في الواجهةمقالات قانونية

الائتمان البنكي – جمال أُميرة

الائتمان البنكي

جمال أُميرة – JAMAL OUMIRA

طالب باحث بماستر قانون الأعمال

تطوان

مقدمة

       ساهم بحث التجار عن السيولة المالية الآزمة لتسوية عملياتهم التجارية في جعل المنظور الائتماني ينعطف إلى فلسفة ابتكارية تحمل مشعل دعم التاجر ومساندته في مستوى وفاء التزاماته ومحاولة جعله يعبر كل الاعتراضات التي قد تعصف بمشروعه الاقتصادي المعول عليه لتحقيق أهداف ذات أبعاد متباينة تنسحب في بعض الأحيان إلى تجاوز التاجر بالمفهوم الضيق والرسو عند مفهوم المصلحة العامة التي تشمل التاجر والدائنين والأجراء وكل المرتبطين بالنشاط التجاري عموما.

      ومن هذا المنطلق نجد المشرع عمل على تنزيل المرونة الآزمة للرقي بقدرات التجار سواء ذاتيين أو معنويين، لأن الواقع العملي أعرب منذ القدم عن شبه استحالة النجاة من شبح عجزهم عن إنجاح مشروعاتهم من دون مساندة خارجية تترجم بالأساس في ذلك التمويل البنكي الذي يشكل المحرك الأسطوري للائتمان والمتحكم في دواليبه الفضفاضة.

      إن الدعم البنكي أصبح يعرف نوعا من الابتكار والعقلانية والترشيد المسترسل للتمويلات المطلوبة من قبل شريحة العملاء التجاريين، حيث أصبحت البنوك تتخذ كل الأساليب لاجتذاب أكبر عدد من التجار في سبيل تحصيل النفع المتبادل مع طفوح مصلحتها على مصالح الزبون في معظم الحالات، لأن العمل البنكي يقوم على أساس فلسفة برغماتية تتجلى في نسب الربح الذي ستحصله من كل التسهيلات و التحفيزات الممنوحة للأطراف، فإن قل الربح المجني من العملية ضعف التمويل البنكي والعكس صحيح.

         على ضوء ما تقدم يطرح السؤال التالي: ماهي معالم الائتمان البنكي في التشريع المغربي؟

      ولتبيان ما تقدم سنعمل على دراسة بعض العقود المنتشرة في مجال عمليات البنوك التقليدية المغربية، ويتعلق الأمر بعقد القرض البنكي الذي قيل وما زال يقال عنه الكثير (المبحث الأول) وعقد فتح الاعتماد، الذي ينقسم إلى اعتماد بسيط واعتماد مستندي، على أننا سنركز فقط على الأول دون الثاني في (المبحث الثاني)

المبحث الأول: عقد القرض البنكي

      يتمتع عقد القرض البنكي بأهمية بالغة على الصعيد الائتماني بالنظر إلى المزايا التي يضمرها التعامل به، ولدراسته في هذا المبحث سننطلق بداية من تحديد مفهومه ورصد تجلياته (المطلب الأول) على أن نقف بعده على أهم الآثار التي يسفر عنها انعقاده (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مفهوم عقد القرض البنكي وتجلياته

      في هذا المطلب سنحدد تعريف عقد القرض البنكي ونميزه عن القرض العادي (الفقرة الأولى) تم نستتبع ذلك بالوقوف عند أهم تجلياته (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تعريف عقد القرض البنكي وتمييزه عن القرض العادي

      نستهل هذه الفقرة بالتطرق لتعريف عقد القرض البنكي (أولا) الأمر الذي سيمكننا من تمييزه عن القرض العادي الوارد بالمنظومة المدنية (ثانيا).

      أولا: تعريف عقد القرض البنكي

      لم تتطرق مدونة التجارة في القسم السابع من كتابها الرابع إلى عقد القرض كأحد العقود البنكية، وإنما اقتصرت على عقد الحساب البنكي وعقد الإيداع وعقد التحويل وعقد فتح الاعتماد والخصم وحوالة الديون المهنية ورهم القيم[1]، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول طبيعته القانونية، أي هل هو عقد بنكي يخضع للأحكام التجارية أم أنه عقد مدني يحتكم إلى قواعد قانون الالتزامات والعقود.

      ولا نرى أن طبيعة عقد القرض البنكي تثير أية إشكالية ما دام أن المشرع لم يتناوله ضمن مدونة التجارة لسبب واحد يتمثل في تلافي السقوط في التكرار نظرا لتشابه أحكام القرض البنكي مع أحكام القرض العادي الوارد في الفصول 856 إلى 869 من ق إ ع.

      ويعرف الفصل 856 من القانون المذكور أعلاه القرض أو عارية الاستهلاك على أنه: “عقد بمقتضاه يسلم أحد الطرفين للآخر أشياء مما يستهلك بالاستعمال أو أشياء منقولة أخرى لاستعمالها، بشرط أن يرد المستعير عند انقضاء الأجل المتفق عليه، أشياء أخرى مثلها في المقدار والنوع والصفة”.

      انطلاقا من هذا التعريف يمكن القول أن عقد القرض البنكي هو اتفاق مكتوب يلتزم بمقتضاه البنك المقرض بدفع مبلغ من المال إلى الزبون المقترض، على أن يرد هذا الأخير مبلغ القرض إلى البنك في التاريخ المتفق عليه[2].

      ويتم دفع مبلغ القرض إلى الزبون المقترض إما عبر قيام البنك بتسليمه إياه مباشرة أو إلى أحد من الأغيار يعينه كوكيله مثلا، أو أن يتم إدراج المبلغ بالحساب البنكي للزبون المفتوح مسبقا لدى البنك المقرض[3].

      ويلتزم الزبون بعد تملكه مبلغ القرض برده إلى البنك في التاريخ المتفق عليه في العقد من دون مماطلة أو تقاعس قد يجعله مخلا بواجباته، وعلاوة على ذلك يلتزم أيضا بدفع الفائدة المتفق عليها مسبقا في العقد.

      ثانيا: تمييز القرض البنكي عن القرض العادي

      رغم خضوع القرض البنكي لأحكام القانون المدني إلا أن ذلك لا يعني تطابقه مع القرض العادي، بل توجد العديد من النقاط التي تخولنا رصد مكامن الفرق بينهما يمكن بسطها على المنوال التالي:

      أ) من حيث الأطراف

      ينعقد القرض البنكي بتوافق إرادة البنك المقرض وإرادة الزبون المقترض على بنود الاتفاق الذي يجمع بينهما، بحيث يلتزم البنك بدفع مبلغ من المال إلى الزبون على أن يرد هذا الأخير المبلغ المذكور في التاريخ المعين بالعقد.

      ومن ذلك يتضح أن القرض البنكي ينعقد دائما بتواجد البنك ولا يمكن تصور خلاف ذلك بالمرة، فهو طرف أصلي في العلاقة التعاقدية التي تجمعه مع شريحة الزبناء سواء تعلق الأمر بتجار ذاتيين أو معنويين أو أفراد عاديين لا يتمتعون بالصفة التجارية.

      وهذا على خلاف القرض المدني أو العادي، الذي ينعقد بين الأفراد بالدرجة الأولى الذين لا تتوافر فيهم الصفة التجارية، بحيث يمكن لشخص ما أن يقرض شخصا آخر من باب مساعدته ومن دون مقابل يذكر، فقط يلتزم الطرف المقترض برد مبلغ القرض في التاريخ المحدد مسبقا في العقد[4].

      وبصرف النظر عما سبق تجدر الإشارة إلى أن القرض البنكي يعتبر من عقود المعاوضة ما دام أن البنك يشترط على المقترض دفع فائدة تترتب عن عملية الإقراض، وهو ما لا يتحقق في القرض العادي الذي يعتبر من عقود التبرع، أي أن عملية الإقراض لا تقترن بمقابل كالفائدة مثلا.

      ويعزى تغييب المقابل في القرض العادي إلى الفصل 870 من ق إ ع الذي يجعل اشتراط الفائدة بين المسلمين باطلا ومبطلا للعقد وإن كنا لا نشاطر المشرع هذا التوجه، فصحيح لا نوافق على اشتراط الفائدة في إطار القروض المدنية، لكننا في الآن ذاته لا نقبل بطلان العقد لأن ذلك يلحق الضرر بالمقرض. لذلك نقترح على المشرع إعادة النظر في صياغة الفصل المذكور من خلال الإبقاء على جزاء بطلان اشتراط الفائدة لكن مع بقاء العقد سليما حماية للمقرض.

      ب) من حيث الاثبات

      ما دام أن القرض البنكي يعتبر عقدا تجاريا يندرج ضمن العقود البنكية رغم عدم وروده داخل مدونة التجارة، فإن ذلك يعني للوهلة الأولى خضوعه لحرية الإثبات المنصوص عليها في المادة 334 من المدونة المذكورة التي جاء فيها: ” تخضع المادة التجارية لحرية الاثبات. غير أنه يتعين الاثبات بالكتابة إذا نص القانون أو الاتفاق على ذلك”.

      وبهذا فالأصل في إثبات عقد القرض البنكي الحرية ما لم يقرر القانون خلاف ذلك، بيد أن اشتراط الفوائد في المجال التجاري يجب أن يتم كتابة وهو ما يستفاد من الفصل 871 من ق إ ع الذي ينص على أنه:” في الحالات الأخرى لا تستحق الفوائد إلا إذا كانت قد اشترطت كتابة. ويفترض هذا الاشتراط إذا كان أحد الطرفين تاجرا “.

      وبالتالي فالقرض البنكي مقيد بشكلية الكتابة، مما يجعله يخرج عن المبدأ العام المقرر في المادة 334 المشار إليها أعلاه.

      وما قيل عن القرض البنكي ينطبق كذلك على القرض العادي أو المدني، إذ نجده مقيد بشكلية الكتابة فيما ينسحب إلى إثباته، وأساس ذلك الفصل 443 من ق إ ع الذي يعتبر أن الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق، والتي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود، ويلزم أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية وإذا اقتضى الحال ذلك أن تعد بشكل الكتروني أو توجه بطريقة الكترونية.

      غير أن الفرق بين اثبات القرض البنكي واثبات القرض المدني، يكمن في كون الأول مقيد بشكلية الكتابة في جميع الحالات وبصرف النظر عن قيمة القرض، أما الثاني فلا يقيد بالكتابة إلا إذا فاقت قيمة القرض عشرة آلاف درهم كما بينا مسبقا.

      ج) من حيث الاختصاص

      بصرف النظر عن النقاش الفقهي الذي أثير بخصوص الاختصاص في عقد القرض، نشير إلى أن هذا الأخير عقد بنكي يخضع لأحكام القانون التجاري بالإضافة إلى خضوعه للقانون 53.95 القاضي بإحداث المحاكم التجارية[5]، بحيث جاء في المادة الخامسة منه:” تختص المحاكم التجارية بالنظر في :1- الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية …”

      وعلى أساسه يمكن القول أن القرض البنكي يدخل ضمن الاختصاص النوعي للمحاكم التجارية، سواء كان الزبون المتعاقد مع البنك تاجرا أم العكس، فالعبرة بتجارية الطرف المقرض أي البنك وليس بالمقترض. وهذا القول يتناغم مع مضمون المادة العاشرة[6] وقبله المادة السادسة من مدونة التجارة[7].

      أما العمل القضائي المغربي فنجده متمسكا بطرح واحد وموحد ينسحب إلى تأييد تجارية عقد القرض البنكي، ومن جملة القرارات التي تترجم ذلك نجد مثلا القرار الصادر عن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء[8] الذي جاء فيه: “…إذا كان من المسلم به أن عملية منح القروض أو التسهيلات تعتبر بالنسبة للبنك عملا تجاريا بطبيعته بدون منازع وفقا لنص الفقرة السابعة من المادة السادسة من مدونة التجارة، فإنه حتى بالنسبة للمقترض أو المستفيد من التسهيلات البنكية فإن الفقه والقضاء استقرا على اعتبار القروض والتسهيلات التي تعقدها البنوك في نشاطها المعتاد عملا تجاريا مهما كانت صفة المقترض وأيا كان الغرض الذي خصص له القرض أو التسهيلات الممنوحة”.

      وعلى خلاف القرض البنكي، فإن القرض العادي يخضع نوعيا في حالة قيام نزاع مرتبط به إلى القضاء العادي، فحسب الفصل 18 من قانون المسطرة المدنية[9]، فإن المحاكم الابتدائية تبقى صاحبة الولاية العامة، أي أنها تختص نوعيا بالنظر في كل القضايا ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك[10]، وما دام القرض العادي عقد مدني فإنه من دون نقاش ينعقد اختصاص الفصل فيه إلى القضاء العادي دون سواه.

الفقرة الثانية: تجليات القرض البنكي

      إذا كان من صميم المهام المنوطة بالأبناك حسب القانون 103.12 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، تلقي الأموال من الجمهور ومنح الائتمان، فإن هذا الأخير يتخذ شكل قروض تتباين بحسب مدتها (أولا) وغرضها (ثانيا).

      أولا: تجليات القرض البنكي من زاوية مدته

      تعتبر مدة الاستحقاق أساسا ناجعا للتمييز بين القروض البنكية وإزالة اللبس عنها سواء من ناحية التكييف أو من ناحية الاحصائيات. وبحسب مدة العقد يمكن التفرقة بين القروض القصيرة الأجل وبين القروض المتوسطة والطويلة الأجل.

     هذا ونقصد بالقروض القصيرة الأجل، تلك القروض التي تنعقد لمدة زمنية قصيرة، كشهر مثلا أو ثلاثة أشهر أو تسعة أشهر، بحيث تشكل وسيلة معول عليها لتلبية الاحتياجات ذات الطابع المؤقت، من قبيل الاحتياجات الاستهلاكية التي تدفع بالزبناء إلى الاقبال على هذه القروض بشكل متكرر ولمدد قصيرة كما قلنا.

      ونعتقد أن الاقبال على هذا النوع من القروض مردود إلى مجموعة من العوامل، يتريدها عامل انخفاض نسبة الفائدة، الذي يرجع بدوره إلى عامل المدة القصيرة، الأمر يعني أن مخاطر منح هذه القروض لا تشكل تهديدا حقيقيا للبنك، مما يجعله لا يشترط ضمانات قوية سواء عينية أو شخصية من شأنها أن تجعل الزبناء يعرضون عن الاقبال عليها.

      وحسب تقرير بنك المغرب لسنة 2006 فإن القروض القصيرة الأجل تشكل ما يقارب 60 بالمائة من مجموع القروض الممنوحة، وبلغت قيمتها سنة 2006 حوالي 138.1 مليار درهم[11].

      أما القروض المتوسطة الأجل، فهي التي تتأسس على مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز سبعة سنوات، كأن تنعقد مثلا لمدة سنتين أو أربع سنوات. وتمتاز بالاقبال المتزايد عليها نظرا لما تحققه من مكاسب لجمهور المقترضين سواء من القطاع العام أو الخاص، علاوة على أن البنك ييسر مسألة إرجاع مبلغ القرض، فقد يتفق في العقد على الارجاع الكلي للمبلغ دفعة واحدة أو عبر دفعات متساوية أو غير متساوية تجعل من المقترض لا يشعر بثقل المبلغ والفوائد المستحقة لفائدة البنك المقرض[12].

      وفي مقابل ما تقدم نجد القروض الطويلة الأجل، التي تنعقد لمدة تفوق سبعة سنوات[13]، وتمتاز بتوجهها إلى المشاريع ذات الطابع الضخم، فهي غالبا ما ترتبط بتمويل الاستثمارات الكبرى، كبناء فندق مثلا أو مصنع أو شراء آلات لتسيير نشاط شركة معينة.

      وقد بلغ حجم هذه القروض 84.581 مليون درهم سنة 2006 الأمر الذي يعني تطورها وتناميها بالمغرب بفعل ارتفاع حجم المشاريع الاستثمارية علاوة على تصاعد قروض السكن[14].

      ثانيا: تجليات القرض البنكي من زاوية غرضه

      تتعدد الأغراض التي يخصص لها القرض البنكي، فقد يكون موجه لتمويل نشاط معين أو عدة أنشطة، وقد يخصص لتمويل عملية من العمليات اليومية للأفراد. بيد أن التقسيم الشائع للقروض من زاوية غرضها، ذلك الذي يشطرها إلى قروض عقارية وقروض استهلاكية.

      ونقصد بالقروض العقارية، تلك القروض التي يمنحها البنك من أجل تمويل قطاع السكن ودعم المشاريع الكبرى المتمثلة في تشييد الفنادق وتجهيزها، علاوة على دعم الفاعلين في مجال الإنعاش العقاري.

      ونعتقد أن القروض البنكية العقارية، لا تلعب دور تمويلي فقط، بل لها أدوار طلائعية تفوق المألوف عن التمويلات الأخرى، فهي تترجم من زاوية اجتماعية انسحاب الوظيفة البنكية إلى الغوص في مركب هموم المجتمع من خلال الاصغاء لمتطلبات الأسر التي لا تنشد أي شيء سوى الحصول على مسكن يشكل قارب النجاة من شبح الشارع.

      أما من الناحية الاقتصادية فالقروض البنكية العقارية أصبحت تشكل المحفز البارز لإنشاء المشاريع السياحية ودعم عملية تأهيل المقاولات واتساعها من خلال تيسير مأمورية بناء وحدات أخرى تابعة لها وتجهيزها. فكل هذا يترجم بوضوح الدور الذي تلعبه البنوك من خلال الائتمانات التي تمنحها في مجال دعم الاقتصاد وإجتذاب الاستثمارات الأجنبية، والعمل على محاربة الهشاشة التي تنخر كيان المجتمع المغربي منذ زمن ليس بقريب.

      في مقابل القروض العقارية، تنسحب القروض الاستهلاكية إلى خلق نوع من الرفاه الاجتماعي، من خلال تسهيل مأمورية حصول الزبناء على ما يحتاجونه من آلات ومعدات منزلية مثلا، وعموما تمويل الحاجيات الشخصية والعائلية والمنزلية[15].

      لكن القروض السالفة لا تقدم على طابق من ذهب، بل طابق مغلف بضمانات تحمي حقوق البنوك عموما، فالعمل البنكي يقوم على المضاربة والتهديد الكامن في مخاطر منح الائتمان، لذلك تتجه المؤسسات البنكية إلى اشتراط ضمانات تتباين وتختلف من قرض إلى آخر.

      ومن أكثر الضمانات شيوعا في مجال القرض البنكي نجد الرهن الرسمي، الذي عرفته المادة 165 من مدونة الحقوق العينية[16] على أنه حق عيني تبعي يتقرر على ملك محفظ أو في طور التحفيظ، ويخصص لضمان أداء الدين.

      ويمنح الرهن الرسمي للبنك المرتهن العديد من الحقوق على العقار موضوع الرهن، نجد من ضمنها حق الأفضلية في استفاء الدين، وحق تتبع العقار، وأهمها حق التنفيذ على العقار، ذلك أن تخلف الزبون المقترض عن رد مبلغ القرض مع الفوائد يمنح للبنك الحق في التنفيذ على العقار موضوع الرهن الرسمي[17].

      وعلى غرار الضمانات العينية تشكل الضمانات الشخصية ذرع يحمي حقوق البنوك من مخاطر منح القروض، وتتخذ صورة كفالة شخصية تقوم على أساس ضم الذمم للوفاء بدين البنك المتمثل في مبلغ القرض والفوائد التي أسفر عنها. بمعنى التزام شخص اتجاه البنك المقرض بأداء التزام المدين المقترض إذا لم يؤده هذا الأخير نفسه[18].

المطلب الثاني: آثار عقد القرض البنكي

      كباقي العقود يترتب عن انعقاد القرض البنكي العديد من الآثار تتخذ شكل التزامات مجزأة بين عاقديه، أي التزامات تقع على البنك المقرض (الفقرة الأولى) وأخرى تقع على الزبون المقترض (الفقرة الثانية).

 

الفقرة الأولى: التزامات البنك المقرض

      من الالتزامات التي يرتبها عقد القرض على البنك، نجد الالتزام بتسليم مبلغ القرض إلى الزبون المقترض، ويتم ذلك عبر قيام البنك بتسليمه المبلغ إما دفعة واحدة أو عبر عدة دفعات متساوية أو غير متساوية حسب ما تم الاتفاق عليه في العقد. ويتخذ التسليم عدة أوجه، فقد يكون مباشرة أو يسلم المبلغ لأحد وكلاء المقترض، كما قد يتم عبر إدراج المبلغ بالحساب المفتوح لدى البنك، وإذا تعلق الأمر بالحساب الجاري البنكي فإن التسليم يتم عبر إدراج المبلغ بالجانب الدائن لأنه يصبح من أصول الزبون المقترض.

      وتسليم مبلغ القرض إلى الزبون، يعني أن ملكيته انتقلت إليه، مما يفقد البنك الحق في التصرف فيه بعد ذلك، وهو ما يستفاد من الفصل 861 من ق إ ع الذي ينص على أن القرض ينقل ملكية المبلغ من البنك إلى الزبون ابتداء من الوقت الذي يتم فيه العقد بتراضي الطرفين.

      علاوة على ذلك يتعين على البنك احترام مدة العقد، فلا يجوز له مثلا أن يطالب بإرجاع المبلغ قبل حلول أجله، لأن المبلغ المذكور لم يعد ملكا له خلال مدة العقد، بل ملكا للمقترض الذي يحق له التصرف فيه كما شاء[19].

      إلا أن السؤال الذي يطرح في هذا الصدد، يتعلق بمدى جواز إرجاع المقترض للمبلغ قبل حلول أجل الارجاع أو السداد؟

      إن السؤال المذكور يجد جوابه في الفقرة الثانية من الفصل 866 من قانون الالتزامات والعقود التي جاء فيها أنه يسوغ للمقترض رد مبلغ القرض قبل حلول أجله. لكنها تشير في الآن ذاته إلى ضرورة استحضار مصلحة البنك، الأمر الذي يعني أن الارجاع السابق لأوانه معلق على موافقة البنك.

      ونرى أن الفصل 866 السالف الذكر يعتبر مظهرا من مظاهر الحماية التشريعية للمقترض كطرف ضعيف في العلاقة التي تجمعه مع الشركات البنكية، فهو من جهة أولى كبح إمكانية المطالبة بالمبلغ المقترض قبل حلول أجله، بما يشكل إقبارا لكل أوجه المطالبات التعسفية بالمبالغ المقترضة.

      ومن جهة ثانية خول للمقترض إمكانية إرجاع المبلغ قبل حلول أجله، الأمر الذي يترجم نوعا من المرونة على مستوى السداد، فقد يحقق المقترض أهدافه دون استعمال مبلغ القرض أو يستعمله بشكل سريع فيحصل من ذلك على أموال أخرى تجعله متوفرا على المال الآزم لدفع ما في ذمته اتجاه البنك قبل حلول ميعاد الارجاع.

      بالإضافة إلى ما سبق، يتعين على البنك تقديم النصح والارشاد إلى المقترض، لأنه يتمتع بآليات تمكنه من معرفة كل المخاطر التي يضمرها الاقراض عموما، علاوة على مراقبته كيفية استعمال المقترض للمبلغ وذلك تحت مسؤولياته[20].

الفقرة الثانية: التزامات الزبون المقترض

      من الالتزامات التي تترتب على المقترض إرجاع المبلغ إلى مقرضه من دون تماطل أو تأخير من شأنه إثارة مسؤوليته العقدية، وهو ما أكد عليه قانون الالتزامات والعقود في الفصل 865 منه الذي جاء فيه: “على المقترض أن يرد مثل ما تسلمه قدرا وصفة، ولا يلزمه غير ذلك”.

      وإذا كان الفصل المذكور واضح الألفاظ، إلا أنه يثير نوعا من الابهام بخصوص مقابل عملية الاقراض، فحسب صياغته فإن المقترض يجب عليه رد مبلغ القرض فقط، ولا يلتزم بدفع أي مقابل آخر كالفوائد الاتفاقية.

      إلا أن هذا المضمون ينسحب من ناحية السريان إلى القروض المدنية وليس القروض التي تمنحها المؤسسات البنكية، وبالتالي لا يمكن الاعتداد به للقول بعدم جواز التعامل بالفائدة في إطار القروض البنكية.

      وقد أكد العمل القضائي المغربي في العديد من المناسبات على أحقية البنك في الاستفادة من الفوائد التي تترتب عن عملية الإقراض. فمثلا جاء في قرار[21] صادر عن المجلس الأعلى ما يلي: ” لكن حيث إنه لئن كانت الفوائد الاتفاقية محرمة بين المسلمين حسب صريح الفصل 870 من قانون الالتزامات والعقود، والحال أن الطالب مسلم، فإن المطلوب في النقض شخصية اعتبارية مجردة من أي انتماء ديني، ومن تم فالفوائد المشروطة لا ينطبق عليها الفصل المذكور (الفصل 870 من ق إ ع) وبذلك فإن الدفع لا أثر له والمحكمة غير ملزمة بالجواب على دفع لا أثر له…”

      وحسب هذا القرار فإن اشتراط الفائدة في إطار القروض البنكية لا يمكن تفسيره من زاوية القواعد العامة ولا سيما الفصل 870 من قانون الالتزامات والعقود، لأن هذا الأخير يجعل من اشتراط الفائدة باطلا ومبطلا للعقد إذا تعلق الأمر بالمسلمين، بيد أن هذا لا يستقيم مع خصوصية القروض البنكية، لأن مانح هذه الأخيرة شخص معنوي يتخذ لزوما شكل شركة مساهمة لا تزاول عملياتها من منطلقات دينية أو أخلاقية بل منطلقات تتأسس على الربح والمضاربة[22].

      وعلى غرار التزام المقترض برد مبلغ القرض في التاريخ المتفق عليه ودفع الفائدة المتفق عليها كما بينا أعلاه، يتعين عليه أن يحسن استعمال المبلغ، لأن البنك -وكما سبق القول- ملزم بمراقبة استعماله للمبلغ تحت طائلة قيام مسؤوليته.

المبحث الثاني: عقد فتح الاعتماد البسيط

      لا يأخذ الائتمان الذي تقدمه المؤسسات البنكية شكلا واحدا أو مظهرا معينا، وإنما أشكالا عديدة تتخذ صورا مختلفة تتباين من عملية إلى أخرى. وهذا يترجم نوعا من السلاسة في مستوى خلق التمويلات المطلوبة من قبل العملاء، بما يساهم في تحقيق العديد من المكاسب التي ترجع بالمنفعة على الأفراد. فالبنوك تتخذ من منح الائتمان وسيلة لتوظيف أموالها وأموال غيرها، في حين يستفيد جمهور العملاء من مبالغ مالية ترتسم في شكل قروض واعتمادات.

      وفي هذا المبحث سنعمل – قدر المستطاع – على دراسة عقد ذائع الصيت يسمى عقد فتح الاعتماد البسيط، وذلك من خلال تحديد مفهومه تم تبيان مخرجاته (المطلب الأول) على أن نرسو بحالات انهائه (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مفهوم وآثار عقد فتح الاعتماد البسيط

      طبيعة هذا المطلب توجب علينا تناول مفهوم عقد فتح الاعتماد البسيط (الفقرة الأولى) تم حصر أهم آثاره التي تتخذ شكل التزامات تقع على البنك مانح الاعتماد وعلى الزبون المستفيد منه (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم عقد فتح الاعتماد البسيط

      لقد تناول المشرع التجاري عقد فتح الاعتماد كأحد العقود البنكية في القسم السابع[23] من الكتاب الرابع من مدونة التجارة، وعرفه في الفقرة الأولى من المادة 524 بأنه: ” فتح الاعتماد هو التزام البنك بوضع وسائل للأداء تحت تصرف المستفيد أو الغير المعين من طرفه في حدود مبلغ معين من النقود…”

      يستفاد من ذلك أن عقد فتح الاعتماد البسيط، عبارة عن اتفاق بين البنك والزبون أو المستفيد، يلتزم بمقتضاه الأول بأن يضع مبلغ مالي متفق على قيمته رهن إشارة الثاني وذلك لمدة محددة أو لمدة غير محددة، على اعتبار أن العقد المذكور قد يتأسس على مدة معلومة وقد لا تكون معلومة، وهو ما يستفاد من الفقرة الأولى من المادة 525 من مدونة التجارة[24].

      إلا أن التعريف السابق قد يثير نوعا من اللبس والخلط بين عقد فتح الاعتماد وعقد القرض الذي سبق وأن تطرقنا إليه، خاصة وأن الأول يتضمن قيام البنك بوضع مبلغ من المال رهن تصرف المستفيد وهو ما ينطبق – نسبيا- على الثاني.

      إن عقد فتح الاعتماد البسيط وإن كان يتمثل في وضع مبلغ مالي تحت تصرف المستفيد، إلا أن هذا الأخير لا يلتزم بقبض المبلغ المذكور دفعة واحدة، بل له أن يقبضه أو يتركه إلى أن يحين موعد استعماله، وهذا على خلاف القرض البنكي الذي يتضمن التزاما يتمثل في تسليم مبلغ القرض بأكمله إلى المقترض طبقا لما يؤكد عليه الفصل 856 من قانون الالتزامات والعقود[25].

      والقول بأن عقد فتح الاعتماد لا يعني قبض المستفيد للمبلغ وتسلمه إياه، يفيد بداهة أن الفوائد لا تسري عليه إلا إذا استعمله. بمعنى أن المستفيد إذا لم يستخدم المبلغ المعتمد فإن البنك لن يحصل على الفوائد التي يهدف إلى ربحها. وهذا يناقض أساسيات القرض البنكي، ذلك أن الفائدة في إطاره تحتسب على الزبون سواء استعمل مبلغ القرض أم لا، وهو ما يلحق الضرر به خاصة في الحالة التي يقترض من أجل تنفيذ غرض معين، تم يتلاشى ذلك الغرض بفعل حلول ظروف معينة، فيبقى ملزما برد مبلغ القرض ومعه الفوائد ولا مجال لتحججه بعدم استعمال المبلغ المقترض.

      وفي ذات المضمار نرى أن عقد فتح الاعتماد يعتبر من العقود المبتكرة في المجال البنكي، نظرا للمزايا التي تحيط به، فهو أولا تجاوز عيوب عقد القرض البنكي، وثانيا خلق نوعا من الثقة بين الزبون والبنك خاصة وأنه يتأسس على الاعتبار الشخصي، فبدون هذا الاعتبار لا مجال للحديث عن عقد يدعى فتح الاعتماد البسيط.

      ورغم هذا الفرق الواضح والذي لا يقبل الجدال بين عقد فتح الاعتماد وعقد القرض البنكي، إلا أن البعض يرون عقد فتح الاعتماد قرضا أو وعدا بالقرض، ويؤسسون مواقفهم على حجج واهية لا يقبلها المنطق القانوني والعمل البنكي[26].

      ونعتقد أن سبب هذا الخلط  يعزى إلى أن بعض الفقه لا يعترفون لحد اليوم بالعقود التجارية، بمعنى أن اعتقادهم راسخ و لا يتزحزح من مكانه وولاءهم دائم للقانون المدني وللعقود التي وردت به، فغالبا ما ينظرون للعقود الأخرى من زاوية مدنية صرفة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتوافق مع منظور وفلسفة قانون الأعمال والنزوح التام للقانون التجاري نحو ترسيخ مفاهيم ومؤسسات تواكب التطور الطافح الذي يشهده عالم المال والتجارة والأعمال، في حين المجال المدني يعرف جمودا على مستوى الابتكار وعلى مستوى خلق صيغ عقود تواكب ما يشهده العالم من قفزات وموجات تجرف المألوف وتحكم عليه بالعجز المميت.

الفقرة الثانية: آثار عقد فتح الاعتماد البسيط

      يسفر عقد فتح الاعتماد عن مجموعة من الآثار تترتب على عاقديه، بحيث يظهر البنك في إطاره مدينا ودائنا بمبلغ الاعتماد.

      ويلتزم البنك بوضع المبلغ المعتمد تحت تصرف المستفيد، مع تقيده بباقي البنود الاتفاقية المضمنة في العقد. كما يجب عليه احترام مبلغ الاعتماد، من خلال عدم تجاوزه، فلا يجوز له منح المستفيد مبلغ يقل أو يفوق المبلغ المتفق عليه في العقد[27].

      ففي بعض الحالات قد يقدم البنك على منح الزبون تجاوزات على أذون الاعتمادات، أي أن البنك يقدم مبالغ مالية تفوق مبلغ الاعتماد المطلوب والضمانات المرتبطة به. إلا أن هذا التجاوز يثير مسؤولية البنك وحده، لأنه المسؤول عن ضبط العمليات، ومنه لا مجال لمساءلة الزبون عن الأخطاء التي يرتكبها البنك خاصة تجاوز قيمة الاعتماد المطلوب[28].

      وفي الجهة المقابلة يلتزم المستفيد برد مبلغ الاعتماد بعد انصرام المدة المتفق عليها، طبعا إذا تعلق الأمر بعقد محدد المدة. وعلاوة على ذلك يتوجب عليه دفع مقابل لما أخذه من البنك، ويتخذ المقابل شكل عمولات وفوائد، انسجاما مع الخاصية التي تطبع عقد فتح الاعتماد، المنجلية في كونه عقد ملزم للجانبين[29].

      كما أن المستفيد يقدم ضمانات للبنك تتخذ شكل ضمان عيني أو شخصي يجعل البنك يطمئن للتعامل معه، لأن الائتمان تعتريه العديد من المخاطر المحتملة، مما يجعل مسألة اشتراط الضمانات حجر الأساس في هذا الإطار.

      ويجب على المستفيد استعمال الاعتماد بشكل سليم ولا يثير أي إزعاج للبنك، خاصة وأن القانون منح لهذا الأخير الحق في انهاء الاعتماد المفتوح إذا تبين له أن المستفيد ارتكب خطأ جسيما عند استعماله للاعتماد.

المطلب الثاني: انهاء عقد فتح الاعتماد البسيط

      إذا كانت الفقرة الأولى من المادة 525 تشير إلى أن الاعتماد قد يفتح لمدة محددة أو لمدة غير محددة، فإن ذلك يوجب علينا تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين، نتطرق في الأولى إلى انهاء عقد فتح الاعتماد المحدد المدة، وفي الثانية إلى انهاء عقد فتح الاعتماد غير محدد المدة.

الفقرة الأولى: انهاء عقد فتح الاعتماد المحدد المدة

      تنص الفقرة الرابعة من المادة 525 من مدونة التجارة على أنه: ” سواء كان الاعتماد مفتوحا لمدة معينة أو غير معينة، فإنه يمكن للمؤسسة البنكية قفل الاعتماد بدون أجل، في حالة توقف بين للمستفيد عن الدفع أو في حالة ارتكابه لخطإ جسيم في حق المؤسسة المذكورة أو عند استعماله للاعتماد”.

      يستفاد من ذلك أنه يحق للبنك انهاء عقد فتح الاعتماد قبل حلول أجله إذا توافرت أسباب تخوله ممارسة ذلك من قبيل التوقف البين عن الدفع وارتكاب المستفيد لأفعال تكيف على أنها أخطاء جسيمة.

      إلا أن ما يلاحظ بخصوص ما تقدم هو الصياغة العامة التي جاءت بها المادة 525 من مدونة التجارة، لا سيما صياغة التوقف البين عن الدفع، فمعلوم حسب قواعد الكتاب الخامس من مدونة التجارة أن التوقف عن الدفع يشكل موجبا قانونيا لفتح مساطر المعالجة في وجه المقاولة المتأزمة من أجل البحث عن الحل الملائم للملمة جراحها، وبالتالي كيف لنا كباحثين القبول بكون التوقف عن الدفع يعني غلق الاعتماد المفتوح، خاصة وأن هذا الأخير يندرج ضمن العقود الجارية المعول عليها لتحسين وضعية المقاولة الموضوعة رهن العلاج القضائي.

      إن ما تقدم لا يمكن وصفة إلا بالارتباك في الصياغة من قبل المشرع، ارتباك جعله لا يقيم تمييزا معقولا يفرضه المنطق والصواب، بين التوقف عن الدفع الذي لا يجعل المقاولة مختلة بشكل لا رجعة فيه، وبين التوقف عن الدفع الذي يجعلها كذلك.

      ففي حالة التوقف عن الدفع الذي لا يجعل المقاولة مختلة بشكل لا رجعة فيه تفتح في وجهها مسطرة التسوية، التي توجب استمرارية نشاطها طبقا للمادة 586 من المدونة، ومعلوم أن النشاط المذكور لا يمكنه الاستمرار من دون وجود مقوماته، تبقى العقود الجارية من أبرزها كما هو شأن عقد فتح الاعتماد البسيط.

      وعليه إذا تعلق الأمر بمحطة التسوية القضائية لا يمكن للبنك غلق الاعتماد المفتوح بصرف النظرعن صياغة الفقرة الرابعة من المادة 525 المشار إليها مسبقا، لأن الاعتماد المذكور يعتبر وسيلة لتحسين وضعية المقاولة ووسيلة لإنجاح الكتاب الخامس من مدونة التجارة برهاناته وأمانيه العديدة. وعلى خلاف ذلك تعتبر التصفية القضائية سببا من أسباب غلق الاعتماد البسيط ووقف آثاره.

      بالإضافة إلى ما تقدم نعتقد أن الصياغة الأخرى المعتمدة في الفقرة الرابعة من المادة 525 من المدونة والتي تتعلق بارتكاب المستفيد لخطإ جسيم في حق المؤسسة البنكية أو عند استعماله للاعتماد، صياغة مبهمة وغير واضحة، بحيث هل يعقل أن نمنح للبنك سلطة تقرير ما يندرج ضمن الأخطاء الجسيمة وما لا يندرج ضمنها؟

      في اعتقادي المتواضع كان على المشرع تحديد قائمة ولو على سبيل المثال للأخطاء الجسيمة المرتكبة من قبل المستفيد والتي في ضوئها يحق للبنك انهاء عقد فتح الاعتماد، فبذلك ستتحقق الحماية للطرفين معا، أي حماية الزبون من تعسف البنك، وحماية هذا الأخير من المسؤولية المالية التي تثار عند عدم احترامه لمقتضيات المادة 525 من مدونة التجارة.

الفقرة الثانية: انهاء عقد فتح الاعتماد غير محدد المدة

      في هذا المقام نستدعي لجلسة التحليل والنقاش الفقرة الثانية من المادة 525 من مدونة التجارة التي تنص على أنه:” لا يمكن فسخ الاعتماد المفتوح لمدة غير معينة بصورة صريحة أو ضمنية، ولا تخفيض مدته إلا بتبليغ اشعار كتابي، وانتهاء أجل يحدد عند فتح الاعتماد، دون أن يقل هذا الأجل عن ستين يوما”.

      يستفاد من ذلك أن البنك إذا ما رغب في انهاء عقد فتح الاعتماد المنعقد لمدة غير معلومة، عليه أولا اشعار الزبون بذلك، حماية لهذا الأخير من الانهاء الفجائي الذي قد يلحق الضرر به.

      ويتعين على البنك كذلك احترام مهلة الاشعار التي لا ينبغي أن تقل عن ستين يوما كما هو مشار إليه في المقتضى المذكور أعلاه، علاوة أن الاشعار ينبغي أن يكون بشكل مكتوب وأن يتضمن الأسباب التي جعلت البنك يتخذ قرار فسخ الاعتماد المفتوح.

      وإذا لم يحترم البنك شكلية الاشعار، فإن ذلك من شأنه إثارة مسؤوليته العقدية خاصة إذا لحق الزبون ضرر، وهو ما أكد عليه العمل القضائي في العديد من المناسبات، فعلى سبيل المثال جاء في حكم[30] للمحكمة التجارية بالدار البيضاء ما يلي:” وحيث ثبت للمحكمة من خلال وثائق الملف وما سبق بيانه أن البنك المدعى عليه ارتكب أخطاء جسيمة في حق المدعية تمثلت في ارجاع شيكات بدون أداء رغم توفرها على رصيد كاف لسدادها، وتحويل مبالغ مالية من حسابها دون إذنها، واحتساب نسبة فوائد غير متفق عليها، كما تراجع عن التزامه بتمويل شراء الزبناء للشقق بمشروع المدعية.

وحيث إن الأخطاء المحددة أعلاه تعتبر أخطاء بنكية صدرت على المدعى عليه توجب مسؤوليته عن الضرر المحقق الذي لحق المدعية من خسارة وما فاتها من كسب نتيجة عدم إتمام المشروع السكني وبيع الشقق للزبناء…”

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة

       يعتبر الاتمان البنكي وسيلة فعالة لتحقيق العديد من الأهداف، علاوة على التوفيق بين المصالح المتباينة، فمن خلاله يتمكن البنك من توظيف أمواله وأموال غيره، في حين يتمكن الزبون من تحصيل مبالغ مالية يعمل بها على سد حاجياته وتحقيق مراميه. ويرتسم الائتمان في شكل عقود بنكية تطرقنا لبعضها في هذا المقال، مبرزين أهم ملاحظاتنا بشأن المقتضيات المنظمة لها وحدود هذا التنظيم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قائمة المراجع:

الكتب:

  • على جمال الدين عوض: عمليات البنوك من الوجهة القانونية، دار النهضة العربية، القاهرة 1981.
  • محمد صبري: الائتمان البنكي، مسؤولية البنك المدنية عند تجاوز أذون الاعتمادات، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية 2001.

 

  • عبد العالي دقوقي: محاضرات في حق الملكية وفي الضمانات العينية والشخصية، دراسة في ضوء القانون رقم 39.08 بمثابة مدونة الحقوق العينية، مطبعة سجلماسة، 2018/2019.

الرسائل الجامعية:

  • فاتحة براني: الائتمان البنكي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة قانون العقود والعقار، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2006/2007.

 

  • رشيد الشانب: شركات القروض الاستهلاكية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة القانون المدني، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، الرباط، السنة الجامعية 2003/2004.
  • محمد أهلي: مخاطر القروض البنكية وآليات ضبطها، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، قانون الأعمال، جامعة الحسن الثاني – عين الشق – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2008/2009.

[1] – أنظر المواد 487 إلى 544 من م ت.

[2] – فاتحة براني: الائتمان البنكي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة قانون العقود والعقار، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية وجدة، السنة الجامعية 2006/2007، ص8.

[3] – المرجع ذاته، ص9.

[4] – وقد لا يكون تاريخ رد مبلغ القرض العادي إلى المقرض محددا، إلا أن ذلك لا يثير أية مشكلة ما دام أن الفصل 867 من ق إ ع يعتبر أجل الرد مقرون بطلب المقرض، بمعنى يتعين على المقترض الوفاء بدينه عند طلب المقرض.

[5] – ظهير شريف رقم 1.97.65 الصادر في 4 شوال 1417 (12فبراير 1997) بتنفيذ قانون 53.95 القاضي بإحداث محاكم تجارية، منشور بالجريدة الرسمية عدد 4482 بتاريخ 15 ماي 1997، ص 1141.

[6] – تنص المادة العاشرة من م ت: ” تعتبر تجارية كذلك الوقائع والأعمال التي يقوم بها التاجر بمناسبة تجارته ما لم يثبت خلاف ذلك “.

[7] – جاء في المادة السادسة من م ت: ” مع مراعاة أحكام الباب الثاني من القسم الرابع بعده المتعلق بالشهر في السجل التجاري، تكتسب صفة تاجر بالممارسة الاعتيادية أو الاحترافية للأنشطة التالية: … 7- البنك والقرض والمعاملات المالية؛ “.

[8] – قرار لمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء رقم 764 بتاريخ 10-06-1999 ملف عدد 814/99/8 أوردته فاتحة براني: م س، ص18.

[9] – ظهير شريف بمثابة القانون رقم 1.74.447 بتاريخ 11 رمضان 1394 (28 شتنبر 1974) بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية، منشور بالجريدة الرسمية عدد 3230 بتاريخ 13 رمضان 1394 (30 شتنبر 1974) ص2741.

[10] – جاء في الفصل 18 من نفس القانون: ” تختص المحاكم الابتدائية – مع مراعاة الاختصاصات الخاصة المخولة إلى أقسام قضاء القرب – بالنظر في جميع القضايا المدنية والأحوال الشخصية والميراث … والاجتماعية ابتدائيا وانتهائيا أو ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف “.

 

[11] – أرقام واردة في التقرير السنوي لبنك المغرب 2006، ص15 وما بعدها.

[12] – وبلغت قيمة القروض المتوسطة الأمد حسب تقرير بنك المغرب 69.155 مليار سنة 2006، وهو رقم منخفض بالمقارنة مع رقم القروض القصيرة الأمد التي سبق التطرق إليها أعلاه.

[13] – فاتحة براني: الائتمان البنكي، م س، ص4.

[14] – أنظر التقرير السنوي لبنك المغرب 2006، ص15 وما بعدها.

[15] – للمزيد حول القروض الاستهلاكية أنظر، رشيد الشانب: شركات القروض الاستهلاكية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة القانون المدني، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، الرباط، السنة الجامعية 2003/2004، ص60.

[16]– القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.178 الصادر في 25 من ذي الحجة (22 نونبر 2011) منشور بالجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 24 نونبر 2011، ص5587.

[17] – عبد العالي دقوقي: محاضرات في حق الملكية وفي الضمانات العينية والشخصية، دراسة في ضوء القانون رقم 39.08 بمثابة مدونة الحقوق العينية، مطبعة سجلماسة، 2018/2019، ص160 وما بعدها.

[18] – الفصل 1117 من ق إ ع.

[19] – الفقرة الأولى من الفصل 866 من ق إ ع.

[20] – للتفصيل في موضوع مخاطر القروض البنكية أنظر:

محمد أهلي: مخاطر القروض البنكية وآليات ضبطها، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، قانون الأعمال، جامعة الحسن الثاني – عين الشق – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2008/2009.

[21] – قرار المجلس الأعلى عدد 769 صادر في 4 أبريل 1990 ملف مدني عدد 3898/85 منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، العدد1، سنة 2003.

[22] – للمزيد أنظر القرارات التالية:

قرار المجلس الأعلى عدد 1147 بتاريخ 14 يونيو 1982 منشور بمجلة المعيار، العدد 9-10 ص59.

قرار المجلس الأعلى عدد 983 صادر بتاريخ 14 فبراير 1996 ملف مدني عدد 3219/85 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد 52، ص 159.

[23] – أنظر الباب الخامس منه.

[24] – تنص الفقرة الأولى من المادة 525 من م ت على أنه: ” يفتح الاعتماد لمدة معينة قابلة أو غير قابلة للتجديد، أو لمدة غير معينة ”

[25] – أنظر فاتحة براني: الائتمان البنكي، م س، ص 22.

[26] – للاطلاع على آراء الفقه بشأن طبيعة عقد فتح الاعتماد، أنظر على جمال الدين عوض، عمليات البنوك من الوجهة القانونية، دار النهضة العربية، القاهرة 1981، ص 422 وما بعدها.

[27] – محمد صبري: الائتمان البنكي، مسؤولية البنك المدنية عند تجاوز أذون الاعتمادات، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية 2001، ص65.

[28] – محمد صبري: الائتمان البنكي، مسؤولية البنك المدنية عند تجاوز أذون الاعتمادات، م س، ص67.

[29] – علي جمال الدين عوض، م س، ص 74.

[30] – حكم المحكمة التجارية بالدار البيضاء رقم 2003/1209 الصادر بتاريخ 28/01/2003 ملف عدد 99/6192، غير منشور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى