تعليق على قرار محكمة النقض عدد 36/2 الصادر بتاريخ 17/01/2017 في الملف المدني عدد 5209/1/2/2012 – يتعلق بتحديد مفهوم سوء النية في مجال التقييدات، وأثره على حجيتها. – انجاز الباحث كريم شحم
تعليق على قرار محكمة النقض عدد 36/2 الصادر بتاريخ 17/01/2017 في الملف المدني عدد 5209/1/2/2012
كريم شحم
باحث بسلك الدكتوراه
جامعة محمد الخامس بالرباط
بتاريخ 17/01/2017 أصدرت محكمة النقض بمجموع غرفها القرار عدد 36/2 في الملف المدني عدد 5209/1/2/2012 القاضي برفض الطلب مع تحميل الطاعن المصاريف.
يناقش القرار، الذي نحن بصدد التعليق عليه، موضوعا له أهمية بالغة؛ يتعلق بتحديد مفهوم سوء النية في مجال التقييدات، وأثره على حجيتها.
تتلخص وقائع نازلة هذا القرار في أن المدعية شركة “إ ي” تقدمت بتاريخ 11/09/2003 بمقال أمام المحكمة الابتدائية بطنجة، عرضت فيه أنها تملك العقار ذا الرسم العقاري عدد 317/G الملك المسمى “سوسييتي ايموبليير ذي مغوغة” وأنها فوجئت بتسجيل رسم عدلي مؤرخ في 12/03/2003 بهذا الصك بتاريخ 6 مارس 2003، مفاده أن شركة “إ ي” أبرمت مبادلة بينها وبين “أ ب”، كما تم في نفس اليوم تسجيل بيع كلي موضوع عقد عرفي بين “أ ب” والطاعن “أ ش ض” مؤرخ في 5/8/2002، وأنه بعد مراجعة الوثائق بالمحافظة العقارية، تبين أن الرسم العدلي موضوع المبادلة، لم يبرم في 12/3/2003، وإنما تم تحريره بتاريخ 12/8/1960، كما اتضح أن عقد المبادلة يفتقد لعدة شروط وتنقصه مجموعة من البيانات الجوهرية، وتعتبره غير ملزم لها خصوصا وأن الأمر يتعلق بعقار محفظ مملوك لشركة أسهم لا يمكن التصرف فيه إلا بناء على قانون الشركات والقانون الأساسي للشركة المعنية. كما أن البيع المبرم بين “أ ب” و “أ ش ض” هو غير صحيح لبنائه على فاسد، والتمست التصريح بعدم صحة رسم المبادلة المحررة في 12/8/1960، وعقد البيع المبرم بين المدعى عليهما “أ ب” و “أ ش ض” والإذن للمحافظ على الأملاك العقارية بطنجة بالتشطيب على القيدين المسجلين بالصك العقاري عدد 317/G بتاريخ 6 مارس 2003 كناش 142 عدد 425 وكناش 142 عدد 426.
فأجاب المدعى عليه “أ ش ض” بأن الدعوى غير مقبولة لعدم توجيهها ضد السيدين جورج بلازاك، وإدوار كوريي ولا ضد ورثتهما، وأن رسم المبادلة المطعون فيه أبرم في 10 محرم 1381؛ أي منذ أزيد من 43 سنة، مما يجعل دعوى طلب إبطاله ساقطة بالتقادم، كما أن رسم المبادلة المذكور، تضمن قول العدلين “عرفا قدره شهد به عليهما بأتمه وعرف بهما”، مما يجعلها شهادة رسمية لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور بعد أن خاطب عليها القاضي المختص، وأن الأصل في العقود الصحة، ورسم المبادلة موضوع النزاع مسجل ومضمن بسجل المختلفة عدد 89، وأن المشتري “أ ش ض” أجنبي عن هذا العقد، وأنه مشتر حسن النية، لا يمكن بأي حال التمسك بإبطال التقييد في مواجهته، ويبقى شراؤه صحيحا ما دام قد أبرم مع شخص مقيد بالمحافظة العقارية، كما أنه لا عبرة لمدة التقييد، ما دام هذا التقييد يدل على أن المقيد هو المالك.
كما أجاب المدعى عليه “أ ب” بأن رسم المبادلة العدلي المبرم بينه وبين المدير العام لشركة “إ ي” السيد ادوار كوريير المنجز بتاريخ 10 محرم 1381 هو عقد صحيح، وأن الخلاف الوارد في السند العقاري بالنسبة لتاريخ المبادلة وهو: 12/3/2003 بدل تاريخه الحقيقي الذي هو: 12/8/1960 لا أثر له، وأن العدلين عرفا في رسم المبادلة بالمسمى جورج بلازوك الذي حضر مجلس العقد بكونه هو الكاتب العام بالمحكمة المختلطة؛ وهو تعريف كاف وشامل، وأن الطعن في عدم أهلية مدير الشركة في التصرف لا أساس له. وأن عدم التعريف بالترجمان ادعاء خاطئ؛ لأن العدلين توجها لدى الموظف بالمحكمة المختلطة؛ المسمى بلازوك، من أجل القيام بعملية الترجمة، كما أن تأخر المتعاقد عن تسجيل التفويت ليس من شأنه أن يسقط حقه في التسجيل، كما أن تسجيل التصرف الثاني بين “أ ب” و “أ ش” لا يمكن أن يطاله أي إبطال؛ لأنه يكتسي حجية قطعية طبقا للمادة 66 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري، والتمسا رفض الطلب.
وبتاريخ 25/3/2004 صدر الحكم الابتدائي عدد 754/4 في الملف عدد 1945/03 برفض الطلب، وألغته محكمة الاستئناف، وقضت بعدم صحة رسم المبادلة المحرر في 25/6/1961، وكذا البيع المبرم بين المستأنف عليهما “أ ب” و أ ش” بتاريخ 22/8/2002 والإذن للمحافظ على الأملاك العقارية بطنجة بالتشطيب على القيدين المتعلقين بهما والمسجلين بالصك العقاري عدد 317/G؛ وهو القرار الذي تم الطعن فيه بالنقض من طرف “أ ش ض”، بحيث عاب عليه هذا الأخير انعدام التعليل؛ ذلك أنه تمسك بأن رسم المبادلة الذي بموجبه تملك البائع له العقار موضوع النزاع، يعود إلى وقت سابق عن تاريخ الادعاء بمدة تفوق 43 سنة، مما يجعل الدعوى قد طالها التقادم، إلا أن القرار لم يجب عما أثاره في هذا الشأن.
كما أن القرار المطعون فيه خرق مبدأ عدم رجعية القوانين، وفساد التعليل، وخرق الفصلين 66 من ظهير التحفيظ العقاري و3 من ظهير 2/6/1915 بشأن التشريع المطبق على العقارات المحفظة، والفصلين 1 و345 من قانون المسطرة المدنية، والفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود؛ ذلك أنه اعتمد، وخلافا للنصوص القانونية الصريحة والواضحة المستدل بها، على أن عمل محكمة النقض؛ “المجلس الأعلى سابقا”، استقر منذ سنة 2007 على أن حماية المالك أولى من حماية المشتري، وهذا الموقف حتى ولو أعطيت له القوة المعطاة لنصوص القانون، لا يمكن أن يطبق بأثر رجعي على وقائع وعقود حررت وأبرمت قبل تقرير الاجتهاد المذكور بمدة تفوق 64 سنة، كما أنه تمسك بأنه اشترى العقار بحسن نية، وفي وقت لم يكن الرسم المذكور مثقلا بأي حجز أو تقييد احتياطي، أو أي تحفظ آخر من شأنه أن يبعث الشك في جدية تملك البائع الذي وإن كان محل متابعة وإدانة، فإن القرار الجنائي القاضي بإدانته، قضى ببراءته هو، وهذه حجة على حسن نيته، وأن حسن النية مفترض دائما، غير أن القرار لم يرد على ذلك، واكتفى بمجرد القول إن الزور لا ينتج أي أثر، وأن ما بني على باطل فهو باطل، وهو أمر لا ينطبق على حاله؛ لكون شرائه مبنيا على شراء صحيح، وليس باطلا، وأن القاعدة المذكورة، هي مجرد قاعدة منطقية عامة، تعارضها نصوص قانونية صريحة؛ لأن القرار عندما استبعد تطبيق الفصلين 66 من ظهير التحفيظ العقاري، و3 من ظهير 2/6/1915 بشأن التشريع المطبق على العقارات المحفظة، لم يبين النص الواجب التطبيق بدل تلك المستبعدة، ولم يرد على ما تمسك به من أنه لا اجتهاد مع وجود النص، وعدم جواز تدخل القضاء في سلطات المشرع؛ لأنه يمنع على المحاكم عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة أن تنظر ولو بصفة تبعية في جميع الطلبات التي من شأنها أن تعرقل عمل الإدارات العمومية للدولة، أو الجماعات العمومية الأخرى، أو أن تلغي إحدى قراراتها، كما أنه لا يجوز للجهات القضائية البت في دستورية القوانين، وأن القرار عندما تجاوز نصوصا قانونية، واعتمد قاعدة منطقية؛ مما يجعله خاضعا للجزاء المقرر في الفصول 25 و359 و382 من قانون المسطرة المدنية، زد على ذلك أن القرار المطعون فيه، خرق المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، ذلك أن القرار استجاب لطلب تشطيب لم يقدم إلا بعد أزيد من 43 سنة من إنجاز التصرف المؤسس عليه التقييد محل طلب التشطيب.
غير أن محكمة النقض لم تستجب لما تمسك به الطاعن، وقضت برفض الطلب؛ بناء على كون أن الطاعن لم يتمسك بالتقادم أمام المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه، وأنه لا يمكن اعتبار الطاعن حسن النية؛ اعتبارا لوقائع النزاع الثابتة بالقرار الجنائي الذي يعد حجة على ما يثبته من وقائع؛ طبقا للفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود، فالطاعن مقاول، ويتاجر في العقارات، ويفترض فيه الحذر في معاملاته، وقد اشترى العقار بتاريخ 6/3/2003 بثمن لا يلائم قيمته؛ وهو مسجل باسم الشركة المالكة “إ ي”، كما اعتمد في البيع على مبادلة يعود تاريخها لسنة 1961، غير مسجلة بالرسم العقاري رغم مرور أكثر من أربعين سنة على تاريخها، كما سجل عقد البيع والمبادلة في نفس اليوم؛ وهي قرائن قوية ومتعددة على أن الطاعن كان بإمكانه أن يعلم العيب الذي يشوب المبادلة المستند عليها في التملك من طرف البائع له، كما أن عدم تطبيق المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، راجع إلى أن عقدي المبادلة والبيع قد سجلا بالمحافظة العقارية في 6/3/2003، وقد رفعت دعوى إبطالهما في 11/9/2003، وصدر الحكم الابتدائي في 25/3/2004.
مما سبق يتضح أن الإشكالية الأساسية في هذا القرار، تتمحور حول: ما هو مفهوم سوء النية في مجال التقييدات؟ وهل سوء نية الغير متوفر في النازلة؟
وعليه، سنقوم بالتعليق على هذا القرار من خلال تحليل موضوعي؛ عبر تحديد مفهوم سوء النية في مجال التقييدات (المحور الأول)، ثم مناقشة ما ذهبت إليه محكمة النقض في قرارها الرامي إلى رفض الطلب (المحور الثاني).
المحور الأول: مفهوم سوء النية في مجال التقييدات
نص المشرع المغربي في الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري، وكذا المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، على أن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تشطيب من الرسم العقاري، لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله، دون أن يحدد المقصود بالغير حسن النية، أو يتطرق للغير سيء النية؛ تاركا مهمة ذلك للفقه والقضاء.
لقد اختلف الفقه حول المقصود بسوء النية في مجال التقييدات، حيث اعتبر اتجاه منه أن الغير سيء النية؛ هو ذلك الشخص الذي يعلم عند تقييد الحق العيني على اسمه في الرسم العقاري بالعيوب والشوائب التي تشوب رسم أو سند من تلقى الحق عنه[1].
وفي مقابل ذلك، ذهب اتجاه فقهي آخر، إلى أنه، لتحقق سوء النية لا يكتفي بمجرد العلم البسيط بالتصرف السابق، بل لابد من العلم الأكيد المصحوب بالتواطؤ بين المشتري الثاني والبائع للإضرار بالمشتري الأول[2].
أما القضاء المغربي، فمن خلال الأحكام والقرارات التي تصدر عنه بخصوص التقييدات العقارية، أوجد العديد من القرائن لحسن النية أو سوئها، ورتب عليها آثار التشطيب على التقييد، أو التمسك بحجيتها المطلقة تجاه أصحاب الحقوق غير المقيدة.
فقد اعتبر اتجاه من القضاء، أن مجرد علم الغير بالعيوب والشوائب التي تشوب سند أو رسم من تلقى الحق عنه، يعتبر في حكم سيء النية؛ وبالتالي فإنه يعامل بنقيض قصده، ويحرم من كل حق آل إليه[3].
وفي مقابل هذا الاتجاه، برز توجه آخر[4]، يرى بأنه لا يمكن الاعتداد بمجرد العلم البسيط للحكم بسوء النية، بل لا بد من أن يكون هذا العلم مصحوبا بالتواطؤ بين المتعاقدين؛ بقصد الإضرار بحقوق الغير.
فالتوجه الأول يكون قد عامل صاحب الحق المقيد بنقيض قصده، وقد أراد بتوجهه هذا، تحقيق مبدأ العدالة؛ حفاظا على حقوق المتضرر.
لذا، حسنا ما فعل المشرع المغربي بعدم تطرقه لسيء النية في ظهير التحفيظ العقاري، وكذا مدونة الحقوق العينية، وترك للقضاء سلطة واسعة في تقدير حسن النية من عدمه؛ بناء على مجرد واقعة العلم، أو اقترانه بالتواطؤ حسب كل حالة تعرض عليه، والظروف المحيطة بها.
وإلى جانب واقعة العلم بعدم الحق في التقييد، سواء اقترن ذلك بتواطؤ أم لم يقترن به، فإن القضاء اعتبر أيضا وجود تقييد احتياطي بالرسم العقاري، قرينة على سوء نية صاحب الحق المقيد الجديد[5].
لقد قضت محكمة النقض[6] في قرار لها بتاريخ 15 فبراير 2001 بأن تقييد المشتري الثاني لعقد شرائه بالرسم العقاري، والحال أن المشتري الأول كان قد قيد تقييدا احتياطيا ينفي حسن نية المشتري المقيد الأول.
فوجود تقييد احتياطي بالرسم العقاري، لاسيما إذا كان مبنيا على مقال الدعوى، هو بمثابة إنذار[7] وإشارة صريحة على وجود نزاع بذلك العقار بخصوص حق عيني قابل للتقييد بالرسم العقاري.
ونشير إلى أن اعتبار التقييد الاحتياطي قرينة على سوء نية صاحب الحق المقيد، تظل نسبية، ما دام التقييد الاحتياطي مرتبط بمدد[8]، كما يجب أن يكون قد تم إبرام تصرف المقيد بالرسم العقاري في وقت لاحق للتقييد الاحتياطي.
وإلى جانب التقييد الاحتياطي، نجد القضاء يعتبر أيضا وجود حجز عقاري بالرسم العقاري معيارا لسوء نية صاحب الحق المقيد، إذ جاء في قرار لمحكمة النقض ما يلي[9]:” إن القرار المطعون فيه معللا بما فيه الكفاية؛ لأنه أيد الحكم الابتدائي، يكون قد تبنى تعليلاته التي جاء فيها بأن عقد الهبة أنجز في الوقت الذي كان فيه المنزل موضوع الهبة محجوزا حجزا تحفظيا، ووقع تحويله إلى حجز تنفيذي، وأن التفويت تبرعا أو بعوض، مع وجود الحجز، يكون باطلا وعديم الأثر؛ طبقا للفصلين 453 و475 من قانون المسطرة المدنية؛ طالما أن تبليغ الحجز للمنفذ عليه قد وقع صحيحا، وأنه لا يلتفت إلى تسجيل الهبة في الرسم العقاري؛ لكونها باطلة للسبب المذكور من جهة، ولأن الهبة المنجزة لفائدة المدعية، قد جاءت بعد علم الطرفين؛ الواهب والموهوب له، بوقوع الحجز على الدار محل الهبة، وبذلك تعتبر الموهوب لها سيئة النية، ولا يمكنها، تبعا لذلك، الاستفادة من حجية التسجيل بالاستناد إلى أن التصرف قد تم تسجيله، وأنه لا يمكن إبطاله؛ ذلك أن قاعدة ثبات التصرف وعدم إبطاله، مقررة لصالح حسن النية فقط، وهو ما يستفاد من المفهوم المخالف للفقرة الثانية من الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري”.
غير أنه يمكن الاستناد إلى مقتضيات الفصل 475 من قانون المسطرة المدنية وحده؛ لترتيب أثر البطلان على عقد الهبة المنجز، بعد تبليغ المحجوز عليه بالحجز التنفيذي، ولا حاجة للبحث في علم الموهوب لها بالحجز من عدمه حتى يمكن اعتبارها سيئة النية؛ طالما أن هناك منعا تشريعيا للمنفذ عليه من إجراء أي تفويت في العقار، بمجرد تبليغه بالحجز تحت طائلة البطلان. وأن الغير الذي تلقى الحق من المحجوز عليه، وقام بتقييد عقد الشراء، أو الهبة بالرسم العقاري، لا يحق له التمسك بحسن نيته في اكتساب الحق لتحصين حقوقه، على اعتبار أن العقد الرابط بينه وبين المدين باطل منذ تاريخ إنشائه، وأن الباطل باطل لا يصحح بالتقييد في الرسم العقاري[10].
وتجدر الإشارة الى أن استخلاص حسن النية من سوئها، هو مسألة واقع يدخل في إطار السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع، ولا تخضع في ذلك لرقابة قضاء النقض إلا من حيث التعليل[11]، ويجب إثارة الدفع بحسن أو سوء النية أمام محاكم الموضوع، ولا يمكن إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض؛ لأنه غير متعلق بالنظام العام[12].
وارتباطا بنازلة القرار الذي نحن بصدد التعليق عليه، نجد أن محكمة النقض، قد ذهبت الى اعتبار أن الغير السيء النية، ليس هو فقط من كان يعلم عيب سند سلفه، بل كذلك حتى الذي بإمكانه أن يعلم ذلك، وأنه لا يمكن اعتبار الطاعن حسن النية؛ اعتبارا لوقائع النزاع الثابتة بالقرار الجنائي الذي يعد حجة على ما يثبته من وقائع؛ طبقا للفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود، فالطاعن مقاول ويتاجر في العقارات، ويفترض فيه الحذر في معاملاته، وقد اشترى العقار بتاريخ 6/3/2003 بثمن لا يلائم قيمته؛ وهو مسجل باسم الشركة المالكة “إ ي”، كما اعتمد في البيع على مبادلة يعود تاريخها لسنة 1961، غير مسجلة بالرسم العقاري رغم مرور أكثر من أربعين سنة على تاريخها، كما سجل عقد البيع والمبادلة في نفس اليوم؛ وهي قرائن قوية ومتعددة على أن الطاعن كان بإمكانه أن يعلم العيب الذي يشوب المبادلة المستند عليها في التملك من طرف البائع له، وبالتالي يعتبر سيء النية.
بهذا التعليل تكون محكمة النقض قد أوجدت بالإضافة إلى معيار العلم معيار آخر للقول بوجود سوء النية يتمثل في مجرد إمكانية علم الغير بعيب سند سلفه.
المحور الثاني: مناقشة ما ذهبت إليه محكمة النقض
إلى جانب معيار العلم، سواء اقترن بالتواطؤ أم لا، فإن محكمة النقض، من خلال القرار محل التعليق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المحور الأول، قد ركنت إلى معيار آخر للقول بوجود سوء النية، يتمثل في مجرد إمكانية علم الغير بعيب سند سلفه.
بهذا التوجه، تكون محكمة النقض قد نحت منحى آخر، في تحديد مفهوم سوء النية، وهو توجه محمود، على اعتبار أنه وسع من مفهوم الغير السيء النية، وجعله لا يقف عند حد العلم فقط، بل أصبح يشمل كذلك حتى الغير الذي كان بإمكانه أن يعلم عيب سند سلفه.
لكن إذا سلمنا بهذا التوجه الذي يراعي تطبيق قواعد العدل والإنصاف، فإن الذي يستوقفنا هنا، هو ما هي القرائن التي من خلالها يمكن استنباط أن الغير كان بإمكانه أن يعلم عيب سند سلفه؟ وهل القرائن التي اعتمدها القرار تعتبر كافية للقول بأن الطاعن كان بإمكانه أن يعلم عيب سند سلفه؟
بالرجوع إلى حيثيات القرار، نجد أن محكمة النقض، قد اعتمدت على قرائن متعددة للقول بأن الطاعن كان بإمكانه أن يعلم العيب الذي يشوب المبادلة المستند عليها في التملك من طرف البائع له؛ وهي أن الطاعن مقاول ويتاجر في العقارات، ويفترض فيه الحذر في معاملاته، وقد اشترى العقار بتاريخ 6/3/2003 بثمن لا يلائم قيمته، وهو مسجل باسم الشركة المالكة “إ ي”، كما اعتمد في البيع على مبادلة يعود تاريخها لسنة 1961 غير مسجلة بالرسم العقاري رغم مرور أكثر من أربعين سنة، كما سجل عقد البيع والمبادلة في نفس اليوم.
ما يلاحظ على القرائن أعلاه، أنها من جهة مرتبطة بشخص الطاعن؛ باعتباره مقاولا ويتاجر في مجال العقارات، ومن جهة أخرى، مرتبطة بوقائع النزاع من خلال عدم تسجيل رسم المبادلة لمدة تزيد عن أربعين سنة، والثمن الذي لا يلائم قيمة العقار.
وبغض النظر عن هذا التمييز، فالقرائن أعلاه، تعتبر قرائن كافية على أن الطاعن ذو نية سيئة؛ بحيث أن هذا الأخير، ما دام أنه مقاول ويتاجر في مجال العقار فيفترض فيه الحذر في معاملاته، كما أن عدم تقييد رسم المبادلة رغم مرور أكثر من أربعين سنة، تعتبر قرينة قوية على أن هذا الرسم يشوبه عيب، والذي كان بإمكان الطاعن أن يعلم بذلك، هذا بالإضافة إلى أن الثمن لا يلائم قيمة العقار.
لكن ما يجب الانتباه إليه، هو أن محكمة النقض، استبدلت علة قرار محكمة الاستئناف المنتقدة بعلة قانونية أخرى، وبذلك تكون محكمة النقض قد خرجت عن وظيفتها التقليدية تلك؛ المتمثلة أساسا في الرقابة على حسن تطبيق القانون من قبل محاكم الموضوع.
وفي غياب نص قانوني صريح يخول لمحكمة النقض استبدال الأسباب، فإنه يستفاد ضمنيا من الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية، أن المشرع لم يرتب نقض الحكم إلا على القصور في أسبابه الواقعية، دون الأسباب القانونية، وما دام أن العيب الذي يستوجب نقض الحكم هو الذي يقع في منطوق الحكم، ولا ينال من الحكم الموافق منطوقه لصحيح القانون، فإنه إذا كان الحكم كامل التسبيب من الناحية الواقعية، ومنطوقه مطابقا للقانون، فإنه لا يوجد ما يمنع محكمة النقض من أن تستبدل أو تستكمل أسبابه القانونية، من أجل التقليل من حالات الإحالة، والاقتصاد في الوقت والإجراءات.
ختاما، إن قرار محكمة النقض الرامي إلى رفض الطلب، كان قرارا صائبا يستحق التأييد؛ على اعتبار أن سوء النية لا يتحقق فقط بالعلم والتواطؤ، بل أيضا بإمكانية العلم، إذا ظهر أن الظروف المرتبطة بذات الشخص وكذا النزاع، تعتبر كافية، على أن الغير كان بإمكانه أن يعلم بالعيب الذي شاب سند سلفه، ومن شأن هذا القرار أن يأثر إيجابا على مسار العمل القضائي في اتجاه التصدي لظاهرة الاستيلاء على عقارات الغير، وحماية المالك الحقيقي تحقيقا للأمن العقاري.
لائحة المراجع
أ- المؤلفات:
– مأمون الكزبري، التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1987.
-محمد خيري، العقار وقضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، طبعة 2014.
– محمد خيري، مستجدات قضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، المساطر الإدارية والقضائية، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، طبعة 2013.
ب- المقالات:
– حسن فتوخ، المعايير القضائية لاستخلاص سوء نية في التصرفات العقارية، المجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، العدد 9، دجنبر 2012.
ج- القرارات القضائية:
– محكمة النقض، قرار عدد 579 المؤرخ في 25 فبراير 2004 في الملف المدني عدد 3930/1/1/2002 أشار إليه عمر ازوكار، التقييدات والتشطيبات بالرسم العقاري، منشورات دار القضاء بالمغرب، الطبعة الأولى، 2014.
– محكمة النقض، قرار عدد 16، بتاريخ 4 يناير 1978، منشور بالمجلة المغربية للقانون والاقتصاد، عدد 4، 1978.
– محكمة النقض، قرار عدد 96 صادر بتاريخ 11 فبراير 2014 في الملف الشرعي عدد 179/2/1/2013، منشور بمجلة قضاء محكمة النقض، العدد 77، 2014.
– محكمة النقض، قرار عدد 708 بتاريخ 15 فبراير 2001 في الملف المدني عدد 1226/1/1/9/97 والمنشور بمجلة المناهج، العدد المزدوج 7 و8 سنة 2005.
– محكمة النقض، قرار عدد 1577 صادر بتاريخ 25/05/2005 في الملف المدني عدد 3549/1/1/2004، منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، عدد 10.
– محكمة النقض، قرار عدد 2262 المؤرخ في 2 يوليوز 2008 في الملف المدني عدد 3026/3/1/2006، أشار إليه عمر ازوكار، التقييدات والتشطيبات بالرسم العقاري، منشورات دار القضاء بالمغرب، الطبعة الأولى، 2014.
– محكمة النقض، قرار عدد 2759 المؤرخ في 16/07/2008 في الملف المدني عدد 3392/1/2/2006، أشار إليه عمر ازوكار، التقييدات والتشطيبات بالرسم العقاري، منشورات دار القضاء بالمغرب، الطبعة الأولى، 2014.
[1] – مأمون الكزبري، التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1987، ص: 170.
[2] – محمد خيري، العقار وقضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، طبعة 2014، ص: 603.
[3] – جاء في قرار لمحكمة النقض ما يلي: “وإذا كان التسجيل يضفي بدوره على المسجل بحسن النية صفة الاطلاق لحقه العيني المتعلق بعقار محفظ، فإن تسجيل هذا الحق بالنسبة لسيء النية يمكن التمسك بإبطاله في حقه ولو كان غيرا طبقا للفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري ويستنتج سوء النية من علم المسجل أن الحق العيني الذي سجل في اسمه لا حق له فيه…” قرار عدد 579 المؤرخ في 25 فبراير 2004 في الملف المدني عدد 3930/1/1/2002 أشار إليه عمر ازوكار في مؤلفه: التقييدات والتشطيبات بالرسم العقاري، منشورات دار القضاء بالمغرب، الطبعة الأولى، 2014، ص 197.
[4] – قرار محكمة النقض عدد 16، بتاريخ 4 يناير 1978، منشور بالمجلة المغربية للقانون والاقتصاد، عدد 4، 1978، ص 131
[5] – جاء في قرار لمحكمة النقض ما يلي: ” …والمحكمة لما قضت بالتشطيب على عقد الهبة اعتمادا على القرار الاستئنافي الذي قضى بإتمام البيع قبل قيام البائع بتفويت ما باعه للطاعنين اللذين قاما بتسجيل عقد الهبة بالرسم العقاري رغم وجود تقييد احتياطي مسجل وأن ذلك التسجيل لم يكن بحسن نية تكون قد عللت قرارها وأسسته على مقتضى القانون…” قرار عدد 96 صادر بتاريخ 11 فبراير 2014 في الملف الشرعي عدد 179/2/1/2013، منشور بمجلة قضاء محكمة النقض، العدد 77 ، 2014، مطبعة الامنية الرباط، ص 111.
[6] – قرار محكمة النقض عدد 708 بتاريخ 15 فبراير 2001 في الملف المدني عدد 1226/1/1/9/97، منشور بمجلة المناهج، العدد المزدوج 7 و8 سنة 2005، ص 201.
[7] – محمد خيري، مستجدات قضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي، المساطر الإدارية والقضائية، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، طبعة 2013، ص 600 و601.
[8] – حسن فتوخ، المعايير القضائية لاستخلاص سوء نية في التصرفات العقارية، المجلة المغربية للدراسات القانونية والقضائية، العدد 9، دجنبر 2012، ص 70.
[9] – قرار محكمة النقض عدد 1577 صادر بتاريخ 25/05/2005 في الملف المدني عدد 3549/1/1/2004، منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، عدد 10، ص: 130.
[10] – حسن فتوخ، مرج سابق، ص 77.
[11] – قرار محكمة النقض عدد 2262 المؤرخ في 2 يوليوز 2008 في الملف المدني عدد 3026/3/1/2006، أشار إليه عمر ازوكار، مرجع سابق، ص 195.
[12] – قرار محكمة النقض عدد 2759 المؤرخ في 16/07/2008 في الملف المدني عدد 3392/1/2/2006، أشار إليه عمر ازوكار، مرجع سابق، ص 202.