النيابة العامة كمؤسسة قائمة الدات الا عندما احتك بأروبا عن طريق فرض الحماية، وهي تعد من التراث القانوني الدي حملته فرنسا للمغرب، دلك أن القضاء الإسلامي ضل يجهل هده المؤسسة الى أن دخلت الى المغرب بموجب ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي، وكان في الحماية الباشوات والقياد يلعبوا تقريبا ور النيابة العامة، وبعد حصول المغرب على الاستقلال سن المسطرة الجنائية بتاريخ 10 فبراير 1959 الدي جاء نقلا حرفيا عن التشريع الفرنسي، ونسخ معه مهام النيابة العامة، وعرف مجموعة من التعديلات تتجلى في القانون رقم 01.22 المتعلق بالمسطرة الجنائية وتم تعديله بمقتضى القانون رقم 23.05 والقانون رقم 24.05. وأهم مميزات النيابة العامة الاستقلالية حيث أصبحت سلطة مستقلة والوحدة ومبدأ التسلسل الرئاسي، وتصدر النيابة العامة في المغرب قرارات شفوية للسرعة والأنية في اتخاذ القرار رغم كون أن الفصل 110 من دستور 2011 ألزم أعضاء النيابة العامة بتنفيذ التعليمات الكتابية القانونية الصارة عن السلطة التي يتبعون لها.
[2] : نجاة خلدون، المكي السراجي: دعوى التعويض أمام القضاء الإداري، منشورات مطبعة دعاية سلا، الطبعة الأولى 2016، ص 82.
[3] : قرار محكمة النقض عدد 74/1 الصادر بتاريخ 1/1/2014.
[4] : قرار محكمة النقض عدد 74/1 الصادر بتاريخ 1/1/2014 في الملف عدد 3020/4/1/2013
[5] نشرة قرارات محكمة النقض-الغرفة الادارية – العدد 18 سنة 2014.
[6]: قرار محكمة النقض عدد 755 بتاريخ 17/10/2007 في الملف الإداري عدد 392/4/1/2007. أشار له نجاة خلدون، المكي السراجي: دعوى التعويض أمام القضاء الإداري، مرجع سابق، ص 82.
[7] :المحكمة الإدارية بالرباط في حكم لها رقم 3020 الصادر بتاريخ 27/5/2014 في الملف رقم 301/12/2012
[8] : نجاة خلدون، المكي السراجي: دعوى التعويض أمام القضاء الإداري، منشورات مطبعة دعاية سلا، الطبعة الأولى 2016، ص 80.
[9] : أشار الى الحكم محمد الأعراج: مسؤولية الدولة والجماعات الترابية في تطبيقات القضاء الإداري المغربي، مرجع سابق، ص 104.
[10] : حكم المحكمة الإدارية بمكناس عدد 545 بتاريخ 26/12/2007 إدريس سليكي ضد القائد العام للدرك الملكي حكم منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 81/82 سنة 2008، ص 315.
[11] : أشار إلى هدا الحكم محمد الأعراج، القانون الإداري المغربي، الجزء الثاني، منشورات المجلة للاارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد 66 /2010، ص 241.
[12] : حكم المحكمة الإدارية بفاس عدد 3754 بتاريخ 28/9/1999، منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية، أحمد بوعشيق الجزء الثاني منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، ص 345.
[13] : حكم المحكمة الإدارية بفاس عدد 1085 بتاريخ 15/1/1998، منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 16/2004، ص 76.
[14] : حكم المحكمة الإدارية بأكادير عدد 185 بتاريخ 24/11/ 2009، منشور ضمن مؤلف محمد الأعراج: مسؤولية الدولة والجماعات الترابية في تطبيقات القضاء الإداري المغربي، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 99/2013، ص 90.
[15] : حكم المحكمة الإدارية بوجدة رقم 25 بتاريخ 6/2/2007، أشار للحكم محمد الأعرج: مسؤولية الدولة والجماعات الترابية، مرجع سابق، ص 90.
[16] : مقابل هدا التوجه اعتبر الباحث وأستاد زائر المحامي بطنجة شريف الغيام في تعليقه على القرار أنه لا يتفق مع توجه القرار وما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية بهذا الشأن مع الاحترام الواجب لما جادت به بمضمون مقررها، لأن خصوصية جهاز النيابة العامة بالمغرب جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية طالما أنها تتمتع بكافة الضمانات التي تجعلها جهازا مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية وبعيدة كل البعد عن أي مؤثرات ماسة بمبدأ الحياد طالما أن رئاستها مسندة لجهة قضائية ممثلة في السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض والذي يعد انتصارا حقيقيا لمبادئ السلطة القضائية، مما جعله يعتبرها سلطة قضائية.