في الواجهةمقالات قانونية

أزمة السياسة الجنائية المغربية: الاعتقال الاحتياطي نموذجا

أزمة السياسة الجنائية المغربية: الاعتقال الاحتياطي نموذجا

المهدي بوي
دكتور في الحقوق

لم تكن الترسانة الجنائية بما عرفته مؤخرا من ديناميكية ملحوظة على مستوى التوجيه أو التشريع محط رضا من متتبعين أو عموم المخاطبين بالقاعدة الجنائية، وإن كان ذلك لا يقصي بأي حال من الأحوال عنصر التفاؤل بشأن تطور استراتيجية السياسة الجنائية المحلية بشكل يجعلها قادرة على مسايرة التطور المتسارع للظاهرة الإجرامية، ومؤهلة لمجابهة المد الإجرامي داخل الحياة اليومية.

وبالفعل فمؤشر الجريمة عرف خطا تصاعديا مهولا فاق في معدله كل التوقعات النظرية والميدانية، ومرد ذلك أن آليات الزجر التقليدية كالمؤسسات السجنية ومراكز إصلاحية وتربوية، غدت مجرد ممكنات وقتية محدودة الفعالية، وأضحت عاجزة عن التموقع في موضعها الصحيح كأداة لمجابهة الظاهرة الإجرامية، لدرجة أن هذه المؤسسات وعلى غرار مثيلاتها لدى بعض الانظمة المقارنة، لم تعد سوى مواقع لتجنيد محترفي الإجرام إن صح التعبير بذلك[1]، ولتأكيد مصداقية هذا التصور نستشهد بما ورد بالكتاب الأبيض المعد من طرف الحكومة البريطانية سنة 1330 والتي أقرت خلاله وبشكل صريح أن: “السجن ما هو إلا وسيلة باهظة التكاليف لتحويل الأشرار إلى أشخاص أكثر شرا…”.

« La prison est une solution coûteuse pour rendre les mauvais individus encore pire… »[2]

إنها الأزمة التي أصبحت لصيقة بالسياسات الجنائية المعاصرة، والتي لم تكن لتصبح على النحو التي عليه الآن لولا الخلل في أدوات حماية المجتمع من الجريمة، وفي مقدمتها القانون الجنائي الذي بات يعاني من التضخم التشريعي، وترهل الأجهزة القضائية وشيوع الحلول الظرفية ذات المنحى الديماغوجي.

وعليه فهناك عدة أسباب تشريعية وقضائية تبرر عجز المنظومة العقابية المغربية عن تحقيق الأغراض المستقبلية للعقوبة والقضاء على ظاهرة العود الجنائي بحيث أن الاعتماد على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة كجزاء للعديد من الجرائم أدى إلى اعتبار السجن  الأداة الأساسية للعدالة الجنائية للرد على تحديات الإجرام والانحراف، حتى أصبح سلب الحرية محور السياسة العقابية الحديثة التي باتت تعاني من تضخم المادة العقابية، وأيضا الدور الذي تلعبه المؤسسات العقابية المغربية في تكريس أزمة المنظومة الجنائية المغربية.

وتبعا لذلك فالوقاية من الجريمة ليست بالأمر السهل أو الهين، وهو الأمر الذي يستدعي عقلنة التعامل مع الظاهرة الإجرامية بكيفية أكثر دقة ونضج وواقعية.

فاعتماد التشريعات على الآليات الزجرية للقانون الجنائي كحل لحماية مصالح المجتمع أدى إلى تفاقم سياسة التجريم والعقاب، حيث نجد المشرع يتدخل في كل المجالات ليضفي صفة الجريمة على العديد من الأفعال البسيطة ويعاقب عليها بعقوبات زجرية تؤدي بالمحكوم عليه إلى الخضوع لمساوئ العقوبة السالبة القصيرة المدة مع العلم أن مرتكبيها ليسوا في حاجة إلى تأهيل معين، وليس لهم من الخطورة الإجرامية ما يلزم الزج بهم في السجن[3].

فتداعيات هذه العقوبة واضحة و جلية، ففضلا عن كونها لا تكفي بطبيعتها –بحكم قصر مدتها- لإصلاح المحكوم عليه، واستفادته من برامج الإصلاح والتقويم ومن استراتيجية التأهيل وإعادة الإدماج، فإنها تؤدي به إلى الاحتكاك بالوسط السجني، والاختلاط بمن تعودوا عليه، مع ما يترتب عن ذلك من اكتساب سلوكيات انحرافية أكثر خطورة، وتشبع بقيم فاسدة وهو ما يعزر فرص عودتهم للإجرام.

كما يعتبر اللجوء المفرط إلى آلية الاعتقال الاحتياطي عاملا رئيسيا في اكتظاظ السجون والذي يؤثر بدوره على ظروف الاعتقال وشروط أنسنته.

ويمكن ربط فشل السياسة الجنائية في التحكم في مستوى الاعتقال الاحتياطي بعدة أسباب:

  • غياب معايير قانونية دقيقة لاتخاذه مما يفسح المجال للتقدير الشخصي للقضاة المخول لهم حق اتخاذه الذين تختلف نظرتهم حول ضمانات الحضور وخطورة الجريمة وخطورة الفاعل، وهي عناصر عادة ما يشترطها القانون لإيقاع الاعتقال الاحتياطي.
  • تأثير الرأي العام على قرارات القضاة، إذ تكون محل انتقاده في حالة عدم إيقاع الاعتقال الاحتياطي أكثر مما تنتقد قراراتهم في حالة اتخاذه.

ومن الأكيد أن هناك أسبابا أخرى تدعو قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة إلى اتخاذ تدابير الاعتقال الاحتياطي كتدبير أمني لتهدئة خواطر الضحايا، أو لإبلاغ رسالة للجمهور بوجود قدر من الحزم والصراحة لمواجهة نوع معين من الجرائم.

 

المطلب الأول: أسباب ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي

يعد الاعتقال الاحتياطي أهم إجراء ماس بحرية الأفراد اعتمده المشرع في قانون المسطرة الجنائية، وأهميته تكمن في خطورته، إذ بمقتضاه تسلب حرية الفرد مدة من الزمن على الرغم من أنه لم يحكم بعد بإدانته ولا يزال متمتعا بضمانة قرينة البراءة كأهم الحقوق الأساسية التي يتعين أن يتمتع بها الإنسان، وهي شرط لازم لضمان المحاكمة العادلة الذي نصت عليه المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي جاء فيها بأن: “كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه”.

فإن كان للإعتقال الاحتياطي مبررات واقعية وقانونية متينة تجعل منه إجراءا ضروريا تسلم به التشريعات ويقبله الفقه والقضاء، فإن ذلك لا يبيح أن يكتوي الناس بناره فيظلمون وتهضم حقوقهم وحرياتهم تذرعا به، فيقضون وراء القضبان شهورا أو سنوات بعلة ضرورة البحث والتحقيق إلى أن تنتهي ببراءتهم وظهور المجرم الحقيقي.

فالإعتقال الاحتياطي من دون شك يعد من أخطر الاجراءات التي تتخذها السلطة القضائية ممثلة في قضاة التحقيق وقضاة النيابة العامة، لما ينطوي عليه من سلب لحرية المتهم دون صدور حكم بإدانته، ذلك أن المتهم الذي قد يأمر باعتقاله احتياطيا، وبعد مدة من الزمن قد تصل لشهور وسنين من الاعتقال داخل السجن، وبعد مناقشة القضية وانتهاء إجراءات المحاكمة قد يصدر حكم ببراءة المتهم أو أمر بعدم المتابعة من قبل قاضي التحقيق بعد مرور مدة من الزمن نال المتهم فيها خلف قضبان السجن ما ناله من المعاناة والآلام السلبية والضرر، إلى النيل من سمعته وسمعة عائلته والمس بعمله ومدخوله وتشريد أطفاله وقطع مورد رزقه[4]، من هنا يتبين لنا أن ظاهرة الاعتقال الاحتياطي تعكس لنا جانبا من القصور في نظام العدالة الجنائية باللجوء المكثف إلى سياسة العقوبات السالبة للحرية وإغفال البدائل الموازية لها كالسراح المؤقت، باعتباره آلية قانونية للتخفيف من الاكتظاظ والوقاية من حالة العود، لاسيما بالنسبة للمعتقلين احتياطيا المفرج عنهم بمقتضى حكم قضائي بالبراءة أو أمر بعدم المتابعة.

الفقرة الأولى: الأسباب القانونية والمسطرية لارتفاع ظاهرة الاعتقال الاحتياطي

إن المشرع المغربي رغم حصره لمداخل الاعتقال الاحتياطي إلا أنه استعمل مصطلحات فضفاضة بحيث يتسع مفهومها لدرجة لا تجد معها النيابة العامة وقضاء التحقيق أي عناء لتبرير لجوئهما إليه وفق ما تقتضيه العبارات التي تمت بها صياغة النص مما يؤدي إلى تضخيم نسبة الاعتقال الاحتياطي.

كما أن التحقيق في الجنح يؤدي إلى إطالة مدة الاعتقال الاحتياطي قبل المحاكمة، وإن التجربة أكدت عدم جدواه في العديد من القضايا حيث يقتصر دوره فقط على إعادة صياغة ما سبق عرضه عند البحث التمهيدي، وكذلك الأخذ بإلزامية التحقيق في بعض الجنايات واعتماده اختياريا في باقي الجنايات رغم وجود غرفتين للبت فيها واحدة ابتدائية وأخرى استئنافية يطيل أمد البث في هذه القضايا.

كما نجد بالإضافة إلى ما سبق ذكره أسباب قانونية أخرى تتمثل أهمها في:

  • ضعف النجاعة القضائية المتجسد في البطء في تصريف ملفات المعتقلين وتأخر البت فيها يؤدي حتما إلى ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي.
  • إن عدم تطوير خيارات السياسة الجنائية نحو بدائل الدعوى العمومية وبدائل الاعتقال الاحتياطي وبدائل العقوبات السالبة للحرية ساهم بشكل كبير في ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي.
  • إن عدم ترشيد وعقلنة الطعون المقدمة من طرف النيابة العامة يؤدي إلى إطالة مسطرة المحاكمة، ويساهم في ارتفاع نسبة المعتقلين الاحتياطيين.

الفقرة الثانية: الأسباب القانونية الموضوعية

بالإضافة إلى الأسباب القانونية المسطرية نجد الأسباب القانونية الموضوعية والتي يمكن حصرها في أمرين أساسيين:

الأول يكمن في عدم ملائمة مجموعة من نصوص القانون الجنائي لمفهوم السياسة الجنائية الحالية مثل ذلك جرائم السرقة الموصوفة وجرائم عدم توفير مؤونة الشيك والتي تشكل نسبة هامة من حالات الاعتقال الاحتياطي. و الثاني يهم بعض الجرائم ذات العقوبات الحبسية المحدودة أو القصيرة المدة والتي لم تعد تحقق الهدف المتوخى منها.

الفقرة الثالثة: الأسباب الاجتماعية

إن الأسباب الاجتماعية تساهم في ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي بشكل مهم، حيث نجد المجتمع المغربي يرى أن لا عدالة بدون اعتقال فوري، الشيء الذي يشكل ضغطا معنويا على النيابة العامة وقضاة التحقيق في اللجوء إلى الاعتقال. كما أن ضعف التخليق داخل منظومة العدالة يدفع قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق إلى استخدام الاعتقال الاحتياطي لإبعاد الشبهات عنهم[5].

وعليه فإذا كان الاعتقال الاحتياطي من إجراءات التحقيق الخطيرة باعتباره إجراء سالبا للحرية، فإن الأخطر هو ارتفاع مؤشر هذا الإجراء في السنوات الأخيرة. الأمر الذي دفع مختلف الفعاليات إلى المناداة بترشيده عن طريق تقييد سلطات قاضي التحقيق بشأنه بالإضافة إلى تفعيل نظام المراقبة القضائية باعتباره إجراءا مقيدا للحرية لا سالبا للحرية.

ومن خلال الاطلاع على مجموع الإحصائيات المعتمدة على طول السنوات الأخيرة والمتعلقة بتطور نسبة الاعتقال الاحتياطي ومقارنتها بنسبة المفرج عنهم، يتضح جليا التطور الملفت لهذا التدبير مقارنة مع باقي التدابير الأخرى.

بحيث خلال السنة الأخيرة والمتعلقة بتطور نسبة الاعتقال الاحتياطي ومقارنتها بنسبة المفرج عنهم، يتضح جليا التطور الملفت لهذا التدبير مقارنة مع باقي التدابير الأخرى.

 

المطلب الثاني: سلبيات الاعتقال الاحتياطي

إن سلبيات الاعتقال الاحتياطي على مستوى مساسه بمبادئ قانونية راسخة مثل مبدأ الحرية الشخصية، ومبدأ الأصل في المتهم البراءة، وعلى مستوى آثاره السلبية على شخص المتهم ومركزه القانوني، شكلت دون أدنى شك مبررات قوية استدعت البحث عن آليات بديلة لنظام الاعتقال الاحتياطي تكفل سير تطبيق الإجراءات القضائية دون اللجوء إلى سلب حرية المتهم[6].

مع أن المشرع المغربي ومن خلال مشروع قانون المسطرة الجنائية تضمن الأمر بوضع المتهم تحت المراقبة القضائية تبعا لقرار قاضي التحقيق وهي ثمانية عشر تدبير وأضاف الوضع تحت المراقبة الإلكترونية كتدبير تاسع عشر ونص عليه في المواد 1-174، 2-174، 3-174.

الفقرة الأولى: الإفراط في اللجوء للاعتقال الاحتياطي

يعتبر الإفراط في اللجوء للاعتقال الاحتياطي من بين الأسباب المباشرة لظاهرة الاكتظاظ، ويقصد بالاعتقال الاحتياطي في معناه الواسع فترة الاعتقال التي يقضيها المتهم في ذمة التحقيق بسبب جناية أو جنحة منسوبة إليه أو خلال فترة محاكمته قبل صدور حكم حائز لقوة الشيء المقضي به أي قبل أن يصدر عليه حكم قطعي قابل للتنفيذ[7].

إن الاعتقال يعد عقوبة قبل الأوان رغم المبدأ السائد في القوانين الجنائية أن الأصل في الشخص البراءة إلى أن تثبت إدانته، وإذا كانت هناك أسباب تسوغه عديدة كالتخفيف من حدة غضب المجتمع، أو الحيلولة دون ارتكاب المعتقل لجريمة أخرى وهو طليق خصوصا لو تعلق الأمر بالحرص على سلامة التحقيق من أجل الوصول إلى الحقيقة أو منع الشخص المشتبه فيه من الفرار من يد العدالة[8]. وبالرغم من أن المشرع نص على الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي، إلا أن واقع الممارسة القضائية قد اتسم بالغلو في تقريره واللجوء إليه مما يساهم في تضخيم ظاهرة الاكتظاظ وللوقوف على هذه النقط سيتم التطرق أولا إلى بيان الجهات المخول لها سلطة الاعتقال الاحتياطي، ثم تسليط الضوء على كون الخروج عن الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي من خلال بعض المؤشرات الإحصائية[9].

أولا: الجهات المخول لها سلطة الاعتقال الاحتياطي

لقد أوكل المشرع المغربي سلطة الاعتقال لثلاث جهات، وكيل الملك (النيابة العامة) وقاضي التحقيق، وهيئة الحكم إلا أنه سيتم الاقتصار فقط على الاعتقال بأمر من النيابة العامة (أ) والاعتقال بأمر من قاضي التحقيق (ب).

 

 

  • الاعتقال الاحتياطي بأمر من وكيل الملك

إن النيابة العامة بما تتوفر عليه من سلطات وصلاحيات واسعة تجعلها تأمر بإيداع كل متهم داخل السجن، وذلك كلما توفرت حالة من حالات التلبس المشار إليها في المادة 56 من ق.م.ج، أو كانت الجريمة جنحة معاقب عليها بالحبس لا بالغرامة فقط، أو غياب ضمانات الحضور في مرتكب الفعل الجرمي، إلا أن هذا الاعتقال الصادر عن النيابة العامة لم يلقى القبول الكافي من بعض المحامين، حيث قوبل بنقاشات حادة خاصة من طرف دفاع المتهمين، وذلك كلما توفر على ضمانات الحضور أو غياب حالة التلبس.

وهذه الصلاحيات الواسعة التي تتوفر النيابة العامة عليها ناتجة عن مقتضيات المادة 47 من ق.م.ج، التي أضافت مقتضى جديد لم يكن متوفر في قانون المسطرة الجنائية القديم، ألا وهو وصف خطورة الفاعل على النظام العام أو على سلامة الأشخاص، كسبب يبرر لجوء النيابة العامة إلى اعتقال المتهم حتى ولو كانت ضمانات الحضور كافية وتتوفر في المتهم، وحتى ولو لم يضبط متلبسا بارتكاب الجريمة[10].

هكذا يتضح أن النيابة العامة يمكن لها القيام باعتقال المتهم متى تبين لها ضرورة فعل ذلك الشيء الذي ينتج عنه كثرة المعتقلين الاحتياطيين داخل السجون مما يساهم في ارتفاع عدد الساكنة السجنية، وبالتالي إحداث أزمة اكتظاظ داخل المؤسسة السجنية، لذلك وجب على النيابة العامة اعتماد طريقة ملائمة المتابعات، مما سيساهم في تخفيف العبء على كل من قضاء الحكم وحتى على المؤسسات السجنية، وكذا تفعيل بدائل الاعتقال الاحتياطي التي أقرها المشرع بدون استثناء متى سمحت الظروف بذلك وتكون غايتها تحقيق المعادلة الأمنية الوقائية في نفس الوقت وذلك عن طريق تحقيق التوازن بين الحفاظ على الأمن الاجتماعي وتوفير الظروف اللازمة لضمان السير العادي للبحث الجنائي والمحاكمة العادلة[11].

  • الاعتقال الاحتياطي بأمر من قاضي التحقيق:

إن الاعتقال الاحتياطي المتخذ من قبل قاضي التحقيق يمس بحرية المتهم التي تعد أغلى نعمة يتمتع بها، فهذا التدبير يمثل ثاني أخطر القرارات التي يتخذها قاضي التحقيق بعد قرار الاتهام، وإحدى أهم لحظات المرحلة الإعدادية للقضايا الجنائية، بل إنه أخطر ما في المسطرة الجنائية على الإطلاق وأحد المشاكل الشائكة والمطروحة باستمرار في مسطرة التحقيق الإعدادي، فهو أشد الإجراءات مساسا بالحرية وأكثرها تعارضا مع قرينة البراءة وحقوق الدفاع، حيث يسلب الحرية لشخص يفترض فيه أنه بريء، وكأنه حكم مؤقت بالإدانة صادر بشكل سري وغيابي بدون تعليل وكأنها عقوبة سابقة لأوانها صادرة من جهة غير مختصة[12].

وعليه فإن التحقيق قد يفضي إلى اعتقال الشخص قبل ثبوت إدانته، وهذا الاعتقال لا يكون إلا عندما هناك دواعي تستدعيه، غير أنه في بعض الأحيان يكون لصالح المتهم نفسه، كما هو الشأن بالنسبة للحالة التي يكون فيها الاعتقال حفاظا على سلامة المتهم من انتقام الضحية أو أهله[13].

وبالرغم من أهمية هذا الاعتقال فإنه يبقى مجرد تدبير استثنائي، نظرا لكون حرية الشخص هي الأصل والاعتقال هو الاستثناء[14]، وعليه لا يجب اللجوء إلى هذا الإجراء إلا عند الضرورة القصوى. وذلك على اعتبار أن المعتقل ربما يكون بريء وبالتالي يحصل على البراءة، ولهذا وجب التفكير قبل الإقدام على مثل هذا الإجراء الذي يؤزم وضعية السجون نتيجة لارتفاع عدد نزلاء هذه المؤسسة، سواء كانوا مدانين أو احتياطيين، مما يتسبب في حصول اكتظاظ داخلها، هذا في الوقت الذي كان من الأجدر متابعتهم في حالة سراح. غير أن ما يلاحظ هو لجوء قضاة التحقيق إلى الاعتقال الاحتياطي بدل الاعتماد على بدائله المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية.

ثانيا: الخروج عن الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي:

نظم المشرع المغربي مؤسسة الاعتقال الاحتياطي في المواد من 159 و175 إلى 188 من قانون المسطرة الجنائية، واعتبره مجرد تدبير استثنائي، ورغم الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي فإن التحول الذي أسبغته الممارسة القضائية والذي غير من طبيعة تدبير الاعتقال الاحتياطي من تدبير استثنائي حسب المادة 159 من ق.م.ج، إلى قاعدة يطبق كما لو كان هو الأصل والحرية هي الاستثناء، وبالتالي الانتقال من قرينة البراءة إلى تكريس مبدأ افتراض الإدانة[15]، وتظهر مظاهر الخروج عن الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي سواء من خلال المقتضيات القانونية المنظمة له أو من خلال الممارسة القضائية.

 

 

أ-على مستوى المقتضيات القانونية المنظمة للاعتقال الاحتياطي.                                                     

فبالنسبة للنصوص المنظمة للاعتقال الاحتياطي فيلاحظ أن المشرع المغربي له مواقف غريبة وشادة حيث نجده وتحت تأثير الهاجس الأمني، خول قاضي التحقيق سلطة تقديرية واسعة في تقرير الاعتقال الاحتياطي في أي مرحلة من مراحل التحقيق، ولو ضد متهم خاضع للوضع تحت المراقبة القضائية (المادة 175 من ق.م.ج)، فهو يعتبر الاعتقال الاحتياطي تدبيرا استثنائيا ويخول الاستعاضة عنه بتدبير الوضع تحت المراقبة القضائية، ثم يعود ليفصح عن موقفه الذي يجعل من الاعتقال الاحتياطي في غياب ثقافة البديل الأسلوب القسري المفضل والأنجع لإحكام القبضة على المتهم[16].

هذا إلى جانب عمومية واتساع الحالات الواردة في نص المادة 160 من ق.م.ج التي تبقى مستعصية على مستوى ضبطها وحصرها بدقة، بل تكاد تستغرق مختلف الحالات والوقائع التي تعرض عمليا على قاضي التحقيق.

أضف إلى ما سبق أن المشرع المغربي لا يخول تعويضا للمعتقل الاحتياطي الذي تثبت براءته ويفرج عنه، رغم أن الدستور الجديد لسنة 2011، قد أقر مبدأ مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاء، بحيث نص في المادة 122 منه على أنه “يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة”، غير أن هذه المادة بقيت يتيمة هي والعدم سواء، بعدم نص المشرع المغربي على مسطرة خاصة بهذا التعويض ولا بشروطه ولا معيار تحديده لذلك يبقى مطالبا بوضع تأطير تشريعي دقيق لهذه المسألة لأهميتها في جبر خاطر ضحايا الاعتقال الاحتياطي[17].

ويبدو أن المشرع غير مدرك بعد بخطورة هذا التدبير ولتداعياته السلبية ما دام لم يكلف نفسه عناء منح تعويض عادل للمعتقل الاحتياطي الذي برئت ساحته وأخلي سبيله[18]، ولا أحد ينكر الانعكاسات السلبية للاعتقال الاحتياطي لحالة المعتقل التي تكون أكثر حساسية من المعتقل المدان، إذ يحرم المعتقل الاحتياطي من تنظيم حياته كما يرتضي ومن الحفاظ على كل العلائق التي نسجها مع الآخرين، ومن البقاء بالقرب من كل الأشياء التي تسهل اتصاله مع العالم الخارجي، فالألم مضاعف لديهم بالنظر إلى كون الاعتقال غالبا ما يأتيهم على حين بغتة وبطريقة فجائية تقذف بهم إلى الشعور بالشك والقلق بسبب عدم معرفتهم المصير الذي ينتظرهم، فلا يعرفون المدة التي سوف يقضونها في الاعتقال قبل أن تبت المحكمة في مصائرهم، كل هذه الآثار تسبب لهم مزيدا من الضيق والاختناق يدفعان بهم إلى ارتكاب أعمال تهورية كالإقبال على الانتحار.

ب- على مستوى الممارسة القضائية

إن القضاء الجنائي لم يتعامل مع هذا التدبير الاستثنائي بالحكمة والتبصر والرصانة اللازمة، إذ كثيرا ما تلجأ إليه السلطات القضائية حتى في غير حالات التلبس، وفي غياب أدلة قوية أو اعتراف أو خطورة على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو انعدام ضمانات الحضور، حيث يغدو الاعتقال في هذه الأحوال غير مبني على أساس شرعي وقوي أو مسوغات قانونية واقعية معقولة. والنتيجة أن المعتقل الاحتياطي يتكبد في صمت ضررا ماديا ومعنويا أكيدا. والواقع أن معضلة الاكتظاظ هاته التي تشهدها المؤسسات السجنية من جراء الكم الهائل لنزلائها بمن فيهم المعتقلون الاحتياطيون الذي يفوق عددهم طاقتها الاستيعابية من شأنها أن تنسف كل الجهود الرامية إلى أنسنة ظروف الاعتقال، وإعطاء مضامين جديدة لفلسفة العقاب التي تتوخى في المقام الأول الإصلاح والتهذيب، والتأهيل وإعادة الإدماج.

ج- واقع الاعتقال الاحتياط (مؤشرات إحصائية)                                                                        

تؤكد الاحصائيات الجنائية أن عدد المعتقلين الاحتياطيين تتزايد بشكل ملفت للانتباه فهم يشكلون نصف الساكنة السجنية تقريبا، فقد بلغ عدد المعتقلين في متم شهر دجنبر 2011 ما يناهز 27502 معتقلا، في حين بلغ عددهم في متم دجنبر 2012 ما يقارب 29799 معتقلا، حيث يلاحظ ارتفاع نسبة المعتقلين الاحتياطيين ويوضح الجدول الآتي المعتقلين الاحتياطيين من متم دجنبر 2000 إلى متم دجنبر 2012[19]

السنوات 2000 2001 2002 2003 2004 2005 2006 2007 2008 2009 2010 2011 2012
المعتقلون الاحتياطيون في متم شهر دجنبر 5656 47631 23930 20326 90326 63626 92024 92225 28980 12515 14487 27502 29799

كما يبين الجدول الآتي تطور عدد المعتقلين حسب الوضعية الجنائية من سنة 2012 إلى 2016[20].

السنوات المدانون الاحتياطيون المجموع نسبة الاحتياطيين
2012 40959 29799 70758 42,11
2013 40957 31048 72005 43,12
2014 43119 31822 74941 42,46
2015 43675 30364 74039 41,01
2016 46876 31840 78716 40,45

 

[1]– ياسين الأيوبي، “تعثر العدالة الجنائية”، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية طنجة، السنة الجامعية 2009/2008، ص: 67،68.

[2]– بوجمعة الزناكي، “بدائل العقوبات السالبة للحرية”، مجلة الإشعاع، العدد 24، ص: 90.

[3]– علال البختي علاء، “الجوانب الإطرائية في القانون الجنائي المغربي”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بطنجة، الموسم الجامعي2014/2015، ص: 172، 173.

[4]– سعيد بوطويل، “الاعتقال الاحتياطي بين إجراءات البحث التمهيدي والقضائي”، الطبعة الأولى 2017، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ص: 340، 341.

[5]– أحمد ميدة، “رهانات ترشيد الاعتقال الاحتياطي في ظل مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية”، مقال منشور بمجلة المنارة للدراسات القانونية والإدارية، عدد خاص 2017، ص: 134، 135 و136.

[6]– محمد موعلي، “الاعتقال والرهانات المستقبلية”، مقال منشور بالمجلة الإلكترونية مغرب القانون، بتاريخ 6 ديسمبر 2018.

[7]– الاعتقال الاحتياطي، مجلة الشؤون الجنائية، عدد خاص بمناسبة الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة “العدالة الجنائية بالمغرب: أرقام ومعطيات”، مطبعة إليت، السنة 2012، العدد الثاني، ص: 117.

[8]– المختار العيادي، “الاعتقال الاحتياطي أمام المحكمة الابتدائية الواقع القانوني والبدائل المتاحة”، مجلة الملف، السنة 2010، العدد 16، ص:163.

[9]– لبنى دادا، “أزمة العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة بالمغرب”، بحث لنيل دبلوم الماستر، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمكناس، السنة الجامعية 2017/2016، ص:10، 11، 12.

[10]– المختار العيادي، “الاعتقال الاحتياطي أمام المحكمة الابتدائية الواقع القانوني والبدائل المتاحة”، مرجع سابق، ص:169.

[11]– عبد العزيز كباري،”الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية بالمغرب: أية استراتيجية لتفاديه؟”، بحث لنيل دبلوم الدراسات المتخصصة في علوم التربية، وحدة التكوين والبحث وإعادة تربية الجانحين والتأهيل المهني، قسم علم النفس التربوي، جامعة محمد الخامس السويسي، السنة الجامعية 2006/2005، ص:153، 146.

[12]– هشام بنعلي، “بطلان الإجراءات الجنائية دراسة تأهيلية نظرية وعلمية مقارنة”، دون طبعة، مطبعة دار السلام، السنة 2017، ص: 247، 248.

[13]– محمد أغربي، “اكتظاظ السجون وأثره على برامج الاصلاح والتأهيل”، رسالة ماستر في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، شعبة القانون الخاص، جامعة محمد الاول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2008/2007، ص: 11.

[14]– الطيب الأزرق، “الاعتقال الاحتياطي بين قانون المسطرة الجنائية الحالي وقانون المسطرة الجنائية الجديد”، مجلة أنفاس الحقوقية، عدد مزدوج 2،3، مطبعة دار السلام للنشر والتوزيع، دجنبر 2003، ص: 98.

[15]– محمد أحداف، “التكلفة الاقتصادية والحقوقية لنظام الاعتقال الاحتياطي من أجل حكامة قضائية وطيدة”، مجلة العلوم الجنائية، مطبعة الأمنية، السنة 2015، ص: 34.

[16]– نور الدين العمراني، “مدى احترام الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي”، مجلة القانون المغربي، يونيو 2013، العدد 21، ص: 232، 233.

[17]– سعيد بوطويل، “الاعتقال الاحتياطي بين إجراءات البحث التمهيدي والقضائي-المبررات والضمانات”، م.س. ص: 353 و354.

[18]– نور الدين العمراني، “مدى احترام الطبيعة الاستثنائية للاعتقال الاحتياطي”، م.س، ص: 234.

[19]– عبد القادر الكيحل، “المعاملة العقابية بالمغرب: دراسة تحليلية نقدية مقارنة للقانون 98، 23 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية فاس، السنة الجامعية 2014/2013، ص: 539.

[20]– إحصائيات المندوبية السامية لإدارة السجون وإعادة الادماج ما بين الفترة من سنة 2012 إلى 2016، منشور بالموقع الرسمي للمندوبية www.dgapr.gov.ma.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى