في الواجهةمقالات قانونية

أثار الظروف الاستثنائية على المسؤولية العقدية

أثار الظروف الاستثنائية على المسؤولية العقدية

                              من إعداد: الطالب الباحث في سلك

                     الماستر القانون المدني والتحولات الاقتصادية

 

عبدالإله  المعـــــــــيزي

 

 

 

مقدمة:

من الثابت قانونا أن إرادة الإنسان حرة بطبيعتها، ولا يتقيد الإنسان بحسب الأصل إلا بإرادته، والإرادة هي أساس التصرف القانوني، فهي التي تنشئه وهي التي تحدد آثاره، وهو ما يعبر عنه بمبدأ سلطان الإرادة.

ويشمل مبدأ سلطان الإرادة على فكرتين الأولى: أن كل الالتزامات ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة للأطراف، والثانية، أن أثر الإرادة لا يقتصر على إنشاء الالتزام، بل تعتبر المرجع الأعلى فيما يترتب على هذه الالتزامات من آثار.

وتفيد قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” المعروفة بأن ليس لأحد أن يستقل بإلغاء أو تعديل العقد أو أن يتحلل من التزاماته بطريقة منفردة، كما أنه ليس للقاضي التدخل في تعديل العقد أو إلغاءه من غير رضا المتعاقدين.

إلا أن هناك بعض الحالات قد تطرأ لأسباب خارجة عن إرادة المدين تجعل من المستحيل أو على الأقل من الصعب عليه أن يوفي بالتزاماته أو يؤخر تنفيذها، نتيجة ظروف استثنائية لا دخل له فيها، كوباء “كورونا كوفيد “19، بحيث يعتبر هذا الأخير أمرا مستجدا على الساحة العالمية، حيث ظهرت انعكاساته على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. وهو ما اتخذت معه كافة دول المعمور اجراءات شبه موحدة تجلت في إغلاق الحدود والحجر الصحي لمواطنيها مخافة من انتشار العدوى التي حصدت أرواحا بشرية عديدة بالكثير من الدول، الأمر الذي وجد معه العالم نفسه اليوم أمام تحديات جسيمة أجبرته على اتخاذ قرارات صعبة أهمها توقيف مجموعة من الأنشطة، الشيء الذي جعل منه تنفيذ الالتزامات التعاقدية صعبة أو مستحيلة.

ولا شك أن هذه الظروف الاستثنائية ستؤدي بدون شك إلى خلق نزاعات بين الأطراف المتعاقدة بسبب الآثار التي خلفتها هذه الجائحة بما في ذلك التأخير أو صعوبة التسليم أساسا وبالتالي عدم تنفيذ مجموعة من الالتزامات التعاقدية.

وفي هذا الإطار نشير إلى أن هناك آليتين تعتبران من الوسائل الحمائية للمدينين الذين يصبحون مهددين بالإفلاس، هاتين الآليتين هما نظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة، التي تهدفان إلى علاج الحالات التي يصبح فيها الالتزام التعاقدي صعب التنفيذ، كحالة وجود ظروف استثنائية، وهو ما يجعلنا البحث عن حدود التأثير الذي تحدثه هذه الظروف الاستثنائية على قيام المسؤولية المدنية، بغية التوفيق بين مصالح الطرف المتسبب في الخطأ، وكذلك في توخي إنتاج أحكام وقرارات قضائية عادلة بين الأطراف المتخاصمة، ولهذا فالسؤال الذي يثار هنا: ما هو التكييف القانوني للظروف الاستثنائية وما أثرها على المسؤولية العقدية؟

 

 

ومحاولة للإجابة عن هذا الإشكال فإننا سنقسم هذا الموضوع إلى مطلبين وذلك وفق الشكل التالي: المطلب الأول: التكييف القانوني للظروف الاستثنائية وأثرها على المسؤولية العقدية المطلب الثاني: حدود مساهمة القاضي المدني في تحقيق التوازن العقدي

المطلب الأول: التكييف القانوني للظروف الاستثنائية وأثرها على المسؤولية العقدية

يعد فيروس كورونا إحدى الفيروسات المعدية مما يجعله يشكل ظرفا استثنائيا نظرا لسرعة انتشاره، الشيء الذي فرض على العديد من الدول القيام بإجراءات جوهرية بغية الحد من انتشاره والتحكم فيه، مما نتج عنه اعلان حالة الطوارئ التي أدت خلق مجموعة من الإشكالات الاقتصادية والقانونية على رأسها تأثيرها على لالتزامات التعاقدية، ومن هذا المنطلق وجب علينا تحديد طبيعة هذه الظروف الاستثنائية (الفقرة الأولى) ومدى تأثيرها على المسؤولية العقدية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: التكييف القانوني للظروف الاستثنائية

تعتبر جائحة كورونا كوفيد 19 ظرفا استثنائيا وأمرا مستجدا على الساحة العالمية، حيث ظهرت انعكاساته خاصة على المستوى القانوني، من خلال جعل الوفاء بالالتزامات التعاقدية صعبة أو مستحيلة، مما سيؤدي بدوره لا محال من ذلك إلى خلق نزاعات بين الأطراف المتعاقدة بما في ذلك من تأخير أو صعوبة التسليم في الأجل المتفق عليه أو تعذر التسليم أساسا وبالتالي عدم تنفيذ مجموعة من الالتزامات التعاقدية.

ومن ثمة فقد اعتبر الفقه القانوني المغربي فيروس كورونا المستجد بمثابة قوة قاهرة بوصفها صورة من صور السبب الأجنبي الذي ينفي السبب الأجنبي بين فعل المدين وبين الضرر الذي لحق بالمضرور[1].

وقد نظم المشرع المغربي أحكام المسؤولية بشكل عام في الفصلين 268 و269 من قانون الالتزامات والعقود.

وما يتضح من مضمون الفصل [2]268 من ق ل ع أن المدين يعتبر غير مسؤول عن الضرر الحاصل للدائن جراء عدم تنفيذ الالتزام متى كان السبب في ذلك لا يعزى إليه، وإنما يعزى لسبب أجنبي عنه حال بينه وبين التنفيذ العيني لالتزامه في الوقت وبالطريقة المتفق عليها في العقد.

 

 

ويقصد بالسبب الأجنبي الذي ينفي مسؤولية المدين كل أمر أو حدث أجنبي عن المدين يؤدي إلى استحالة التنفيذ العيني للالتزام إما كليا أو جزئيا.

ويلزم لتحقق السبب الأجنبي إلى توافر شرطين:

أولا: أن لا يكون للمدين يد في حصوله ولم يكن في وسعه تفاديه أو درء نتائجه ببدل الجهد المعقول.

ثانيا: أن يؤدي السبب الأجنبي إلى استحالة تنفيذ الالتزام كليا أو جزئيا، أو إلى استحالة الوفاء به في ميعاده، مع ملاحظة أن التعويض لا يرتفع إلا في الحدود التي ترتفع فيها تلك الاستحالة.[3]

أما فيما يخص الفصل 269[4] وما يستفاد منه لتحقق القوة القاهرة أن تتوفر في واقعة الظرف الاستثنائي ( كورونا كوفيد 19) مجموعة من الشروط حددها الفصل السالف الذكر، منها عدم توقع أي لا يخطر في الحسبان حصوله مثله عند وقوع الفعل الضار،[5] وكذلك عدم إمكانية دفعه، ليكون قوة قاهرة ومعفيا للمسؤولية، وأخيرا لابد من عدم صدور خطأ من جانب المدين المتمسك بالقوة القاهرة.

وباستقرائنا لهذه الشروط وتحليلها يتبين لنا أن فكرة عدم التوقع لا تقدر بذاتها وإنما بالظروف الأخرى المعاصرة للعقد، فكل يحمل في طياته بعض المخاطر، وكل متعاقد حذر يقدر هذه المخاطر ويزنها عند إبرام الظرف يفوق كل تقدير يمكن توقعه الطرفان المتعاقدان، مثل انتشار وباء كورونا والذي لم يكن بالإمكان توقعه نهائيا نظرا إلى السرعة التي ظهر بها وانتشاره بصورة سريعة عجزت مختلف دول العالم عن التصدي له وعدم إمكانية دفعه، فإن هذه الشروط متوفرة في واقعة فيروس “كورونا كوفيد19” باعتباره ظرفا استثنائيا دون أدنى شك.

وبناء على ما تقدم بات من الواضح أن فيروس كورونا يصح وصفه بالقوة القاهرة[6] لكونه حادثا عاما وشمل كافة دول العالم ولا يمكن توقعه أو درء نتائجه، لذلك من الممكن أن يشكل

مشكل كبير قانونيا بالنسبة لبعض الأفراد والأنشطة التجارية والمدنية في تنفيذ التزاماتهم المتقابلة، مما يجعلها تتمسك بتوافر معيار القوة القاهرة كمبرر لفسخ العقود[7].

 

أما في مقابل ذلك نجد اتجاه آخر من الفقه نحوى اعتبار هذه الظروف الاستثنائية ظرف طارئ تم نسبه إلى “نظرية الظروف الطارئة”، بحيث يعرف الظرف الطارئ بأنه : “كل حادث عام، لاحق على تكوين العقد، وغير متوقع الحصول عند التعاقد، ينجم عنه اختلال في المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقا شديدا، ويتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في الخسائر، وذلك كخروج سلعة تعهد المدين بتوريدها من التسعيرة وارتفاع سعرها ارتفاعا فاحشا غير مألوف ولا متوقع[8].

أما بالنسبة للمشرع المغربي فنجده لم يضع إطارا قانونيا لنظرية الظروف الطارئة يمكن الاستناد عليه للأخذ بها بشكل صريح، على عكس بعض التشريعات المقارنة التي اعترفت بهذه النظرية من خلال قوانينها المدنية.

وعلى رأس هذه التشريعات المقارنة التي أخذت بهذه النظرية (نظرية الظروف الطارئة) المشرع المصري، بحيث نص عليها في الفقرة الثانية من الفصل [9]147 من القانون المدني المصري بقوله”… ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها و ترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، إن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاقا على خلاف ذلك”.

ومما يستفاد مما سبق أن نظرية الظروف الطارئة لتطبيقها لابد من توفر الشروط التالية:

وجود حادث غير متوقع واستثنائي كما يجب أن يكون هذا الحدث عام وغير ممكن الدفع، وعدم وجود شرط تحمل المخاطر في العقد، وأن يكون تنفيذ لالتزام مرهقا.

وبخصوص الوقوف على بعض فوارق بين كل من نظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة نجدها على الخصوص في نطاق تطبيقهما، بحيث أن  نطاق  تطبيق نظرية الظروف الطارئة يتم الأخذ بها وإعمالها في مجال الالتزامات التعاقدية في حين أن القوة القاهرة يتم الأخذ بها في المجالين التقصيري والتعاقدي[10]، مما يتضح معه أن نطاق هذه الأخيرة أوسع وأشمل من نطاق الظروف الطارئة.

 

 

وفي الأخير أن مناط تكييف الطبيعة القانونية لهذا الظرف الاستثنائي هو إذا أدى هذا الظرف الاستثنائي إلى جعل تنفيذ الالتزام التعاقدي تنفيذا مرهقا كنا بصدد نظرية الظروف الطارئة، أما في الحالة التي يصبح فيها تنفيذ الالتزام مستحيلا على المدين كنا أمام القوة القاهرة .

الفقرة الثانية: مظاهر تأثير الظروف الاستثنائية على المسؤولية العقدية

الأصل أن العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق أطراف العقد أو للأسباب التي يقررها القانون، ولكن هناك استثناء لهذه القاعدة مضمونه، أنه وفي الحالات التي تظهر فيها حوادث أو ظروف  استثنائية من بينها فيروس كورونا كوفيد 19 ،نتيجة توفره على شروط القوة القاهرة في الالتزام التعاقدي، حيث رتب عليها القانون آثار مهمة أهمها إعفاء المدين الذي استحالة عليه تنفيذ الالتزام من المسؤولية.

فإذا استحال على المدين في ظل انتشار فيروس كورونا كوفيد 19 وما استتبعته من إجراءات صحية واقتصادية تنفيذ الالتزام التعاقدي لسبب  خارج عن إرادته فإن ذلك يشفع له في التحلل من مسؤوليته العقدية، ويشترط في هذه الاستحالة أن تكون مطلقة وهو أمر يختلف باختلاف نوعية العقود التي تأثرت نتيجة هذا الظرف الاستثنائي[11].

ويترتب من الناحية القانونية على استحالة تنفيذ الالتزام العقدي، مجموعة من الآثار التابعة لتلك الاستحالة نوجزها كالآتي:

يتحلل المدين بانقضاء الالتزامات الاصلية والمفرعة عن الالتزام الأصلي، فالالتزام التابع يتبعا لالتزام الأصلي في حياته ومماته، فإذا كان الالتزام العقدي مضمونا بكفالة شخصية أو عينية انقضت الكفالة وبرئت ذمة الكفيل .[12]

وفي نفس الصدد حول الحديث على مدى اعتبار فيروس كورونا كوفيد 19 قوة قاهرة ، الذي ضرب العديد من العقود عرض الحائط، وحالت دون تنفيذها من خلال جعلها بين التعطيل والاستحالة في تنفيها، صدر قرار[13] عن محكمة الاستئناف بكولمار الفرنسية يقضي بأن السيد المستأنف للحكم تعذر عليه الحضور لجلسة المحاكمة أمام محكمة الاستئناف بكولمار، نتيجة الظروف الاستثنائية التي لا يمكن مقاومتها، والتي تتكيف بطبيعة الحال مع  القوة القاهرة المتصلة بالوباء المنتشر عالميا كوفيد 19.

وتنقسم العقود من حيث آلية التنفيذ إلى عقود فورية وعقود مستمرة. فالعقود الفورية هي التي يعتبر الزمن فيها عنصرا جوهريا يؤثر في تحديد مقدار التزامات الأطراف، مثالها عقد

 

البيع والهبة والمقايضة، ولو كان الثمن أو التسليم مضافا إلى أجل. أما العقود المستمرة، فهي التي يعتبر الزمن فيها عنصرا جوهريا يؤثر في تحديد مقدار التزامات الأطراف، كعقد الكراء وعقد الشغل وعقد النقل إلى غير ذلك من العقود المستمرة.

ومن النتائج المترتبة بين العقود الفورية والعقود المستمرة أن القوة القاهرة مرتبطة بالعقود الزمنية دون الفورية، وبالتالي فإن فيروس كورونا كوفيد 19 باعتباره قوة قاهرة سيكون له تأثير على العقود التي يكون الزمان عنصرا جوهريا فيها،

وبالتالي فإن الالتزامات التعاقدية يجعل تنفيذها مستحيلا مما يجعل معه انتفاء المسؤولية العقدية.

المطلب الثاني: حدود مساهمة القاضي المدني في تحقيق التوازن العقدي

إذا لم يكن التعويض مقدرا قانونا أو باتفاق الأطراف فللقاضي مجال واسع في تقدير التعويض، لكن نتيجة فيروس كورونا كوفيد 19 يجعلنا نبحث في ضوئه عن حدود  القضاء في تقدير التعويض في هذه المرحلة الاستثنائية التي تتسم بالاضطراب الغير المتوقع، وحدود سلطته  ( الفقرة الأولى ) في تقدير التعويض من جهة، وسلطته في منح المدين المعسر المهلة القضائية ( الفقرة الثانية) من جهة ثانية.

الفقرة الأولى: حدود تدخل القاضي في تقدير التعويض في إطار الظروف الاستثنائية

لا شك أن أهم أثر للمسؤولية العقدية هو التعويض، بحيث ينقسم هذا الأخير إلى نوعين وهما تعويض اتفاقي، وتعويض قضائي، هذا الأخير (التعويض القضائي )هو الذي يحدد فيه القضاء على أساس طلبات الأطراف و أدلتهم والتزاماتهم التعاقدية مع مراعات إعسار المدين لا سيما في حالات لا دخل للمدين فيها، كالظروف الاستثنائية.

إن الأصل في تحديد التعويض أن يقاس بالضرر المتوقع، ويحدد القاضي الضرر استنادا إلى الفصل 1/[14]264، من ق ل ع، مع مراعات أحكام الفصل 261 و 262 من نفس القانون.

وتقدير التعويض هي سلطة مطلقة في يد القاضي دون أن يكون ملزم ببيان الأساس المعتمد للإجراء هذا التقدير وهو ما ذهبت إليه مجموعة من القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) ومن بينها القرار الصادر في 12 أبريل 1962 الذي جاء فيه “إن قضاة الموضوع يقدرون في حدود الطلب وبحرية مبلغ التعويضات الواجب منحها لإصلاح الأضرار والخسائر دون أن يكونوا ملزمين بتبرير حكمهم فيما يخص هذه النقطة بمقتضى حيثيات خاصة أو تبين أسس التقدير”[15].

 

 

والحال أن سلطة القاضي في تقدير التعويض تتراوح بين قيام المسؤولية وانتفاءها نتيجة الظروف الاستثنائية  كفيروس كورونا كوفيد 19 ، وذلك حسب الكيفية التي نظمت بها القوة القاهرة في التشريع المغربي، دون النظر في مسألة نظرية الظروف الطارئة على اعتبار أن المشرع المغربي لم ينظمها، لذلك فالقاضي محظورعليه تكييف فيروس كورونا على أنه ظرف طارئ، ومن تم إمكانية مراعاته لمسألة تقدير التعويض في حال قيام المسؤولية العقدية، وذلك من خلال ظروف ومدى تأثير فيروس كورونا كوفيد 19 على الاخلال بتنفيذ الالتزام التعاقدي.

إذا كان المبدأ هو أن القوة القاهرة بتحققها تعفي المدين من كامل المسؤولية من عدم تنفيذ الالتزام وذلك حسب ما جاء في الفقرة الاولى من الفصل 95[16] من ق ل ع، فإن هناك حالات لا تسعف فيها القوة القاهرة المدين التحلل من التزامه، وإنما يبقى مسؤولا رغم تحققها، من بينها:

إذا كان المدين في حالة مطل قبل تحقق القوة القاهرة، فإن يترتب عن ذلك اعتبار المدين في حالة مطل، وبالتالي حرمانه من الاستفادة من حالة الإعفاء التي ترتبها القوة القاهرة

أما بخصوص التشريعات المقارنة التي تبنت نظرية الظروف الطارئة، فقد منحت للقاضي سلطة التدخل في تعديل العقد بما يتلاءم مع الظروف الغير المتوقع حصولها والتي من شأنها التأثير على العلاقات التعاقدية وإرهاق ذمة منفذ الالتزام، كما هو الشأن بالنسبة لفيروس كورونا كوفيد 19، وفي نفس الصدد فإن موقف القضاء المقارن بخصوص تنفيذ الالتزامات التعاقدية وجود الأوبئة- ونفس الأمر يسقط على فيروس كورونا كأحد الأوبئة، نجده يحدد معيار أساسي لإمكانية التدخل في العقد وتقديره مسالة التعويض، بزمن أو بتاريخ وقوع الوباء، حيث يأخذ القضاء الفرنسي بتاريخ إبرام العقد ومقارنته بتاريخ ظهور الوباء للأخذ بما إذا كانت هناك قوة قاهرة، وهذا ما أقره القضاء الفرنسي في قرار صادر لمحكمة الاستئناف “بسانت دوني” في قرار لها بتاريخ 29 دجنبر 2009، صدر في فترة تفشي فيروس “شيكونجونيا[17]” الذي جاء فيه أن الحجج المقدمة من طرف الطاعنة غير مبنية على أساس سليم، لأن وباء “شيكونجيا” بدأ في يناير 2006 ولا يمكن اعتباره حادثا لا يمكن التنبؤ به يبرر خرق العقد الذي أبرم في غشت 2006، ومن ثم فإن القوة القاهرة المزعومة غير متوفرة في الواقع.[18]

الفقرة الثانية: الإمهـــــــــال القضــــــــائي

 

 

 

تتعدد المصطلحات التي تستعمل للتعبير عن الإمهال القضائي فتارة يطلق عليها نظرة الميسرة وتارة أخرى يطلق عليها الأجل الإسترحامي[19]، ويرجع الأساس القانوني لمهلة الميسرة

في الفقرة الثانية من الفصل 243 من ق ل ع الذي ينص على أنه “ومع ذلك، يسوغ للقضاة مراعاة منهم لمركز المدين، ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، وأن يوقفوا إجراءات المطالبة، مع إبقاء الأشياء على حالها”.

وانطلاقا من منطوق الفصل أعلاه أن للمحكمة السلطة التقديرية في منح المدين المعسر أجلا حتى يستطيع أداء ما بذمته من التزام، إلا أن المشرع المغربي قيد هذه السلطة بثلة من الشروط تظهر معالمها في:

ضرورة منح مهلة الميسرة في نطاق ضيق مع مراعاة مركز المدين، مما يعني معه أن المحكمة لا تجيز هذه الإمكانية إلا استنادا إلى الوضعية والظروف الاستثنائية الناتجة عن فيروس كورونا كوفيد 19 الغير المتوقع ، كما يجب أن لا يكون معه أي مانع قانوني، على اعتبار أن بعض سندات الدين ما تقوم به في الحياة الاقتصادية، وحفاظا على مصداقيتها لتحقيق السرعة المتوخاة، وما تمثله من أهمية تشبه النقود ارتأى المشرع إحاطتها بضمانات خاصة منها عدم اعطاء أي نظرة ميسرة عند حلول  أجل استحقاقها، وهذه السندات هي الأوراق التجارية[20] فالكمبيالة كما هو منصوص عليه في الفصل 231 من مدونة التجارة لا يمنح أي إمهال قضائي أو قانوني إلا في الأحوال المنصوص عليها في المادتين 196و 207 ، أما إذا تعلق الأمر بالسند لأمر فما تنص عليه المادة 231 من مدونة التجارة ينطبق عيه بخصوص اعطاء أي مهلة للوفاء بالدين في حين أن الشيك طبقا لما هو منصوص عليه في المادة 304 من م ت، فلا يمكن منح أي إمهال قضائي أو قانوني إلا في حالة القوة القاهرة المنصوص عليه في المادة 291 من م ت، لذلك أنه إذا تم تحقق شروط القوة القاهرة في هذا المنأى فإن على القاضي منح أجلا جديد للمدين يراعي فيه هذه الظروف الاستثنائية.

وفي الأخير ترك المشرع المجال مفتوحا لإعمال السلطة التقديرية من الناحية الزمنية. مم يمكن معالجة كل حالة على حدى ولا سيما في هذه الظروف الإستثنائية، إلا أن ما يحد من ذلك هو تلك الممارسة الضيقة التي فرضها المشرع في هذا الصدد في هذا الصدد ما يستتبعه تقليص الآجل الممنوح للمدين في إطار العقد الاستهلاكي حتى يفي بالتزامه وهو ما أقره المشرع في أجل سنتين من قانون 31.08[21].

 

 

خاتمة:

إن انتشار فيروس “كورونا كوفيد19، وما تلا ذلك من إجراءات احترازية طارئة ومشددة، يصنف بلا شك حدثا استثنائيا من شأنه أن يغير الالتزام التعاقدي، لأنه وإن لم يصبح العقد مستحيل التنفيذ، فإنه صار مرهقا للمدين، ويهدده بخسارة فادحة، وأجاز القانون للقاضي في هذه الحالة تقدير الظروف الاستثنائية ومدى تأثيرها على العلاقة التعاقدية، لكن انتشار هذا الوباء بشكل مفرط، اقتضى اتخاذ مجموعة من القرارات والاجراءات، نتج عنها أضرار جسيمة سوف تؤدي بصفة مؤكدة، إلى إثارة عدد كبير من قضايا الإعفاء والتعويض التي سترفع على أساس نظرية القوة القاهرة. ولكن كما سبق بيانه قد تكون واضحة ويمكن تطبيقها بسهولة على حالات معينة في حين يصعب تطبيقها في حالات أخرى، وهو ما يستوجب من القاضي مرونة كبيرة واستدعاء روح القانون  ومراعاة كافة الجوانب والظروف في تكييفه للنوازل المعروضة عليه.
وفي الأخير يمكن القول أنه حان الأوان لكي يتدخل المشرع المغربي ليضع إطارا قانونيا لنظرية الظروف الطارئة من خلال تعديل قواعد قانون الالتزامات والعقود، ترقبا لأحداث مستقبلية غير متوقعة والتي تعتبر الأوبئة بشتى أنواعها أحد أبرز صورها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لائحة المراجع

  • الكتب:

 

– نزهة الخلدي، الموجز في النظرية العامة للالتزامات والعقود، الكتاب الثاني، المسؤولية المدنية، مطبعة تطوان، الطبعة الثانية 2017.

 – عبدالرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام- مصادر الالتزام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة الجديدة 2011.

 

– عبد اللطيف التجاني، الأمر بالأداء في القانون المغربي،  مطبعة النجاح الجديدة، 2000، الصفحة 210.

 

 

  • المجلات والمقالات:

 

– مجلة  الدولة والقانون، العدد 1.

 

– مجلة المحاكم المغربية، العدد 66

[1]  شرف الدين دنياجي، إلى أي مدى يمكن للقوة القاهرة في زمن الكورونا أن تعفي المدين من التزاماته، مقال منشور بالموقع الإلكتروني: htpps//assabah.ma/46422.html .، تم الإطلاع عليه: 20:08، 07/6/2020.

 

[2]  ينص الفصل 268 من ق ل ع على أنه: لا محل لأي تعويض، إذا أثبت المدين أن عدم الوفاء  بالالتزام أو التأخير فيه ناشئ عن سبب لا يمكن  أن يعزى إليه، كالقوة القاهرة، أو الحادث الفجائي أو مطل المدين.

[3]  نزهة الخلدي، الموجز في النظرية العامة للالتزامات والعقود، الكتاب الثاني، المسؤولية المدنية، مطبعة تطوان، الطبعة الثانية 2017 ص 62.

[4]  الفصل 269 من ق ل ع : القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف، والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.

ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، مالم يقم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.

وكذلك لا يعتبر من قبيل القوك القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين.

[5]  فريدة البرموكي، العلاقة السببية في مجال المسؤولية التقصيرية بين رأي الفقه وموقف القضاء، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، 2009، ص252.

[6]  وهو ما أقرته دورية السيد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، الموجهة لمختلف المؤسسات والمقاولات العمومية المغربي من أجل اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتسهيل إبرام الصفقات العمومية والطلبيات ظل الوضع الذي مر منه المغرب بسبب فيروس كورونا المستجد، “أنه يمكن للمؤسسات والمقاولات العمومية الاستناد إلى ظروف القوة القاهرة لمنح مهلة إضافية تعادل حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها في المغرب”. منشور بالموقع الإلكتروني التالي:  https//www.hespress.com/économie/465747.html.1 تم الإطلاع عليه في:14:33.  6/07/2020.

[7]  محمد الأيوبي، المركز القانوني للمدين في واقعة فيروس “كورونا كوفيد19″، مقالة منشورة بمجلة “الدولة والقانون”، عدد 1ماي 2020، الطبعة الاولى2020، مطبعة دار السلام –الرباط ، ص 292.                                                                                                  

[8]  عبدالرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام- مصادر الالتزام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة الجديدة 2011، ص 705.

[9]   القانون رقم 131 لسنة 1948، بإصدار القانون المدني، نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 20 فبراير 1954.

[10]  وهذا ما أخذ به المشرع المغربي في ق ل ع، حيث نجد أنه كقاعدة عامة أخذ بالقوة القاهرة كسبب للإعفاء من المسؤولية التقصيرية في باب الجرائم وأشباه الجرائم،من خلال الفصل 95 من ق ل ع، كما أخذ بتا في مجال المسؤولية العقدية عملا بالفصل 268 من ق ل ع .

[11]  شرف الدين دنياجي، إلى أي مدى يمكن للقوة القاهرة في زمن الكورونا أن تعفي المدين من التزاماته، مقال منشور بالموقع الإلكتروني: htpps//assabah.ma/46422.html .، تم الاطلاع عليه: 20:08، 07/6/2020.

[12]  وهو ما يستفاد من منطوق الفصل 337 ق ل ع الذي ينص على أنه: ” إذا انقضى الالتزام لاستحالة في تنفيذه، بغير خطأ من المدين فإن الحقوق والدعاوى المتعلقة بالشيء المستحق والعائدة للمدين تنتقل للدائن.

 

[13]  قرار محكمة الاستئناف COLMAR، رقم 80/2020- تاريخ 12/3/2020، منشور على الموقع الالكتروني التالي:htpps//www.mahkama.net/ ?p=19549   ، تم الاطلاع عليه في 15:40 ،6/07/2020.                                         

[14]  تنص الفقرة الأولى من الفصل 264 من ق ل ع على أنه: ” الضرر هو ما لحق الدائن من خسارة حقيقية…وتقدير الظروف الخاصة بكل حالة  موكول لفطنة المحكمة، التي يجب عليها أن تقدر التعويضات بكيفية مختلفة حسب خطأ المدين أو تدليسه”.

[15]  قرار تم ذكره من طرف مأمون الكزبري، في نظرية الالتزام في ضوء قانون الالتزامات والعقود، الجزء الأول، طبعة 1972، ص 427.

[16]  الفقرة الاولى من الفصل 95 من قانون الالتزامات والعقود تنص على أنه: “لا محل للمسؤولية المدنية، في حالة الدفاع الشرعي، أو إذا كان الضرر قد نتج عن حادث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصطحبها فعل يؤاخذ به المدعي.

[17]  شيكونجيا ( بالإنجليزية CHIKUNGUNY ) وهو مرض تنفسي يتسبب به فيه المتعرض له لحمى أولية مفاجئة من يومين إلى 7 أيام ويتعرض لألام تدوم لأسابيع أو شهور وحتى سنوات، ويتعرض لألام مفصلية ، معدل وفاء هذا المرض ظل يصل من 1 من 1000 إصابة والمسنين هم الاكثر عرضة لهذا الوباء….مأخوذ من موقع إلكتروني لويكيبديا الموسوعة الحرة AR.WIKIPEDIA.ORG . تم الاطلاع عليه في بتاريخ 6/07/2020. 11:59.

Cour d’appel de saint-denis de la réunion, chambe sociale,29 décembere 2009,n° 08 /02114, affaire : n° rg 08/02114, publié sur le site suivant : www.doctrine.fr .[18]

[19]  علي العلوي الحسني، الأجل القضائي الاستعطافي الإسترحامي بين الفقه والقانون ،مجلة المحاكم المغربية، العدد 66-1992، ص 85.

[20]  عبد اللطيف التجاني، الأمر بالأداء في القانون المغربي،  مطبعة النجاح الجديدة، 2000، الصفحة 210 .

[21]  الفقرة الثانية من المادة 149 من قانون 31.08 تنص على أنه: “…يجوز للقاضي، علاوة ذلك أن يحدد في الأمر الصادر عنه كيفيات أداء المبالغ المستحقة عند انتهاء أجل وقف التنفيذ، دون أن تتجاوز الدفعة الأخيرة الأجل الأصلي المقرر لتسديد القرض بأكثر من سنتين. غير أن له أن يأجل البت في كيفيات التسديد المذكور إلى حين أجل وقف النفيذ”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى