استقلال النيابة العامة عن وزير العدل والحريات
–الواقع والآفاق –
بعد الاطلاع على الفصل 110 من الدستور نلاحظ أن المشرع الدستوري تجنب تحديدمفهوم السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة، والسؤال لماذا لم يحدد المشرع الدستوري مفهوم السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة، هل أراد من خلال ذلك أن يترك هذا الموضوع الهاملحوار مجتمعي هادئلأجل تحديد هذه السلطةوفقالمقاربة التشاركية،وهلالحوار المجتمعي المنشود عليه أن يراعي التجارب والمبادئ والمعايير الدولية المتعلقة باستقلال القضاء أثناء تنزيله للتوصيات التي تعتبر خريطة طريق لتأسيس مفهوم السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة، أم أن دراسة هذه المبادئ والقوانين الدولية هي من أجل الاستئناس فقط.
إن المؤكد والضروري هو أن الحوار الوطنيالمتعلق بمنظومة العدالة ينبغي عليه أن يراعي الخصوصية والتجربة المغربية، وأحكام الدستورالتي تنص على أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، ويترأس المجلس الأعلى للقضاء، ويعيين بعض أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ناهيك عن العضوية الدستورية للرئيس الأول لمحكمة النقض، والوكيل العام لمحكمة النقض، ورئيس الغرفة المدنية بمحكمة النقض، بصفتهم أعضاء بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى دستور 2011، فهم لا يخضعون لمنطق الانتخاب، كباقي القضاة المنتخبين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية والذين يمثلون قضاة المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وكما لا يخفى على الجميعفالمبادئ الدولية ليست ملزمة للدول بل هي عبارة عن آليات موجهة يمكن الاستئناس بها فقط ولكل دولة الحق في اختيار الأنموذج المناسب لها لاستقلال النيابة العامة عن باقي السلط.
نطاق تطبيق توصيات الحوار العميق والشامل لمنظومة العدالة
إن التساؤل الذي يطرح في هذا الصدد ما دمنا تحدثنا عن الطابع التوجيهي للمبادئ الدولية للدول أثناء اختيارها للنماذج الدولية التي تستجيب لخصوصياتها وطبيعة مجتمعاتها، فهل يمكن اعتبار التوصيات المنبثقة عن الحوار العميق والشامل لمنظومة العدالة ملزمةأم موجهة للحكومة وللبرلمان لأجل المصادقة على مشروع القانون التنظيمي رقم 13 – 100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي نص على استقلالية النيابة العامة عن وزير العدل والحريات؟ أم أن الأمر لا زال يحتاج إلى نقاش سياسي تعقبه نصوصتشريعية- تحترم المعايير الدولية المتعلقة باستقلال القضاء- لم تحسم بعد لا على مستوى مجلس الحكومة ولا على مستوى البرلمان؟
إن طرحنا لهذا التساؤل هو أن تركيبة الهيئةالعلياللحوارالوطنيالعميقوالشامللمنظومةالعدالةفيبلادناقدتشكلت منمختلفالقطاعاتالحكومية،ورؤساءلجنتيالعدلوالتشريعوحقوقالانسانبالبرلمان،وغيرهم من الفاعلين الحقوقيين وممثلي المجتمع المدني. وأندورالهيئةالعلياللحوار الوطني تمثلفيتشخيصواقعالعدالةببلادناووضعرؤياعامةلإصلاحمنظومةالعدالةفماهوحظمطلباستقلالالنيابةالعامةعنوزيرالعدلوالحرياتمنهذاالحوارالمجتمعيالعميقوالشامللمنظومةالعدالة؟
ينبغي الإشارة إلى أن الهيئةالعلياللحوار الوطني اعتبرت أنأحكامالدستورأقرتبجلاءاستقلالالسلطةالقضائيةعنالسلطتينالتشريعيةوالتنفيذية،وأنقيامسلطةقضائيةمستقلةكمانصتعليهاأحكامالدستورالحاليلاتتلاءموتبعيةالنيابةالعامةلوزارةالعدلوالحريات،لأجلذلكاقترحأعضاءالهيئةالعلياللحوارالوطنيفصلالنيابةالعامةعنالسلطةالتنفيذيةوإسنادرئاستهاإلىالوكيلالعامللملكلدىمحكمةالنقض،معتخويلوزيرالعدلصلاحيةإعدادالسياسةالجنائيةالتيسيتمإقرارهامنطرفالسلطاتالمختصة،وتبليغمقتضياتهاكتابةإلىالوكيلالعامللملكلدىمحكمةالنقض،معإحاطةالوكيلالعامللملكلدىمحكمةالنقضووزيرالعدلعلمابالإجراءاتوالتدابيرالمتخذةبشأنالسياسةالجنائية،علىأنيقومالوكيلالعامللملكبتقديمتقريرسنويإلىالمجلسالأعلىللسلطةالقضائيةبشأنتنفيذالسياسةالجنائيةوسيرجهازالنيابةالعامةيكونموضوعنقاشداخلالمجلس.
استقلال قضاة الأحكام وحدهم دون قضاة النيابة العامة
لكن هل يمكن طرح مسألة استقلال قضاة الأحكام وحدهم دون قضاة النيابة العامة، إنوحدةقضاءالحكموالنيابةالعامةمبدأدولي،وإن قراءة أحكام الدستور تفيد أن قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة يشكلان هيئة واحدة،كما أن جمع قضاة النيابة وقضاة الأحكام في المجلس الأعلى للسلطة القضائية خير دليل على وحدة هذه السلطة، نعم هناك تباين في الأدوار حيث نلاحظ أن الفصل 108 من الدستور خص فقط قضاة الأحكام بعدم قابليتهم للعزل ولا للنقل إلا بمقتضى القانون، وفي الفصل 110 من الدستور خصهم كذلكبلزوم تطبيق القانون، بينما نص في نفس الفصل 110 أعلاه على أنقضاة النيابة العامة ملزمون بتطبيق القانون كما يتعين عليهم الالتزام بالمبادئ الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.
المصادقة على مشروع القانون التنظيمي من قبل مجلس الحكومة
إن التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع هو لماذا قرر مجلس الحكومة متابعة مناقشة مشروع قانون تنظيمي رقم 13 – 100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، من أجل المصادقة عليه في مجلس حكومي لاحق كما جاء في بيان اجتماعه المنعقد بتاريخ 4 سبتمبر 2014، ولماذا لم يتم تحديد تاريخه في جدول أعمال مجلس الحكومة إلى غاية هذه اللحظة؟
إن تقرير الحكومة ذلك تم في اعتقادنا بسبب ماتضمنتهمقتضيات المادة 103 من مشروع قانون تنظيمي رقم 13 – 100 سالف الذكر،والتينصت على أن الوكيل العام لدى محكمة النقض يعتبر رئيسا للنيابة العامة، وهو المنفذ للسياسة الجنائية، وكان بالأحرى أن يرد هذا المبدأ واضحا وجليا في مذكرة تقديم المشروع مع تحديد الغاية من هذا الاستقلال ودوره في توطيد وتأسيسوتنزيل أحكام الدستور التي نصت على مبدأ فصل السلطات، لقد انتابنا هذا التساؤل لأن الحكومة عودتنا في إطار المسطرة التشريعية المتعارف عليها، أثناء انعقاد المجالس الحكومية ودراستها لمشاريع النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية المنصوص عليها في جدول أعمال مجلس الحكومة، إما المصادقة عليها بأكملها، أو المصادقة عليها مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات المثارة بشأن مشروع قانون معين ودراستها، أو إنشاء لجنة وزارية تحت رئاسة رئيس الحكومة لدراسة بعض مشاريع القوانين التي تم التحفظ بشأن بعض مقتضياتها، إلا أنه في هذه المرة نلاحظ أن مجلس الحكومةأرجأ المصادقة على مشروع قانون تنظيمي رقم 13 – 100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى غاية انعقاد مجلس حكومي لاحق تم تحديد تاريخه في 18 شتنبر 2014لأجل إعادة تدارسه والمصادقة عليه، مما أثار حفيظة المتدخلين والباحثين القانونيين والمهتمين بالحقل القضائي للبحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك ورغبة كل فريق في إبداء رأيه والدفاع عنه وتعزيزه بالمبادئ الدولية والقوانين المقارنة المتعارف عليها.
إن المسار التشريعي الجديد الذي اتخذته الحكومة المتمثل في إرجاء المصادقة على مشروع القانون التنظيمي رقم 13 – 100 سالف الذكرإلى غاية 18 شتنبر 2014، يوحي لنا أن الحكومة ترى إمكانية تمتع قضاة النيابة العامة بالاستقلال رغم تبعيتهم لوزير العدل والحريات؟
لكننا نذكرها فقط أن الحوار الوطني العميق والشامل لمنظومة العدالة، اعتبر ان استقلال النيابة العامة عن وزير العدل والحريات هو الضمانة الأساسية لهذا الاستقلال وذلك بناء على أحكامالدستور الجديد لسنة 2011 التي اعتبرت قضاة النيابة العامة جزءا من السلطة القضائية مما يعني أن هذه السلطة يجب أن تمارس بعيدا عن السلطة التنفيذية التي ينتمي إليها وزير العدل والحريات، كما يجب أن تشتغل بعيدا أيضا عن السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان.
مساءلة رئيس النيابة العامة أما البرلمان
وهنا يطرح سؤال عريض هل يمكن مساءلة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة ومنفذا للسياسة الجنائية أمام البرلمان، كما كان الحال بالنسبة لوزير العدل والحريات بصفته عضوا في الحكومة ورئيسا للنيابة العامة، حيث كان يحدد السياسة الجنائية التي يتم اعتمادها من قبل أعضاء النيابة العامة أثناء معالجتهم للقضايا الرائجة أمامه، وبصفته هذه كممثل لقطاع العدل كانت تتم مساءلته أمام البرلمان.
إن نطاق استقلال النيابة العامة عن وزير العدل والحريات الذي يقتضي مساءلة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض أمام البرلمان تقتضي الاسترشاد بالتجارب الدولية لأجل الوقوف على مكامن القوة والضعف في اختيار النموذج الأمثل الذي يراعي التجربة الديمقراطية المغربية المبنية على الحوار الجاد والبناء والمقاربة التشاركية في اتخاذ القرارات التي تراعي مصلحة الوطن واحترام حريات وحقوق الأفراد والمجتمع، وذلك إما اعتماد نظام مساءلة القضاة المعمول به في الأنظمة الأنكلوسكسونية الذي يتم بناء على آلية انتخاب القضاة مما يستوجب مساءلتهم سياسيا على أساس البرامج التي اعتمدوها أثناء ترشحهم للمناصب كالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يترأسه الوكيل العام لمحكمة النقض وهو الخيار الذي انتهجته كندا والولايات المتحدة الأمريكية،وهذا الطرح في اعتقادي لا يتناسب والخيار المغربي الذي نص عليه الدستور على أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية ويرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو الذي يعين الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وهو العضو المعين بمقتضىالدستور بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبالتالي لا يمكن انتخابه من قبل الشعب.
أو اختيار تجارب بعض الدول الأخرى التي عملت على فك الارتباط بين النيابة العامة ووزير العدل التي استشعرت مدى قوة هذا الجهاز واحتكاره وتهديده للحريات والحقوق، ومدى بعده عن المراقبة المؤسساتية وبعده عن الشفافية فاضطرت إلى تجزيئ هذا الجهاز لأن منطق الاحتكار أو تجميع السلطة مخالف للقواعد الديمقراطية، حيث أنشأت إيطاليا نيابة عامة متخصصة في الجريمة المنظمة، ونيابة عامة وطنية دورها ينحصر في التنسيق بين مختلف أجهزة النيابة العامة، وفي هذا الصدد يمكن التفكير في تأسيس مجلس وطني للنيابة العامة يضم في تركيبتهجميع الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف، يترأسه الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض من أجل تدارس مختلف القضايا المرتبطة بمنظومة العدالة و السياسة الجنائية.