في الواجهةمقالات قانونية

“الأمن المائي بالمغرب: رؤية ملكية إستشرافية إستراتيجية” – البشير الحداد الكبير، باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق بطنجة

 

“الأمن المائي بالمغرب: رؤية ملكية إستشرافية إستراتيجية”

 

البشير الحداد الكبير، باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق بطنجة

 

يلعب الماء دورا محوريا وأساسيا في حياة المجتمع وهو أساس وعماد التنمية، إذ يعاني المغرب في السنوات الأخيرة من إشكالية الجفاف مما استدعى تدخلا من أعلى سلطة في البلاد صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده من أجل الحفاظ على الأمن المائي، فكما هو معلوم أن المؤسسة الملكية تتميز بنظرتها الإستشرافية وتخطيطها الإستراتيجي للمصالح العليا للمغرب، وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال هذا التحليل :

 

+ قام جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره بإثارة انتباه الحكومة السابقة من أجل التدخل العاجل لحل إشكالية ندرة المياه الصالحة للشرب ومياه الري وسقي المواشي، وأعطى جلالته حفظه الله ورعاه تعليماته السامية لرئيس الحكومة السابق أثناء انعقاد المجلس الوزاري بتاريخ 2 أكتوبر 2017، من أجل ترأس لجنة تنكب على هذا الموضوع قصد إيجاد الحلول الملائمة ؛

+ بتاريخ 5 يونيو 2018، ترأس المنصور بالله جلالة الملك، اجتماعا خصص لإشكالية الماء، أخذ جلالته خلاله علما بالخلاصات الأولية للجنة، التي يترأسها رئيس الحكومة، وأعطى تعليماته السامية من أجل تشييد عدة سدود، وفي خطاب العرش المجيد في نفس السنة كان قد تحدث جلالته حفظه الله ورعاه عن تدبير المياه وبناء السدود، مما يدل على العناية الملكية السامية لهذا المشكل ؛

+ إذا عدنا لسنة 2019 نجد أن جلالة الملك نصره الله وأيده كان قد ترأس جلسة عمل خصصت لإشكالية الماء، وبعد مرور سنة (2020)، ترأس جلالته أسماه الله وأعز أمره جلسة عمل خصصت للبرنامج الوطني 2020-2027 المتعلق بالتزويد بالماء الشروب ومياه السقي والذي جاء بخمسة مرتكزات : تطوير العرض المائي وتدبير الطلب واقتصاد وتثمين الماء  وتعزيز التزويد بمياه الشرب في المجال القروي، وإعادة استخدام المياه العادمة المعالجة و التواصل والتحسيس، خصصت له ميزانية 115 مليار درهم ؛

+ بعد مرور سنتين على البرنامج الوطني السالف ذكره، جاء خطاب افتتاح البرلمان 2022، خطاب الوضوح والجدية، خطاب كانت له أبعاد ودلالات قوية، حتى أن طريقة تقسيم الخطاب الملكي السامي تدل على عبقرية المؤسسة الملكية، فالشق الأول كان متعلقا بالماء بينما الشق الثاني متعلق بالإستثمار، وهي إشارة واضحة من جلالته لعلاقة التكامل بين الموضوعين الأول والثاني، فالخطاب الملكي السامي هو تقييم للسياسات العمومية الحكومية، فقد أكد جلالته حفظه الله ورعاه على الإجهاد المائي الذي يعاني منه المغرب، ودعا جميع الفاعلين وعموم المواطنين إلى التحلي بروح المسؤولية في تدبير الماء، وكانت هناك أربعة توجيهات سامية :

* ضرورة إطلاق برامج ومبادرات أكثر طموحا، و استثمار الابتكارات والتكنولوجيات الحديثة، في مجال اقتصاد الماء، وإعادة استخدام المياه العادمة.

* ترشيد استعمال المياه الجوفية والحفاظ على الفرشة المائية من خلال َمحاربة الضخ غير القانوني والآبار العشوائية.

– الماء مسؤولية مشتركة بين كافة القطاعات.

– ضرورة الأخذ بعين الاعتبار، للتكلفة الحقيقية للموارد المائية، في كل مرحلة من مراحل تعبئتها، وما يقتضي ذلك من شفافية وتوعية، بكل جوانب هذه التكلفة.

دون أن ننسى بأن هذا الخطاب الملكي السامي كان تاريخي، لاسيما أنه ركز على بناء السدود (70 سدا)، 50 منجزة، و20 في طور البناء، بالإضافة إلى شبكات الربط بين الأحواض المائية(الطريق السيار المائي)، وكذا برنامج تحلية مياه البحر ؛

+ عقد جلسة عمل في شهر ماي 2023، خصصت لتسريع تنزيل البرنامج الوطني السالف ذكره مع رفع ميزانيته من 115 مليار درهم إلى 143 مليار درهم، وتمت الإشارة في هذا الإطار إلى :

– تسريع مشروع الربط بين الأحواض المائية لسبو وأبي رقراق وأم الربيع، حيث يتم حاليا إنجاز الشطر الاستعجالي لهذا الربط على طول 67 كلم.

– برمجة سدود جديدة، وتحيين تكاليف حوالي 20 سدا يتوقع إنجازها، والتي ستمكن من الرفع من قدرة التخزين ب 6.6 مليار متر مكعب من المياه العذبة.

– تسريع مشاريع تعبئة المياه غير التقليدية، من خلال برمجة محطات لتحلية مياه البحر، والرفع من حجم إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة.

– تعزيز التزود بالماء الصالح للشرب في العالم القروي، من خلال توسيع التغطية لتشمل المزيد من الدواوير وتعزيز الموارد اللوجستية والبشرية المعبأة؛

+ جاء خطاب العرش المجيد سنة 2023 ليؤكد فيه جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره على إعتماد الحكامة والتدبير الجيد والعقلاني للماء والتحلي بالجدية ؛

+ في القمة المغربية الإماراتية المنعقدة في شهر دجنبر 2023، تحت الرعاية السامية للسدة العالية بالله صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده لاحظنا بأن البيان المشترك بين المملكة المغربية العلوية الشريفة ودولة الإمارات الشقيقة، من بين مضامينه الإستثمار في مجال محطات تحلية مياه البحر، إذن نحن أمام ملكية تضع مصالح المغرب والمغاربة في صلب أولوياتها وفي جميع الإتفاقيات الدولية التي تبرمها ؛

+ 16 يناير 2024، ترأس جلالة الملك حفظه الله ورعاه جلسة عمل بخصوص إشكالية الماء، قدم فيها السيد وزير التجهيز والماء الوضعية المائية التي تعرفها بلادنا والحصيلة تماشيا مع البرنامج الوطني السالف ذكره، وتنفيذا للتعليمات الملكية السامية، كما قدم الوزير، بين يدي صاحب الجلالة نصره الله وأيده، مخطط العمل الاستعجالي، الذي تم إعداده من طرف القطاعات المختصة لمواجهة الوضعية الحالية، وضمان توفير المياه الصالحة للشرب، لا سيما في المدن والمراكز والقرى التي تعرف عجزا أو من المحتمل أن تعرفه، وسيتم تنزيل مخطط العمل الاستعجالي، الذي تم تقديمه أمام جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره، على مستوى مختلف الأنظمة المائية بالمملكة، ويشمل مجموعة من الإجراءات على المدى القصير، منها التعبئة المثلى للموارد على مستوى السدود والآبار ومحطات التحلية الموجودة وإقامة تجهيزات استعجالية لنقل الماء والتزويد به، وكذا اتخاذ إجراءات لتقييد استعمال مياه الري وتقليص صبيب التوزيع كلما اقتضت الوضعية ذلك.

 

وفي الختام، إن جلسات العمل التي تعتبر عُرفا دستوريا تعبر عن الرؤيا الملكية الثاقبة في تدبير الأزمات والقضايا الطارئة، كما أنها تجسيد حقيقي للملكية العلوية الشريفة المواطنة، ملكية الجِّد والعمل، ملكية الإشتغال بمنطق الأهداف والنتائج، ملكية تقول وتعمل، ملكية تشتغل بالتخطيط الإستراتيجي والنظرة الإستشرافية للمستقبل، بحيث نحن أمام ملكية تضع حلولا إستباقية لتجنب الأزمات، وهذه الميكانيزمات تفتقدها النخب السياسية، فالنخب السياسية لا تعمل بالتخطيط الإستراتيجي، النخب السياسية تتحرك بعد وقوع مشكل عمومي  لتبحث عن الحلول، لكن المؤسسة الملكية تعمل بالتخطيط الإستراتيجي لتجنب أي مشكل كيفما كان نوعه، وهذا يدل على عبقريتها وحِكمتها وتبصرها في تدبير الشأن العام الوطني، وهذا يدل أيضا أن المؤسسة الملكية هي الخادم الأول والصادق للمغرب ومصالحه العليا.

إن جلسات العمل من أهم الآليات التي تستخدمها المؤسسة الملكية على غرار المجلس الوزاري المنصوص عليه في الفصلين 48 و49 من دستور 2011، فإذا كان المجلس الوزاري ينعقد بمبادرة من جلالة الملك أو بطلب من رئيس الحكومة وينعقد تحت رئاسة جلالة الملك ويضم كلا من رئيس الحكومة والوزراء، فإن جلسات العمل، يتم اللجوء إليها تحت السلطة التقديرية لجلالة الملك حفظه الله ورعاه، كلما دعت المصلحة العليا للوطن إلى ذلك، كما أن الأعضاء الحاضرين فيها يختلفون بإختلاف طبيعة المواضيع المطروحة، فعلى سبيل المثال الأعضاء الذين كانوا في جلسات العمل بخصوص زلزال الحوز ليسوا هم نفس الأعضاء المتواجدين في جلسات العمل المتعلقة بإشكالية الماء، وهذه الجلسات يمكن إعتبارها أحد أهم مقومات رسم السياسة العامة وتوجيه السياسات العمومية التي تعمل الحكومة على أجرأتها وتنفيذها على أرض الواقع، فإذا عدنا لجلسات العمل والخطب الملكية السامية التي ذكرت إشكالية الماء، نجد التتتبع المستمر والدقيق للمؤسسة الملكية لمختلف المشاريع المبرمجة، بمعنى نحن أمام مؤسسة ملكية مسؤولة وذات إلتزام عالي المستوى ، بحيث حينما تضع تصورا وخارطة طريق تضع معها إطارا زمنيا تلتزم بتنفيذه، خدمة للصالح العام، فهدفها ضمان الأمن المائي للأجيال الحالية وأجيال المستقبل إن شاء الله، وسنختم بمقتطف من الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح البرلمان سنة 2022، حيث قال جلالة الملك نصره الله وأيده :” لذا، ندعو لأخذ إشكالية الماء، في كل أبعادها، بالجدية اللازمة، لاسيما عبر القطع مع كل أشكال التبذير، والاستغلال العشوائي وغير المسؤول، لهذه المادة الحيوية.

كما ينبغي ألا يكون مشكل الماء، موضوع مزايدات سياسية، أو مطية لتأجيج التوترات الاجتماعية.

وكلنا كمغاربة، مدعوون لمضاعفة الجهود، من أجل استعمال مسؤول وعقلاني للماء.

وهو ما يتطلب إحداث تغيير حقيقي في سلوكنا تجاه الماء. وعلى الإدارات والمصالح العمومية، أن تكون قدوة في هذا المجال”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى