في الواجهةمقالات قانونية

إشكالية المخالفات في التشريع المغربي

 

 

 

                                                   

                     يوسف بولفراخ

باحث في العلوم القانونية

وخريج ماستر العلوم الجنائية

 

مقال حول :” إشكالية المخالفات في التشريع المغربي “

ما من شك فيه أن الركن المعنوي  يمثل أساس الجريمة ، فلأصل أن لا جريمة بغير ركن معنوي وهذا الركن هو سبيل المشرع إلى تحديد المسؤول عن الجريمة إذ يضم العناصر النفسية  للجريمة.

ويتخذ الركن المعنوي إحدى صورتي القصد الجنائي وتستأثر به الجرائم العمدية، والخطأ الغير العمدي أو الخطأ الجنائي تستأثر  به الجرائم الغير العمدية، أما في ما يتعلق بباب المخالفات فيعاقب عليها حتى ولو ارتكب خطأ.

لكن هذه الأخيرة المخالفات يشوبها غموض وإشكالات في مجال المسؤولية وبالتالي العقاب عليها.وسنتولى تباعا في هذا المقال تحديد بشكل من الدقة مجال تجليات هذه الإشكالات.

وعليه، قد يصرح القانون بوجود القصد الجنائي في بعض المخالفات مثال ذلك المخالفة التي تنص عليها المادة 608 (فقرة ثانية) ” من ألقى عمدا على شخص أخر مواد صلبة أو قاذورات أو أي مادة أخرى من شأنها أن تلوث الملابس”. وكذلك البند التاسع من نفس المادة أي المادة 608 ” من تسبب عمدا في الإضرار بمال مملوك للغير في غير الحالات التي تكون فيها فعله جريمة أشد إليه في الفصول من 580 إلى 607 “. أو يتطلبها القانون ضمنها في الفقرة الأولى من الفصل 608 التي تنص ” من ارتكب أعمال عنف وإيذاء خفيف”.

وهذه المخالفات يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي.

ومن جهة أخرى يصرح القانون في بعض المخالفات بوجوب أن يتوافر لها الخطأ الغير العمدي في صورة أو أكثر من صورة مثال ذلك المخالفة التي ينص عليها الفصل 608 (فقرة ثالثة) “من سبب عن غير قصد بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو بعدم مراعاة للنظم جرما أو إصابة أو مرضا نتج عنه عن الأشخاص الشخصية مدة تعادل أو تقل عن ستة أيام”. والمخالفة التي ينص عليها هذا الفصل كذلك (فقرة خامسة)” من تسبب في إحراق مال منقول أو عقار مملوك للغير في الحالات الآتية نتيجة قدم أو عدم إصلاح أو عدم تنظيف الفاران أو المداخن أو محلات الحدادة أو المساكن أو المصانع المجاورة وإما نتيجة الإهمال أو عدم الاحتياط عند إشعال حراقيات أو إطلاقها”.

وهذه المخالفات يتخذ ركنها المعنوي صورة الخطأ، ولا تثير المخالفات في نوعها هذين صعوبة،فإذا كانت عمدية خضع ركنها المعنوي لقواعد القصد الجنائي. وإذا كانت غير عمدية خضع هذا الركن لقواعد الخطأ الغير العمدي، ولكن  فئة ثالثة من المخالفات لم يحدد المشرع المغربي في النصوص الخاصة بها الصورة التي يتعين أن يتخذها ركنها المعنوي،فيثار التساؤل عما إذا كان القصد الجنائي متطلبا لقيامها أم أن الخطأ الغير العمدي كاف لذلك، بل أن التساؤل يثار لمعرفة ما إذا كان القانون فقد أراد أن يعاقب على هذه المخالفات على الرغم من انتفاء القصد و الخطأ معا، بحيث يسوغ القول بأنها جرائم بحثة.- في نظر الدكتور محمود نجيب حسني في كتابه شرح لقانون العقوبات- و نحن نشاطره الرأي. مثال ذلك المخالفات المنصوص عليها في الفصل 608 فقرة (6،7،8،10) و الفصل 609 من قانون الجنائي المغربي.

و على هذا الأساس فإن من أهم الاعتبارات التي تحدد الحكم الواجب الإتباع في هذا الإشكال هو المبدأ الذي يقضي بأنه ” لا جريمة بغير ركن معنوي “. وهو مبدأ أساسي في التشريع الحديث فليست الجريمة مجرد فعل مادي ضار ولكنها كذلك إرادة خالفت أوامر وقوانين المشرع وليست هدف العقوبة  مواجهة ضرر مادي أصاب المجتمع ولكنها تهدف أولا إلى مواجهة الخطيئة والخطورة الكامنة أو الكامنين في شخصية الجاني ردعا له ولغيره فإذا طبق ذلك، حتم القول بأن المخالفات تتطلب ركنا معنويا، ولكن تطبيق هذا المبدأ يصطدم بصعوبة إغفال المشرع تحديد صورة هذا الركن في نصوصه مما يجعل من العسير القول بما إذا كان يتطلب القصد أو أنه يكفي بالخطأ.

و لكن هذه الصعوبة تأكدها القاعدة القاضية بأن الأصل في الجريمة أن تكون عمدية و الاستثناء أن تكون غير عمدية.

على اعتبار أن الجريمة العمدية هي الصورة المعتادة للجريمة في حين أن الجريمة الغير العمدية تعد بمثابة صورة شاذة.( هذا في نظر الدكتور محمد العروصي)،فإذا طبقت هذه القاعدة في الحالات التي يحدد فيها القانون صورة الركن المعنوي للجريمة فإنه يتطلب القصد ولا يكفي بالخطأ، ويعني ذلك أن كل مخالفة هي جريمة عمدية ما لم يصرح القانون بأنها غير عمدية.

و هذا ما سار عليه القضاء الفرنسي حيث ذهب إلى أن المخالفات جرائم مادية بحثة –أي هي التي تقوم دون مراعاة لقواعد الركن المعنوي سواء العمدي منه أو الخطأ-  و بالتالي تقوم دون ركن معنوي  ويعاقب عليها على الرغم من حسن نية مرتكبها، ولا عبرة في نفي المسؤولية الناشئة عنها إثبات أنه لم يصدر عن قصد أو خطأ، وأنه كان مستحيل على الجاني أن يتوقع أنه يخالف بفعله القانون أو اللائحة التي تجرم ذلك الفعل،و لكن القضاء الفرنسي يعترف بأن لأسباب امتناع المسؤولية كصغر السن والجنون والإكراه والقوة القاهرة كل قيمتها القانونية بالنسبة للمخالفات شأنه شأن ما أخذه المشرع المغربي.

ويؤيد الفقه الفرنسي ما جاء به القضاء الفرنسي، وإن هناك خلاف في تحديد الأساس القانوني الذي يعتمد عليه هذا القضاء،فاتجاه من الفقه ذهب إلى أن ماديات الجريمة تتضمن في ذاتها خطأ، أي أن مجرد ارتكاب هذا الفعل هو في ذاته الخطأ الذي تقوم الجريمة.

واتجاه أخر ذهب إلى القول بقيام المخالفة على خطأ يتمثل في إهمال الجاني في معرفة حدود ما له وما عليه.

أما المشرع المغربي فقد نص في الفصل 133 من القانون الجنائي المغربي (فقرة ثانية) ” أن المخالفات فيعاقب عليها حتى ولو ارتكبت خطأ،فيما عدا الحالات التي يستلزم فيها القانون صراحة قصد الإضرار”.

وبذلك فإن المشرع المغربي يعاقب على المخالفات حتى ولو ارتكبت عن غير عمد، أي دون قصد ارتكبها في ما عدا بعض الحالات التي يستلزم فيه القانون قصد الإضرار و بالتالي توافر العمد ونية الإضرار، كمثال ما نص عليه المشرع في الفصل 608 من قانون الجنائي (فقرة ثانية) ” من ألقى عمدا على شخص أخر مواد صلبة أو قاذورات أو أية مادة أخرى من شأنها أن تلوث الملابس “. و الفقرة التاسعة من نفس المادة كذلك.

فالمشرع المغربي في هذه الحالة عاقب على المخالفات بتوافر عنصر العمد أي القصد ونية ارتكابها.

ومن هنا يرى أحد الفقه أن المخالفات ليست جرائم مادية، ذلك أن المبدأ القائل بأنه ” لا جريمة بغير ركن معنوي” هو مبدأ أساسي في التشريع الجنائي الحديث وهذا المبدأ يجب أن يكون عام التطبيق، و لا يجوز الخروج عليه إلا على سند من القانون.- في نظر الدكتور فايز علي الأسود-  و لا وجود لهذا السند بالنسبة للمخالفات، فلم يرد في القانون نص يقرر ذلك صراحة أو ضمنيا، وليست الاعتبارات التي يستند إليها القائلون بأن المخالفات جرائم مادية بالاعتبارات الحاسمة – في نظر الدكتور فتوح عبد الله الشادلي-.

و عليه، فإذا ثبت وجود الركن المعنوي في المخالفات فإن التساؤل يثور بعد ذلك لتحديد صورته، هل يتطلبه القانون في صورة القصد الجنائي أم يكتفي بالخطأ الغير العمدي؟

و غني عن البيان أن هذا التساؤل لا محل له إلا إذا أغفل المشرع التصريح بصورة الركن المعنوي و لم تكن طبيعة الجريمة كاشفة عن صورة معينة يتطلبها القانون، وسواء أن يتخذ الركن المعنوي في المخالفة صورة القصد أو صورة الخطأ، ففي الحالتين تقوم المخالفة، أما إذا انتفى القصد والخطأ معا فلا وجود للمسؤولية الجنائية لانتفاء الركن المعنوي للجريمة.

فالمشرع يستهدف بالنص عليها (المخالفة) صيانة أوضاع ضرورية لتنظيم المجتمع على نحو معين، وأن إهدار هذه الأوضاع يضر بالمجتمع سواء توافر لدى الجاني القصد أم لم يتوافر لديه سوى الخطأ، وهذه نصادفها في غير المخالفات كذلك، وإنما كل ما تتميز به المخالفات أن المشرع لم يرد ضرورة التمييز – من حيث العقاب – بين المخالفة العمدية و المخالفة الغير العمدية.

 

 

انتهى بحول الله.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى