في الواجهةمقالات قانونية

أثر الظروف الاستثنائية على الالتزامات التعاقدية

أثر الظروف الاستثنائية على الالتزامات التعاقدية

محمد أحجام

طالب باحث بسلك ماستر القانون المدني والتحولات الاقتصادية، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة عبد المالك السعدي تطوان

 

مقدمة:

يرتبط القانون بما لا يدع مجالا للشك ارتباطا وثيقا بالتطورات التي يعرفها المجتمع إن على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، كما يعكس صورته الحقيقية إما ازدهارا أو انحطاطا، باعتباره ضابطا ومؤشرا للتصرفات القانونية التي يأتيها أفراده، التي تتخذ أشكالا مختلفة من قبيل العقود والاتفاقات.

وبالرجوع إلى الوراء، وبالضبط إلى مدونة نابليون الصادرة سنة 1804 وبصرف النظر عن مصادرها التي لا مجال لذكرها هنا، نجد أن مجموعة من الدول ومنها المغرب، كانت آنذاك بعيدة كل البعد عما ضمن بهذه المدونة من قواعد وأحكام، حيث كان يكفي لانعقاد العقد بين أفراد مواطنيها أن يتم التوافق بين إرادتين.[1]

ولما كان العقد من بين أهم مصادر الالتزام، والذي لا يعدو أن يكون إلا توافقا لإرادتين أو أكثر على إحداث اثر قانوني معين، سواء كان هذا الأثر إنشاء التزام، كما في عقد البيع أو نقله كما في الحوالة أو تعديله أو إنهائه[2] ، فإن الأصل في إبرام هذا العقود هو مبدأ سلطان الإرادة، وإذا ما انعقد العقد وأصبح قائما فإنه لا مجال لنقضه ولا لتعديله إلا باتفاق طرفيه المنشئين له، ما لم تكن هناك أسباب قررها القانون، وغني عن البيان أن هذا المبدأ ظهر في المراحل الموالية للقانون الروماني، على اعتبار أن الإرادة عند الرومان لم تكن كافية لإنشاء تصرف قانوني، حتى ولو كان من البساطة بمكان، ويرجع ذلك لعنصر الشكلية الذي كان يسيطر على ميدان إبرام العقود، في مقابل الرضائية التي  كان  مجالها ضيقا جدا، بحيث لم يكن ليتعدى العقود الأربعة، البيع – الإيجار- الوكالة – الشركة، إذ أنها كانت تنعقد بمجرد توافق إرادة الأطراف[3] ، ونتيجة لتظافر العديد من العوامل أخذ هذا المبدأ ينتشر ويشيع في جميع التصرفات التي يجريها الأفراد، الأمر الذي  دفع بجل التشريعات إلى تضمينه في قوانينها المدنية، والمشرع المغربي بدوره ساير الركب ونص في الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود[4]  على أن:” الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”، وجعل منه مرجعا أساسيا لمبدأ سلطان الإرادة في التشريع المغربي وللاستثناء الوارد عليه متى كان بنص قانوني، مما يستفاد معه أن هذا المبدأ يقوم على مسألتين مهمتين: الحرية التعاقدية والقوة الملزمة للعقد كأصل، والتخفيف منهما كفرع حسب الظروف والمعطيات التي يمكن أن تبرز بين الفينة والأخرى، شريطة أن يسمح القانون بذلك.

ولعل الظروف الاستثنائية التي تعيشها مختلف بلاد المعمور، من انتشار فيروس كورونا المستجد والذي أرخى بظلاله على كافة المجالات، تمثل الصورة الحية التي تجعل من تطبيق مبدأ سلطان الإرادة تطبيقا على العقود والاتفاقات بشمولية وبإطلاق، استنادا على الحرية التعاقدية وعلى القوة الملزمة للعقد كنتيجة حتمية للمبدأ الأساس، أمر غير مستساغ وغير ممكن في هذه الظروف الحرجة، ولا سيما على العقود التي أنشئت قبل بروز هذا الوباء لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى الإضرار البليغ بأحد أطراف العلاقة التعاقدية، ويهدم التوازن في العقود بعد تكوينها ونشأتها صحيحة، كما يبث الرعب في نفوس أطرافها مما يهدد مبدأ هاما آخر، ألا وهو يتعلق مبدأ استقرار المعاملات، وبالتالي فالمعادلة صعبة، لأن طرفا فيها يتشبت بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وطرفا يدفع بمفهوم الظرف الاستثنائي أو القوة القاهرة أو حالة الضرورة، حيث يروم التخفيف من المبدأ الذي يدلي به الآخر.

ولما كانت الغاية من إنشاء العقود و الاتفاقات المبرة بين أطراف هو تنفيذ مضمونها تنفيذا عينيا، وإذا لم يتم التنفيذ تحقق الخطأ العقدي في ذمة المدين كأصل، وتقوم في هذه الحالة مسؤوليته العقدية، إلا أن تنفيذ الالتزام في ظل هذه الظروف الاستثنائية يصبح أمرا مرهقا إن لم نقل مستحيلا، مما يفرض معه تدخل مؤسسة القضاء لإحداث التوازن وإعادة تكييف مخرجات العلاقة التعاقدية بين طرفيها تحقيقا للأمن التعاقدي، مما يحق لنا أن نتساءل هل مقتضيات القانون المدني المغربي تسعف القاضي في التخفيف من أثر هذه الظروف الاستثنائية عبر تحقيق توازن عقدي بين طرفي نقيض؟ وما هي المسوغات القانونية الممكن الاستناد عليها لتأصيل هذه الظروف الاستثنائية؟ وما وجه العلاقة بين هذه الظروف وباقي المؤسسات المشابهة لها؟ وهل تنسحب هذه الظروف الاستثنائية على جميع العلاقات التعاقدية المبرمة قبل وبعد هذه الجائحة؟

ومن أجل الإجابة على هذه التساؤلات، ارتأينا تقسيم هذا الموضوع  وفق التصميم التالي:

المطلب الأول: التكييف القانوني للظرف الاستثنائي الناتج عن جائحة كورونا

المطلب الثاني: تأثير الظروف الاستثنائية على تنفيذ الالتزامات التعاقدية

 

المطلب الأول: التكييف القانوني للظرف الاستثنائي الناتج عن جائحة كورونا 

يعد مبدأ سلطان الإرادة من أهم المبادئ التي يقوم عليها القانون المدني المغربي[5]، ويقصد بهذا المبدأ أن الإرادة وحدها كافية لإنشاء العقد عبر توافق الإرادتين وتطابقهما تطابقا تاما، كما أن إرادتي الطرفين هي التي تحدد ما  سوف يرتبه العقد من آثار[6]، ولما كان هذا المبدأ يرتبط في الأصل بمبدأين آخرين هما مبدأ القوة الملزمة للعقد[7]، ومبدأ نسبية آثار العقد[8]، فإن تلكم المبادئ الثلاثة تتحد لتشكل الأعمدة التي تقوم عليها نظرية الالتزام، باعتبارها الأرضية التي تستقي منها معظم التشريعات المعاصرة حيث تميل إلى التلطيف من حدة هذا المبدأ، لعلها تحقق عنصر التوازن بين الأداءات التي يتحملها أطراف العلاقة التعاقدية[9]، حتى تستجيب وتساير حالات خاصة، كما هو الوضع بالنسبة للظروف الاستثنائية، إذن ترى ما هي هذه الظروف الاستثنائية ؟ وما مدى تأثيرها على إرادة الملتزم أثناء تكوين العقد؟ وهل يحق للمصاب بكوفيد 19 أن يدفع بإبطال العقد؟ وهل يعتبر مرض كوفيد19 مرض مميت؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات: ارتأينا تقسيم هذا المطلب وفق الشكل التالي: (الفقرة الأولى) مفهوم الظروف الاستثنائية (الفقرة الثانية) تأثير الظروف الاستثنائية على إرادة الملتزم أثناء تكوين العقد.

الفقرة الأولى: مفهوم الظروف الاستثنائية

إن دولة الحق والقانون هي تلكم الدولة التي تتقيد في كافة نشاطاتها بقواعد قانونية، تتخذ منها ضابطا ومعيارا لكل تصرفاتها وقراراتها تجسيدا منها لمبدأ المشروعية الذي يعتبر صمام الأمان للحفاظ على كينونتها.

وإذا كانت القوانين تصاغ  لمواجهة الظروف العادية وفق مسطرة عادية طبقا للقواعد القانونية المنظمة لعملية التشريع عبر مؤسساتها البرلمانية، فإن قوانين ونواميس الكون علمتنا أن هذه الظروف أحيانا تكون قابلة للاختراق من قبل  ظروف أخرى استثنائية، تجعلها قاصرة وعاجزة عن مواجهة هذه الأخيرة، مما قد يعصف بمبدأ المشروعية، لذلك انبرى المشرع الدستوري ليمنح الجهاز التنفيذي  صلاحيات الخروج عن مسطرة سن القوانين العادية، ومكنه من اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهة هذه الظروف المستجدة؛ ولعل ما عرفه العالم والمغرب مؤخرا على حد سواء، من انتشار عدوى فيروس كورونا خير مثال على هذه الظروف الاستثنائية، وعلى غرار باقي الحكومات، فقد بادرت ومن غير تردد الحكومة المغربية إلى إصدار مرسوم حالة الطوارئ الصحية[10]، بهدف مواجهة هذه الظروف الخاصة التي عطلت معظم القوانين، وللوقوف أكثر على هذا الموضوع، يجدر بنا تحديد مفهوم  الظروف الاستثنائية (أولا )على أن نميزها عن بعض المؤسسات المشابهة ( ثانيا ).

أولا: المقصود بنظرية الظروف الاستثنائية

 تعلوا نظرية الظروف الاستثنائية استثناء فوق  مبدأ سمو الدستور، إذ تستمد مدلولها من القاعدة الرومانية التي تقول “إن سلامة الشعب فوق القانون “، ولقد اختلف الفقهاء في تحديد مدلول هذه النظرية باختلاف وجهة نظرهم إليها، فهناك من عرفها: ” بالظروف الشاذة، الخارقة التي تهدد السلامة العامة والأمن العام و النظام في البلاد وتعرض كيان الدولة للزوال”[11]، وهناك من عرفها: “بأنها تلك الحالة من الخطر الجسيم التي يتعذر تداركها بالوسائل العادية مما دفع السلطات القائمة على الظروف الاستثنائية أن تلجأ إلى الوسائل القانونية الاستثنائية لدفع هذا الخطر ومواجهة الأزمات “[12]، ومن خلال هذه التعاريف يتضح وبشكل جلي أنه  ولكي نكون أمام حالة الظروف الاستثنائية لابد من توفر بعض الشروط؛ كقيام ظروف استثنائية، وأن تكون تلك الظروف تشكل تهديدا على سلامة وأمن الدولة، استحالة مواجهة التهديد بالطرق العادية .

ثانيا: تمييز الظروف الاستثنائية عن بعض المؤسسات المشابهة

قد تختلط نظرية الظروف الاستثنائية مع بعض المؤسسات المشابهة لها ومن أهمها، حالة الضرورة (أ)، حالة الاستثناء (ب)، القوة القاهرة والحادث الفجائي (ج).

أ : تمييز حالة الضرورة عن الظروف الاستثنائية:  تعتبر حالة الضرورة من الأسباب التي تنفي المسؤولية المدنية[13]، في حين اعتبرها المشرع الجنائي من أسباب التبرير التي تنفي المسؤولية الجنائية بموجب الفصل 124 ق.ج[14] ويقصد بها الحالة التي يجد فيها الشخص نفسه مضطرا إلى ارتكاب فعل يترتب عليه ضررا أخف للغير، لتفادي ارتكاب فعل يترتب عليه ضررا أكبر له أو لغيره[15]، ولقيام حالة الضرورة لابد من توفر توافر ثلاثة شروط أساسية وهي؛ أولا: وجود خطر حال يهدد المضطر في نفسه أو ماله، أو يهدد الغير في نفسه أو ماله، ثانيا: أن يكون مصدر هذا الخطر أجنبيا عن مرتكب فعل الضرورة وعن من وقع عليه فعل الضرورة، ثالثا: أن يكون الضرر الذي حاول المضطر تفاديه أكبر وأشد من الضرر الذي تسبب فسه، ومن خلال ما سبق، يمكن استخلاص أهم المميزات التي تميز حالة الضرورة، فهي تعتبر من بين أسباب التبرير التي تنفي المسؤولية الجنائية  وتخفف من حدة المسؤولية المدنية، في حين أن نظرية الظروف الاستثنائية، فهي وإن كانت قد تؤدي إلى التخفيف من حدة المسؤولية المدنية، فإنها لا تنفي المسؤولية الجنائية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حالة الضرورة ترتبط بالشخص ذاته، أما نظرية الظروف الاستثنائية فتهدف إلى المحافظة على أمن الأفراد وتحقيق العدالة التعاقدية، بمعنى أنها تمتد لتشمل جماعة من الأفراد، فضلا غلى أن حالة الضرورة تنفي المسؤولية مع وجود الخطأ على عكس الظروف الاستثنائية فالخطأ غير مفترض الوجود.

ب: تمييز حالة الاستثناء عن نظرية الظروف الاستثنائية: حالة الاستثناء هي حالة الأكثر خطورة من حالة الطوارئ وحالة الحصار، ويتم إعلانها من طرف الملك في حالة الضرورة، ويتم إقرارها في حالة وجود خطر دائم يوشك أن يصيب مؤسسات الدولة
واستقلالها[16]، مما يعني أن لحالة الاستثناء إجراءات الإعلان عنها تباشر من طرف الملك، وتصدر بظهير، في حين نجد أن نظرية الظروف الاستثنائية يتم الإعلان عنها من طرف السلطة التنفيذية وتمنح للسلطات العمومية سلطات واسعة في اتخاذ ما هو مناسب لحفظ صحة وأمن المواطنين.

ج: تمييز الظرف الاستثنائي عن القوة القاهرة: إن القوة القاهرة تعتبر من أسباب  نفي المسؤولية المدنية، وتجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا استحالة مطلقة، في حين أن الظرف الاستثنائي يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا لا مستحيلا، وهنا يظهر الفرق بين الظرف الطارئ والقوة القاهرة، فهما إن كانا يشتركان في أن كلا منهما لا يمكن توقعه ولا يستطاع دفعه، فإنهما  يختلفان في كون القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا استحالة مطلقة، فينقضي بها الالتزام  ويحرم الدائن من التعويض، بينما الظرف الطارئ يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا فحسب، فيرد القاضي الالتزام المرهق إلى الحد المعقول،  فتتوزع الخسارة بين الدائن والمدين، ويتحمل المدين شيئا من تبعة الحادث.

الفقرة الثانية: تأثير الظروف الاستثنائية على إرادة الملتزم أثناء تكوين العقد

تعتبر مرحلة تكوين العقد وهي المرحلة المحورية التي تفرغ فيها إرادة الأطراف في صورتها الواقعية الملموسة، بعد أن كان مجرد أفكار غير منزلة بشكل مادي ظاهري، وحتى يقوم العقد صحيحا وينتج كافة آثاره، لابد من أن يتوفر على شروط الانعقاد وشروط الصحة، وشروط الانعقاد هي الشروط اللازم توافرها لوجود العقد ونشأته، بحيث إنه إذا تخلف شرط منها فإن العقد يعتبر غير موجود، ويكون الجزاء المدني هو بطلانه بطلانا مطلقا[17]، وهذه الشروط يصطلح عليها بأركان العقد، وهي: العاقدين والمحل والسبب وركن الشكل وركن التسليم، أما شروط الصحة فهي الشروط اللازم توافرها ليكون العقد صحيحا، وهي أن يكون كل من طرفيه متمتعا بالأهلية الكافية اللازمة لعقده، وأن تكون إرادة كل منهما سليمة خالية من عيوب الإرادة من غلط وإكراه وتدليس وغبن، ولقد أوردها المشرع على سبيل الحصر، بالإضافة إلى هذه العيوب نص قانون على حالات المرض والحالات الأخرى المشابهة، وإذا كانت إرادة أحد الأطراف معيبة يمكن له المطالبة بإبطال العقد.

ولكل ذلك يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة المريض بكوفيد19؟ وما هي أحكام التصرفات المبرمة من طرف المصاب بكوفيد19؟ وكيف تعامل المشرع مع حالة المريض؟ ومن أجل الإجابة عن هذه التساؤلات، ارتأينا أن نتطرق إلى تحديد الطبيعة القانونية للمريض بكوفيد 19 (أولا)، ثم بعد ذلك سوف نعرج عن تحديد أحكام تصرفات المريض بكوفيد 19 (ثانيا).

أولا: الطبيعة القانونية للمريض بكوفيد 19:

 قد يبرم شخص عقدا في حالة المرض ويغبن فيه غبنا فاحشا، ولا يستطيع القاضي إبطال هذا العقد للإكراه أو الغبن لعدم توفر شروطهما، وبالرجوع إلى مقتضيات قانون الالتزامات والعقود نجد المشرع نص في الفصل 54 من قانون الالتزامات الذي جاء فيه: ” أسباب الإبطال المبنية على حالة المرض
والحالات الأخرى المشابهة متروكة لتقدير القضاة “، ومن خلال استقرائنا لمقتضيات هذا الفصل يتضح أن المشرع أورد لفظ ” المرض “عاما ومطلقا، ولم يقيده بأي وصف، مما يعني أنه ترك للقاضي سلطة تقديرية في تحديده من جهة، وفي الحكم بالإبطال بسببه من جهة أخرى، ويقصد بالمرض هو ما يعتري الأجسام الحية من خلل أو نقص تخرج به عن حالة اعتدالها العادية سواء العضوية أو النفسية قليلا كان أو كثيرا، وقد ينتهي به الأمر إلى القضاء على الحياة[18]، ورجوعا إلى المرض في تكييفه القانوني من حيث إنه حالة يجوز فيها للملتزم أن يطلب إبطال عقده الذي التزم فيه وهو مريض، ومن ذلك مرض كوفيد19 ، وتعتبر بذلك حالة الابطال بنص القانون وليست من قبيل قبيل القانون على الابطال بسبب عيوب الارادة.[19]

وذلك راجع لخطورة مرض كوفيد 19 والذي اكتشف لأول مرة في مدينة ووهان الصينية بمنطقة تسمى هوبي، وقد أدى هذا الفيروس إلى إصابة أزيد من خمسة ملايين نسمة على مستوى الكرة الأرضية، ووفاة ما يقارب مليون شخص حول العالم، وبإلقاء نظرة على هذه الأرقام والتي في تصاعد مستمر يوما بعد يوم، ندرك مدى أثره على العديد من الدول في مختلف أرجاء المعمورة، مما دفع السلطات في مختلف الدول إلى فرض حالة الطوارئ الصحية لتتجنب انتشار هذا الفيروس الفتاك، مما يجعلنا نتساءل هل يمكن اعتبار فيروس كورونا مرض مميت؟

أفرد المشرع في ق.ل.ع لهذا المرض عدة مقتضيات في تنظيمه للإبراء الحاصل من المريض مرض موته في الفصلين344و345 ق.ل.ع، ثم أحال عليها لتطبق على البيع المعقود من المريض في مرض موته، أيضا في الفصل 479 ق.ل.ع ، ويميز المشرع بين ما إذا كان التصرف معقودا لأحد الورثة أو للغير.

وإذا كان المشرع لم يعرف مرض الموت، مما يعني أنه تركها للفقه والقضاء، الذي عرف مرض الموت ثم حدد أهم شروط تحققه، كأن يكون المرض مخوفا، وأن يؤدي بالمصاب به غالبا إلى الوفاة، وأن يعقد المريض عن قضاء مصالحه[20]، مما يفيد بأن مرض الموت هو كل مرض يؤدي إلى الوفاة عادة ويكون كذلك إذ كان مخيفا ومشعرا بالهلاك مع اتصاله بالوفاة فعلا[21].

وفي الأخير، يمكن القول إن إمكانية اعتبار فيروس كورونا مرضا مميتا أمر فيه نظر، ولا يمكن الجزم بذلك مطلقا، لأن جل المصابين به يتماثلون للشفاء بعد قضاء مدة من العلاج تحت رعاية طبيب مختص، حيث غالبا ما يشفى المريض شريطة تناول الدواء لمدة محددة وبانتظام، ما لم يكن مصابا بأمراض مزمنة كمرض القلب والشرايين ومرض جهاز التنفس وغيرها، والتي تسبب  له مضاعفات إلى جانب مرض فيروس كورونا فترتفع معه نسبة هلاك المصاب، ونحن نعتقد حتى هذه الفرضية الأخيرة فإنه لا يعد  مرضا مميتا لأنه بكل بساطة لولا المضاعفات الناتجة عن المرض المزمن لما توفي المصاب بكورونا، إلا إذا كان المصاب به يعاني من ضعف في جهاز المناعة آنذاك حق لنا أن نطلق عليه مرض الموت، مما يعني أن كل هذه الفرضيات تبقى معلقة على أهل الاختصاص لفحص كل حالة على حدة.

وفي الأخير لابد من الإشارة إلى أن مهمة تحديد ما إذا كان فيروس كورونا يدخل ضمن حالات الإبطال أو حالة المريض مرض الموت، هي موكولة للقضاء في إطار سلطته التقديرية بناء على معطيات علمية دقيقة، لان تحديد طبيعة المرض (لفيروس كورونا) وحالة المريض قبل إصابته بهذا الفيروس بلا شك سترتب أثرا قانونيا هاما يختلف باختلاف التكييف القانوني لحالة المصاب.

ثانيا: أحكام تصرفات المريض بفيروس كورونا

يعتبر العقد أو الاتفاق من أهم مصادر الالتزام، وهو عبارة عن توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني تنشا عنه التزامات إما على عاتق طرفيه مثل عقد البيع، أو تنشأ عنه التزامات على عاتق طرف واحد كما في الهبة بدون عوض، حيث لا ينشأ إلا التزاما على عاتق الواهب بنقل ملكية الشيء الموهوب إلى الموهوب له، وتختلف أحكام تصرفات المريض بفيروس كورونا باختلاف نوع التصرف الذي يجريه، فقد يكون تصرفا بعوض (أ) أو يكون تصرفا دون عوض (ب).

أ: أحكام التصرفات العوضية لمريض فيروس كورونا: عقد المعاوضة Contrat a onéreux)) هو الذي يلتزم فيه المتعاقدان بأداء التزاماتهما المتقابلة، وهذا النوع من العقود ينبني على معادلة الأخذ والعطاء، بحيث يهدف كل من أطرافه إلى تحقيق أغراضه التي خطط لها قبل إبرام العقد،[22] ولعل من أهم عقود المعاوضة هو عقد البيع الذي عرفه المشرع في الفصل 478 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه “البيع عقد بمقتضاه ينقل أحد المتعاقدين للآخر ملكية شيء أو حق في مقابل ثمن يلتزم هذا الأخير بدفعه له “، وعقد البيع المبرم في ظل انتشار هذه الجائحة هل يخضع  لمقتضيات الفصل 479 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه ” البيع المعقود من المريض في مرض الموت؟ وإذا افترضنا كذلك، فإننا سنطبق عليه أيضا مقتضيات الفصل 344 الذي  ينص على الحالة التي يجرى فيها البيع لأحد الورثة بقصد محاباته، كما إذا بيع له شيء بثمن يقل كثيرا عن قيمته الحقيقية، أو اشترى منه شيئا بثمن يجاوز قيمته بكثير، أما إذا كان البيع المعقود من المريض لغير وارث فتطبق عليه أحكام الفصل 345.”

وباستقراء الفصل 344 من ق.ل.ع ، نخلص إلى أن المحاباة تبطل البيع، ولذلك يجب التمييز  بين ما إذا كانت المحاباة لأحد الورثة، إذ لا يصح البيع إلا إذا أقره هؤلاء، وإذا لم يقره الورثة فإنه يرد، أما إذا كان البيع لغير وارث فإنه لا  يصح إلا في حدود الثلث بعد سداد ديونه ومصروفات جنازته، وإذا قام مريض بمرض  كوفيد 19 بعقد البيع كطرف بائع أو كطرف مشتر يحابي  بائعه ثم توفي، فإن الفقه اعتبر مرض كوفيد 19  مرضا مميتا، كما اعتبر أنه في حالة عدم اعتباره كذلك، فإنه يبقى  ضمن مطلق المرض وفقا للفصل 479 من ق.ل.ع، بمعنى إذا ثبتت المحاباة من أحد المتعاقدين المصابين به سواء كان بائعا أو مشتريا ثم وافته المنية، فإن البيع يقع باطلا، من غير حاجة إلى الخوض في تحديد طبيعة المرض، حيث يرى فيه الفقه مرضا خطير، وذلك بعدما  شهد به أهل الاختصاص والسلطات الصحية الوطنية والدولية، ولما جند له من موارد وطاقات بشرية ومالية ولوجستيكية ويدل ذلك على خطورته
و تهديده وعواقبه وآثاره الجائحية على مستوي الأنفس والاقتصاد والمال والحياة الاجتماعية والأسرية، إضافة إلى الآثار النفسية للمصابين وأقربائهم و المضاعفات التي يتركها رغم الشفاء منه.[23]

وجدير بالذكر أن هذا الفصل جاء خاصا بالبيع فقط دون غيره من العقود التي نظمها المشرع في الكتاب الثاني من قانون الالتزامات والتي خصص له الفصول من 478 إلى 1250 من كراء والقرض
و الوديعة و العارية و الاشتراك. مما يمكن معه القول أن معظم مقتضيات قانون الالتزامات لم تعد تواكب التطورات والمستجدات التي يشهدها العالم، مما يحتم معه التدخل من أجل إعادة صياغة بعض النصوص وإضافة أخرى سيرا على نهج المشرع الفرنسي الذي أدخل تعديلات جوهرية على قانونه المدني في أواخر يونيو من 2016.

ب :  التصرفات غير العوضية لمريض فيروس كورونا: يقصد بعقود التبرع أو غير عوضية، تلك العقود التي لا تنبني على تقابل العوضين، حيث تقوم على وجه التبرع  والبر والإحسان، ويدخل في ذلك الهبات بمختلف أنواعها وكذا العقود التي تفيد إسداء المعونة والمساعدة للغير كتقديم علاجات طبية دون مقابل، أو تمكين شخص من الاستفادة من منزل دون مطالبته بمقابل الكراء[24].

إن عطية مريض مرض كوفيد19  تنزل منزلة الوصية، بحيث إذا كانت لأحد الورثة فإنها متوقفة على إجازة بقية الورثة، أما إذا كانت للغير فإنها لا تلزمه إلا في حدود الثلث ما يبقى في تركته بعد سداد ديونه ومصروفات جنازته، وتعتبر أحكام الوصية  في الشريعة الغراء بمثابة العمود الفقري أو هي الشريان الذي أمد القوانين العربية بهذا المدلول، ومنها القانون المدني المغربي بما يحد من تصرفات المريض مرض الموت، إلا أن التشريعات العربية اختلفت من حيث إدراج الوصية في قوانينها الوطنية، فمنها من أدرجتها في قانون الأحوال الشخصية، ومنها من جعلت لها قانونا خاصا، أما المشرع المغربي فقد أدرجها في قانون مدونة الأسرة، في الكتاب الخامس في المواد من 277 إلى 320، وتعتبر أيضا من أسباب كسب الملكية، وتعد من العقود الجائزة التي تنشا بالإرادة المنفردة، وتمتاز بتراخي القبول عن الإيجاب على مدى زمنين متناقضين، إيجاب الموصي قيد حياته وقبول الموصى له أو من يتنزل منزلته بعد مماته، وعرفها ابن عرفة التونسي بأنها ” عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعدة “، وهذا التعريف تبنته مدونة الأسرة في المادة 277  باستثناء العبارة الأخيرة التي تفيد وصية النيابة.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه إذا لم يمت من مرضه، فان عطيته تعتبر هبة صحيحة وملزمة له، لأنه لا يهتم بشيء على ورثه وعلى دائنيه، مما يعني أن مرض كوفيد 19 تطبق عليه شروط المرض الذي تبطل به التبرعات لأنه مرض مخوف بحكم الأطباء ومنظمة الصحة العالمية فهو بمثابة مرض قاتل، كما أنه غير متطاول في الزمن، فهو يصيب الشخص وبعد مدة قد يشفى منه أو يلقى نحبه، كما أن الفقه يعتبر أن المرض الذي يطول بصاحبه لا يبطل به تصرفه غير العوضي، ولو مات منه لأنه لا شبهة على المريض بأنه أراد حرمان الورثة من إرثه أو الدائنين من توفية ديونهم[25].

المطلب الثاني: تأثير الظروف الاستثنائية على تنفيذ الالتزامات التعاقدية

يشكل العقد الصحيح المستجمع لكافة الشروط والأركان قوة ملزمة نظرا لما يحويه من تضمينات وأحكام تهم الرابطة العقدية التي ينظمها، لذلك يتعين على أطرافه الالتزام ببنوده وتنفيذها بالطريقة وبالكيفية المتفق عليها سلفا، لأنها تقوم مقام القانون في تنظيم العلاقة التي تجمع بين أطراف العقد[26]، وهو ما يعرف بمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” المستمد من الفصل 230 من ق.ل.ع، مما يكسب العقد قوة ومتانة تجعل أطرافه يرضخون لتنفيذه وعدم نقضه أو تعديله إلا في حدود الإمكانات التي يتيحها لهم العقد نفسه، ويترتب عن هذه القوة اللازمة للعقد نتيجتين أساسيتين: إما التنفيذ العيني للعقد كلما كان ذلك ممكنا[27]، أو المسؤولية العقدية في حالة تعذر ذلك ما لم يكن المعني بالأمر مصرا وبكيفية إرادية ودون وجود سبب مشروع  على عدم تنفيذ العقد، حيث يشكل في بعض الأحيان جريمة[28].

وإذا كان عدم تنفيذ العقد يكون في بعض الأحيان مقصودا ومتعمدا من قبل أحد الأطراف، فإنه في أحايين كثيرة تعترضه صعوبات وعوائق لا يد للمدين فيها، مما يجعل من تنفيذ العقد أمرا مستحيلا استحالة مطلقة، كما في حالة القوة القاهرة والحادث الفجائي (الفقرة الأولى)، ومنها ما يجعله في وضعية شاذة وصعبة للغاية، مما يفرض معه تدخل مؤسسة القضاء لإعادة التوازن في العلاقة التعاقدية بين الأطراف كما في حالة الظرف الطارئ (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: القوة القاهرة والحادث الفجائي[29]

اعتبر المشرع القوة القاهرة (force majeure) والحادث الفجائي (cas fortuit) من أسباب نفي المسؤولية المدنية، من خلال الفصل 95 ق.ل.ع الذي ينص على أنه “لا محل للمسؤولية المدنية في حالة الدفاع الشرعي أو إذا كان الضرر قد نتج عن حدث فجائي أو قوة قاهرة لم يسبقها أو يصحبها فعل يؤاخذ به المدعي” ، وعرف القوة القاهرة في الفصل 269 ق.ل.ع بأنها “كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية ( الفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق  والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شانه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا “، فالقوة القاهرة هي كل حدث أو أمر ينشأ مستقلا عن إرادة الإنسان، غير متوقع حصوله، ولا يمكن تجنبه، يدفع الشخص إلى الإخلال بالالتزام، ويجعل تنفيذه مستحيلا[30].

ويتضح وبشكل جلي من خلال النص التشريعي أعلاه، أن القوة القاهرة كواقعة مادية إذا تحققت شروط تطبيقها، تعد سببا من الأسباب القانونية الكفيلة لوحدها بجعل المدين في حل من تنفيذ التزاماته العقدية، دون أن يكون محلا لأية مسؤولية مدنية[31]، وبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 269 من ق.ل.ع السالف الذكر، يشترط في الواقعة المكونة للقوة القاهرة، والتي يتمسك بها المدين للاستفادة من آثارها توافر شرطين أساسين: أولا أن يكون الحادث غير ممكن التوقع بمعنى أن يكون حادثا ناذر الوقوع، والتي يستبعد الشخص في حساباته حصوله، وعدم توقع الحادثة المكونة للقوة القاهرة فيما يخص المسؤولية العقدية يكون وقت إبرام العقد، وهذا بخلاف المسؤولية التقصيرية حيث يكون عدم التوقع وقت وقوع الفعل الضار ذاته، ثانيا أن يكون الحادث غير ممكن دفعه، ويعتبر هذا الشرط من أهم شروط القوة القاهرة، وهذه الاستحالة يجب أن تكون مطلقة.[32] مما يحق لنا أن نتساءل وبإلحاح هل يمكن اعتبار جائحة كوفيد19 قوة قاهرة ؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عنه عبر فرضيتين اثنتين :

الفرضية الأولى: إذا سلمنا بأن الأصل هو اعتبار الأمراض والأوبئة قوة قاهرة، وبالتالي فهي تقوم  كسبب معفي من المسؤولية، فإننا سوف نصطدم بالإجماع الفقهي الذي ذهب إلى القول بعدم إضفاء عليها هذه الصفة، وهو ذات الاتجاه الذي تبناه القضاء الفرنسي، حينما لم يجعل سنة 2009 من فيروس H1.H2 قوة قاهرة، بتعليل أنه تم الإعلان عنه والتعريف به، وتوفر الوقت من أجل اتخاذ الاحتياطات اللازمة مسبقا للتصدي له، وهو نفس التوجه الذي تبناه من خلال محكمة الاستئناف Basse-Terre في قرارها عدد00739/17 بتاريخ 17 دجنبر 2018[33]، ومن خلال هذين القرارين يتضح  بأن القضاء الفرنسي يتعامل مع كل فيروس على حدة بناء على خطورته والظروف الملابسة له، مما يجعل من أمر إسقاط تلك الأحكام أو الاستدلال بها على جائحة فيروس كورونا أمرا مجانبا للصواب، وذلك لعدة اعتبارات، من قبيل خطورته وسرعة انتشاره من جهة، ومن قبيل الإجراءات والتدابير التي تم اتخاذها لمواجهته من جهة أخرى، كما أنه بالرجوع إلى العبارات  التي استهل بها  المشرع المغربي الفصل 269 من ق.ل.ع بقوله: كالظواهر الظواهر الطبيعية … يدل على أنه نص على سبيل المثال لا الحصر، مما يجعل من أمر القياس على تلك الحالات أمرا مقبولا ووجيها، ولعل الفيروس التاجي والذي من وجهة نظرنا صورة حية للقوة القاهرة، حيث تتوفر فيه كل شروطها، من عدم التوقع واستحالة دفعه، هذا نظريا، لكن هل يستقيم القول بتطبيق نظرية القوة القاهرة على جميع الالتزامات؟ أعتقد جازما أن الأمر لا يستقيم بالنظر إلى طبيعة المعاملات، والحيثيات والوقائع التي أفرزتها هذه الجائحة وما خلفته من تبعات التي لم ولن تكون على ذات الدرجة من التأثير بالنسبة لكل الالتزامات، الأمر الذي يستدعي معه ومن أجل تطبيق هذه النظرية توافر مجموعة من الشروط التي بدورها تخضع لمجموعة من الضوابط والأحكام الأخرى.

ولما كان من بين أهم الآثار المترتبة عن القوة القاهرة بالنسبة للعقد: استحالة تنفيذ الالتزام استحالة مطلقة بالنسبة للمدين، وإعفائه أيضا من أداء أي تعويض، فهل الأمر ينسحب على هذه الجائحة؟ أم أن الأمر ليس كذلك؟ بما أن هذه الجائحة (قوة قاهرة) والظروف المحيطة بها هي مؤقتة وغير ممتدة في الزمن، فإنه لا يمكن إعفاء المدين من تنفيذ التزاماه وتبرئته بشكل نهائي، بل ومن باب التوازن والحفاظ على الحقوق المكتسبة للطرفين وعدم الإضرار بأي طرف تطبيقا لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” يتعين تعليقه إلى فترة لاحقة، فترة رفع الحجر الصحي  إمهالا للمدين حتى تعود الأمور إلى نصابها، بمعنى  أن هذا الالتزام سيبقى دينا في ذمة المدين بالالتزام، مما يفيد  أن الأخذ بنظرية القوة القاهرة فيه مرونة كبيرة لأن من شأن أخذها بحذافيرها وكما تم التنصيص عليها في القانون المدني وفي هذه الظروف الصعبة أن يلحق ضررا فادحا بالدائن، بل سوف يهدد مبدأ استقرار المعاملات وسوف يؤدي إلى انفساخ العديد من العقود كرد فعل من قبل الدائن، وبالتالي خسارة للطرفين ولليد العاملة وبالتالي تأثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

الفرضية الثانية: بالرجوع الحالات التي عددها المشرع في الفصل 269 من ق.ل.ع نجده أورد مصطلح “فعل السلطة” واعتبرها من حالات القوة القاهرة، ولمواجهة الظروف الاستثنائية أصدرت الحكومة المغربية  بصفة السلطات العمومية مرسومين بقانون: مرسم بقانون رقم:  292.202  الصادر بتاريخ 28 رجب 1441 الموافق 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، ثم مرسوم بقانون رقم: 2.293.20 بإعلان حالة الطوارئ الصحية، وما رافقه من إجراءات مثل منع مغادرة المنازل إلا للضرورة القصوى، وإغلاق المقاهي والمسارح
ورخص التنقل الاستثنائية …وغيرها من الإجراءات، والتي تشكل بلا شك عائقا أمام المدين لتنفيذ التزاماته التعاقدية والتي تفرض عليه الانتقال إلى مكان الوفاء، وهذا الأمر غير وارد نظرا لفرض حالة الطوارئ الصحية، مما يمكن الجزم معه أن هذه الأعمال الصادرة عن السلطات العمومية تعتبر قوة قاهرة بنص القانون، وبالرجوع إلى المادة السادسة من مرسوم حالة الطوارئ، نجد أنه أوقف سريان جميع الآجال المنصوص عليها في النصوص القانونية والتنظيمية من بينها آجال التقادم، آجال الشفعة آجال التقييد الاحتياطي ..الخ.

وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن القضاء الفرنسي اعتبر كوفيد19 قوة قاهرة، وذلك من خلال قرار صادر عن الغرفة 6 لمحكمة الاستئناف “كولمار” الصادر بتاريخ 12مارس2020عدد 010998/20 ونحن لا نستبعد أن يسير القضاء المغربي على نفس المنوال ويعتبر جائحة كورونا قوة قاهرة.

الفقرة الثانية: دور القضاء في ظل الظروف الاستثنائية

يعتبر الأصل في المعاملات المدنية خلال مرحلة التنفيذ أنها تتم برضائية وطواعية، لكن قد يحدث أن يتماطل أحد أطراف العقد في تنفيذ التزاماته أو يمتنع بصفة نهائية، فلا يكون من سبيل أمام الدائن المتضرر سوى اللجوء إلى القضاء لأخذ حقه.

وإذا كان المشرع يلزم كل طرف بتنفيذ ما عليه  اتجاه طرف آخر، والقضاء لا يرحم ويضرب بيد من حديد على كل متماطل أو ممتنع عن  تنفيذ التزاماته التعاقدية، فإنه استثناء ووعيا منهما ببعض الإكراهات التي قد يمر منها الطرف الملتزم المتماطل في تنفيذ العقد، خصوصا في ظل هذه الظروف الاستثنائية كما هو الحال بالنسبة لجائحة كورونا، والتي من شأنها أن تعيق التنفيذ داخل الأجل المتفق عليه، فقد أخذا هذه الظروف بعين الاعتبار اعتمادا على قاعدة: ” ترجيح أخف الضررين “[34]، لما لها من آثار اقتصادية واجتماعية وخيمة تتجاوز العلاقة التعاقدية لتمتد إلى كافة المجالات.

وعليه، فلقد أصبح تدخل القضاء في العلاقة التعاقدية ضرورة حتمية فرضتها وتفرضها الظروف التي تمر بها البلاد، لعله ينجح في التخفيف من حدة الالتزام ومن وقع آثاره على عاتق الطرفين في إطار نظرية الظروف الطارئة(أولا)، ووضع الالتزام على الميزان عبر تقسيم تبعة هذه الظروف الطارئة في كفتين متساويتين في سبيل تمتيع المدين بمهلة الميسرة (ثانيا).

أولا: تدخل القاضي في إطار نظرية الظروف الطارئة: تعتبر هذه النظرية من بين أهم الوسائل التي يملكها القاضي من أجل التخفيف من حدة الالتزام، كما أن العديد من التشريعات القديمة والحديثة منها أخذت بهذه النظرية من بينها: التشريع المدني المصري 147 والمشرع البوليني 269 والمشرع الايطالي 1467 والمشرع الجزائري 107..،في حين نجد أن المشرع الفرنسي لم ينظم هذه النظرية بنص شامل وعام، إلا أن القضاء الفرنسي أخذ بهذه النظرية في أكثر من قرار، ولكن مع التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، وعدم قدرة القانون المدني على مسايرتها، أرغمت  المشرع الفرنسي  على التدخل في أواخر سنة 2016 ، حيث عدل مقتضيات القانون المدني ليرتفع عدد مواده إلى 332 بعدما كانت 300 مادة، دون المساس بالسياق العام للقانون المدني، ولعل من أهم هذه المستجدات التي ضمنها فيه، هو أخذه بنظرية الظروف الطارئة متجاوزا بذلك الجمود التشريعي الذي طال لقرون، هذا عن التشريعات المقارنة، أما المشرع المغربي فنجده لم يأخذ بهذه النظرية بنص صريح، ولكن هذا لا يعني استبعادها خصوصا في ظل هذه الظروف الاستثنائية الخاصة التي تمر بها البلاد.

فباستقرائنا لمقتضيات النصوص التشريعية التي أخذت بنظرية الظروف الطارئة، نلاحظ على أن أغلبية التشريعات المدنية المقارنة التي أخذت بالنظرية اشترطت من أجل إعمالها وتطبيقها توفر بعض الشروط الأساسية من بينها؛ أن يكون الحادث أو الظرف الطارئ غير متوقع الحصول عند إبرام العقد، وجود التزام تعاقدي صحيح متراخي التنفيذ، وأن يقع الحادث بعد إبرام العقد وقبل تنفيذه، وأن يكون من شأن الحادث أن يجعل تنفيذ الالتزام بالغ الإرهاق وليس مستحيلا، وإذا توفرت هذه الشروط مجتمعة يتعين على القاضي توزيع تبعات الظرف الطارئ على عاتق طرفيه، بحيث نجد جل التشريعات المدنية التي أخذت بهذه النظرية تركت للقضاء سلطة تقديرية في هذا المجال، إلا أن هذه السلطة تكون مقيدة تفرض عليه التيقن من توفر ضوابط هذه النظرية، والتي يأتي على رأسها التأكد من توفر شروط إعمال هذه النظرية من بين أهمها التيقن من أن تنفيذ العقد يهدد المدين بخسارة جد فادحة ولأسباب خارجية .[35]

وفي الأخير أناشد القضاء للأخذ بهذه النظرية والتي من شأنها أن تساهم في تحقيق العدالة التعاقدية، خصوصا في ظل هذه الظروف التي تعتبر فرصة سانحة لإبراز هذه النظرية و جعلها قاعدة أساسية في العمل القضائي، في انتظار تدخل المشرع المغربي والأخذ بها في إطار مقتضيات قانون الالتزامات والعقود، ومما تجدر الإشارة إليه إلى أنه سبق في وقت من الأوقات أن عرض على مجلس النواب بالمغرب مسألة تغيير 230 من ق.ل.ع ، بكيفية يتضمن معها ذلك الفصل نظرية الظروف الطارئة إلا أن هذه المسألة باءت بالفشل.

ثانيا: تدخل القضاء لتمتيع المدين بمهلة الميسرة: إن القاعدة الأساسية التي تؤطر العلاقات التعاقدية، هو أن ما انصرفت إليه إرادة الأطراف يتعين تنفيذه بالشكل وفي الأجل الذي تم الاتفاق عليه، وفي حالة خرق هذا الالتزام تقوم المسؤولية العقدية، إلا أنه في بعض الأحيان يعترض للمدين ظرف طارئ غير متوقع يثقل كاهله في الأداء داخل الأجل المتفق عليه، ومن غير العدل تكليفه بمستحيل خلال أجل التنفيذ،[36] لذلك تأثر المشرع والقضاء على حد سواء بنظرية الظروف الطارئة في شقها المتعلق بمنح أجل إضافي للتنفيذ التي يصطلح عليها الفقهاء بنظرة الميسرة التي نظم المشرع أحكامها في الفقرة الثانية من الفصل 243 من ق.ل.ع والذي ينص على أن” ومع ذلك، يسوغ للقضاة، مراعاة منهم لمركز المدين، ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، وأن يوقفوا إجراءات المطالبة، مع إبقاء الأشياء على حالها”، ومن خلال هذا الفصل يتضح  أن المشرع منح القضاء سلطة تقديرية في منح مهلة الميسرة من عدمه، وذلك راجع للصياغة التي جاءت بها الفقرة الأخيرة من الفصل ” ومع ذلك يسوغ للقضاء”، ولقد أحسن المشرع صنعا بمنح هذه السلطة للقضاء خصوصا في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا والتي لم تكن متوقعة أثناء وضع النص الأصلي، والذي يمكنه أن يفعلها حسب ظروف وملابسات كل قضية على حدة، آخذا بقاعدة الموازنة بين مبدأ استقرار المعاملات الذي يستنبط أسسه من قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، وبين مصلحة المدين الذي اعترضه ظرف طارئ خارج عن إرادته حال بينه وبين تنفيذ الالتزام داخل الأجل المتفق عليه[37]، وبالتالي فإن مسالة تقدير منح الأجل من عدمه هي مسألة واقع يستقل بها القضاة بناء على سلطتهم التقديرية حسب طبيعة الحال دون أية إلزامية، حيث صدر بهذا الصدد قرار عن المجلس الأعلى جاء فيه”ليس هناك ما يلزم محكمة الموضوع أن تمكن المكتري الذي لم ينفذ التزامه”[38].

إن منح مهلة الميسرة من عدمه في كلتا الحالتين سواء رفض أو منح المهلة يجب عليه أن يعلل ذلك، لأن غياب التعليل يعتبر من أسباب النقص بصريح المادة 353 من ق.م.م،[39] إلا أن منح مهلة الميسرة مقيد ببعض الضوابط التي يتعين أخذها بعين الاعتبار، وهي أن يكون المدين في وضعية اقتصادية حرجة تستلزم إغاثته بمنحه مهلة لتدبير شؤونه، وأن يكون المدين المعسر حسن النية، وأن يكون سبب التأخر في التنفيذ راجعا لظروف خارجية عن إرادته وأن تكون مؤقتة، ولقد أكد القضاء على ضرورة توفر هذا الشرط الأخير للحكم بمنح المهلة من عدمه، ولقد صدر حكم عن المحكمة الابتدائية بالرباط جاء فيه ” إن العقد ينفذ وقف ما اشتمل وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن نية وشرف التعامل وقواعد الإنصاف ويترتب عن ذلك الكف عن أي فعل قد يجعل الالتزام مرهقا “[40]، ويجب أيضا أن يكون هذا الأجل معقولا أي يجب أن يراعي فيه مصلحة الطرفين بحيث يجب أن لا يكون طويلا مما يضر بالدائن ولا قصيرا قد لا يسعف المدين في تنفيذ التزامه.

وجدير بالإشارة أن أحكام مهلة الميسرة ليست من النظام العام، بمعنى لا يمكن للقاضي أن يثيرها من تلقاء نفسه، إنما يتعين أن يلتمسه الطرف المتضرر، بحيث يمكن لهذا الأخير أن يطلبه في سائر مراحل التقاضي، ما عدا أمام محكمة النقض، وهذا ما أكده قرار صادر عن المجلس الأعلى جاء فيه ” إن منح أجلا للميسرة ليس من النظام العام وبالتالي لا يمكن إثارته أول مرة أمام محكمة المجلس الأعلى “.[41]

كما أن منح مهلة استرحامية ليس حكرا على قضاء الموضوع، بل يمكن للمدين في حالة الاستعجال أن يقدم طلب رئيس المحكمة الابتدائية لوقف إجراءات التنفيذ ومنحه مهلة قضائية للوفاء بناء على مقتضيات الفصل 147 من ق.م.م[42]، خصوصا في هذه الظروف الاستثنائية، بحيث نجد بعض القضايا لا تتحمل التأجيل خصوصا العلاقة الكرائية، ومما يؤكد هذا الطرح هو ما صدور أمر حديث عن رئيس المحكمة الابتدائية بطانطان  بتاريخ 08 ابريل 2020 بحث قضى برفض طلب الإفراغ في ظل انتشار هذه الجائحة حيث جاء فيه: “وحيث إن طرد الطرف المدعى عليه من السكن الوظيفي يبقى غير مؤسس واقعا وقانونا خاصة بالنظر إلى التدابير الاحترازية التي اتخذتها المملكة للحد من انتشار وباء كورونا المستجد حماية للصحة العامة، وهي تدابير اتخذت بالفعل شكلها وصبغتها القانونية بصدور مرسوم بقانون 2.20.939 صادر 24 مارس 2020 بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني …، حيث إنه وعطفا على ما ذكر أعلاه، فإن الاستجابة للطلب في هذا التوقيت والظرفية يبقى غير ذي أساس ويتعين معه الحكم برفض الطلب “.

وفي هذا السياق جاء في أمر صادر عن نائب رئيس المحكمة الابتدائية بالخميسات “حيث أن الوضعية الاستثنائية التي تمر بها المملكة المغربية والمتمثلة في انتشار وباء “كورونا” المستجد وما يمكن أن ينتج عنه من مساس الوضعية الصحية للمواطنين خاصة أمام قرار الدولة في التزام المواطنين بمساكنهم وعدم الاختلاط فإن إفراغ المنفذ عليها من مسكنها هي و أبنائها الصغار في الوقت الراهن من شأنه الإضرار والمساس بالصحة العامة مما يكون معه الطلب وجيها ومبررا ويتعين الاستجابة إليه وذلك لمنحها أجلا مناسبا لكلا الطرفين، وعملا بمقتضيات الفصل 148 ق.م.م و الفصل 440 من نفس القانون نمنح الطالبة أجل شهر مدة استرحامية على أن تستأنف عملية التنفيذ[43]“.

ومن خلال ما سبق، يبدوا وبكل موضوعية وبتجرد أن اتجاه المحاكم قد انتصر لمبادئ العدل والإنصاف، لأنه يصعب على جهاز القضاء الاستجابة لمثل هذه الطلبات المتسمة بالتعسف في استعمال الحق على اعتبار هذه الظروف الاستثنائية الحرجة، فكيف يتم الحكم بالإفراغ على مكتر أو منتفع من عقار يأويه هو وأسرته وأبواب معظم ساكنة الكرة الأرضية موصدة خوفا من فيروس كورونا المستجد؟؟

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة:

من خلال ما سبق، يتضح أن هذه الظروف الاستثنائية سيكون لها ما بعدها من آثار إيجابية ولا سيما على المستوى التشريعي، حيث دقت ناقوس الخطر البليغ إثر التهديدات المتوالية والارتدادات المتواصلة التي عرفتها وتعرفها معظم العلاقات التعاقدية، ولن يسلم منها إلا النزر القليل من العقود، بل أكثر من ذلك فلقد عرت أكثر من أي وقت مضى عن الفراغات والثغرات والنواقص التي تشوب مختلف القوانين بما فيها دستور المملكة، في إطار النقاش الدستوري والسجال الذي صاحب مرسوم بقانون الطوارئ الصحية خاصة في شقه الشكلي لكن تبقى فروع القانون الخاص أبرز المتورطين في هذه الجائحة لارتباطها وجودا وعدما بالتصرفات القانونية الصادرة عن أفراد المجتمع وللأضرار الجسيمة وللآثار البليغة التي شابت جل العلاقات التعاقدية، مما أنشأ نقاشا قانونيا واسعا من قبل الباحثين والمختصين حول مآل هذه الآثار ومن سيتحملها، وهل النصوص القانونية الحالية كافية لتحقيق قاعدة: “لا ضرر ولا ضرار” في ظل سمو مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ العقد شريعة المتعاقدين واصطدامهما بنظيرة الظروف الطارئة بجانب نظرية القوة القاهرة والحدث الفجائي وحالة الضرورة؟ فبالرجوع إلى الفصل 230 من ق.ل.ع نجده نص على إمكانية تعديل العقد عن طريق القانون، كما أن الفصلين 268و 269 المتعلقين تواليا بالحادث الفجائي والقوة القاهرة نجد من بين أصنافها: “فعل السلطة” ولعل مرسوم الطوارئ الصحية ومرسوم المتعلق بالتدابير الاحترازية الصادرين في مارس 2020 يعتبران بمثابة فعل السلطة، إذ تم منع ووقف جل الأنشطة وبالتالي العلاقات التعاقدية، مما يعني أن مؤسسة القضاء ستجد سندا قانونيا مع التحفظ عليه، يمكنها من تحقيق التوازن بين الدائنين والمدينين، وإذا ما اعتبرنا ذلك السند حقيقيا وصريحا فيجب على القضاء أن يبرئ المدين ما دام أنه ليس المسؤول عن وقف أنشطته، لكن من سيتحمل خسارة الدائن؟ ألا تعتبر الدولة مسؤولة على اعتبار أنها لم تقم بإنشاء مثلا صندوق لمثل هذه الحالات ولم تقم بالتنصيص على حالة الطوارئ الصحية في قانونها المدني؟

هذا عن التعاقدات المنشأة قبل كورونا، فما ذا عن التعاقدات التي أنشئت خلال زمن كورونا؟ فهل يعتبر ذلك من قبيل تصرفات مريض مرض الموت في حالة ما إذا كان أحد أطراف العلاقة التعاقدية مصابا بفيروس كورونا؟ أم أنه لا يعتبر كذلك؟

فبالرجوع إلى الفصل 479 و344 و345 نجد أولا أن المشرع لم يحدد مفهوم المرض بدقة وترك الأمر للفقه وللقضاء وهذا ديدنه، وهذا كافي لجعل مرض كورونا يدخل ضمن زمرة الأمراض المطلقة والتي يرجع فيها الحسم لمؤسسة القضاء،عبر معالجته لكل حالة على حدة، انطلاقا من الخبرة الطبية ومن الحالة التي كان عليها المريض المصاب عندما أبرم العقد، لأنه من وجهة نظرنا ليس مرضا مميتا بصفة حتمية، وإلا كان توفي كل المصابين به، وهذا لم يحدث، مما يعني أحكام الفصلين 344 و345 تبقى قائمة متى ثبت أن المريض المصاب كان في حالة وفاة شبه محققة وقام بتصرف، آنذاك يكون تصرفا خاضعا لأحكام الفصلين والعكس صحيح.

صفة القول، حان الوقت لكي يعيد المشرع المغربي النظر في بعض مقتضيات ق.ل.ع حتى تصبح منسجمة مع حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية ولا سيما بإدخال مرونة أكثر على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين تحقيقا للتوازن وحفاظا للحقوق دون المساس بالأمن التعاقدي

[1] العربي مياد، ” إشكالية التراضي في عقود الإذعان ” أطروحة لنيل الدكتوراه الدولة في القانون الخاص، 2001-2002 ، كلية الحقوق أكدال الرباط ، ص 48

[2]عبد الرزاق احمد سنهوي ، الوسيط في شرح القانون المدني ، الجزء الأول : مصادر الالتزام ، دار النهضة العربية القاهرة  الصفحة 137.

[3]  عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزامات، نظرية العقد، الطبعة السادسة 2018، مطبعة الأمنية الرباط، ص57

[4]  Dahir format code des obligation et des contacts, bulletins officiel français, N : 46 du 12 septembre 1913 page 78 .

[5] –  هناك مجموعة من النصوص التشريعية التي تؤكد اعتناق المشرع المغربي لهذا المبدأ مثل الفصول (2.19.21،230) ونجد أيضا المشرع المصري اعتنق هذا المبدأ (م 147) والمشرع  السوري أيضا في المادة 148 و المشرع الفرنسي 1134.

[6]  –  الطيب الفصايلي، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول، مصادر الالتزام، مؤسسة ايزيس للنشر 1990، ص 29.

[7] –  يجد هذا المبدأ سنده في الفصل 230 قانون الالتزامات والعقود الذي بنص على أن “الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون”.

[8] –  أساس هذا المبدأ نص عليه المشرع في الفصل 228 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على أن ” الالتزامات لا تلزم إلا من كان طرفا في العقد، فهي لا تضر الغير ولا تنفعهم إلا في الحالات المذكورة في القانون “.

[9] – ﻋﺑد اﻟﻘﺎدر اﻟﻌرﻋﺎري، ﻣﺻﺎدر الاﻟﺗزام، اﻟﻛﺗﺎب اﻷول، ﻧظرﯾﺔ اﻟﻌﻘد، اﻟطﺑﻌﺔ   اﻟسادسة 2018، ﻣﻛﺗﺑﺔ دار اﻷﻣﺎن الرباط، ص60

[10] – مرسوم بقانون رقم 2.20.292 صادر 28 من رجب 1441 ( 23 مارس 2020) يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها . الجريدة الرسمية عدد 6867 مرر 29 رجب 1441 ( 24 مارس 2020) نشرة عامة .

[11] – رأفت دسوقي “هيمنة السلطة التنفيذية على أعمال البرلمان ” منشاة المعارف الإسكندرية سنة 2006 ص187 .

[12] – حسين ضياء ألخلخالي ” نظرية الضرورة كاستثناء يرد على مبدأ سمو الدستور ” مؤسسة النبراس للطباعة والنشر النجف ص 93 دون ذكر سنة النشر .

[13] – لم ينص المشرع في قانون الالتزامات والعقود صراحة على اعتبار حالة الضرورة من الأسباب التي تنفي المسؤولية في المجال المدني ، غير أن ذالك لا يعني استبعادها أصلا ، فهي إن لم تؤد التي الإعفاء من كل المسؤولية ،فإنها على الأقل تعد سببا وجيها للتخفيف من حجمها متى توافرت شروطها . عبد القادر العرعاري مرجع سابق ص 94 فق 124 .

[14] ظهير شريف رقم 1.59.413 صادر في 28 جمادى الثانية 1382 ( 26  نونبر 1962 ) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي ، جريدة الرسمية عدد 2640 مكرر بتاريخ 12 محرم 1383 ( 5 يونيو 1965 ) ص 1253 نشرة عامة.

[15] – نزهة الخلدي ” الموجز في النظرية العامة للالتزامات ” الكتاب الثاني المسؤولية المدنية ،الطبعة الثانية 2017 مطبعة  تطوان ص98.

[16] – بنص الفصل 59 من الدستور على أن “إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة ن أو وقع من الأحداث ما يعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية ، أمكن للملك أن يعلن حالة الاستثناء بظهير …”.

[17] – نزهة الخلدي ” الموجز في النظرية العامة للالتزامات مصدر الالتزام الكتاب الأول” الطبعة الثانية 2015 مطبعة تطوان الصفحة 38 .

[18] – عزت كمال ” الوجيز في تصرفات المريض مرض الموت ” مطبعة دار الفكر القانوني للنشر والتوزيع ( دون ذكر باقي البيانات ) ص25.

[19] –  محمد بن يعيش ” الالتزامات التعاقدية بين الأحكام الحمائية وتأثير مرض كوفيد 19 ” مقال منشور في موقع www.marocdroit.com   تم الاطلاع عليه يوم 17/6/2020 الصفحة 8.

[20] –  قرار لمحكمة الاستئناف بالجديدة بتاريخ 1983/12/12 عدد 594 غير منشور

[21] – عبد القادر العرعاري، ﻣﺻﺎدر الاﻟﺗزام ، اﻟﻛﺗﺎب اﻷول، ﻧظرﯾﺔ اﻟﻌﻘد ، مرجع سابق ،  ص 175.

[22] – عبد القادر العرعاري، ” ﻣﺻﺎدر الاﻟﺗزام ، اﻟﻛﺗﺎب اﻷول، ﻧظرﯾﺔ اﻟﻌﻘد”،  مرجع سابق صفحة 49

[23] – محمد بن يعيش ” الالتزامات التعاقدية بين الأحكام الحمائية وتأثير مرض كوفيد 19 ” مقال منشور في موقع www.marocdroit.com   تم الاطلاع عليه يوم 17/6/2020، الصفحة 15.

[24] – عبد القادر العرعاري، ” ﻣﺻﺎدر الاﻟﺗزام ، اﻟﻛﺗﺎب اﻷول، ﻧظرﯾﺔ اﻟﻌﻘد”،  مرجع سابق صفحة 40 .

[25] – محمد بن يعيش ” الالتزامات التعاقدية بين الأحكام الحمائية وتأثير مرض كوفيد 19 ” مقال منشور في موقع www.marocdroit.com   تم الاطلاع عليه يوم 17/6/2020، الصفحة 12

[26] – نزهة الخلدي، مرجع سابق ، 44 .

[27] – ينص الفصل 242 قانون الالتزامات و العقود على أن ” لا تبرا ذمة المدين إلا بتسليم ما ورد في الالتزام، قدرا وصنفا ….”

[28] – ينص الفصل 551 من القانون الجنائي على أن “من تسلم مبالغ من اجل تنفيذ عقد، ثم رفض تنفيذ هذا العقد أورده تلك المبالغ المسبقة، دون عذر مشروع، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائة وعشرين إلى مائتين وخمسين درهما “.

[29] – هناك من الفقه من يميز بين القوة القاهرة و الحادث الفجائي، على أساس أن القوة القاهرة هي الأمر الذي يستحيل دفعه، والحادث الفجائي هو الأمر الذي لا يمكن توقعه، وهناك من يميز بينهما بناء على كون استحالة الدفع في القوة القاهرة تكون مطلقة في حين نسبية في الحادث الفجائي، لكن أغلبية الفقه الحديث يشترط أن تكون الاستحالة مطلقة في كل من القوة القاهرة والحادث الفجائي، لكن هذا التمييز لا أساس له على أساس على اعتبار أن من خصائص القوة القاهرة أن يكون الحادث المكون لها لا يمكن، لذلك فان أغلبية الفقه الحديث لا يقيم أية تفرقة بين القوة القاهرة و الحادث الفجائي خصوصا بالنسبة للآثار القانونية المترتبة عن توافرها، بل حتى بعض التشريعات المدنية أقرنت مصطلح القوة بمصطلح الحادث الفجائي دون تمييزها( 268 ق.ل.ع، المادة 165 القانون المدني المصري) وهذا يفيد أن الآثار القانونية المترتبة عن القوة القاهرة تنحس إلى الحاث الفجائي دون تمييز.

[30] – نزهة الخلدي مرجع سابق،ص 113

[31] – محمد الكشبور، مرجع سابق، ص 26

[32] – ولقد أكد القضاء في أكثر من مرة على ضرورة توفر الشرطين معا في الواقعة لكي يتم إعفاء المدين من المسؤولية ،  قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 14 يوليو 1972،مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد25 ص189.

[33]– حين جاء فيه “فيما يتعلق بفيروس الشيكونغونيا، ورغم توفره على الخصائص التالية ( آلام المفاصل، الحمى، الصداع ..) وانتشاره في جزر الهند الغربية، خاصة في جزيرة سانت بارت يملي ما بين 2013و2014 فان هذا الحادث لا يمكن اعتاره قوة قاهرة بالمعنى المقصود في المادة 1148 من القانون المدني ، بحيث لا يمكن اعتباره وباءا غير متوقع ولا يمكن مقاومته ما دام انه مرض يمكن الخفيف من حدته بالمسكنات وفي كل الأحوال مقاومته .

[34] – مازن القضاوي، بحث نهاية التكوين تحت عنوان “القضاء و العدالة التعاقدية ” سنة 2015/2017 ص 40

[35] – محمد الكشبور ” نظام التعاقد ونظرتيا القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة ” الطبعة الأولى 1413ـ1993 دون ذكر المطبعة . ص137.

[36] -مازن القضاوي، مرجع سابق .ص40.

[37] –  مازن القضاوي ، م.س. ص 47.

[38] –  قرار المجلس الأعلى بتاريخ 1969/12/17 ملف عدد850/06 منشور بمجلة الاجتهاد القضائي عدد 1 ص 237.

[39] –  تنص المادة 353 من قانون المسطرة المدنية على أن “يجب أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على محكمة النقض مبنية على الأسباب التالية :1 خرق القانون الداخلي،2 خرق قاعدة مسطرية اضر بأحد الأطراف؛ 3: عدم الاختصاص؛ 4:الشطط في استعمال السلطة؛5 :عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل”

[40] –  حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط عدد 2522 بتاريخ 22/10/08 ملف عدد 06/2227 منشور بمجلة الحقوق المغربية عدد8 ص 223

[41] –  قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 01/04/18 ،عدد 869، ملف تجاري عدد 2000/1240 غير منشور .

[42]  ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 بتاريخ 11 رمضان 1394 ( 28 شتنبر 1974 ) بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية، الجريدة الرسمية عدد 3230 مكرر بتاريخ  13 رمضان  1394 صفحة 2741 (النشرة العامة).

[43]  أمر استعجالي رقم 318 في الملف عدد 20|11|09|318 بتاريخ 16|03|2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى