سلسلة الأبحاث الجامعية و الأكاديمية العدد 31 ماي 2020 : الحماية الجنائية للمال العام
تعد النظم القانونية على رأس قائمة الوسائل والآليات التي تكفل تحقيق الاستقرار والأمن والمساواة والعدالة، سواء من خلال المنظور السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. خاصة وأن أهم الظواهر التي شهدها القرن الحالي تلك الزيادة المطردة في المسؤوليات والالتزامات التي تقوم بها الدولة، والتي لم يعد نشاطها مقصورا على الوظائف التقليدية المتمثلة في الدفاع عن الأفراد خارجيا وحمايتهم داخليا، وإقامة العدل فيما بينهم، بل العمل على تكريس مجموعة من المبادئ من قبيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، والمساواة بغرض إرساء دعائم دولة القانون والعمل على تخليق الحياة العامة بغية تحقيق التنمية المستدامة[1].
ومن أجل قيام الدولة بوظائفها على النحو المنشود، يتطلب فضلا عن كفاءة جهازها الإداري واحترافيته، ملكيتها لكثير من الأموال، لذلك فقد عملت الدول منذ نشأتها على توسيع حجم هذه الملكية، وازداد حرصها على ذلك بعد أن تعدى دورها التقليدي البحث إلى الدور التدخلي النشط والفعال.
وغني عن البيان، أن من مقتضيات دولة القانون والمؤسسات، العمل جاهدا لتحقيق وترسيخ قواعد تخليق الحياة العامة، ومحاربة الفساد المالي الذي ينخر مفاصل وكيان المؤسسات العامة للدولة، وذلك عن طريق إيجاد أرضية صلبة قادرة على ضمان الحماية اللازمة للمال العام، والذي يشكل إلى جانب العنصر البشري الركيزتين الأساسيتين لقيام الدولة، فمن خلاله تضع هذه الأخيرة مخططاتها الإنمائية، و به تستطيع أن تجلب الرفاهية والطمأنينة لسكانها.
وقد عرفت وظيفة الدولة في علاقتها بالمال العام تقلبات بين الماضي والحاضر، إذ لم تعد وظيفتها مقصورة على حفظ النظام العام فقط، بل تعدته إلى الإسهام في النشاط الاقتصادي ومشاركة الأفراد في ممارسة هذا النشاط بأوجه عديدة ومختلفة، من قبيل ذلك مثلا استثمار الدولة برأسمالها إلى جانب الأفراد في مؤسسات الاقتصاد المختلط، من أجل تحسين الكيان الاقتصادي للمجتمع وأيضا التحكم في التوجهات الكبرى له.ونظرا لما للمال العام من أهمية في إشباع العديد من الاحتياجات الجماعية للأفراد، وإسهامه في خدمة المرافق العامة، فإن الدولة هي الجهة المنوط بها تدبير الشأن العام وتلبية الرغبات المختلفة للمواطنين، وهي تحتاج في ذلك، إلى إنشاء العديد من المؤسسات والأجهزة والمرافق التابعة لها لتزويدها بالأطر والكفاءات اللازمة، بالإضافة إلى إعداد وتنفيذ المشاريع المتنوعة، ثابتة كانت أو منقولة، ومن ثم فالأموال هي الوسيلة الضرورية لدوام واستمرار الدولة وأجهزتها ومرافقها الإدارية والكفيلة بتفعيل تمثيليتها للمجتمع والأفراد على أرض الواقع .
و لا يشك أحد أن المال العام هو أحد مصادر قوة كل بلد وأساس تنميته ونهضته، إلى جانب طبعا العديد من مصادر القوة الأخرى. لذلك فهو يستأثر باهتمام الدولة على جميع المستويات التشريعية والمؤسساتية.
وتتداخل المجالات المؤثرة في حماية المال العام وتتنوع، إذ تتفاعل في تلك الحماية مختلف العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك أن الحفاظ على السير العادي للمرفق العمومي وضمان استمراره يفرض إيجاد آليات وقائية تهدف أساسا إلى وضع قواعد وتدابير تنظيمية وسلوكية تحول دون المساس بالمال العام من أصله، حيث تحقق تلك التدابير هدفين أساسيين، فهي من جهة تعزز آلية النزاهة و الإدارة السليمة للشؤون العمومية والممتلكات العامة، كوضع مدونات سلوكية تهدف إلى الأداء الصحيح والمشرف والسليم للوظائف العمومية[2]، والحرص على مبادئ الكفاءة والشفافية والمعايير الموضوعية في الولوج إليها، ومن جهة ثانية تمنع الفساد وتحد من انتشار الجرائم الماسة بالمال العام، من قبيل ذلك وضع نظام أجور عادل، حماية للموظفين النزهاء من الوقوع في الفساد المالي، إضافة إلى سن قواعد تشريعية وتنظيمية لتدبير الأموال العمومية وفق مبادئ الشفافية والتنافس الحر في مجال الصفقات العمومية على وجه الخصوص، وفي هذا الصدد تحضرنا القولة الشهيرة للأستاذ إدريس الضحاك حيث قال “فالرشاوى على الصفقات ظاهرة عالمية خاصة في العالم المتقدم لشراء الذمم في العالم النامي”.
إلى جانب هذه التدابير الوقائية فمؤسسات الحكامة يمكنها أن تؤدي دورا كبيرا في مجال حماية المال العام سواء من خلال ما تقوم به من عملية تفتيش ورقابة، أو من خلال ما تقدمه من توصيات وأفكار ودراسات من أجل تطوير أداء المؤسسات المعنية ورقابتها في المجال المالي، الأمر الذي يقتضي معه ضرورة تعزيز استقلالها المالي والإداري، وتوفير الإمكانات المادية و البشرية و اللوجيستيكية لها للقيام بدورها في محاربة مختلف أشكال الفساد المالي، بحيث يكون همها الأكبر السهر على حماية المال العام من خلال التتبع والمراقبة، وتنفيذ سياسات الدولة تجاه المال العام لأداء رسالته ودوره الهام داخل الدولة والمجتمع وهنا يحضرنا الخطاب الملكي[3]، بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999، الذي دعا فيه جلالة الملك للإسراع في إعداد القوانين المنظمة للمجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات، باعتبارها إطارا إداريا وقضائيا قائما لحماية المال العام من العبث والتعدي عليه، فقد صدر الظهير الشريف المؤرخ في 13 يونيو 2002 القاضي بتنفيذ القانون رقم 62-99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، معلنا بذلك ولادة إطار إداري وقضائي همه السهر على حماية المال العام، وهو المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات.
كما منح الدستور الحالي للمملكة، من خلال الباب العاشر، المجلس الأعلى للحسابات، باعتباره الهيأة المؤتمنة على حماية المال العام، مكانة متميزة تظهر على الخصوص في توسيع علاقاته مع مختلف المؤسسات الدستورية والسياسية، وكذا في السلط التي أصبح يتمتع بها في هذا المجال.
وإذا كان المشرع المغربي قد عمل على تسييج وإحاطة المال العام بكل هذه القواعد القانونية والتنظيمية سعيا منه لحمايته من كل اعتداء، فإن ذلك لا يعفي القضاء الوطني من مسؤوليته الكبيرة في التطبيق السليم لتلك القواعد في اتجاه تحقيق الحماية الفعالة للمال العام، حيث تصدى بكل مهنية للإشكالات العملية التي طرحتها العديد من قضايا جرائم المال العام، ولعل الدور الكبير الذي قامت به المحكمة الخاصة للعدل قبل حذفها[4] لخير مثال على ذلك.
وإزاء هذه الإجراءات التي تنهض بها الدولة في مواجهة الأخطار المحدقة بالمال العام، فقد منح الدستور الحالي للمجتمع المدني مكانة هامة في الرقابة و التأطير[5]، حيث يمكن أن يؤدي دورا كبيرا وبشكل إيجابي في الإسهام في حماية المال العام، فمن جهة أولى يمكن أن تضطلع جمعيات المجتمع المدني ومنظماته وقواه الحية بدور أساسي باعتبارها قوة اقتراحية، وذلك عبر تقديم مقترحات رامية إلى تحصين المال العام من شتى صنوف الاعتداء وذلك كله في إطار الأدوار الدستورية الجديدة الممنوحة للمجتمع المدني باعتباره جزء لا يتجزأ من القوى الحية للمجتمع.
أمام كل هذه الآليات المختلفة والمتنوعة تبقى الحماية التشريعية للمال العام ذات أهمية بالغة، وهي تشمل الحماية الإدارية والحماية المدنية إضافة إلى الحماية الجنائية، وتعد هذه الأخيرة جوهر وغاية بحثنا هذا وتهتم أساسا بتعداد مختلف الأفعال و التروك التي تشكل جرائم تمس المال العام موضوع الدراسة.
وتتعدد الجرائم المتعلقة بالمال العام، إلى صنف يرتكبه علاوة على الموظف العمومي، عامة الناس ويتعلق الأمر في هذه الحالة بجرائم الإتلاف وتخريب الممتلكات العمومية وسرقة المال العام، وصنف ثان لا يرتكبه إلا ذوو الصفة، وهم الموظفون العموميون، ويتعلق الأمر في هذه الحالة بجرائم الاختلاس، والتبديد وغيرها من الجرائم الماسة بالمال العام والتي تتطلب توافر عنصر الصفة في مرتكبيها والعمل على دراسة وبحث دور مؤسسة القضاء في تعاطيه مع هذه الجرائم وتقييم دوره في حماية المال العام وتحقيق مبدأي ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
أولا: تحديد المفاهيم:
- الحماية
الحماية في اللغة تعني منع الشيء والدفع عنه، وفي الاصطلاح لا تختلف كثيرا عن معنى الحماية في اللغة وإنما يضاف إليها معنى الحماية المطلوبة، فمثلا حماية المال العام هي دفع أي اعتداء عليه أو مساس به[6].
- الجنائية
لغة يقال جنى على قومه جناية أي أذنب ذنبا يؤاخذ به وهو اسم لفعل مجرم سواء كان في مال أو نفس أو غيرها
اصطلاحا الحماية الجنائية نوعان موضوعية وأخرى إجرائية حيت يتأسس النوع الأول على تتبع الأنشطة المراد حمايتها وذلك بجعل الشيء عنصرا تكوينيا في التجريم أو ظرفا مشددا، بينما تستهدف الحماية الإجرائية تقرير ميزة أو استثناء على انطباق كل أو وبعض القواعد الإجرائية العامة في حالات خاصة ويستلزم تحقيق المصلحة فيها تقرير تلك الميزة.
- المال العام
المال لغة هو ما يملك من أشياء واصطلاحا هي كل شيء قابل للتملك والانتفاع به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصرفا أو استغلالا أو استثمارا، أما صفة العمومية للمال من خلال لفظ وصفة العمومية للمال فيقصد منها تلك الأموال التي تكون ملكيتها عائدة للدولة بصفة خاصة، ويكون لعموم الناس الحق في الانتفاع بها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وفقا لشروط وضوابط مسبقة. أي مجموع الأموال المنقولة والثابتة المملوكة للدولة والمؤسسات والمرافق التابعة لها، والتي تخصص لتحقيق المنفعة العامة.
والمال العام هو كل ما تملكه الدولة وسائر الأشخاص المعنوية العامة من أموال سواء عقارية و منقولة، تخصص لتحقيق المنفعة العامة سواء بطبيعتها أو بتهيئة الإنسان لها أو بنص تشريعي صريح[7]، وتسمى “الضومين” العام وتخضع لنظام قانوني متميز وقواعد قانونية مختلفة، و إسباغ صفة العمومية على أموال الإدارة العمومية يقتضي إخضاعه لمجموعة من القواعد القانونية التي لا نجد نضيرا لها بالنسبة لأموال الأفراد نظرا لتخصيص هذا المال للنفع العام و أهم هذه القواعد: عدم جواز التصرف في المال العام وعدم جواز تملك المال العام بالتقادم وعدم قابلية الأموال العامة للحجز.
مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
مما لاشك فيه أن تكريس الدستور الجديد لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هو بمثابة إعلان عن انبثاق مفهوم دولة الحق والقانون وتجسيد لإرادة الدولة في ما بات يعرف بمسلسل الإصلاح والتحول الديمقراطي الذي حملته على عاتقها منذ فجر الاستقلال، هذا الإصلاح يجب أن تتدخل فيه كل مكونات الدولة ليستجيب لتطلعات المواطنين وللمبادئ الدستورية الجديدة[8] التي اعتبرت ربط المسؤولية بالمحاسبة قاعدة أساسية والركائز الهامة لبناء دولة الحق والقانون
ثانيا: أهمية الموضوع ودواعي اختياره :
يحظى موضوع الحماية الجنائية للمال العام أهمية كبيرة، سواء بالنظر إلى المال محل الحماية، أو بالنظر إلى الدور الذي يؤديه المال العام في حياة الناس من حيث مساسه بمصالح جوهرية لهم، أو للارتباط الوثيق للمال العام بكيان الدولة الاقتصادي والسياسي الاجتماعي، فهناك صلة وثيقة بين نظام الدولة السياسي ونظامها الاقتصادي، فإذا ما حدث أي خلل في النظام الأخير ترتبت آثار سيئة على المستويين الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى صفة الأشخاص الذين يرتكبون معظم أنواع هذه الجرائم وهم الموظفون العموميون كونهم يمثلون الدولة ويعبرون عن سمعتها، فضلا عن كون الموظف العمومي والمال العام يشكلان أداتا الدولة في النهوض بدورها لخدمة المجتمع، ووقوع الجريمة غالبا من الموظف العام على المال العام ينم بوضوح عن ضعف الدولة في القيام بعملها المتمثل في ضبط الإدارة ومسيريها، الأمر الذي يؤدي بدون شك إلى إخلال ثقة المواطنين في الدولة.
لقد أتى اختيارنا للموضوع محل الدراسة، كونه يعد ربما أول عمل على مستوى بحوث الرسائل وحتى الدكتوراه بالنسبة لهذه الكلية على الأقل، ونعتقد أن موضوع حماية المال العام جنائيا لم ينل حظه من الدراسات النظرية اللهم في المجال المرتبط بالرقابة التي يمارسها المجلس الأعلى للحسابات على المال العام، وقد وجدت في نفسي الرغبة الكبيرة للكتابة فيه، لما يتضمنه من مستجدات تشريعية ومؤسساتية، وما يتمتع به من راهنيه.
فعلى مستوى المستجدات التشريعية والمؤسساتية في الموضوع لقد صادقت المملكة المغربية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والمؤرخة في 31 أكتوبر 2003، وذلك بموجب الظهير الشريف 1.07.58 المؤرخ في 19 ذي القعدة 1428 الموافق ل 30 نونبر 2007، وبالتالي فإن هذه الاتفاقية سيكون لها بلا شك تأثير بالغ على المقتضيات التشريعية والدستورية في مجال مكافحة الفساد، نظرا للقواعد المهمة التي تتضمنها في هذا المجال.
علاوة على ما جاء في ثنايا دستور يوليوز 2011 من مقتضيات تؤسس لحماية المال العام وتكرس فلسفة تخليق الحياة العامة[9]، وذلك من خلال الارتقاء بالمجلس الأعلى للحسابات إلى هيئة دستورية و تمتيعه بسلط واسعة الفصل 147 من الدستور، إضافة إلى ما نص عليه هذا الأخير من إمكانية متابعة أعضاء الحكومة، وما نتج عن ذلك من متغيرات تهم الاختصاص في متابعة هؤلاء ومحاكمتهم كما جاء التنصيص على ذلك في الفصل 94، زد على ذلك مستجد لا يقل أهمية عن سابقيه وهو المتمثل في رفع الحصانة البرلمانية في مجال جرائم المال العام طبقا لمقتضيات الفصل 64.
و في هذا المجال خطى المشرع المغربي خطوات مهمة على المستوى التشريعي، إذ جاء بمقتضيات جديدة أهمها تنظيمه لجريمة غسل الأموال من خلال الظهير الشريف رقم 79-07-1 الصادر بتاريخ 17/04/2007. والذي جاء ليتمم الباب التاسع من القسم الأول من الكتاب الثالث من مجموعة القانون الجنائي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه، ينضاف إلى ذلك القانون رقم 10.13 الصادر بتاريخ 17/07/2011 المتعلق بحماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين فيما يخص جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ وغيرها.
أما فيما يتعلق براهنية الموضوع: فإن مسألة حماية المال العام تتمتع براهنية دالة في كل مراحل الانتقال الديمقراطي، والمحاولات الجادة لبناء دولة الحق والقانون وقوة المؤسسات في مختلف التجارب الديمقراطية، فقد صاحب موضوع حماية المال العام نقاش سياسي ساخن وإصلاحات دستورية شهدها المغرب في الفترة الأخيرة والتي تكللت بصدور دستور جديد للبلاد اهتم في عمقه بحماية المال العام، إضافة إلى النقاش العام المتعلق بمحاربة الفساد المالي والإداري والذي واكب حركية الربيع العربي، إضافة إلى تصدر هذا الموضوع الرأي العام، حيث أصبح حديث كل الفئات وفي مختلف المنابر، بل لا يزال شعار محاربة الفساد وخاصة المالي منه مجالا خصبا لتنافس النخب والأحزاب السياسية حول أحقية تدبير الشأن العام، ناهيك عن الاهتمام المتزايد بهذا الموضوع من قبل الرأي العام، ولعل أبرز مؤشراته تناسل العديد من هيئات ومنظمات المجتمع المدني الساعية إلى الإسهام في حماية المال العام.
رابعا: إشكال الموضوع
بما أن جرائم المال العام هي جرائم تتميز بعديد الخصوصيات التي تميزها عن غيرها من الجرائم، وتفاقم أرقام ومعطيات جرائم المال العام والفساد المالي بجميع أنواعه من جهة. وتأكيد السلطة السياسية على ضرورة الحفاظ على المال العام، ورفع الشعب لشعار مكافحة الفساد المالي، وانخراط عدة مؤسسات في تفعيل السياسة الجنائية لحماية المال العام من جهة ثانية، فإن ذلك يفترض معرفة كيفية تناولها من قبل المشرع المغربي والعمل القضائي، ويتطلب ذلك الاسترشاد بما هو موجود في التشريع والقضاء المقارن، إذ المبتغى الأسمى والغاية الجوهرية لهذا البحث تتمثل في الإجابة عن سؤال الحماية الجنائية للمال العام، ومدى قدرة ما جاءت به نصوص القانون الجنائي المغربي على ضمان هذه الحماية، من خلال البحث في منظومة الحماية الجنائية بشموليتها الموضوعية والإجرائية معا، وذلك طبعا في ضوء المستجدات التشريعية و التنظيمية في هذا المجال، فإننا سنطرح إشكالية الموضوع من خلال جملة من الأسئلة المركبة الآتية
ما حدود الحماية الجنائية للمال العام على مستويي التشريع المغربي والعمل القضائي الوطني من ذلك؟
خامسا: المنهج المعتمد للبحث
إن طبيعة المعرفة العلمية ومقدرة الإنسان على فهم الواقع واستيعابه و إدراكه ليقينية المعارف والحقائق وسبر أغوارها رهين ومتوقف على مناهج البحث ونظرياته، وعليه يجب أن تكون الأداة والآلية المنهجية على مقاس الظاهرة قيد الدراسة والبحث، لتستطيع الإجابة عن أسئلتها وإشكالاتها الحقيقية دون اجتزاء أو اختزال. وعلى ضوء ذلك نحدد المقاربات التي اعتمدناها في موضوعنا كما يلي:
المنهج التاريخي: وذلك يتجلى في رصد التطور التاريخي للحماية الجنائية للمال العام في محاولة لفهم الحاضر انطلاقا من الماضي ونقده استشرافا للمستقبل، ولفهم بعض التحولات والظواهر المرتبطة بالفساد المالي ونهبه ومصادرة حقوق الأجيال في الاستفادة من هذه الثروة الوطنية التي هي ملك للشعب وعليه لابد من الرجوع إلى الخلفيات التاريخية لفهم منطق تطورها أو جمودها ولأن التاريخ به يبتدئ القانون.
المنهج الوصفي: وعبرنا عن هذه المقاربة من خلال تجميع لمختلف القوانين التي تهم الحماية الجنائية للمال العام وتتبع مستوى التقدم الحاصل تشريعيا والعمل على تركيبها وفق نسق ومنهج سلس وسليم.
المنهج المقارن: ويتمثل هذا الأمر عبر استنادنا في هذا البحث على دراسة أوجه التشابه والاختلاف والتباين بين النظم القانونية العربية والغربية في موضوع “الحماية الجنائية للمال العام”، وطبيعة حضوره القانوني والقضائي في هذه التشريعات، علاوة على معرفة موقف النظام القانوني لهذه الدول من جرائم المال العام، وهو أمر عملنا فيه على تعيين وتحديد مظاهر النقص والكمال في النصوص القانونية الوطنية، كما أن هذه المقاربة ستبين مسألة الخصوصية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، ومدى تأثيرها على موضوع البحث والدراسة، إضافة إلى التأكد من مدى رسوخ حرمة المال العام من خلال تتبع وتحليل السياسات العمومية بل والسياسة الجنائية على الخصوص في علاقتها بحماية المال العام، لهذا فإننا سنعتمد في دراستنا المقارنة على بعض التشريعات وذلك لجملة أسباب مقدرة، وهذه التشريعات هي:
التشريع الفرنسي، والتشريع المصري، والتشريع الكويتي، وترجع في نظرنا أسباب اختيار هذه التشريعات بعينها لأسباب نبررها كالتالي:
فالتشريع الفرنسي لكونه يأتي على رأس أهم التشريعات اللاتينية والمعتمدة أيضا في كلياتنا، وكذلك وهذا هو الأهم باعتبار هذا التشريع المصدر المادي لأغلب تشريعاتنا الوطنية واعتمادها عليه بالأساس، أما التشريع المصري فلأنه يأتي على رأس هرم التشريعات العربية وأقدمها خاصة في مجال حماية المال العام وجرائم التربح غير المشروع.
أما بخصوص التشريع الكويتي فلأنه ينتمي إلى التشريعات العربية من جهة، ولكونه أيضا وهذا هو الأهم يمتلك قانونا خاص بحماية المال العام وهو القانون رقم 1 لسنة 1993 والذي لحقته العديد من التعديلات الهامة.
المنهج التحليلي وفق مقاربة نقدية: تستند هذه المقاربة على تحليل التراكم القانوني التشريعي الحاصل وإعمال آلية التحليل لأبعاد هذه الظاهرة وانعكاساتها الإيجابية والسلبية مع استحضار جدلية النص القانوني والممارسة القضائية، عبر استحضار مجموعة من الأحكام والقرارات القضائية الصادرة في جرائم المال العام، وغايتنا من خلال هذه المقاربة الهامة هي الوقوف على كشف الإختلالات و البياضات التشريعية وتقييم الآليات القضائية في ما تعلق بتجويد وتطوير النص القانوني عبر ممارسة فعل الاجتهاد القضائي السليم والأنجع.
خطة البحث
في ضوء كل هذه المعطيات فإن دراستنا لموضوع هذا البحث ستتم من خلال شقين أساسيين، يتعلق الأول بالإطار الموضوعي للحماية الجنائية للمال العام تناولنا فيه بالدراسة والتحليل كل ما تعلق بجرائم المال العام في كل من القانون الجنائي المغربي وبعض القوانين الجنائية الخاصة، مع تحليل ما جاءت به بعض التشريعات المقارنة السالفة الذكر فيما يخص تجريمها لجرائم الاعتداء على المال العام.
و ينصب الشق الثاني على الإطار الإجرائي للحماية الجنائية للمال العام، والذي يعد المرآة الحقيقية لمدى صواب النص والقاعدة القانونية ذات الصلة، ويخص الآليات المتعلقة بالمسطرة المتبعة مرورا بالبحث في الدور الفعال للقضاء في حماية المال العام وتقييم هذا الدور.
وعليه عمدنا إلى تقسيم هذه الرسالة إلى فصلين رئيسيين الأول تناولنا فيه بالدراسة والتحليل أنواع الجرائم التي تدخل في خانة جرائم الأموال العامة وموقف بعض التشريعات المقارنة وفصل ثاني تناولنا فيه الإطار الإجرائي المتمثل في العمل القضائي وكيفية تعاطيه مع هذا النوع من الجرائم.