في الواجهةمقالات قانونية

المبادئ المؤسسة لمدونة الحقوق العينية؛  بين تحقيق الأمن العقاري وتكريس العدالة العقارية – ياســـين بونواضر

 

 

المبادئ المؤسسة لمدونة الحقوق العينية؛

 بين تحقيق الأمن العقاري وتكريس العدالة العقارية

ياســـين بونواضر

طالب باحث بسلك الماستر؛ قانون المنازعات

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية  جامعة مولاي إسماعيل ـ مكناس

 

 

 

مقدمة :

لا يختلف اثنان حول الأهمية التي يحظى بها العقار، لاسيما وأنه أداة رئيسية للنهوض بالتنمية الاقتصادية وأساس هام للاستقرار. غير أن اضطلاعه بهاته المهمة يتوقف بالضرورة على وجود إطار قانوني يوفر للملكية العقارية أرضية صلبة تمكن الجميع من التعامل فيه بثقة واطمئنان، فالعقار إذن أصبحت له وظائف متعددة اقتصادية واجتماعية.

وقد كان القطاع العقاري في المغرب قبل عهد الحماية، يخضع لقواعد الفقه الإسلامي طبقا للمذهب المالكي، ومن ثم كنا نسبيا أمام وحدة في المرجعية التي اعتمد عليها لإستصدار الأحكام في المنازاعات العقارية على بساطتها. إلى حين بسط الحماية سلطتها على المغرب، حيث استقدمت معها ترسانة من القوانين ذات المرجعية اللاتينية، فنتج عن ذلك ازدواجية في المرجعية القانونية بين الفقه المالكي والقوانين اللاتينية، كما انضاف إلى ذلك نظام عقاري جديد تحتى مسمى الشهر العيني أو ما يعرف اليوم بنظام التحفيظ العقاري.

هكذا أصبح المغرب يعرف ازدواجية في النظام العقاري ما بين عقارات محفظة تنفرد في أحكامها بظهير التحفيظ العقاري لسنة 1913 وكذا ظهير سنة 1915 الذي تناول تنظيم الحقوق العينية الواردة على العقار المحفظ فقط. وفي المقابل عقارات غير محفظة تحتكم إلى الفقه الإسلامي، ناهيك عن تعدد الهياكل العقارية في المغرب.

ورغم حصول المغرب على استقلاله، إلا أن محاولات توحيد المرجعيات القانونية المنظمة للعقار لم تفلح في مجملها لغايات اجتماعية وسياسية، رغم صدور قانون التوحيد والمغربة والتعريب سنة 1965، حيث همت عملية التشريع مختلف المجالات إلا المجال العقاري.

وفي ظل هذا الوضع غير المستقر ــــ ازدواجية النظام العقاري مع غياب النص القانوني المنظم للعقارات غير المحفظة ــــ والذي لا يساهم في التنمية الاقتصادية للبلاد، حيث شكل هاجسا للمشرع المغربي ومانعا أولا لجلب الاستثمارات الخارجية، وسببا واضحا في نشوء كثرة المنازعات العقارية، بدأت البوادر التشريعية الأولى الساعية إلى دمج العقار غير المحفظ في عجلة الاقتصاد الوطني عبر محاولة تدوين وتقنين قواعد الشريعة الإسلامية المنظمة له أيما مرة، غير أنها لم تنجح إلا بعد عدة مناقشات كللت في الأخير بإصدار القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية بتاريخ 24 نونبر 2011 .

وتأسيسا عليه، وأمام ازدواجية النظام العقاري المغربي، أصبحنا أمام نصين؛ الأول ينظم عمليات التحفيظ العقاري المتمثل في ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بموجب القانون رقم 14.07 والثاني تناول بالتنظيم الحقوق العينية العقارية الواردة سواء على العقارات المحفظة أو غير المحفظة.

عموما، إن هاجس وغاية المشرع المغربي من وراء تقنين وتنظيم العقارات، لا يخرج في غالب الأحوال عن محاولة إضفاء التوازن على شقين؛ تحقيق الأمن القانوني العقاري ومن ثم استقرار المعاملات، ثم تحقيق العقدالة العقارية وحماية الملكية العقارية، مادام أن الفصل 35 من الدستور ينص على أنه: “يضمن القانون حق الملكية”.

ومن هذا المنطلق، سنحاول الوقوف بالدراسة والتحليل من خلال هذا العرض، عند أهم المبادئ التي جاءت بها مدونة الحقوق العينية، خاصة منها مبدأ الكتابة ومبدأ حسن النية، والتي استهدفت من خلالها تكريس الأمن العقاري (المطلب الأول)، ثم عبر محاولتها إعمال قواعد العدل والإنصاف في تكريس العدالة العقارية (المطلب الثاني). وفق التصميم الآتي؛

 

  • المطلب الأول: دور مبدأ الكتابة في تحقيق الأمن العقاري
  • المطلب الثاني: دور مبدأ حسن النية في تكريس العدالة العقارية

 

المطلب الأول: دور مبدأ الكتابة في تحقيق الأمن العقاري

       لطالما كان هاجس المشرع المغربي ــــ ولا زال ــــ أن يوفر أنظمة قانونية واضحة المضمون وموحدة تجسد الأمن القانوني بغية الحفاظ على استقرار المعاملات لما يتسحه ذلك من فرص لاستقطاب المستثمرين، ولنفس الغاية جاءنا المشرع المغربي ولأول مرة بمقتضى قانوني من خلال مدونة الحقوق العينية، بموجبه فرض إفراغ المعاملات العقارية في شكلية الكتابة ضمانا للحقوق.

ولما كان العقد وسيلة لتداول الثروة بالمفهوم الاقتصادي، فإن العقار يعد أهم مظهر من مظاهر هاته الثروات الوطنية وأهم أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية كما أشرنا سابقا.

         ولئن كان المشرع المغربي قد اعتبر عقد البيع كأصل عام عقدا رضائيا بموجب الفصل 488 من ق.ل.ع[1]، فإنه عمل على استثناء البيوع العقارية وعقود الرهن الرسمي من هاته القاعدة واشترط فيها شكلية الكتابة بناء على الفصل 489 من ق.ل.ع[2].

         وبالرغم مما قد توحيه قراءة الفصل 489 أعلاه على أن المشرع المغربي قد تطلب الكتابة كركن بالنسبة لجميع أنواع العقارات، إلا أنه بالرجوع إلى تطبيقات القضاء المغربي، نجد أنها عرفت تباينا واختلافات عدة، حيث احتدم النقاش حينها حول طبيعة الكتابة وما إن كانت شكلية انعقاد أم إثبات، ثم إن الإشكال الأكبر أثير حول نطاق تطبيق هذا الفصل وما إذا كان يشمل جميع أنواع العقارات أم أنه يقتصر في تطبيقه على العقارات المحفظة فقط دون غيرها من العقارات غير المحفظة[3].

         وعطفا عليه، ونظرا لطبيعة العقارات غير المحفظة التي كانت تحتكم في تنظيمها إلى قواعد الفقه المالكي ـــــ قبل إصدار مدونة الحقوق العينية ـــــ فإنه حتى على مستوى غرف محكمة النقض ـــــ بغية تنظيم وتوزيع العمل لا الاختصاص ـــــ عرفت انشطارا على مستوى النظر في القضايا العقارية، حيث اختصت الغرفة الشرعية بالنظر في القضايا المتعلقة بالعقارات غير المحفظة فيما بقي اختصاص النظر في قضايا العقارات المحفظة ينعقد للغرفة المدنية.

         وفق هذا التصور، تشبثت الغرفة الشرعية في العديد من قراراتها السابقة بأن التصرفات الواردة على العقارات غير المحفظة لا تستلزم شكلية الكتابة وان بيع العقار غير المحفظ لا يخرج عن هاته القاعدة مستدلة في ذلك بأنه ما دام أن هذا النوع من العقارات يخضع في أحكامه إلى قواعد الفقه الإسلامي ـــــ المذهب المالكي خصوصا ـــــ فإنه بذلك يخضع بالضرورة لأحكام البيوع في الفقه الإسلامي وان القاعدة الفقهية تقضي بأن “الأصل فيها الرضائية”[4]. وفي المقابل من ذلك نجد بعض القرارات الصادرة عن نفس الغرفة التي لم تميز بين أنواع العقارات المتنازع بشأنها بل واعتمدت مبدأ شكلية الكتابة، وهو ما جعل القرارات القضائية في حالة تضارب فيما بينها[5]، وقد تبنى هذا الموقف مجموعة من الفقهاء بدعوى ان المشرع ولخطورة بعض التصرفات العقارية أوجب الكتابة بغض النظر عن نوع العقار، وغايته في ذلك ليس التضييق من مبدأ سلطان الإرادة وإنما حماية مصالح الأطراف وتنوير إرادتهم.

         عموما، عرف القضاء المغربي تطورا مهما فيما يخص شكلية الكتابة في التصرفات العقارية خاصة فيما يخص العقارات غير المحفظة، ففي الوقت الذي كانت فيه الغرفة الشرعية تحديدا لا تأخذ بمقتضيات الفصل 489 من ق.ل.ع، نجد أن محكمة النقض حاولت توحيد العمل القضائي للتدخل سنة 2010 وتصدر قرار هاما بجميع غرفها أكدت من خلاله على إلزامية الكتابة كشكلية انعقاد بصرف النظر إن كان العقار محفظا أو غير محفظ، والذي جاء في حيثياته ما يلي:”…لكن حيث إن محكمة الاستئناف لما اعتبرت أن ما توصل به المستأنف المطلوب في النقض حسب شهادة الشهود لا يوجب سوى استرجاع ما دفع ولا يخول للمشتري استصدار حكم على البائع لإتمام البيع لأن القانون حسب مقتضيات الفصل 489 من ق.ل.ع يوجب أن يكون بيع العقار كتابة وبمحرر ثابت التاريخ،…”[6]

حيث عرف العمل القضائي بعد هذا القرار نوعا من الاستقرار على هاته القاعدة، قبل أن يتدخل المشرع المغربي ليحسم الجدل بشكل كلي، عبر المادة 4 من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية[7]، ليعمم بذلك شكلية الكتابة على مختلف التصرفات العقارية كيفما كانت، سعيا منه لتحقيق الأمن القانوني العقاري وضمان استقرار المعاملات[8].

وعليه، بعد هذه التوطأة التي لا بد منها لفهم سياق تنزيل المادة 4 السالفة الذكر، سنعمد إلى تناول مبدأ الكتابة كأحد المبادئ المؤسسة لمدونة الحقوق العينية وأهمها، بتخصيص (الفقرة الأولى) للتعرض لضوابط توثيق التصرفات العقارية، قبل أن ننتقل إلى الإشكالات المتعلقة بتوثيق المعاملات العقارية في (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: ضوابط توثيق التصرفات العقارية

            خلصنا إذن إلى أن مدونة الحقوق العينية عملت على تكريس الكتابة في التصرفات العقارية كشكلية انعقاد عبر المادة 4 منها، مع تحديد أنواعها وتمكين الأطراف المتعاقدة مبدئيا من الخيار ما بين إبرام التصرفات في محررات رسمية (أولا)، أو تحريرها في محررات ثابتة التاريخ (ثانيا). ولعل هذا الأمر قد يحيلنا إلى التساؤل حول المقصود بهاته المحررات والجهة المخول لها إصدارها، ثم ماهي حدود الاختيار المخول للأطراف، وكيف ساعد هذا المقتضى في استقرار المعاملات؟ 

أولا: المحررات الرسمية

بالرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود نجد المشرع قد عرف المحرر الرسمي في الفصل 418 منه بأنه: “الورقة الرسمية هي التي يتلقاها الموظفون العموميون الذين لهم صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد، وذلك في الشكل الذي يحدده القانون.”

         حيث يتبين أن المحررات الرسمية في مجال المعاملات العقارية لا تخرج عن إحدى الجهتين، إما بتحريرها من قبل الموثقين أو من قبل العدول.

         وبحسب القانون رقم 32.09 المنظم لمهنة التوثيق، وبالضبط المادة 48 منه، فإنه تكون للعقود التي ينجزها الموثق وفقا لهاته المادة الصبغة الرسمية المقررة في قانون الالتزامات والعقود.

         أما فيما يخص المحررات العدلية، فقد حرص المشرع من خلال الفصل 418 سالف الذكر على اعتبارها وثائق رسمية حينما نص أنه تعد رسمية أيضا “الأوراق المخاطب عليها من القضاة في محاكمهم”.

         ولم يكتف المشرع بهذا المقتضى وأعاد التأكيد عليه في القانون رقم 16.03 المنظم لخطة العدالة في الفقرة الأخيرة من المادة 35 منه التي جاء فيها:”لا تكون الوثيقة تامة إلا إذا كانت مذيلة بالخطاب، وتعتبر حينها وثيقة رسمية”.

         من هذا المنطلق، سنحاول الوقوف عند حدود اختصاصات الموثقين والعدول في مجال تحرير التصرفات العقارية (1)، ثم الانتقال إلى تحديد مجموع التزاماتهم (2).

1 ــــ  اختصاص الموثقين والعدول في تحرير التصرفات العقارية

نص المشرع على نوعين من اختصاصات كل من الموثق والعدل، الأول يتعلق بالاختصاص المكاني أو المحلي (أ)، والثاني يهم الاختصاص الوظيفي أو النوعي (ب).

أ ـــــ الاختصاص المكاني للموثقين والعدول

       أشار المشرع المغربي إلى حدود الاختصاص المخول للموثقين محليا عبر المادة 12 من القانون رقم 32.09 المنظم لمهنة التوثيق، حيث نصت على أنه: “يمارس الموثق مهامه بمجموع التراب الوطني.. غير أنه يمنع عليه تلقي العقود وتوقيع الأطراف خارج مقر مكتبه.. يمكن للموثق لأسباب استثنائية تلقي تصريحات أطراف العقد والتوقيع على العقود خارج مكتبه وذلك بإذن من رئيس المجلس الجهوي إخبار الوكيل العام لدى المحكمة المعين بدائرتها”.

         يتضح من نص المادة أعلاه، أن للموثق اختصاص عام على مستوى مجموع التراب الوطني شريطة تلقي وإبرام التصرفات داخل مكتبه ويستتبع ذلك أن لكل الأفراد حرية اختيار مكتب التوثيق لتحرير معاملاتهم.

         ولعل الملاحظة الأساسية في هذا الصدد، أنه إذا كان المشرع يروم تحقيق الأمن العقاري ومن ثم استقرار المعاملات، فإنه كان الأجدر به والأنسب أن يعمل على  وضع حدود على اختصاص الموثق مكانيا وجعله مقتصرا على الدائرة الاستئنافية التي يمارس داخل نفوذها والتابع لها، لأن من شأن ذلك تعزيز الأمن القانوني والتعاقدي، حيث إن الموثق يكون بطبيعة الحال أدرى بوضعية العقارات الواقعة داخل دائرة نفوذه من العقارات الواقعة على مجموع التراب الوطني[9].

         وفي المقابل من ذلك، نجد أن اختصاص العدل مكانيا في تحرير التصرفات العقارية أضيق من اختصاص الموثق، حيث إن المادة 14 من القانون 16.03 تقضي بأن العدل يختص محليا في حدود دائرة محكمة الإستئناف التابع لها (المنتصب فيها)، ثم أضافت الفقرة ما قبل الأخيرة من نفس المادة؛ على أنه يختص في تلقي الشهادات المتعلقة بالعقار في حدود دائرة نفوذ محكمة الاستئناف التي يقع داخلها موقع العقار كقاعدة. فيلزم بذلك الأشخاص بتوثيق تصرفاتهم العقارية لدى العدول الموجودين في الدائرة الاستئنافية التابع لها موقع العقار محل التصرف.

ب ـــــ الاختصاص الوظيفي للموثقين والعدول

يختص الموثقون والعدول في مجال المعاملات العقارية بموجب المقتضيات القانونية الخاصة (المادة 35 من قانون التوثيق والمادة) وكذا المادة 4 من مدونة الحقوق العينية في تحرير كافة التصرفات سواء تعلقة بالعقار المحفظ أو غير المحفظ المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها. بيد أن بعض الاختصاصات ـــ في المجال العقاري ـــ تنعقد حكرا للموثق دون العدل، ومن ذلك العقود المرتبطة ببرامج السكن الاجتماعي.

         نستشف من المقتضيات المومأ إليها أعلاه، أن المشرع المغربي جعل كلا من الموثق والعدل ــــ كقاعدة عامة ــــ جهة مختصة في تحرير العقود التي تطلب فيها المشرع أن تفرغ في عقد رسمي، أو التي يسعى الأطراف إلى إضفاء هذه الصبغة عليها.

 

 

 

2 ــــ  التزامات الموثقين والعدول بخصوص توثيق التصرفات العقارية

تحقيقا للأمن العقاري فإن المشرع سعى من خلال توثيق التصرفات العقارية إلى إقامة المعاملات على أسس ثابتة، تلافيا لكل المنازعات التي قد تنشأ عنها. وعليه حدد المشرع جمعا من الالتزامات سواء بالنسبة للموثق أو العدل، منها ما يتعلق بالعقار محل التصرف ومنها ما يهم العقد وأطرافه.

  • فمن حيث الالتزامات المرتبطة بالعقار موضوع التصرف؛

         يلتزم الموثقون والعدول طبقا للقوانين الجاري (المواد 27 و37 من قانون التوثيق والمادة 31 من قانون خطة العدالة) بها العمل بالتحقق من وضعية العقار القانونية تحت مسؤوليتهم الشخصية، كما ان عليهم إعلام وتبصير الأطراف بكل ما يتعلق بالعقار وبعقودهم.

         ولعل الملاحظة الأساسية في هذا الصدد، ومن خلال استقراء ومقارنة نصوص المواد أعلاه، يتضح على ان الإلتزامات الملقات على الموثق أكثر تشديدا من التزامات العدل التي لم يشر إليها المشرع بشكل صريح، مما ينبغي معه إعادة النظر ومراجعة القانون المتعلق بخطة العدالة وتحيينه وتعديله بما يناسب غايات المشرع من إقرار الأمن القانوني[10].

         وعلى العموم، نميز في إطار هذا التحقق ما بين العقارات المحفظة والعقارات غير المحفظة؛ حيث ينبغي التحقق مما إذا كان العقار قابلا للتفويت أم أنه مثقل برهن أو حجوزات او مختلف التكاليف العقارية، كما نصت على ذلك المادة 34 من ق 32.09، كما يجب التحقق من عدم مخالفة التصرف القانوني لمقتضيات التجزئات العقارية[11].

         وإذا كان التحقق من وضعية العقار الحقيقية يبدو هينا حينما يتعلق الأمر بعقار محفظ، إذ يقتضي الأمر مبدئيا مجرد الرجوع إلىغ السجلات العقارية والحصوص على شهادة من المحافظة العقارية تثبت وضعية العقار، فإن الأمر على خلاف ذلك حينما يكون موضوع التصرف عقار غير محفظ، حيث يصعب معه التحقق من وضعيته، وينبغي على الموثق أو العدل التحقق والتأكد من مساحة العقار وحدوده وهو ما ليس بالهين ويرد على نوع من التقدير لا الصحة. كما أن عليهم الإشارة في محررات التفويت إلى أصل التملك تطبيقا لمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 3 من مدونة الحقوق العينية.

  • أما فيما يخص التزامات الموثقين والعدول المتعلقة بالمحررات وأطرافها؛

         فإن المشرع المغربي تطلب بالضرورة احترام الشكل المحدد قانونا في العقود التي يتلقاها الموثقون فتناول شكليات تحرير العقود من طرف الموثقين في الباب الثاني من ق 32.09 تحت اسم العقود وحجيتها.

         وبالرجوع إلى المادة 36 منه نجدها تنص على ما يلي:” تتضمن العقود التي يتلقاها الموثق على الخصوص:

ــــــ الأسماء الكاملة للأطراف بما فيها اسم الأب والم وباقي الموقعين على العقد، ولا يسمح باختصارها إلا إذا سبق في العقد ما يوضحها مرة واحدة على الأقل، وبيان موطنهم وتاريخ ومكان ولادتهم وجنسيتهم ومهنتهم ونوع الوثيقة الرسمية التي تثبت هويتهم ومراجعتها وحالتهم العائلية والنظام المالي للزواج بالنسبة للأطراف عند الاقتضاء.

ــــــ بيان أركان وشروط العقد مع تعيين محله تعيينا كاملا.

ــــــ بيان المراجع الكاملة للوثائق التي استند عليها في ابرام العقد.

ــــــ كتابة المبالغ المالية بالحروف والأرقام.”

         ويترتب عن ذلك أن فرض المشرع المغربي على الموثق في المادة 37 من نفس القانون التحقق من هوية وأهلية الأطراف تحت مسؤوليته، وهو ما ينسجم مع نص الفصل 73 من ظهير التحفيظ العقاري ويبرره، الذي افترض فيه ان المحررات الرسمية تعتبر ذات هوية وأهلية محققة دون ضرورة مراقبتها من طرف المحافظ العقاري من هاته الناحية.

         ونفس الشيء بالنسبة للمحررات العدلية حيث تخضع لنفس الأحكام وذلك بموجب المادة 31 من ق 16.03. غير أنه على خلاف المحرر التوثيقي فأن المحررات العدلية لا تنعقد لها صفة الرسمية ولا تكون تامة إلا إذا ذيلت بخطاب القاضي (المادة 35 من ق 16.03)[12].

ثانيا: المحررات ثابتة التاريخ

سمح المشرع للمتعاقد من خلال المادة 4 من م.ح.ع أن يحيد عن الطريق الرسمي، ذلك أن خول له مكنة الخيار مابين المحرر الرسمي والمحرر ثابت التاريخ، مفترضا في ذلك بعض الشروط والقواعد (1)، غير أنه أورد على هاته القاعدة مجموعة من الاستثناءات التي عملت على التضييق من مبدأ الاختيار (2).

1 ــــ  ضوابط تحرير  المحررات ثابة التاريخ

يعتبر المحرر ثابت التاريخ من حيث طبيعته محررا عرفيا ــــــ بغض النظر عن الجدل الذي كان قائما حول ما إذا كان ذو طابع رسمي أم لا ــــــ ، وكل ما هنالك أن له مميزات خاصة. والمحرر العرفي كما هو معلوم إن أرضنا إضفاء تعريف عليه هو كل محرر خارج نطاق مقتضيات الفصل 418 من ق.ل.ع ولم يصبغ المشرع عليه طابع الرسمية عبر نصوص خاصة[13].

         وقد حصرت المادة 4 من مدونة الحقوق العينية، إمكانية تحرير العقود العرفية الثابنة التاريخ في فئة المحامين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض وحدهم (أ)، واشترطت في ذلك أن يتم التعريف بإمضاء المحامي (ب).

أ ــــ المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض

يخول القانون رقم 28.08 المنظم لمهنة المحاماة، للمحامي صلاحية تحرير العقود، بنصه في المادة 30 على أنه:”يمارس المحامي مهامه بمجموع تراب المملكة، تشمل هاته المهام؛ … تحرير العقود…”.

         ومصطلح المحامي في هاته المادة جاء عاما، إلا أن المادة 4 ضيقت من عموميته وقصرته على المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض دون غيره، وهذا الأخير كما هو معلوم لا يكتسب هاته الصفة إلا وفق شروط حددتها المادة 33 من قانون المحاماة وفق التالي؛

ــــ المحامون المسجلون بالجدول منذ خمس عشرة سنة كاملة على الأقل.

ــــ المحامون الذين كانوا مستشارين أم محامين عامين، بصفة نظامية، في محكمة النقض.

ــــ قدماء القضاة، وقدماء أساتذة التعليم العالي، المعفون من شهادة الأهلية ومن التمرين، بعد خمس سنوات من تاريخ تسجيلهم بالجدول.

         هكذا يبدو أن المشرع وبالنظر لأهمية التصرفات العقارية، حاول حصر تحريرها في المومأ إليه أعلاه، ولعل مبرره في ذلك أنه ينبغي في المحامي توفر نوع من التجربة والحكمة والكفاءة والمسؤولية (مبدئيا)، تجعله يراعي المصالح المتعارضة ويحرر العقد وفقا للقانون ومبادئ العدالة والانصاف[14]. وكإضافة، يمنع على المحامي الترافع عن أحد الطرفين ضد الآخر في حالة وقوع نزاع بينهم وهو ما أكدته الفقرة السادسة من المادة 30 من نفس القانون.

         إن ما تجب الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أنه كما يلاحظ من نص المادة 30 أعلاه من قانون المحاماة، فالمحامي يمارس مهامه على مجموع تراب المملكة وفق شروط، ولو أنه يقيد بجدول هيئة داخل دائرة استئنافية محددة. ولكن بالرجوع إلى المادة 4 من مدونة الحقوق العينية نجدها قد وضعت حدود اختصاص المحامي في تحرير المحررات الثابتة التاريخ داخل دائرة نفوذ المحكمة الابتدائية التي يمارس بداخلها، فالمشرع حاول وضع قيد مكاني للمحامي درءا منه للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك وتهدد استقرارا المعاملات العقارية[15]. وفي المقابل من ذلك يذهب رأي آخر إلى أن هذا التخصيص إنما يهم تصحيح الإمضاء فقط وليس تحرير العقود[16].

ب ــــ التعريف بإمضاء المحامي

ألزم المشرع المحامي المؤهل لتحرير المحررات التابثة التاريخ من خلال المادة 4 من م.ح.ع، تصحيح إمضائه والتعريف به لدى رئيس مصلحة كتابة ضبط المحكمة الإبتدائية التي يزاول مهامه داخل دائرة نفوذها.

         وبذلك يلزم المحامي بعد تحريره العقد والتأشير على جميع صفحاته بمعية أطراف العقد، تقديمه إلى رئيس مصلحة كتابة اضبط بالمحكمة التي يمارس بها للإشهاد على صحة إمضائه والتعريف به، ويعد هذا الإجراء ضروريا إذ بدونه يكون العقد غير صحيح ويترتب عنه بطلانه[17].

2 ــــ  الاستثناءات الواردة على قاعدة الإختيارية

لئن كان المشرع من خلال المادة 4 من م.ح.ع قد كرس مبدأ الكتابة ووضع قاعدة الإختيارية ما بين المحررات الرسمية والمحررات الثابنة التاريخ، فإنه في المقابل من ذلك أورد مجموعة من الإستثناءات على هاته القاعدة بموجب نصوص خاصة متفرقة من داخل مدونة الحقوق العينية، وهو ما يبرز غاية المشرع المغربي في توجهه نحو إعمال رسمية العقود والتضيق من تطبيقات المحررات العرفية في المعاملات العقارية.

         ولعل أبرز هاته الاستثناءات تتمثل في، عقدي الهبة والصدقة، وعقد الرهن الحيازي، وعقد المغارسة، ثم عقدي العمرى وعقود الحقوق العرفية الإسلامية وغيرها. ومن ثم فإن اختصاص المحامي نوعيا في تحرير المحررات الرسمية أصبح يقتصر سوى على البيوع العقارية.

أ ــــ عقدي الهبة والصدقة؛

حيث اشترط المشرع الرسمية في عقدي الهبة والصدقة، بموجب المادة 274 من م.ح.ع وذلك تحت طائلة البطلان، وقد أحالة المادة 291 من نفس القانون المنظمة للصدقة على أحكام الهبة.

ب ــــ عقد المغارسة؛

       وكذلك الحال بالنسبة لعقد المغارسة، إذ نصت المادة 269 من مدونة الحقوق العينية على أنه:” يجب أن يبرم عقد المغارسة في محرر رسمي..”.

ث ــــ عقد الرهن الحيازي؛

اشترط المشرع المغربي الشكلية في التصرفات القانونية المتعلقة بالرهن سواء كان رسميا أو حيازيا[18].

         ومن ثم يشترط لصحة الرهن الحيازي بالضرورة إبرامه في محرر رسمي، وذلك ما أكدته المادة 147 من المدونة إضافة إلى شروط جوهرية أخرى.

         هكذا فالمشرع وعيا منه لخطورة الرهن الحيازي وأهمية التصرفات العقارية المتعلقة بالهبة وغيرها، أوجب ورودها في عقود رسمية لما لها من قوة ثبوتية، ناهيك عن كونها صادرة عن الموثق أو العدل لما لهما من دراية في هذا المجال حفاظا على استقرار المعاملات وحماية المتعاقد عبر إضفاء نوع من التوازن بين الأطراف[19].

الفقرة الثانية: إشكالات توثيق التصرفات العقارية في ظل المادة 4

            عمل المشرع إذن على إقرار إلزامية شكلية الكتابة في التصرفات العقارية رغبة منه في تكريس الأمن القانوني العقاري، بل واتجه في العديد من التصرفات إلى إضفاء الطابع الرسمي عليها ومن ثم التقليص من المعاملات العقارية المبرمة في المحررات العرفية.

         لكن وبالرغم مما سبق، مازال توثيق التصرفات العقارية يثير عديد المشاكل منها ما يتعلق أساسا بالمحررات الصادرة عن المحامي (أولا)، ومنها ما يتعلق بالمحررات الرسمية من إكراهات تحول دون اللجوء إلى هذا النوع من التوثيق (ثانيا).

أولا: تأثير المحرر ثابت التاريخ على استقرار المعاملات

ذهبنا إذن إلى أن المشرع خول الأطراف من خلال المادة 4 من م.ح.ع مكنة الخيار بين المحرر الرسمي والمحرر ثابت التاريخ، وإن كان قد عمل على التضييق من الاختيار باتساع دائرة التصرفات العقارية.

         وقبل التطرق إلى إشكالات المحررات ثابتة التاريخ، نشير بداية إلى أن من أهم التعديلات اللاحقة بالمادة 4، ما يتعلق بتحرير الوكالات، لما كان لهاته الأخيرة من آثار سلبية باعتبارها أهم مدخل للسطو على عقارات الغير حيث كان يسهل تزويرها، باعتبار أنها لم تكن تخضع لمقتضيات المادة 4 بل وكانت في غالب الأحوال تحرر بموجب محررات عرفية.

         هكذا عمل المشرع المغربي على تعديل المادة 4 من م.ح.ع بمقتضى القانون رقم 69.16 الصادر سنة 2017، حيث أصبحت تنص على أن:”… الوكالات الخاصة تحرر بموجب محرر رسمي، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محامي… مالم ينص قانون خاص خلاف ذلك”.

         وقد أثار هذا المستجد بعض الإشكالات يمكن إجمالها فيما يلي؛

ـــــ بالرجوع إلى القانون رقم 69.16 المتمم للمادة 4 من م.ح.ع يلاحظ أنه لم يتضمن أية مقتضيات بشأن نطاق تطبيق هذا التعديل من حيث الزمن، مما يطرح معه التساؤل حول مصير وحجية عقد الوكالة الذي تم إنجازه قبل هذا التعديل فتم إبرام التصرف القانوني موضوع الوكالة في وقت لاحق عن التعديل؟

         ذهب البعض في هذا الصدد إلى القول بوجوب إعمال المبدأ العام المتمثل في عدم رجعية القانون، وأن الوكالات العرفية المنشأة على وجه صحيح قبل 14 شتنبر 2017 ـــ تاريخ صدور القانون ـــ تعد منتجة لآثارها ويمكن تقييدها بالرسم العقاري بعد التاريخ المذكور[20].

ـــــ إن هاته الإشكالية أوجبت ضرورة التدخل العاجل لتفسير نص المادة 4 المعدل، وهو ما تم من خلال إصدار المحافظ العام على الأملاك، بتاريخ 21 شتنبر 2017، لمذكرة تحت عدد 20 في شأن تتميم مقتضيات المادة 4، نبه من خلالها المحافظين على الأملاك العقارية إلى هذا التعديل، ومؤكدا على أن جميع الوكالات ينبغي أن تحرر إما في محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ، وأنه لا يمكن الاستناد إلى الوكالات العرفية في إبرام التصرفات العقارية بعد دخول القانون حيز التنفيذ.

ولعل هذا التجوجه له ما يبرره ويفسره ولو أنه تعرض للإنتقاد وكونه لا يساير المبادئ المتعارف عليها قانونا، خاصة في ظل الرسالة المالكية السامية بتاريخ 30 دجنبر 2016 حول التصدي الفوري والحازم لظاهرة الاستيلاء على عقارات الغير، وبالتالي تسريع قطع الصلة مع الوكالات العرفية[21].

         عموما، تنجم عن المحررات التي يصدرها المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض في حقل التصرفات العقارية عدة آثار سلبية، تؤثر على استقرار المعاملات وتمس بفلسفة المشرع من خلال إقراره مبدأ الكتابة عبلر المادة 4 من م.ح.ع، ولعل هذا الأمر ما يفسر تضييق المشرع أشد ما يمكن من نطاق اختصاص المحامي في تحرير المحررات ثابتة التاريخ. فاعتبر البعض أن من بين مدخلات الاستيلاء على عقارات الغير، تلك المحررات التي يصدرها المحامي، وسنعمل على إجمال الإشكالات المتعلقة بها في عدة ملاحظات آتية؛

         ــــ الملاحظة الأولى؛

         إن المحامي وإن كان مقبولا للترافع أمام محكمة النقض مع ما يعنيه ذلك من أقدمية وتجربة وحنكة، إلا أن اختصاصه الأصلي يبقى دائما متعلقا بالترافع والدفاع عن الحقوق، وأن ما دون ذلك إنما هي اختصاصات ثانوية.

         إن هذا الواقع يفضي إلى نتيجة حتمية، هي أن المحامي لا يفقه في كثير من الأحيان علم التوثيق الذي له مجموعة من الخصوصيات والشكليات. ويحمل جانب من الباحثين المسؤولية للمشرع الذي خول المحامي اختصاص إصدار محررات ثابتة التاريخ تتعلق بحقوق الأغيار وفي المقابل لم يسهر على تكوين هاؤلاء في مجال تحرير العقود[22].

         والحق يقال، بالرجوع إلى إحصائيات أصدرتها محكمة النقض سنة 2017 تبث ان هناك حوالي 12.000 قرار لمحكمة النقض قضى بعدم القبول في مجال المحررات ثابتة التاريخ، لعيوبها الشكلية[23].

         ــــ الملاحظة الثانية؛

         إن القوانين الخاصة المنظمة لمهنتي التوثيق العصري والتوثيق العدلي كما أشرنا، أكدت على ضرورة تحققهم من الوضعية الحقيقية للعقار تحت مسؤوليتهم الشخصية، وإن الملاحظ في هذا الصدد وفي ظل مكنة الاختيار المخولة للمتعاقد بناء على المادة 4 فأنه ثبت أن العديد ممن يرفض لهم إجراء تصرف قانوني من لدن الموثق أو العدل لوجود مانع قانوني (كأن يتعلق الأمر بعقار حبسي أو كونه محجوز عليه أو عليه تحملات عقارية أخرى..) فإنهم لا يترددون من اللجوء إلى المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض لتحرير عقدهم والذي بدوره لا يتوانى عن تحريرها نتيجة لضعف تكوينه في هذا المجال، مع ما يشكله هذا الأمر من تهديد وضياع لحقوق الأغيار[24].

         ترتب عن هذا الواقع، أنه إلى حدود سنة 2017 تم إبرام حوالي 100.000 محرر ثابت التاريخ، أكثر من 70 في المئة منها تم إبرامها بدون الإدلاء بأصل التملك. و 600 عقد يخص الانتفاع من الأراضي السلالية بالرغم من وجود المادة 36 من القانون رقم 62.17 بشأن الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية وتدبير أملاكها التي تمنع تحرير أية عقود تفويت أو انتفاع أو غيرها. أدى هذا الأمر إلى تدخل وزير العدل بشراكة مع وزارة الداخلية عبر دورية موجهة إلى رؤساء مصالح كتابة الضبط مفادها ضرورة رفض تصحيح إمضاء المحررات الصادرة عن المحامي في موضوع هذا التصرف. عن كان أن البعض أثار التساؤل حول طبيعة الرفض الصادر عن رئيس المصلحة وذهبوا إلى أنه يمكن اعتباره بمثابة قرار إداري يتوجب تعليله وبالتالي يمكن المنازعة فيه أمام القضاء الإداري[25].

ثانيا: معيقات توثيق التصرفات العقارية في المحررات الرسمية

ذهب المشرع إلى توسيع نطاق إعمال المحررات الرسمية لما لها من قوة ثبوتية لا يمكن أن يطعن فيها إلا عبر اتباع مسطرة الزور.

         وإن كانت الإشكالات العملية فيما يخص التوثيق الرسمي قليلة مقارنة بالمحررات الثابتة التاريخ، إلا أن هناك بعض الإكراهات التي قد تحول دون تجويد خدمات هذا التوثيق ومن ثم التقليل من فرص اللجوء إليه خاصة في ظل ما سبق ذكره، ولعل أبرزها مايلي[26]:

         ــــ ارتفاع التكلفة المالية للمحرر الرسمي؛

         ــــ عدم مواكبة قوانين التوثيق للتقدم التكنولوجي؛

         ــــ التعارض في إنجاز إجراءات التسجيل والتقييد؛

 

 

 

المطلب الثاني: دور مبدأ حسن النية في تكريس العدالة العقارية

       إن موضوع العدالة العقارية ظل يشكل هاجسا للمشرع المغربي خاصة في ظل تداخله وتقاطعه مع الأمن العقاري. حيث كان المشرع يروم حماية الأمن القانوني أكثر من العدالة العقارية لغايات اقتصادية صرفة في ظل ظهير التحفيظ العقاري المعدل بموجب القانون رقم 14.07.

         لكن هذا الوضع سيعرف نوعا من التليين والتلطيف مع صدور مدونة الحقوق العينية ومحاولتها التوفيق نوعا ما بين الأمن القانوني ومبائ العدالة. ولعل هذا الأمر يظهر جليا من خلال تمحيص النظر نوعا ما في مقتضيات المادة 2 منها المتعلقة بمبدأ حسن النية في حقل التصرفات العقارية.

إذ يعد مبدأ حسن النية من أهم مظاهر إدخال القاعدة الأخلاقية في القانون الوضعي، حيث اقتحم هذا المبدأ أغلب مجالات القانون الخاص وأخذت به مختلف التشريعات المعاصرة[27].

         وقد عرف هذا المبدأ تطبيقا أوليا في القانون المغربي من خلال تنفيذ العقود خصوصا، إذ نص قانون الالتزامات والعقود في فصله 231 : “كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية…” وعاد لينص في الفصل 477 من نفس القانون على أن: “حسن النية يفترض دائما”، وبذلك جعل المشرع من هاته القاعدة أصلا إلى أن يثبت عكس ذلك.

         ولما كانت المعاملات العقارية أهم مظاهر التعاقد، كان لابد من إعمال هاته القاعدة في حقل التصرفات العقارية. ومع ما تعرفه هاته المادة من خصوصيات فكان بالضرورة أن تشمل هاته الخصوصيات تطبيقات حسن النية في المادة العقارية وأن تنفرد فيها بقواعد خاصة تحكمها.

         هكذا نص المشرع لأول مرة في الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري على أن : “… لايمكن في أي حال التمسك بإبطال هذا التقييد في مواجهة الغير ذي النية الحسنة”. ليقرر بذلك حماية مطلقة للغير حسن النية نابعة عن الحجية المطلقة للتقييدات تكريسا لاستقرار المعاملات، لكن هذا الموقف عرف أخذا ورد في الآراء وانتهى بتدخل تشريعي عبر المادة 2 من مدونة الحقوق العينية التي حاولة الميل إلى تحقيق العدالة العقارية حينما نصت على أنه:…إن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله او تغييره أو التشطيب عليه”.[28]

         إن من يمعن النظر في مقتضيات النصين أعلاه، سرعان ما يتضح له أن النص الأول لا يتماشى في مجمله مع النص الثاني، وأن الفصل 66 من ظ.ت.ع يروم تأكيد نهائية وحجية الرسم العقاري المطلقة، في حين أن المادة 2 التي جاءت بها مدونة الحقوق العينية حاولت تليين الطابع النهائي للتقييدات الواردة في الرسم العقاري والميل بذلك إلى محاولة تحقيق العدالة العقارية عبر حماية الملكية العقارية.

         وفق هذا التصور، سنحاول الوقوف بداية عند موقف القضاء من هاته القاعدة وبيان المعايير التي اعتمدها في تحديد حسن النية من عدمها (أولا)، قبل أن ننتقل إلى الحديث عن محدودية الحماية المقررة للغير حسن النية في ظل المادة 2 من م.ح.ع (ثانيا).

الفقرة الأولى: معايير تحديد حسن النية

قبل الحديث عن المعايير المعتمدة من قبل القضاء في تحديد وجود قرينة حسن النية من عدمها، ينبغي بداية توضيح موقفه قبل إصدار مدونة الحقوق العينية بمادتها الثانية.

         إن ما تنبغي الإشارة إليه بهذا الخصوص، أن القضاء المغربي وإن كان متشبثا في تطبيقاته السابقة بحرفية نص الفصل 66 من ظ.ت.ع بخصوص حجية التقييدات بحيث حاول أن يضفي حماية على جميع التقييدات الواردة بالرسوم العقارية. إلا أنه خلال السنوات السابقة لإصدار مدونة الحقوق العينية، بدأ يميل إلى اعتماد قواعد العدل والإنصاف وإقرار حماية لصاحب الحق في مواجهة الغير حسن النية، محاولا بذلك التليين من قاعدة الحجية المطلقة للتقييدات، ونذكر من بين ذلك قرار محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) الصادر سنة 2008 والذي ذهبت فيه إلى أن: “إذا كان حق الملكية مضمونا فإن الأولى بالحماية هو المالك الحقيقي، ونتيجة لذلك لا مجال للاستدلال بحسن نية المشتري طالما أن الوكالة التي انعقد بها البيع الأول، ثبتت زوريتها بمقتضى قرار جنحي بات وأن ما بني على تزوير لا يترتب عنه أي أثر قانوني سواء بالنسبة للمتعاقدين أو الغير”[29]. وقس على ذلك بعض القرارت التي تبنت نفس التوجه مما اعتبرها البعض تمردا على حجية التقييدات المطلقة  وخروجا عن مضمون الفصل 66 من ظ.ت.ع[30].

         غير أن محكمة النقض سرعان ما عادة إلى التشبث بموقفها السابق ولو بعد صدور المادة 2 من مدونة الحقوق العينية[31].

         وعلى العموم، اهتدى الفقه وكذلك القضاء إلى إعمال بعض المعايير لتحديد حسن النية الغير المقيد بالرسم العقاري أو سوئها، ويتعلق الأمر بمعيار العلم (أولا)، ومعيار التواطؤ (ثانيا).

أولا: معيار العلم

أشرنا فيما سبق إلى أن الفقه عمد إلى تعريف الغير حسن النية بكونه ذلك الطرف الذي أبرم التصرف القانوني وقيد إسمه في الرسم العقاري دون علمه المسبق بما يعتري هذا التصرف من شوائب، وبمفهوم المخالفة إذن؛ فإن الغير سيئ النية هو “العالم مسبقا بعيوب ونواقص السند الذي أبرم التصرف القانون تأسيسا عليه”. وقد ساير القضاء المغربي هذا الاتجاه في العديد من قرارت محكمة النقض نذكر من بينها قرار صادر بجميع الغرف سنة 2017 الذي جاء في حيثياته:”…يجوز التمسك في مواجهة الغير ذي النية المسيئة… الغير سيء النية هو من كان يعلم أو كان بإمكانه أن يعلم عيب سند سلفه. وللمحكمة أن تستخلص سوء النية من وثائع النزاع التي تراها قرائن قوية ومتعددة في ذلك”[32].

         هكذا يتضح إذن أن معيار العلم يعد مسألة واقع يستخلصها قضاء الموضوع من خلال العديد من المظاهر التي تحيط بالتصرف القانوني. غير أن العديد من الباحثين اعتبروا أن اعتماد هذا المعيار لوحده غير كاف للقول بحسن النية أو سوؤها، ذلك أن العلم و”النية” عموما تعد مسألة باطنية في نفس الشخص يصعب تحديدها وإثباتها من خلال وقائع النزاع.

إن ضبابية معيار العلم أدى بالفقه والقضاء على حد سواء إلى تبني معيار أكثر وضوحية وهو معيار التواطؤ[33].

ثانيا: معيار التواطؤ

بالنظر إلى صعوبة إثبات معيار العلم، فإنه بالموازاة مع ذلك ظهر اتجاه يرى بضرورة الأخذ بمعيار التواطؤ ما بين المالك المقيد بالرسم العقاري والغير لحرمان المالك الأصلي من العقار. ويتم اعمال هذا المعيار لسهولة إثباته مقارنة بمعيار العلم الذي توانى القضاء في اللجوء إليه في العديد من الحالات[34]، ومن ثم فإن الغير حسن النية وفق هذا التصور هو الذي يجهل عيوب التصرف القانوني المبرم، ولا يجمعه تواطؤ مع المتصرف الطرف الثاني[35].

         عموما، يبقى تحديد حسن النية من سوؤها من الصعب بمكان، حيث أدى ذلك إلى تباين القرارات القضائية حتى على مستوى محكمة النقض، ناهيك عن كونه يؤثر على مبدأ استقرار المعاملات ولو أن المشرع بفتحه هذا الباب أراد بذلك تكريس العدالة العقارية وتطبيق قواعد الانصاف لحماية الملكية العقارية.

الفقرة الثانية: حدود حماية الغير حسن النية

إن المشرع من خلال الفصل 66 من ظ.ت.ع أضفى على التقييدات اللاحقة على الرسم العقاري حجية مطلقة توازي نهائية قرار التحفيظ العقاري، حماية للغير حسن النية واستقرار المعاملات بالأساس. لكنه عاد من خلال المادة 2 من مدونة الحقوق العينية ليقلص من حدود هاته الحماية مغلبا بذلك حماية حق الملكية ومراعيا قواعد العدل والإنصاف، مما خلق معه نوعا من عدم الاستقرار على مستوى الأحكام القضائية من حيث تطبيق أي من النصين، إضافة إلى أن البعض اعتبر أن مقتضيات هاته المادة بمثابة طعن في مصداقية الرسم العقاري.

         والحق يقال، إن هاته المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، ضربت بعرض الحائط كل ما عمل على تكريسه ظهير التحفيظ العقاري من محاولات لضمان استقرار المعاملات لتشجيع الاستثمار.

         ويعزى هذا الاختلاف في المضامين لعدة أسباب، فيذهب البعض إلى القول أنه وكأن بالمشرع المغربي استدرك موقفه من الفصل 66 وتراجع عليه وحاول ترجيح كفة العدالة العقارية وحماية الملكية العقارية باعتباره حقا مقدسا مكفول بموجب الدستور، وأيضا التعجيل بإيجاد حلول لظاهرة الاستيلاء على عقارات الغير.

         وفي المقابل، يرى البعض الآخر أن هذا التعارض في مضامين النصين وفلسفتهما، إنما هو عائد لاختلاف الجهات الواضعة لكل منهما؛ ذلك أن مشروع مدونة الحقوق العينية ناقشته لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان برئاسة شخص ذو تأهيل قانوني حقوقي، في حين أن مشروع القانون رقم 14.07 المعدل والمتمم لظهير التحفيظ العقاري تم مناقشته من قبل لجنة القطاعات الإنتاجية برئاسة شخص ذو تكوين اقتصادي محض[36].

         وعلى العموم، يظهر إذن أن المشرع من خلال المادة 2 من م.ح.ع وضع بعض الحدود وعمل على التضييق من الحماية المطلقة للغير حسن النية، وحاول ترجيح قواعد العدل والإنصاف حماية لصاحب الحق الأصلي، ولكن وفق شروط، الأول يتعلق بضرورة احترام الآجال القانونية (أولا)، والثاني أن يثبت هذا الأخير وجود تدليس أو زور كان سببا في ضياع حقه (ثانيا). على أنه يطرح التساؤل أيضا في ظل وجود نصين متعارضين، من الأولى بالتطبيق وما موقف القضاء منهما (ثالثا).

أولا: احترام الآجل القانوني وسيلة للحد من حماية الغير حسن النية

اشترطت المادة 2 من م.ح.ع في فقرتها الأخيرة على المالك الأصلي المطالب بحقه في مواجهة الغير حسن النية، أن يرفع الدعوى إلى المحكمة داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه.

وقد كان هذا الأجل محط جدل ونقاش، سواء من حيث طبيعته ما إن كان أجل تقادم أم أجل سقوط[37]، أو من حيث مدته وما إن كان ينبغي خفضها حماية للأمن العقاري أو الرفع منها حماية للملكية العقارية.

إن ما يهمنا بالأساس، هو تأثير هذا الأجل على حقوق كل من الطرفين؛ فإذا كانت غايات المشرع تحقيق نوع من الاستقرار في المعاملات والرفع من الوتيرة الاقتصادية، فإن هذا الأجل بطوله يؤثر مما لا شك فيه على جلب الاستثمارات مادام أن المستثمر ينبغي عليه انتظار انتهء أربع سنوات للاستأثار بالعقار المعني وحتى لا يطالب باسترجاعه من قبل المالك الأصلي داخل أجل 4 سنوات.

بيد أنه إذا نظرنا إليه من زاوية حماية الملكية العقارية وتحقيق العدالة، فإنه أجل معقول مبدئيا ويخول للمالك الحقيقي المدة الكافية للتحقق من الرسم العقاري. ومن ثم نستخلص أن المشرع اعتمد موقفا وسطا غير واضح.

إن ما تنبغي الإشارة إليه، أن هذا الأجل وإن كان يحقق العدالة، إلا أنه يؤثر على غاية التحفيظ العقاري برمته، ناهيك على أنه حتى إذا رفع المالك الأصلي دعواه داخل الأجل المذكور فإنه سيدخل في متاهة أخرى تتعلق بطول أمد النزاع، مع العلم بأن المعدل العام للقضايا العقارية الرائجة أمام المحاكم يراوح 10 سنوات، مما يشكل هدرا للزمن القضائي[38].

ونعتقد أن المشرع ينبغي عليه التقليص من هاته المدة، خاصة في ظل الوسائل الاكترونية المتاحة اليوم والتي ينهج من خلالها ذات المشرع إلى توفير سبل وآليات وقائية لا علاجية لحماية الملكية العقارية ونذكر من ذلك المنصة الالكترونية للمحافظة العقارية التي تتيح من خلالها للعموم الاطلاع على كل ما يهم وضعية العقارات المحفظة، مما يعني أن المالك الأصلي ينبغي عليه أن يتصف بمزيد من الحرص والفطنة في مراقبة الرسم العقاري المقيد به.

 

ثانيا: التدليس والزور كآلية لحماية المالك الحقيقي

إلا جانب شرط الأجل لرفع الدعوى، تتطلب المشرع لحماية صاحب الحق، أن يثبت وجود تدليس أو تزوير أدى إلى ضياع حقه في ملكية العقار موضوع التصرف، ذلك أن الأصل المفترض دائما هو حسن النية إلى أن يثبت العكس.

         ومن ثم ينبغي الوقوف عند ملاحظة هامة، مفادها أن التدليس الوارد في المادة 2 إنما ورد بمفهومه العام والشامل وليس بمفهومه الضيق المشار إليه في الفصل 52 من ظ.ل.ع، إذ ان نطاق هذا الأخير لا يخرج عن العقد، في حين أن التدليس بالمفهوم الواسع يمتد إلى ما يتعلق بالتحفيظ والرسم العقاري، هكذا نشير إلى أن محكمة النقض قد تبنت المفهوم الواسع للتدليس في العديد من قراراتها[39].

         إضافة إلى ما سبق، استثنت المادة 2 المقيد عن حسن النية من الحماية القانونية والقوة الثبوتية المطلقة للتقييدات، إذا تعلق الأمر بتزوير. ويبد الأمر منطقيا إذا استحضرنا رسمية العقود المنصوص عليها في المادة 4 وأن المشرع كان يجدر به إضفاء حماية على هاته المحررات بل وحتى تلك الصادرة عن المحامي. ونشير في هذا الصدد إلى مقتضيات الفصل 351 زما بعدها من مجموعة القانون الجنائي.

ثالثا: موقف الفقه والقضاء من الترجيح بين نص الفصل 66 والمادة 2

أثير النقاش حول النص الأولى بالتطبيق أهو الفصل 66 من ظ.ل.ع الذي يضفي حجية مطلقة على التقييدات اللاحقة، أو الميل إلى إعمال نص المادة 2 التي جعلت من هاته التقييدات ذات حجية نسبية قابلة للتشطيب وفق ما خلصنا إليه سابقا.

         وعطفا عليه، سنقف عند رأي الفقه بداية، ثم موقف القضاء من النصين[40]، على أن نختم برأينا المتواضع في هذا الشأن.

         بالنسبة لموقف الفقه؛ نميز بين رأيين، الأول متشبث بنص الفصل 66 والثاني يرى ضرورة ترجيح المادة 2، حيث إن رواد الرأي الأول يرون أن مقتضيات المادة 2 تسيء إلى وضعية العقار المحفظ وتضرب بعرض الحائط الغاية التي جاء بها نظام التقييدات في الرسم العقاري، كما أن ترجيح الفصل 66 من ظ.ت.ع  هو إعمال لقاعدة الخاص يقيد العام بناء أيضا على نص المادة 1 من م.ح.ع. في حين يرى أنصار المادة 2 أنها الأولى بالتطبيق، ذلك أن قاعدة الخاص قبل العام لا تنطبق والحالة هاته، حيث إن كلا منهما يعد نصا عاما في موضوعه، وخاصا بالنظر إلى نصوصو الشريعة العامة المتمثل في قانون الالتزامات والعقود.

         أما في ما يخص العمل والاجتهاد القضائي؛ فقد سبق أن أشرنا إلى مجموعة من التطبيقات في هذا الصدد، ولعل الملاحظ أن التردد التشريعي نتج عنه تردد في المواقف القضائية، فنجد ان أغلب القرارات الصادرة عن محكمة النقض غير واضحة المعالم والرؤى، مع تسجيل ميل نحو تطبيق نص المادة 2 من مدونة الحقوق العينية.

         عموما، نرى من جهتنا ورأينا المتواضع، أنه ينبغي توضيح غايات المشرع وألا يتخذ موقفا وسطا مشوبا بالتردد، لا هو مائل إلى تحقيق الأمن القانوني ولا إلى حماية الملكية العقارية. ونعتقد في هذا الصدد أنه إذا كان المشرع والأحوال الاقتصادية الراهنية تحتم تغليب جانب استقرار المعاملات وحماية الوضع الظاهر وتشجيع الاستثمار، فإن الأقرب للصواب بكل تأكيد هو إعمال نص الفصل 66 من ظ.ت.ع حماية لغير حسن النية، مع ضرورة الاتجاه إلى تعميم رسمية كافة التصرفات العقارية. لكن ومن جهة ثانية، وإذا افترضنا أن حق الملكية مضمون، وان القضاء بموجب الفصل 110 من الدستور ينبغي عليه تطبيق القانون بعدالة، نشير إلى ما ينصه الفصل 474 من ق.ل.ع حيث جاء فيه:”لا تلغى القوانين إلا بقوانين لاحقة، وذلك إذا نصت هذه صراحة على الإلغاء، أو كان القانون الجديد متعارضا مع قانون سابق أو منظما لكل الموضوع الذي ينظمه“. وفق هذا التصور فإن تطبيق مقتضيات المادة 2 من م.ح.ع أولى أمام القضاء.

 

 

 

 

 

خاتمة :

إن العقار ــــ على أهميته ــــ جذب اهتمام المشرع المغربي لمحاولة تقنين مختلف هياكله، وشكل للباحثين في هذا المجال مادة خصبة لتجاذب الآراء واحتدام النقاش.

هكذا خلصنا إلى أن المشرع المغربي وبعد إصداره لمدونة الحقوق العينية، وأمام هاجسه المرتبط بتحقيق الاستقرار على عدة مستويات؛ منها الاقتصادي والاجتماعي، ومنها الاستقرار القانوني الذي يدور معه كل ما سبق ذكره وجودا وعدما، لما للأمن العقاري من فائدة وتأثير على جذب المستثمرين، وعلى توجهات محاكم الموضوع وقرارات محكمة النقض، فالأمن القانوني يؤثر بما لا يدع مجالا للشك في الأمن القضائي، بناء على وضوح الغايات والتوجهات التشريعية والنصوص القانونية التي لا تؤدي إلى تباين وأحيانا تضارب القرارات على مستوى محكمة النقض.

تأسيسا عليه، نشير إلى بعض الملاحظات ملحقتا ببعض الاقتراحات لتجاوز بعض العيوب التي وقفنا عليها من خلال موضوع عرضنا، نجملها فيما يلي؛

ــــ على المشرع المغربي توضيح موقفه بما لا يدع مجالا للنقاش بخصوص المقتضيات القانونية المتعارضة بين نص الفصل 66 من ظ.ت.ع والمادة 2 من م.ح.ع.

ــــ عطفا عليه، يجب بالضروة على المشرع أن يعدل على مقتضيات المادة 4 من م.ح.ع لحصر تحرير المعاملات العقارية في المحررات الرسمية فقط لا غير، مع ضرورة تعديل القانون المتعلق بخطة العدالة.

ــــ إن ما سبق من تعارض النصوص، يؤثر على قرارات محكمة النقض حيث عرفت ترددا وغموضا يؤثر بدوره على الأمن القضائي ولا يساير لا جانب الأمن العقاري ولا جانب العدالة العقارية.

 

انتهى بتوفيق الله

 

 

 

لائحة المراجع المعتمدة

  • الكتب؛

 

ــــ عبد العالي دقوقي: التنظيم القانوني للحق العيني في ضوء مدونة الحقوق العينية، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، نشر وتوزيع مكتبة الرشاد سطات، الطبعة الأولى، سنة 2021.

ــــ عبد العالي دقوقي: نظام التحفيظ العقاري بالمغرب بين النظرية والتطبيق، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، نشر مكتبة الرشاد سطات، سنة 2020.

ــــ عبد الرحمان الشرقاوي: قانون العقود الخاصة؛ الكتاب الأول: العقود الناقلة للملكية ـــ عقد البيع ـــ، الطبعة الثالثة، أكتوبر سنة 2016.

ــــ عبد الرحمان الشرقاوي: القانون المدني؛ الجزء الرابع: إثبات الالتزام، مطبعة الأمنية بالرباط، الطبعة الثانية، سنة 2022.

 

  • الأطروحات والرسائل؛

 

ــــ سعاد المعروفي: الحماية القانونية للحق العيني العقاري على ضوء مدونة الحقوق العينية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة مولاي إسماعيل، كلية الحقوق مكناس، سنة 2017.

ــــ أسامة بوفطيرة: حماية الغير حسن المقيد عن حسن النية بالسجلات العقارية بين ظهير التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية، لرسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق مكناس جامعة مولاي إسماعيل، سنة 2015.

ــــ زينب إدريس صالح: التوثيق العقاري، بحث نهاية التدريب بالمعهد العالي للقضاء، الفوج 36، سنة 2011.

ــــ مصطفى خشيلعة: مركز حسن النية في بيع العقار المحفظ، بحث نهاية التدريب بالمعهد العالي للقضاء، الفوج 41، سنة 2017.

 

  • المقالات العلمية؛

 

ــــ عبد القادر بوبكري: توثيق التصرفات العقارية في المحررات الرسمية وإشكالاته القانونية والعملية، مجلة القانون المدني، العدد الأول، سنة 2014.

ــــ نجيم أهتوت: توثيق التصرفات العقارية ودورها في تحقيق الأمن العقاري، مجلة المنبر القانوني، العدد 7/8، أبريل سنة 2015.

ــــ نادية اليونسي: الشكلية في التصرفات العقارية في ضوء المادة 4 من مدونة الحقوق العينية والعمل القضائي، مجلة المهن القانونية والقضائية سلسلة الدراسات والأبحاث المدنية والعقارية: الأمن القانوني والقضائي في المجال العقاري، عدد 5/6، سنة 2021.

ــــ بوحامد عبد القادر: حدود الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن نية، دفاتر محكمة النقض؛ الندوة الوطنية حول الأمن العقاري، عدد 26.

ــــ حسن فتوخ: حسن النية وسوؤها في حقل التصرفات العقارية، مجلة قضاء محكمة النقض، عدد 79، سنة 2014.

ــــ التقرير السنوي لمحكمة النقض لسنة 2017.

ــــ مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 73، سنة 2011.

 

  • الندوات العلمية؛

 

ــــ عمر أزوكار: مدخلات السطو على عقارات الغير في ضوء الرسالة الملكية؛ المحرر ثابت التاريخ نموذجا،مداخلة في إطار ندوة حول: مبدأ استقرار المعاملات في ظل المستجدات التشريعية، نظمت بكلية الحقوق عين السبع الدار البيضاء جامعة الحسن الثاني، سنة 2019.

ــــ عبد القادر بوبكري: مقتضيات المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية بين العدالة العقارية وتحقيق الأمن العقاري، مداخلة في إطار ندوة حول: العدالة العقارية ودورها في تحقيق المن العقاري، نظمت بكلية الحقوق طنجة، جامعة عبد المالك السعدي، سنة 2018. 

ــــ عبد الرحمان الشرقاوي: دور القضاء المغربي في حماية الملكية العقارية، مداخلة في إطار ندوة حول: العدالة العقارية ودورها في تحقيق المن العقاري، نظمت بكلية الحقوق طنجة، جامعة عبد المالك السعدي، سنة 2018.

[1]  ينص الفصل 488 من ق.ل.ع على ما يلي:”يكون البيع تاما بمجرد تراضي عاقديه، أحدهما بالمبيع والآخر بالشراء، وباتفاقهما على المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى”.

[2]  ينص الفصل 489 من ق.ل.ع على أنه:”إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا، وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ، ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون”.

[3]  زينب إدريس صالح: التوثيق العقاري، بحث نهاية التدريب بالمعهد العالي للقضاء، الفوج 36، سنة 2011، ص: 9 و10.

[4]  أنظر ــ نموذجا ــ قرار المجلس الأعلى بتاريخ 2 يوليوز 1985، حيث جاء في حيثياته ما يلي:”…إن الملك المدعى بشأنه هو عقار غير محفظ يخضع في أحكامه لتطبيق القواعد الفقهية…”، أورده: زينب إدريس صالح: نفس المرجع، ص: 9.

[5]  حيث ذهبت محكمة النقض (المجلس الإعلى سابقا) في قرارات سابقة لها إلى أنه:”..إبرام عقد البيع كتابة ومصادقة البائع على توقيعه لدى السلطات المختصة يجعل العقد صحيحا ولا يمكن ادعاء مرض الموت بمجرد لفيف عدلي..”، قرار عدد 674 بتاريخ 2/10/2002، ملف عقاري عدد 26/2/1/2002.

أنظر أيضا: قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 14/12/1978، أشارت إليه: نادية يونسي: الشكلية في التصرفات العقارية في ضوء المادة 4 من مدونة الحقوق العينية والعمل القضائي، مجلة المهن القانونية والقضائية سلسلة الدراسات والأبحاث المدنية والعقارية: الأمن القانوني والقضائي في المجال العقاري، عدد 5/6، سنة 2021، ص: 72 و 73.

[6]  القرار عدد 5017 الصادر بجميع الغرف لتاريخ 6 دجنبر 2010 في الملف المدني عدد 2290/1/5/2006، مجلة قضاء المجلس الأعلى؛ عدد 73، سنة 2011.

[7]  تنص المادة 4 من القانون رقم 39.08 في فقرتها الأولى على أنه: “يجب أن تحرر ـــ تحت طائلة البطلان ـــ جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها او إسقاطها وكذا الوكالات الخاصة بها بموجب محرر رسمي، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك…”.

[8]  عبد الرحمان الشرقاوي: قانون العقود الخاصة؛ الكتاب الأول: العقود الناقلة للملكية ـــ عقد البيع ـــ، الطبعة الثالثة، أكتوبر سنة 2016، ص: 29.

[9]  عبد القادر بوبكري: توثيق التصرفات العقارية في المحررات الرسمية وإشكالاته القانونية والعملية، مجلة القانون المدني، العدد الأول، سنة 2014، ص: 78.

[10]  عبد القادر بوبكري: مرجع سابق، ص: 79.

[11]  حيث تدخل المشرع بموجب الفصل 35 من القانون رقم 25.90 المنظم للتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات لمنع الموثقين والعدول من توثيق العقود الواردة على التجزئات العقارية إلا إذا تم الادلاء بنسخة مشهود بمطابقتها للأصل من محضر التسليم المؤقت أو بشهادة صادرة عن رئيس المجلس الجماعي تثبت أن العملية لا تدخل في نطاق قانون التجزئات العقارية.

[12]  للمزيد في هذا الشأن أنظر: عبد الرحمان الشرقاوي: القانون المدني؛ الجزء الرابع: إثبات الالتزام، مطبعة الأمنية بالرباط، الطبعة الثانية، سنة 2022، ص: من 67 إلى 86.

[13]  للمزيد في شأن المحررات العرفية أنظر: سعاد المعروفي: الحماية القانونية للحق العيني العقاري على ضوء مدونة الحقوق العينية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة مولاي إسماعيل، كلية الحقوق مكناس، سنة 2017، ص: 129 و130.

وراجع: عبد الرحمان الشرقاوي: القانون المدني؛ الجزء الرابع: إثبات الالتزام، مطبعة الأمنية بالرباط، الطبعة الثانية، سنة 2022، ص: من 98 إلى 149.

[14]  سعاد المعروفي: مرجع سابق، ص: 131.

[15]  نجيم أهتوت: توثيق التصرفات العقارية ودورها في تحقيق الأمن العقاري، مجلة المنبر القانوني، العدد 7/8، أبريل سنة 2015، ص: 33.

[16]  سعاد المعروفي: مرجع سابق، ص: 133.

[17]  نجيم أهتوت: نفس المرجع، ص: 34.

[18]  أخذا في عين الاعتبار شروط الرهن الرسمي الإتفاقي المتعلقة بالكتابة وفق المادة 174 من مدونة الحقوق العينية.

[19]  نادية يونسي: مرجع سابق، ص: 89.

[20]  نادية يونسي: مرجع سابق، ص: 82.

[21]  نادية يونسي: مرجع سابق، ص: ص: 83 و84.

[22]  عمر أزوكار: مدخلات السطو على عقارات الغير في ضوء الرسالة الملكية؛ المحرر ثابت التاريخ نموذجا، مداخلة في إطار ندوة حول “مبدأ استقرار المعاملات في ظل المساتجدات التشريعية”، نظمت بكلية الحقوق عين السبع بالدار البيضاء، جامعة الحسن الثاني، سنة 2019.

[23]  التقرير السنوي لمحكمة النقض الصادر سنة 2017.

[24]  نادية يونسي: مرجع سابق، ص: 80.

[25]  سعاد المعروفي: مرجع سابق، ص: 134.

[26]  أنظر المزيد: نجيم أهتوت: مرجع سابق، ص: من 42 إلى 50.

[27]  للمزيد بخصوص نشأة حسن النية وتطبيقاتها في القانون المغربي أنظر: أسامة بوفطيرة: حماية الغير حسن المقيد عن حسن النية بالسجلات العقارية بين ظهير التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية، لرسالة لنيل شهادة الماستر في القانون الخاص، كلية الحقوق مكناس جامعة مولاي إسماعيل، سنة 2015، ص: من 1 إلى 10.

وراجع أيضا: مصطفى خشيلعة: مركز حسن النية في بيع العقار المحفظ، بحث نهاية التدريب بالمعهد العالي للقضاء، الفوج 41، سنة 2017. ص: من 2 إلى 4.

[28]  تنبغي الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يضع تعريفا للغير حسن النية، غير أن بعض الفقه حاول تعريفه من بينهم ذ.مأمون الكزبري الذي ذهب إلى أن الغير حسن النية هو:”الشخص الذي يجهل العيوب أو الشوائب التي تعيب أو تشوب سند أو رسم من كان تلقى الحق منه يوم تلقى هذا الحق، وتسجيله على اسمه في السجل العقاري”. أورده: سعاد المعروفي: مرجع سابق، ص: 182.

[29]  قرار محكمة النقض عدد 2854 صادر بتاريخ 23/7/2008 في الملف المدني عدد 1696/1/1/2004، أشار إليه: بوحامد عبد القادر: حدود الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن نية، دفاتر محكمة النقض؛ الندوة الوطنية حول الأمن العقاري، عدد 26، ص: 553.

[30]  أنظر رأي أستاذنا: عبد العالي دقوقي: نظام التحفيظ العقاري بالمغرب بين النظرية والتطبيق، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، نشر مكتبة الرشاد سطات، سنة 2020، ص: 276 و277.

[31]  راجع: قرار محكمة النقض بغرفتين عدد 170 بتاريخ 20/3/2013 في الملف عدد 2820/1/1/2012، أشار إليه: حسن فتوخ: حسن النية وسوؤها في حقل التصرفات العقارية، مجلة قضاء محكمة النقض، عدد 79، سنة 2014، ص: 418.

[32]  قرار محكمة النقض صادر بجميع الغرف؛ عدد 36/2 بتاريخ 17/1/2017، في الملف المدني عدد 5209/1/2/2012، منشور دفاتر محكمة النقض، عدد 32، ص: 437.

[33]  عبد العالي دقوقي: نظام التحفيظ العقاري بالمغرب بين النظرية والتطبيق، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، نشر مكتبة الرشاد سطات، سنة 2020، ص: 274.

[34]  عبد العالي دقوقي: نفس المرجع، ص: 275.

[35]  مصطفى خشيلعة: مرجع سابق، ص: 23.

[36]  أنظر الموقع: www.mcrp.gov.ma  ، أشار إليه: أسامة بوفطيرة: مرجع سابق، ص: 110.

[37]  للمزيد حول طبيعة أجل 4 سنوات، أنظر: أسامة بوفطيرة: مرجع سابق، ص: من 128 إلى 131.

[38]  عبرد الرحمان الشرقاوي: دور القضاء المغربي في حماية للملكية العقارية، مداخلة في إطار ندوة: العدالة العقارية ودورها في تحقيق الأمن العقاري، نظمت بكلية الحقوق بطنجة جامعة عبد المالك السعدي، سنة 2018.

[39]  انظر مثلا: قرار عدد 746 بتاريخ 21/10/1978 ملف مدني 38/668. أشار إليه: أسامة بوفطيرة: مرجع سابق، ص: 117.

[40]  انظر المزيد في هذا الشأن كل من:

عبد العالي دقوقي: مرجع سابق، ص: 277.

أسامة بوفطيرة: مرجع سابق، ص:113 و114.

حسن فتوخ: مرجع سابق، ص: 419.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى