أساس سلطة الدولة في العقاب
من اعداد: عدنان السباعي
باحث في المادة الجنائية
مقدمة
منذ السيرة الاولى للإنسان على هذه المعمورة وهو يمضي في ارتقائه الذي يطال مختلف جوانب الحياة ولعل عِمادها وابتدائها كان في التشريع. ففي الاسرة الاولى كان ربها هو الحاكم الذي يتولى التشريع والتطبيق تجاه افراد اسرته وذلك عندما يقدم أحد افراد الاسرة على الاتيان بسلوك غير سوي، او اعتداء على حق غيره. كانت الفِطرة هي منطلق رب الاسرة في تقدير الحكم والعقوبة، هذه العقوية التي كانت بأشكالها الاولية، من الحرمان من مزايا اسّرية او عقوبات جسدية. ففي هذه الفترة كانت الفِطرة او الغريزة هي الدالة على تجريم الفعل من عدمه.
ومن العدالة الأسرية الى العدالة القبلية بين اسرتين متخاصمتين، الى النزاع بين قبيلتين، تتولى اكبرهما امر العقوبة. تراوحت العقوبات بين نفي او مادية من تعويضات وظهور نظام الدية او جسدية من تسليم للجاني، ليقتص منه المجني عليه او ذويه وكيفما شاءوا ودون ضوابط. وفي العموم كان امر العقوبة يرتبط بقوة المجني عليه ودافعها الانتقام والتشهير.
تقدمت البشرية وتطورت مجالات الحياة جيلا بعد جيل، فبرز المجتمع وبرزت الدولة التي اخذت على عاتقها مهمة اقامة العدل، بديلا لفكرة الانتقام القبلي او الاسري او الشخصي، وبرز هنا مفهوم الردع العام واخذت الدولة تستأثر مهمة التشريع وتطبيق العقاب، من خلال موظفين مختصين لتعلن رحيل حقبة الانتقام الفردي، واقتصاص الضحية لنفسها، بل يتعين تقديم الشهود والادلة، لتصدر الاحكام والعقوبات وتفرض على الجاني باسم المجتمع. كانت العدالة على مبدأ كفتي الميزان، مثلا القاتل يقتل… ولم تجد القاعدة القائلة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص القانون من يفكر بها، ولا يعتد بالجهل بالقانون، كانت القوانين عبارة عن مجموعة من الاعراف والتقاليد والنصوص الدينية.
الامر اللافت في هذه الحقبة، تطور العقوبة واتخاذها اشكال متعددة، ومن اشكالها: الحرق، والصلب، وتقطيع الأوصال، وقطع الشفاه واللسان، والوشم، ولبس أطواق من الحديد، والنفي، والجلد، والحبس، وفقأ العين……الخ من عقوبة وحشية تشوه الجسد البشري.
تطال هذه العقوبات ليس فقط الاحياء من البشر، بل القانون يجيز محاكمة الإنسان حيا ويجيز محاكمته ميتا، ويجيز محاكمة الحيوان والجماد، أي يمكن ان يكون الجماد والحيوان والميت، أهلا للمسؤولية والعقاب.
تطورت الحياة أكثر وتصدى الفلاسفة لمهمة تطوير مبادئ العدالة ونظرية العقوبة، فظهرت المدارس والنظريات القانونية في تفسير الجريمة والحكم بما يناسبها من عقوبة. فلاسفة مالوا الى اعتبار الانسان، صاحب الإرادة الحرة والاختيار بارتكاب الجرم وخرق النظم الاجتماعية مسؤولا عن افعاله، ودعت هذه المدرسة الى تناسب العقوبة مع الضرر دون النظر لوضع الجاني.
الا أن الفلاسفة اللاحقون كانت لهم اضافاتهم المميزة من إتيان الاعذار لذوي العاهات العقلية ومراعاة حالة انعدام الإرادة في ارتكاب الجرم، وبالتالي ظهرت نظرية التركيز على شخص الجاني وارجاع اسباب الجريمة الى طبيعة الانسان والعوامل الشخصية او العوامل البيئية والاجتماعية لظروف عيش الانسان. فظهرت التدابير الاحترازية كإضافة نوعية اخرى، واعادة تأهيل المجرم لدمجه بالمجتمع مجددا.
غير أن العقوبات في الغالب بقية غير متناسبة مع أهمية الجرائم المقررة لها، فبالرغم من قسوة وفظاعة الكثير من تلك العقوبات، كانت عقوبة الإعدام جزاء لكثير من الجرائم البسيطة، فالقانون الإنجليزي حتى آخر القرن الثامن عشر كان يعاقب على مائتي جريمة بعقوبة الإعدام، ومن هذه الجرائم، سرقة اموال قليلة، وكان القانون الفرنسي يعاقب بالإعدام على مائتين وخمس عشرة جريمة معظمها جرائم بسيطة.
تطور الأمر أكثر وانتبه الفلاسفة الى قيمة الإنسان وكرامته وحفاظا لجسده وان المجرم هو انسان، فأخدت العقوبات منحى اخر، الا وهي العقوبات المقيدة للحرية (التركيز على الحبس) مع تطور دور السجون. هناك سبب أخر حقيقة دعا الى اللجوء الى العقوبات المقيدة للحرية، الا وهو ان الانسان في تلك الفترة ومازال شديد الاعتزاز بحريته الفردية، الحرية لها تأثير كبير على الفرد وقرارته، فوجد فيها المشرع ضالته في اجبار الناس على الالتزام بالقوانين والقواعد الناظمة للمجتمع، فكانت مقصد المشرع لتحقيق الردع الخاص والعام بأكبر قدر.
ان الهدف الذي يسعى الانسان لتحقيقه من العقوبة هو احقاق الحق وانصاف العدالة وحماية للمصالح وجبرا للضرر واشعار الجاني بالذنب والالم ونزع رغبة الانتقام من جهة المجني عليه، أي منفعة، والمجتمع اذ يقوم بذلك فهو لا يحل محل الفرد بل يكمله ويقف مساندا له.
أي ان الجريمة هي اعتداء تقع على النظام القانوني والأخلاقي في المجتمع، فتأتي العقوبة لإبطال هذا الاعتداء وبالتالي وسيلة لإرجاع الحق الى نصابه. مع التأكيد على عدم تجاوز العقوبة في كل الاحوال لمقدار الاذى الذي طال الضحية لكي لا تصبح هي الاخرى مظلمة لا تبرر وبالتالي اعتداء.
إن البحث في الأساس الفكري لكل سياسة جنائية يضعنا أمام العديد من التساؤلات والافتراضات تصب في اتجاه أساس حق الدولة في العقاب وفي صياغة قوانينها الجنائية، أو بتعبير أعم في صياغة سياستها الجنائية.
اذن فما هي اهم المدارس التي تبرز حق الدولة في إنزال العقاب بدءا من مراحله الاولية الى مراحله الحديثة؟
وللإجابة عن هذا التساؤل فإننا سنعتمد علة المنهجية التالية:
المبحث الاول: تمظهرات السياسة الجنائية في المذاهب التقليدية
المبحث الثاني: السياسة الجنائية من خلال المدرسة الوضعية وحركة الدفاع الاجتماعي
المبحث الاول: تمظهرات السياسة الجنائية في المذاهب التقليدية
من خلال هذا المبحث سنتحدث عن اهم تمظهرات حق الدولة في العقاب وذلك من خلال منظور المدرسة التقليدية (المطلب اول)، ثم سنتحدث عن تجليات اساس حق الدولة في العقاب من خلال ما جاءت به المدرسة التقليدية الجديدة (المطلب الثاني).
المطلب الاول: المدرسة التقليدية
أمام الوحشة التي كان عليها النظام الجنائي في العالم الغربي في القرن 18 والقسوة والحكم المطلق والتعسف الذي لا مبرر له، بحيث كانت للقضاة سلطة لا ضوابط لها تطغى عليها رغباتهم وأهوائهم، وكانت المساواة بين المواطنين مفقودة والتناسب بين شدة العقوبة وجسامة الجرم معدومة، وتعسف القضاة قد تجاوز الحدود وساد الهوى وصار قانون العصر، ظهرت المدرسة التقليدية للحد من هدا التعسف.
أمام هذا الوضع الوحشي والقاصي للنظام الجنائي السائد، تعالت أصوات كبار الفلاسفة والمفكرين متأثرين في ذلك بالنهضة الفكرية مثل جون جاك روسو ومونتسكيو لتنادي بتغيير السياسة الجنائية السائدة وهو ما حدث بالفعل منذ أواخر القرن 18 ، وكان ذلك على يد مؤسس المدرسة التقليدية بكاريا صاحب كتاب ” في الجرائم والعقوبات” التي تضمن أفكارا تهدف لإصلاح المنظومة الجنائية ونادى بالحيلولة دون تحكم القضاة وتعسفهم عن طريق سلبهم سلطة فرض العقوبات وطالب بإسنادها إلى جهات تشريعية حيث يصبح دور القاضي هو تنفيذ القانون فقط وتطبيق العقوبات المتضمنة فيه دون أي اجتهاد، ويعد بكاريا أول من نادى بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا نص الذي كان له مكانة عظيمة في السياسة الجنائية المعاصرة كما نادى بإلغاء عقوبة الإعدام[1].
وتتلخص المراجع الفكرية لفكر بكاريا في نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو التي تتلخص في التسليم بوجود المجتمع بادئ الأمر، وأن السلطة الحاكمة ليست إلا ممثلة له تتغير في الوقت الذي يشاء فيه المجتمع، وما تملك هذه السلطة من حق العقاب يقوم على ما تنازل عنه أفراد المجتمع لهذه السلطة من حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم. وكذا الفلسفة الأخلاقية، والمنفعة الاجتماعية التي تتحقق باستتباب الأمن واستقرار الحياة عن طريق العقاب الرادع الذي يقضي إلى الكف عن الجريمة، وقد نادى بنتام الذي هو أحد أقطاب المدرسة نظرية حساب اللذات التي تعني أن العقاب لا يكون رادعا ونافعا إلا إذا كانت بشدة الألم في العقوبة أكبر اللذة التي تعود على الجانب بفعل الجريمة، وقد تبنا هذه النظرية كل من بكاريا وفويرباخ.
وقد كان للأفكار التي أتت بها المدرسة التقليدية أثر بالغ في ظهور مبادئ ومطالب إصلاحية في منظومة السياسة الجنائية تمثلت في الكف عن وحشية العقاب الذي ينافي إنسانية الإنسان، وجعل المسؤولية الجنائية شخصية ومبنية على حرية الاختيار، وظهور مبدأ عرف له مكانة دولية ألا وهو مبدأ الشرعية من أجل الحد من سلطة القضاء المطلقة، وجعل العقوبة متناسبة مع الضرر الذي أحدثته الجريمة حتى يتحقق أهدافها المتمثلة في تحقيق الردع العام والخاص.
وعلى الرغم من مزايا أفكار المدرسة التقليدية إلا أنها أخذت عليها عيوب كثيرة كإفراطها في التجريد بحيث حصرت اهتمامها في الجريمة دون شخصية المجرم وظروف ودوافع ارتكاب الجريمة، وكذا اعتبارها حرية الاختيار مطلقة ومتساوية لدى جميع الأفراد مع العلم أن الأشخاص يتفاوتون في دوافعهم وقوة الإدراك لديهم.
ومهما يكن من انتقادات فإن أفكار هذه المدرسة كان لها دون جد هام وتمظهرات على عدة مستويات في السياسة الجنائية المعاصرة إذ أخد مكانة مرموقة فيها، خاصتا بعد التعديلات أدخلت عليها مع المدرسة التقليدية الجديدة.
المطلب الثاني: المدرسة التقليدية الجديدة
أمام النقص الذي عرفته أفكار المدرسة التقليدية ظهرت المدرسة التقليدية الجديدة لسد هذا النقص والإتيان بأفكار جديدة، وعليه فإن السياسة الجنائية الجديدة في شقها العقابي تعد بلا شك امتدادا للمبادئ التي قامت عليها المدرسة التقليدية القديمة، وعلى وجه الخصوص مبدأ حرية الاختيار ومبدأ العقد الاجتماعي. إلا أن هذه المبادئ جاءت في صيغة جديدة تفاديا للعيوب والنقص الذي تعرضت له. لكن ما هي يا ترى إضافات المدرسة التقليدية الجديدة من أجل تطوير السياسة الجنائية المعاصرة؟
صحيح أن هذه المدرسة احتفظت بالأفكار التي جاءت بها المدرسة التقليدية، ففي مجال حرية الاختيار فإن هذه المدرسة اعترفت بها إلا أنها غير متساوية عند الناس لأن الحرية درجات تختلف باختلاف الأشخاص، وبناءا على ذلك فإن المسؤولية تكتمل إدا تمتع الجاني بحرية اختيار كاملة وتنقص بقدر نقص الحرية. وتفاوت حرية الاختيار يقابله المتفاوت في شدة العقوبة تبعا لمقدار حرية الاختيار تحقيقا للتناسب المطلوب لإقامة العدالة الجنائية[2].
وقد كان لمبدأ أساس الحق في العقاب الذي أقرته المدرسة التقليدية الجديدة أثر كبير في إصلاح النظام الجنائي وبالتالي التأثير على مسار السياسة الجنائية.
فإقرار مبدأ تفاوت المسؤولية الجنائية من طرف المدرسة التقليدية الجديدة نتج عنه تفاوت العقوبات من حيث الشدة والتخفيف لتحقيق دواعي الأمن والاستقرار الاجتماعي سواء في المراحل التشريعية أي سن عقوبة تدون بين حد أدنى وأقصى، أو في مرحلة التقاضي بإعطاء القاضي حرية التقدير والتفريد العقابي، أو في مرحلة التنفيذ.
كما كان لمبدأ المزج بين المنفعة والعدالة أثر بالغ الأهمية إذ أصبح التفكير في المنع الخاص قبل المنع العام، كما اهتمت هذه المدرسة بشخصية المجرم وأولتها اعتبارا بالغ الأهمية في الوقت الذي كانت فيه مجهولة الهوية، وبمقتضاه تم إقرار نظام الظروف المخففة والمشددة ومبدأ التفريد العقابي الذي يعتبر من أهم مميزات السياسة الجنائية.
وبالرغم ما حققته السياسة الجنائية التقليدية الجديدة من انتشار، وتأثير على التشريعات العقابية، إلا أنها لم تخلوا من مآخذ وغيوب مما فتح المجال لظهور مدارس وضعية جديدة كان لها دور هام في تطوير السياسة الجنائية إلى ما هو أحسن.
المبحث الثاني: السياسة الجنائية من خلال المدرسة الوضعية وحركة الدفاع الاجتماعي
من خلال هذا المبحث سنتحدث عن اهم تمظهرات حق الدولة في العقاب وذلك من خلال منظور المدرسة الوضعية (المطلب اول)، ثم سنتحدث عن تجليات اساس حق الدولة في العقاب من خلال ما جاءت به حركة الدفاع الاجتماعي (المطلب الثاني).
المطلب الاول: المدرسة الوضعية
إن الخط العلمي للسياسة الجنائية الوضعية أخد طريقه بفضل الأعمال الجليلة التي قام بها ثلاثة من رجال ايطاليا وهم سيزار لومبروزو صاحب كتاب الإنسان المجرم سنة 1876, وانريكو فيري صاحب كتاب السيسيولوجيا الجنائية سنة 1881 وأخيرا رافيل جاروفالو صاحب كتاب علم الإجرام.
فمثلا لومبروزو: من خلال كتابه السابق صنف المجرمين على أساس نوع الخطورة وتحديد تدابير الملائمة لكل صنف منها على النحو التالي[3]:
1- المجرم بالميلاد :
هو مجرم بشع دو طبيعة خاصة عن الآخرين غير مبال بالمسؤولية، يتخذ في مواجهته تدبير استئصالي، النفي، الإبعاد إلى مستعمرة زراعية يعمل بها طوال حياته، هنا تبرز أهمية السياسة التي اعتمدها لومبروزو المتمثلة في الفكر الجديد.
2- المجرم المجنون :
وهو الذي لا يفرق بين الخير والشر ولا يميز طبيعة أعماله ونتائجها نتيجة لانعدام إدراكه، هدا النوع يودع في مصحة عقلية حتى يشفى من مرضه.
3- المجرم المعتاد :
هو الذي يرتكب الجريمة بصفة متكررة حتى تصبح بالنسبة إليه شيء معتاد يستطيع القيام به في أي وقت، ويتخذ في حقه تدابير مثل المجرم بالميلاد.
4- المجرم بالعاطفة :
هو الشخص الذي يرتكب الجريمة نتيجة أحاسيسه، وهو سريع الندم وقد يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى الانتحار، ويتخذ في حقه تدبير الإقامة في مكان معين أو منعه من الإقامة في أماكن محددة.
5- المجرم بالصدفة :
هو إنسان خال من رواسب إجرامية وإنما يرتكبها نتيجة خلل عضوي أو بسبب الفقر أو البطالة، ويتخذ في حقه تدابير الإقامة في مستعمرة زراعية أو صناعية.
أما فيري في نظره الجريمة هي نتيجة لتراكم عوامل داخلية * العضوية والنفسية * وأخرى خارجية * اجتماعية اقتصادية *مرتبطة بالمحيط الذي يعيش فيه وتتميز نظريته بأمرين:
1/ اهتمامها بتأثير العوامل الاجتماعية في الإجرام.
2 / تأكيد على تفاعل كل من العوامل العضوية النفسية و الأسباب الخارجية في ارتكاب الجريمة بحيث أن كل عامل من هاته العوامل تكون مجتمعة.
أما جاروفالو يعتبر من أقطاب السياسة الجنائية الوضعية وهو يميز بين الجريمة الطبيعية والمصطنعة، وعلى ضوء هدا التمييز اعتبر أن المجرم الحقيقي هو الذي يرتكب الطبيعية، والذي يقوم بسلوك أخلاقي ضار الذي ينضر إليه المجتمع بوصفه جريمة منافية لمشاعر العدل والإنسانية تعاقب عليها القوانين الجنائية، وقد اقر بأهمية العوامل الداخلية في ارتكاب الجريمة، وينادي بضرورة تمييز المعاملة العقابية بين مرتكب الجريمة الطبيعية والجريمة المصطنعة.
المطلب الثاني: مدرسة حركة الدفاع الاجتماعي
نشأت هذه الحركة سنة 1945 وهي مدرسة للدفاع الاجتماعي تهدف إلى حماية المجتمع والمجرم جميعا من الظاهرة الإجرامية بخلاف المدارس التقليدية التي حصرت معنى الدفاع الاجتماعي في حماية المجتمع من المجرم.
ومن هدا التاريخ ظهر الدفاع الاجتماعي كحركة جديدة في السياسة الجنائية تهدف إلى الوقاية من الجريمة وعلاج الجانحين، وقد ظهر من خلال المناقشات والمؤتمرات الدولية أن هناك اتجاهين رئيسين في الدفاع الاجتماعي.
أولا: اتجاه جرماتيكا
ويهدف هذا المذهب إلى إبدال نظام قانون العقوبات التقليدي بنظام للدفاع الاجتماعي، بهدف القضاء على فكرة الجريمة والجانح، والمسؤولية والعقوبة.
وعليه فمذهب جرماتيكا يتضمن تغييرا كليا في نظم القانون الجنائي والإجراءات الجنائية، والنظام العقابي.
وعلى هدا الأساس فجرماتيكا أنكر حق الدولة في العقاب وأكد على واجب الدول في التأهيل الاجتماعي، فإنكار حق الدولة في العقاب يعني في نضره تسلط الدولة على حقوق الفرد والإنسان الذي أنشأ الدولة، وبما أن الإنسان هو حر اجتماعي بطبعه وبدلك لا مجال لاعتراف بالجريمة والمسؤولية الجنائية، وقد ألح على ضرورة إصلاح الشخص المناهض للمجتمع وذلك من خلال التدابير الإصلاحية عوض معاقبته.
فطالما أن الدولة هي المسؤولية عن السلوك المنحرف وأن صاحب هدا السلوك كان ضحية ظروف اجتماعية غلبت عليه، فانه لا يحق للدولة معاقبته بل عليها واجب تأهيله عن طريق التدابير الاجتماعية، هده التدابير يجب أن تراعي مكانة الإنسان فلا يجب أن تكون قاسية وإنما يجب أن يكون هدفها هو الإصلاح والتأهيل، ويجب وضع ملف خاص لشخصية المنحرف اجتماعيا يوضع لدى القاضي حتى يكون على علم كامل عند تحدي التدبير الاجتماعي الذي يقضي به عليه والذي يتلاءم وتلك الشخصية.
من خلال هاته الأفكار يتبين أن جرامتيكا قد غالى حين طالب بإلغاء قانون العقوبات، والمسؤولية، وبصفة خاصة إهداره لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، علاوة على أن تجريده للجزاءات الجنائية من أي إيلام معناه إلغاء وظيفة العدالة والردع العام والخاص، ونقول إن هذه الانتقادات أدت إلى ظهور حركة الدفاع الاجتماعي الحديث بقيادة مارك انسل.
ثانيا: اتجاه مارك انسل
أما الاتجاه الثاني فهو حركة الدفاع الاجتماعي الجديد التي يتزعمها مارك انسل و تقوم هده الحركة في جزء منها على بعض الأفكار الاتحاد الدولي لقانون العقوبات , فقد سبق للاتحاد الدولي لقانون العقوبات أن تبني ضرورة صياغة سياسة جنائية وقد كان ” ليست” احد زعماء هده الحركة يقصد بدلك تكييف الجزاء الجنائي مع شخصية الجانح , وقد التقطت حركة الدفاع الاجتماعي هده الفكرة , ولكنها تعطي لفكرة السياسة الجنائية مفهوما أكثر اتساعا على ضوء المفهوم الذي قدمه أنصار الدفاع الجديد إلى الصراع ضد الجريمة بطريقة عقلانية و علمية أي بالاستفادة من جهود علوم الإنسان.
و بالنسبة للسياسة التي اعتمدها “مارك انسل” فانه يلتقي مع جراماتيكا في أغراض التدابير الجنائية المتمثلة في تهذيب و إصلاح المجرم وخاصة الحد , وان الطابع الإنساني ومراعاة أدمية المجرم و كرامته هو الطابع المميز لهده التدابير , و رغم دلك فان مارك انسل لا يتفق مع جراماتيكا في إلغاء قانون العقوبات و المجرم و العقوبة و المسؤولية الجنائية و غيرها من المصطلحات القانونية المسلم بها في التشريعات الجنائية المعاصرة , فمارك انسل يبقي على قانون العقوبات و المجرم و الجريمة , علاوة على أن أساس المسؤولية لديه هو حرية الاختيار المدعمة بالعناصر الشخصية , و يقول مارك انسل أن المجتمع عليه واجب محاربة الإجرام بوسائل عامة تقلل من فرص الوقوع فيه كمحاربة الكحول والمخدرات ووضع سياسة للرعاية و المساعدة الاجتماعية للأفراد.
خاتمة
من خلال ما سبق يتبين لنا انا السياسة الجنائية قد تأثرت بمذاهب التي جاء بها مجموعة من الفلاسفة حيث ان العقاب كان في مراحله الاولية عبارة عقاب ذات صبغة وحشية ولا يحترم ابدا مرجعية حقوق الانسان حيث ان الحاكم هو من كان يصدر الاحكام اي كان يتمتع بنوع من الجبروت ولكن مع تطور الزمان ظهرت افكار اخرى والتي ادت الى انتقال العقاب من وحشي الى قانون اي وجود قاعدة قانونية تحدد نوعية الجريمة والعقوبة التي تستحقها عكس ما كان عليه سابقا وهذا مستمد من نظرية العقد الاجتماعي الذي جاء به جان جاك روسو.
وإذا كانت السياسة الجنائية عبر المدارس الفلسفية قد تعددت فان السياسة الجنائية المعاصرة اخدت بأفكار هاته المدارس ولكن اختلفت عنها في نقاط كثيرة خاصة مع تطور الجريمة وتعدد أساليب ارتكابها في الوقت الحاضر.
[1] د هشام بوحوص، محاضرات عن بعد في مادة السياسة الجنائية
[2] د هشام بوحوص, محاضرات عن بعد في مادة السياسة الجنائية
[3] دة سعاد حميدي، محاضرات مادة علم الاجرام