العدالة الجنائية للأحداث في ضوء السياسة الجنائية المغربية بين ملامح الأزمة ودواعي البحث عن بدائل: قراءة تقييمية – الدكتورة : سميرة خزرون دكتورة في الحقوق
العدالة الجنائية للأحداث في ضوء السياسة الجنائية المغربية بين ملامح الأزمة ودواعي البحث عن بدائل: قراءة تقييمية
Criminal justice for juveniles in the light of Moroccan criminal policy between the features of the crisis and the reasons for searching for alternatives: an evaluation reading
الدكتورة : سميرة خزرون
دكتورة في الحقوق
ملخص:
لاشك أن ظاهرة الجنوح عموما والطفولة الجانحة خصوصا تطرح مجموعة من التساؤلات داخل أي مجتمع سواء حول الأسباب أو مرورا بالمظاهر ثم الآثار المترتبة عنها إن على المستوى النفسي أو التربوي أو الإجتماعي، وتزداد أهمية هذه الإشكالية من حيث الدراسة وتسليط الضوء في ظل غياب أبحاث علمية مفصلة ومعمقة متناولة للموضوع في بعده الإجتماعي بشكل خاص.
ومن هذا المنطلق نطرح التساؤل حول جدوى العقوبة السالبة للحرية إن كانت لن تفيد الحدث بقدر ما قد تزيد من حدة سلوكه العدواني خاصة تجاه الأحداث الأقل خطورة منه والذين يختلطون وإياه في ذات المركز؟
قبل أن نتساءل في ذات السياق – وفي إطار قراءة في مظاهر أزمة العدالة الجنائية للأحداث- حول دواعي إيجاد عدالة جنائية بديلة للعدالة العقابية للطفولة الجانحة.
Summary :
There is no doubt that the phenomenon of delinquency in general and delinquent childhood in particular raises a set of questions within any society, whether about the causes or through the manifestations and then the effects of it on the psychological, educational or social level, and the importance of this problem increases in terms of study and highlighting in the absence of detailed and in-depth scientific research concerned with the subject in its social dimension in particular ; From this point of view, we ask the question about the feasibility of the punishment that deprives of freedom if it will not benefit the juvenile as much as it may intensify his aggressive behavior, especially towards less dangerous events than him and those who mix with him in the same center?
Before we ask in the same context – and in the context of a reading in the manifestations of the criminal justice crisis for juveniles – about the reasons for finding an alternative criminal justice to punitive justice for delinquent childhood.
مقدمة:
لما كان الحديث عن أزمة العدالة الجنائية يحيلنا بالضرورة على المعيقات التي تحول دون تحقيق السياسة الجنائية للدور المنوط بها وعجزها عن التصدي للظاهرة الإجرامية المتطورة يوما بعد يوم، وهو التوجه المتفق عليه لدى جل الدارسين والمتخصصين في السياسة الجنائية، فهذه الإشكالية تعاني منها أغلب التشريعات المقارنة، والمغرب بدوره لم يكن بمنأى عن التأثر بهذه الأزمة نظرا لغياب الفعالية التي من أجلها سن المشرع سياسة التجريم والعقاب.
ولاشك أن الأزمة المطروحة امتدت أيضا للعدالة الجنائية للأحداث، حيث يلاحظ اليوم أن ظاهرة الجنوح عموما والطفولة الجانحة خصوصا تطرح مجموعة من التساؤلات داخل أي مجتمع سواء حول الأسباب أو مرورا بالمظاهر ثم الآثار المترتبة عنها إن على المستوى النفسي أو التربوي أو الإجتماعي، وتزداد أهمية هذه الإشكالية من حيث الدراسة وتسليط الضوء في ظل غياب أبحاث علمية مفصلة ومعمقة متناولة للموضوع في بعده الإجتماعي بشكل خاص؛ ورغم اهتمام وحرص المشرع المغربي على ضمان أكبر قدر من العناية بالحدث، من خلال توافق المسطرة الجنائية في هذا الصدد مع اتجاه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل بلادنا كقواعد بكين واتفاقية حقوق الطفل، بيد أن المقاربة العقابية قد لا تحقق الردع اللازم الذي وضعت من أجله والمتمثل في التصدي لظاهرة الجنوح، وإصلاح الحدث الجانح وإعادة إدماجه ضمن منظومته الأسرية والمجتمعية، وهو ما يزكي إمكانية اختبار المقاربة الصلحية ضمن المسار التأهيلي والتقويمي لهذا الحدث.
وللأهمية التي أصبحت تكتسيها الحلول البديلة بشكل عام في فض النزاع ، لنا أن نتساءل عن مدى إمكانية وفعالية الرهان عليها في أفق التصدي لأزمة العدالة الجنائية للأحداث لتجنب عودة الحدث لارتكاب الجريمة ، وكذا لتعزيز الإدماج الإجتماعي للطفل الجانح.
هكذا إذن ولتبين المبررات الداعية للبحث عن عدالة بديلة ملائمة لوضع الحدث جانحا كان أو ضحية، نرى أن نخوض في هذا الإشكال وفق شقين نخصص الأول لبحث مدى فعالية المقاربة التشريعية سواء في ردع الحدث الجانح وحماية الحدث الضحية (فقرة أولى)، قبل أن نتساءل عن مدى الفعالية المؤسسية لهذه الحماية والتي ترمي السياسة الجنائية للمشرع المغربي تحقيقها (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: أوجه القصور التشريعي للمقاربة العقابية في تحقيق عدالة جنائية للأحداث الجانحين
إذا كانت ظاهرة انحراف الأحداث لها من الأبعاد ما يجعلها خطيرة على الأمن الإجتماعي، فإن العود إلى الإنحراف يكتسي خطورة أكبر، واستشعارا من المنتظم الدولي للأهمية القصوى لحماية الحدث اتجهت الدول والمنظمات الحقوقية الدولية إلى سن تشريعات خاصة بحماية حقوق الطفل، وقد انخرط المغرب بدوره في هذا الركب باعتماده لترسانة تشريعية خاصة بحماية الأحداث تنسجم مع المواثيق الدولية في هذا الصدد بحيث أفرد منظومة وتدابير خاصة للنظر في قضايا الأحداث، وهو ما بلوره ظهير 3 أكتوبر 2002 القاضي بتنفيذ القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي نص في ديباجته على أن الهدف المتوخى من القانون الجديد يتمثل في حماية الأحداث الجانحين وتقويم سلوكهم بقصد إعادة إدماجهم في المجتمع، وهذه الحماية لا تقتصر على الحدث الجانح بل تمتد إلى الحدث ضحية جناية أو جنحة والحدث الموجود في وضعية صعبة.
إلا أنه ورغم الحرص التشريعي على حماية الحدث وإعادة إدماجه في بيئته الأسرية والمجتمعية، تطرح بعض الإشكالات التي تحول دون تحقيق هذه الغاية، ولبحثها-الإشكالات- نجري قراءة في التدابير والعقوبات المتخذة في ضوء قانون المسطرة الجنائية (أولا)، ثم في القانون المنظم للمؤسسات السجنية(ثانيا).
أولا: معيقات العدالة الجنائية للأحداث على ضوء قانون المسطرة الجنائية: قراءة في التدابير والعقوبات المتخذة
من المؤكد أن المشرع المغربي حرص كغيره من التشريعات وتنزيلا للمقتضيات الدستورية والإتفاقيات الدولية المصادق عليها في هذا الشأن على تكريس الحماية الجنائية للطفل خاصة على مستوى قانون المسطرة الجنائية، بحيث ورد في ديباجة القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية أن الهدف الذي توخاه القانون الجديد هو حماية الأحداث الجانحين وتقويم سلوكهم قصد إعادة إدماجهم في المجتمع، علما أن هذه الحماية لم تقتصر على الطفل في نزاع مع القانون – أي الجانح هنا- بل شملت أيضا الطفل الضحية والطفل في وضعية صعبة، وقد اتخذت هذه الحماية دائما في إطار قانون المسطرة الجنائية شكل تدابير أو عقوبات متخذة في حق الحدث الجانح.
فعلى مستوى التدابير المتخذة لحماية الحدث وإن كان المشرع المغربي قد أقرها أملا في تحقيق الحماية اللازمة للحدث ما أمكن، إلا أنها تبدو غير كافية لتحقيق التطلع الحمائي للمشرع، ذلك أن مدة الإيداع مثلا بمراكز إعادة التربية لا تتجاوز أربعة أو ستة أشهر، مما يحول دون استفادة الحدث من التكوين المهني داخل هذه المراكز، علما أن مدة التكوين بها سنتان، الشيء الذي يؤثر على الهدف الرئيسي من الإحالة على المؤسسة ألا وهو إعادة التربية والتأهيل، كما أن إيداع الأحداث ذوي الإحتياجات الخاصة ( إعاقة ذهنية، أمراض نفسية،…) بمراكز حماية الطفولة الغير مهيأة لاستقبال هذه الفئة من الأطفال مما يضطرها إلى إدماجهم داخل جماعات من الأحداث تتصف بسلوكات عدوانية تحتاج إلى إصلاح وتقويم ينعكس سلبا على دور المؤسسات في تقديم خدمات تتلاءم واحتياجاتهم الخاصة.
لذلك كرس المشرع المغربي استثناءا واستكمالا لهذه التدابير عقوبات حبسية مراعاة للوضعية الخاصة للحدث، مع إدراج هذه العقوبات المخففة لمنح سلطة الإختيار بين العقوبة والتدبير للمحكمة وفقا للمادة 482 من ق.م.ج التي تنص على أنه :”يمكن لغرفة الأحداث بصفة استثنائية أن تعوض أو تكمل التدابير المنصوص عليها في المادة السابقة بعقوبة حبسية أو مالية بالنسبة للأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة، إذا ارتأت أن ذلك ضروري نظرا لظروف أو لشخصية الحدث الجانح، وبشرط أن تعلل مقررها بخصوص هذه النقطة، وفي هذه الحالة يخفض الحدان الأقصى والأدنى المنصوص عليهما في القانون إلى النصف…”، وفي ذلك قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ:20/2/69، حيث جاء فيه أن:”الحدث الذي يبلغ عمره 16 سنة لا يمكن أن يتخذ في شأنه – في قضايا الجنايات أو الجنح- إلا تدبير أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب المنصوص عليها في الفصل 516 وبصفة استثنائية يجوز لمحكمة الحكم نظرا للظروف ولشخصية المجرم الحدث أن تعوض في حق الأحداث الذين يتجاوز سنهم الثانية عشرة بموجب مقرر تعلل أسبابه خصيصا في هذه الحالة التدابير المقررة قانونا أو تتممها بغرامة أو عقوبة سجن وذلك إذا ما رأت ضرورة اتخاذ هذا الإجراء، ولهذا يتعرض للبطلان الحكم القاضي بالسجن على حدث لم يبلغ 16 سنة دون الإتيان بتعليل خاص لتوقيع تلك العقوبة بدل تدابير الحماية أو التهذيب”.
والظاهر أن تطبيق هذه المادة خلف مجموعة من المشاكل تناولتها المراسلات والتقارير الواردة على الإدارة المركزية من طرف مديري المراكز، والمتجلية في السلوكات السلبية لهؤلاء الأحداث(الإدمان على المخدرات،العنف الشديد،…) التي يصعب التخلص منها خلال مدة العقوبة السالبة للحرية، مع العلم أن فضاءات مؤسسات حماية الطفولة تختلف اختلافا كبيرا عن المؤسسات السجنية، الأمر الذي يجعل هؤلاء الأحداث لا يستقرون بها، مما ينعكس سلبا على استقرار باقي النزلاء، وبالتالي على المشروع التربوي للمؤسسات، فهذه الأخيرة غير مؤهلة على مستوى الإمكانيات المادية والبشرية(مصحات مجهزة، أخصائيون، أطباء ونفسانيون،…) لعلاج حالات الإدمان على المخدرات.
لذلك يجب أن يبقى اعتماد العقوبة السالبة للحرية في حق الحدث في نزاع مع القانون آخر قرار يتم اللجوء إليه طبقا للمادة 107 من قواعد بكين التي نصت على أنه:” لا يفرض الحرمان من الحرية الشخصية إلا إذا أدين الحدث بارتكاب فعل خطير يتضمن استخدام العنف ضد شخص آخر أو بالعودة إلى ارتكاب أعمال إجرامية خطيرة أخرى، وما لم يكن هناك أي إجراء مناسب آخر”.
وهو ذات الإتجاه الذي أخذ به المشرع المغربي كما قلنا، بحيث اعتبر اللجوء لإعمال العقوبة السالبة للحرية إجراءا استثنائيا، وحتى في حالة إيداع الحدث بالمؤسسة السجنية فينبغي فصله عن سجن الرشداء تماشيا مع الحماية التشريعية المنشودة لهذا الحدث، وهو المعطى الذي دعت إليه الفقرة 3 من المادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل التي جاء فيها:”…يفصل كل طفل محروم من حريته عن البالغين ما لم يعتبر أن مصلحة الطفل الفضلى تقتضي خلاف ذلك، ويكون له الحق في البقاء على اتصال مع أسرته عن طريق المراسلات والزيارات إلا في الظروف الإستثنائية”.
وعلى المستوى التشريعي دائما، يثير انتباهنا إشكال تطرحه المادة 480 من ق.م.ج.م بخصوص متابعة الحدث البالغ أو دون سن 12 سنة بحيث أنه ووفقا للفقرة السادسة من الفصل المشار إليه والتي تنص على أنه:”إذا كان الحدث يتجاوز عمره 12 سنة يمكن أن يطبق في حقه إما تدبير أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب المنصوص عليها في المادة 481 بعده أو إحدى العقوبات المقررة في المادة 482 أو تكمل هذه العقوبات بواحد أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب”، فالحدث دون سن 12 سنة استثناه المشرع من تدابير الحماية أو التهذيب والتي اقتصرت على الحدث الذي تجاوز السن المذكور.
في حين أنه وبالرجوع لنفس المادة 480 من ق.م.ج.م على مستوى الفقرة الرابعة منها يظهر أن المشرع شرع متابعة ومحاكمة الحدث البالغ سن 12 سنة بإدراجه ضمن هذه المقتضيات، بحيث نص في هذه الفقرة على أنه:”إذا كان عمر الحدث يقل عن 12 سنة فإن المحكمة تنبهه وتسلمه بعد ذلك لأبويه أو الوصي عليه أو المقدم عليه أو حاضنه أو كافله أو المكلف برعايته”، وذات الأمر يمكن ملاحظته طبقا للفصل 138 من ق.ج.م والذي يجيز وفقا للفقرة الثانية منه محاكمة الحدث البالغ سن 12 سنة طبقا للمقتضيات المنصوص عليها في الكتاب الثالث من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية بعدما نص في الفقرة الأولى من نفس الفصل على انتفاء المسؤولية الجنائية عنه.
وهو ما يوضح نوعا من التناقض على مستوى متابعة الحدث البالغ 12 سنة من عدمها، إذ يظهر ذلك على المستوى العملي، حيث كثيرا ما تتلقى مؤسسات حماية الطفولة نسبة كبيرة من الأحداث الذين لا يتعدى سنهم عشر سنوات، الشيء الذي يخلق بعض العراقيل لدى هذه المؤسسات بسبب صعوبة اندماج هؤلاء الأحداث داخلها.
واستجلاء لأبرز الإشكالات والتساؤلات المثارة على مستوى المقاربة التشريعية لحماية الحدث الجانح، نتساءل في الآتي عما إذا كان القانون المنظم للمؤسسات السجنية يطرح إشكالات شأن قانون المسطرة الجنائية؟
ثانيا: الإشكالات المثارة على مستوى القانون المنظم للمؤسسات السجنية
تواجه المؤسسة السجنية العديد من العقبات المادية تحول دون تحقيق العقوبة السالبة للحرية لهدف التأهيل وإعادة الإدماج بالشكل المنتظر.
وعموما، فبالإطلاع على القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية واستقراءا للمادة 12 منه فقد حدد نطاق الفئات المستفيدة من مراكز الإصلاح والتهذيب في الأحداث والأشخاص المدانين الذين لا تتعدى أعمارهم عشرين سنة قصد إعادة إدماجهم في الوسط الإجتماعي، بما يستفاد منه أن المعتقلين احتياطيا يتم إيداعهم في سجون الرشداء في انتظار صدور الأحكام النهائية في حقهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المدة التي سيقضونها والحالة هاته قد تطول نظرا للإجراءات القضائية المتبعة في مثل هاته الأحوال، بما قد يؤثر على هؤلاء الأحداث حالة وضعهم رفقة محكوم عليهم وذوي سوابق إجرامية، إلى جانب باقي الآثار السلبية التي من شأن الإعتقال الإحتياطي ترتيبها فيما يخص التأثير في ظاهرة اكتظاظ السجون، وبالتالي عدم تحقق غاية المشرع المغربي من توفير الحماية الجنائية والضمانات اللازمة لرعاية الحدث.
وكلها إشكالات تعزز طرح البحث عن بدائل لاعتقال الحدث على المستوى التشريعي، والذي ينعكس أيضا على المستوى الواقعي كما سنرى في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: المعيقات المؤسسية لحماية الحدث الجانح وأبعادها الإجتماعية الأسرية
مما لاشك فيه أن جملة الإكراهات التي تعترض تقويم السلوك المنحرف للحدث سواء على المستوى التشريعي أو المؤسسي لها من الآثار الوخيمة ما يحول دون تجديد الأمن الأسري للفرد الجانح وهو ما يجعل في رأينا وبالنتيجة- المفسَّرة بناء على ما سبق- طرح العدالة التصالحية في الحالات الممكنة قائما وقابلا للإختيار سيما في الحالات التي يثبت استعداد الأسرة سواء النفسي أو المادي لاحتضان الحدث الجانح (داخلها أو خارجها) ومتابعته النفسية بعد إجراء الصلح معه في الجنح المرتكبة من قبله، طبعا تحت رقابة المحكمة لتتبع مسار تقويم سلوكه، فمتى ما لوحظ تراجع في ذلك أو عدم نجاح الأسرة في إعادة تقويمه أمكن حينها كمرحلة ثانية تلي التسليم للأسرة التدخل القضائي لإيداعه بمراكز لإعادة الإدماج.
ونسوق هنا بعض مظاهر الصعوبات المطروحة على هذا المستوى على الصعيد المؤسسي (أولا) لتبين أهم الأبعاد الأسرية والإجتماعية لهذه الصعوبات(ثانيا).
أولا: على مستوى المعيقات المؤسسية
تنقسم هذه المعيقات بين تلك التي تطرح على مستوى أداء مراكز الإصلاح والتهذيب(1) وأخرى تظهر على مستوى دور مراكز حماية الطفولة(2).
-
معيقات تأهيلية على مستوى مراكز الإصلاح والتهذيب
خولت المواد 481 و486 و 489 و 492 و 493 من قانون المسطرة الجنائية للمستشار المكلف بالأحداث والهيئات التي تبت في قضايا الأحداث اتخاذ تدبير من تدابير الحماية والتهذيب الواردة في المادة 481، فحين تنتهي مسطرة محاكمة الحدث الجانح بمقرر يقضي بإدانته تبدأ مرحلة جديدة وهي مابعد محاكمة الحدث الجانح والمتمثلة في إيداعه بمراكز الإصلاح والتهذيب.
فالمؤسسة السجنية لم تستطع القيام بفعالية بمهمتها الأساسية التي وجدت من أجلها ألا وهي العمل على الحد والوقاية من الجريمة وتحقيق الإندماج الاجتماعي للأحداث المنحرفين في المجتمع، فبرزت أفكار جديدة أكثر واقعية
من تلك الأفكار المتفائلة السائدة في بداية الخمسينات والستينات والتي كانت ترى في النظام الجديد للمؤسسات السجنية آنذاك الحل الأمثل والذي كان يهدف أساسا إلى الإصلاح والتدريب على الوقاية والحد من الجريمة وإدماج الأفراد الخارجين من المؤسسات الإصلاحية في المجتمع؛ لقد أصبحت النظرة الحالية للسجون تنطلق من قناعة أساسية مفادها أن السجون لم تعد ذات فاعلية في تقويم المنحرفين، بل إن البعض أصبح يعتبر السجون أماكن لتفريخ السلوك الخارج عن القانون بدلا من أن تكون مؤسسات اجتماعية لإعادة التأهيل، وهناك نظريات أكثر سوداوية للسجون ترى أنها نوع من الشر لأنها أصبحت أماكن لتعليم الشر لكل من يدخلها، إذ يلتقي الحدث مع مجرمين سابقين يلقنونه دروسا جديدة في الإجرام ويعلمونه أحدث أساليب ووسائل الجريمة، ومن تم يخرج من السجن وهو يفكر في ارتكاب الجريمة الثانية مع ترسب الكراهية والعداوة للمجتمع، الأمر الذي يفسر عدم نفعية العقوبة الحبسية في ظل الظروف المذكورة.
وتعتبر ظاهرة الإكتظاظ بسبب عامل ضعف البنية التحتية أولى الإشكالات التي تقف عقبة أمام فلسفة إعادة الإدماج في مراكز الإصلاح والتهذيب، حيث يتوفر المغرب على 76 مؤسسة سجنية، حل بها بتاريخ 31 دجنبر 2018: 83757 معتقلا حسب آخر إحصائيات المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج، وقد سجل خلال نفس السنة 112580 وافدا جديدا، إلى جانب كون عدد الأسرة المسجل بذات النشرة الإحصائية محددا في 1667 سريرا فيما يخص البنيات التحتية خلال ذات المدة حسب الجدول التالي:
فالعوامل المذكورة مما يجعل أزمة اكتظاظ السجون تطفو على السطح فيما يخص مقاربة التأهيل وإعادة الإدماج وضرورة النهوض بظروفها لتحقيق النتائج التي وضعت من أجلها مجموعة من البرامج منها:
- التعليم ومحو الأمية
- التكوين المهني
- التكوين الحرفي والفني وتشغيل السجناء
- التعريف بمنتجات وإبداعات السجناء وتثمينها
- برامج الأنشطة والمسابقات الوطنية
- الجيل الجديد للبرامج التأهيلية
- الدعم الروحي والتربوي
-
التواصل مع العالم الخارجي
ولا يسعنا إلا تثمين هاته المجهودات التي تقوم بها المؤسسات السجنية في أفق التأهيل وإعادة الإدماج، وإن كان بلوغ نتائج فعالة يستدعي بذل مزيد من الجهود لتجاوز التحديات التي تطرحها إشكالية الإكتظاظ كما أسلفنا.
ويرى بعض الباحثين أن السجن كعقوبة لم يؤت ثماره، وأنه مهما قدم من برامج وأنشطة فإن تأثيره على النزلاء يبقى محدودا وغير مجد في إصلاحهم وإعادتهم أسوياء للمجتمع، لأن وظيفة السجن لا تعدو أن تكون وسيلة للترهيب، في حين تراهن طائفة أخرى على مواكبة المؤسسات السجنية لصيرورة التطور الذي تشهده المجتمعات، وأن اعتماد الأساليب التقويمية الممنهجة سوسيولوجيا، تربويا، ثقافيا، تكوينيا وحقوقيا يمكن أن يؤتي أكله بالتدرج في مجال تصحيح الإعوجاجات والإختلافات وتغيير المفاهيم البالية، إذ تكتسي مسألة النهوض بواقع المؤسسات السجنية مظهرا من مظاهر الألفية الثالثة التي يجب كسبها.
فمراكز الإصلاح والتهذيب تعاني من إكراهات جمة تحول دون أدائها للدور الذي أحدثت من أجله، فلئن كان يحسب للمشرع المغربي تبنيه للمقاربة التأهيلية الإصلاحية حماية للحدث وسعيا لبلوغ العدالة الجنائية للأحداث إلا أن الواقع يثبت وجود مجموعة من المعيقات الحائلة دون النجاح المنتظر من دور هذه المؤسسات، بدءا بضعف الإمكانات المادية والبشرية سواء على مستوى ضعف الميزانية المرصودة لها، أو على مستوى ظاهرة الإكتظاظ التي تشهدها جل مراكز الإصلاح والتهذيب والتي تم إحداثها منذ 1999 سنة لمعالجة جنوح الحدث، بحيث أن تواجد مثلا 631 نزيلا بمؤسسة سلا يعتبر من أهم العوائق التي تعترض العاملين بها والمستفيدين على حد سواء، باعتبار أنها كانت جناحا للتكوين المهني تابعا للسجن المحلي لمدينة سلا، وتم تحويل بنايتها واستغلالها كمركز للإصلاح والتهذيب، فأجنحتها غير صالحة لإيواء النزلاء، وخلال زيارتها توحي للزائر بأنه سجن وليس مركزا للإصلاح والتهذيب، فكل غرفة تأوي ما يقارب 20 إلى 34 حدث في ظروف لا تسمح بالتهوية والحركة داخلها، مما يؤثر سلبا على نفسية الأحداث، وتصل مساحة التحرك بمعدل متر لكل حدث، مما يؤدي إلى تسجيل حالات أمراض العيون والأمراض الجلدية.
إلى هنا نكون قد حاولنا الوقوف على بعض الإكراهات سواء المادية أو البشرية أو اللوجستيكية التي تعرقل مهمة مراكز الإصلاح والتهذيب في الإصلاح والتهذيب الفعالين للحدث الجانح، ليثار التساؤل عن طبيعة الإكراهات التي تحول دون قيام مراكز حماية الطفولة هي الأخرى بالدور المناط بها؟
-
على مستوى مراكز حماية الطفولة
أسند المشرع المغربي طبقا للفصلين 471 و 481 من ق.م.ج لمجموعة من المؤسسات منها مراكز حماية الطفولة مهام رعاية الأحداث المحالين عليها في إطار التدابير القضائية الخاصة بالأحداث المتراوحة أعمارهم بين 12 و 18 سنة المرتكبين لجنايات أو جنح معاقب عليها ضمن قانون المسطرة الجنائية، وتتبع هذه المراكز لوزارة الشباب والرياضة والتي أوكلها المشرع مهمة الإشراف على رعاية الأحداث المحالين عليها لوقايتهم من الإنحراف وإعادة إدماجهم في المجتمع.
بيد أن هذه المؤسسات تعترضها عراقيل تحول دون إتمامها للمهمة المناطة بها على أكمل وجه، سواء منها ما يهم الشق المادي أو العلاجي للأحداث، فعلى المستوى المادي تتجلى هاته الصعوبات في ضعف تجهيزات الإيواء أو ماقد يمس بجانبي التغذية أو التطبيب، فمتى ما طرحت مثل هذه الإشكالات عدّت تهديدا للأمن سواء النفسي أو العلاجي للحدث، هذا الأخير الذي نذكر من ملامح الإشكالات المطروحة على مستواه ما تثيره المادة 482 ق.م.ج في فقرتها الثانية في تضارب مع مفترضات العدالة التأهيلية العلاجية للأحداث بحيث تنص على أنه:” إذا حكمت المحكمة بعقوبة حبسية إضافة إلى تدابير الحماية المنصوص عليها في المادة 481 أعلاه، فإن العقوبة السالبة للحرية تنفذ بالأسبقية، وفي جميع الأحوال فإن عقوبة الحبس لا يمكن أن تقطع علاج الحدث أو تحول دونه”، بحيث تعطى الأسبقية للعقوبة السالبة للحرية في التنفيذ قبل التدابير الحمائية.
ليطرح التساؤل عن جدوى العقوبة السالبة للحرية إن كانت لن تفيد الحدث بقدر ما قد تزيد في سلوكه العدواني خاصة تجاه الأحداث الأقل خطورة منه والذين يختلطون وإياه في ذات المركز؟
إذ لابد من إفراد كل فئة بتدابير خاصة ومراكز خاصة، فلا يعقل أن مراكز حماية الطفولة والتي تضم غالبا أحداثا في وضعية صعبة وأحداثا كانوا في أوضاع التسول والتشرد مع أحداث أكبر سنا منهم وأكثر خطورة، فالوضع والحالة هاته غير صحي لكلا الفئتين.
وما يزيد الأمر صعوبة هو وجود أزمة علاقة بين المؤسسات الإصلاحية والهيئات القضائية وعدم توافر تنسيق بين هذه الهيئات القضائية الشيء الذي يحول دون تمكين القضاء التنفيذي من أداء مهامه.
لذلك نرى أنه وتحقيقا للنجاعة المؤسساتية في حماية الحدث الجانح لابد من:
- ضروة تكوين الأطر العاملة بهذه المراكز للتمكن من أساليب التعاطي مع هذه الفئة من الأحداث.
-
فصل الأحداث المحالين بسبب تهم التشرد والتسول عن باقي الأحداث
وفي حال وجود أسرة تزداد أهمية تفعيل آليات العدالة التصالحية على هذا المستوى بالدرجة الأولى لدى هذه الفئة من الأحداث، وبحث الأسباب الكامنة وراء تشردهم ولجوئهم للتسول، فإن كان الدافع لذلك سببه الأسرة أصلا وجب حينها البحث عن بدائل عن الأسرة إن كانت هي مصدر الأذى أو هي التي تجبره على التسول، وإن كانت الأوضاع المادية للأسرة هي الدافع لذلك فلابد حينها من العمل على تقديم الدعم الكامل لها سواء ماديا أو معنويا لإعادة استقرارها وطمأنينتها داخل المجتمع بما يكفل للطفل كل الشروط المعيشية التي تقف حاجزا أمام لجوئه لمزاولة التسول مجددا.
-
ضرورة فرز الأحداث وتوزيعهم تفاديا للاعتداءات التي يكونون محط التعرض لها فيما بينهم، كالتنمر المحتمل من الأحداث الأشرس سلوكا منهم، فكل فئة تحتاج لعناية ومتابعة خاصة بها لتقويم سلوكها الذي تختلف درجة انحرافه ومرتبته من حدث لآخر.
كان هذا فيما يخص بعض الإكراهات المطروحة على مستوى دور المؤسسات المكلفة بحماية الأحداث سواء على مستوى مراكز الإصلاح والتهذيب، أو فيما يخص مراكز حماية الطفولة، والتي تشكل دواعيا للبحث عن بديل أنسب خاصة باستحضار الآثار الإجتماعية والأسرية التي قد تخلفها المقاربة العقابية للحدث في ظل الآثار المذكورة.
ثانيا: الأبعاد الأسرية والإجتماعية لقصور جهود إعادة التأهيل
لاشك أن ظاهرة الجنوح عموما والطفولة الجانحة خصوصا تطرح مجموعة من التساؤلات داخل أي مجتمع سواء حول الأسباب أو مرورا بالمظاهر ثم الآثار المترتبة عنها إن على المستوى النفسي أو التربوي أو الإجتماعي، وتزداد أهمية هذه الإشكالية من حيث الدراسة وتسليط الضوء في ظل غياب أبحاث علمية مفصلة ومعمقة متناولة للموضوع في بعده الإجتماعي بشكل خاص، ومن هذا المنطلق وارتباطا ببحثنا لدواعي إيجاد عدالة جنائية بديلة للعدالة العقابية للطفولة الجانحة ارتباطا بالمنظومة الأسرية مسببة كانت لهذا الجنوح أم محتوية له، وطبعا في نطاق الجرائم القابلة والمتلائمة أكثر مع تنزيل عدالة أكثر تصالحا بين الحدث من جهة وأسرته والمجتمع من جهة ثانية جانحا كان أم ضحية كمقاربة استباقية وقائية من ظواهر عدة (العود، الجنوح لارتكاب جرائم أخطر،…) وعلاجية لإعادة إدماج الطفل في خلاف مع القانون وكذا الطفل في وضعية صعبة والطفل ضحية اعتداء أسري خاصة، نبحث عن العوامل المساهمة بشكل قوي في جنوح الطفل واستعداده للجنوح الخطير لينتقل من جانح ابتدائي إلى جانح بدرجة أخطر والتي من أبرزها الوصم الاجتماعي الذي يلاحقه بما له من تبعات ومخلفات نفسية بليغة على سلوك الحدث، بل قد يقضي حتى على حظوظه بإعادة الإدماج داخل بيئته ومجتمعه دون أدنى مراعاة لتوبته وعودته عن السلوك المنحرف، وهو ما سنتعرض له في شق أول(1) قبل الخوض في جدل مؤسسة السجل العدلي بما لها من آثار تسائل نجاح الرعاية التأهيلية اللاحقة لجنوح الحدث(2).
-
الوصم الإجتماعي حاجز أمام تأهيل الحدث
لاشك أن الشخص المنحرف يعاني في جل المجتمعات من ظاهرة الوصم التي تلاحقه خاصة الإجتماعي، عبر ترسخ نظرة الحذر والحيطة من باقي الأفراد تجاه المدان بعقوبة سجنية، غير آبهين للتوبة المحتملة لهذا الشخص بعد قضائه المدة المحكوم بها أو استعداده النفسي للتوبة وندمه وتراجعه عما اقترفه سابقا، وهو ما من شأنه الحؤول دون أي مقاربة تأهيلية للجانح دون استحضار هذا المعطى، والأمر يزداد حساسية وتعقيدا حين يكون المقصود حدثا جانحا، فيصبح أكثر تأثرا من غيره من الرشداء من رؤية المجتمع له وتعامل محيطه معه، فهو الذي يكون قد قضى عقوبته بمؤسسة للإصلاح والتهذيب أو ربما مركز لحماية الطفولة على أمل إعادة إدماجه بالمجتمع – بغض النظر عن مستوى الصعوبات بهذه المراكز كما أسلفنا- يصطدم بحقيقة رفضه الإجتماعي وربما احتقاره من الغير، الأمر الذي قد يدفعه ولاشك للعودة لطريق الجنوح الذي ربما فكر في العدول عنه سابقا، ففي هاته الحالة لا يمكن إلا أن نقر بالدور الكبير الذي من شأن المجتمع أن يؤديه إما في إصلاح ومساعدة الحدث على العودة لحياة طبيعية سليمة أو في الرفع من فرص وحظوظ إسقاطه في براثين الجنوح سواء الإرادي أو اللاإرادي، ليحق حينذاك القول بكون الحدث الجانح سابقا ضحية للمجتمع في حالة عودته للجريمة، فأكيد أن المجتمع ساهم بشكل كبير في ذلك، فبدل احتوائه ومساعدته على استرجاع الثقة بالنفس وبالمجتمع والأمل في بناء مستقبل مزدهر تجاوزا للخطأ السابق من شأن المجتمع تحطيم أي أمل بإعادة إدماجه وبالتالي القضاء على مستقبله وإنتاج جانح تترسخ لديه – بعد رفضه الإجتماعي- فكرة أنه كان على صواب في جنوحه أول مرة، ليستمر بالتالي ويسعى للإنتقام داخل المجتمع كرد فعل على الرفض وعدم الإنصات والإقصاء الذي يتلقاه بدل تصحيح الأخطاء والتقويم.
فالوصم يرتبط بصفة أو ميزة أو هوية تعتبر دونية أو غير عادية، حيث يقوم على تركيبة اجتماعية تستند إلى كياني “نحن” و “هم” وترمي إلى تثبيت الحالة الطبيعية للأكثرية من خلال تحقير الآخر.
وقد حرصت الشريعة الإسلامية كل الحرص على استنكار والنهي عن أي فعل من شأنه إيذاء الغير والإنقاص منه والإستهزاء به أو ذمه لقوله سبحانه وتعالى:﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ وقوله عزوجل:﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾.
وعقاب السخرية أيضا أورده القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم﴾.
لتكون الشريعة الإسلامية إذن أول مؤسس وأول مدافع عن حماية كرامة الفرد وصون حقوقه داخل المجتمع في أبلغ تجل للعدالة الإنسانية تجاه حتى الشخص المنحرف، بجعل باب التوبة مفتوحا لعودته عن فعله المشين والإستعداد المتطلب للمجتمع لاحتوائه خاصة ونحن نتحدث عن الطفل الجانح، فالشريعة الإسلامية نهجت المقاربة الإستباقية ضد الجنوح والعود بالنهي عن الوصم في أبهى صور احترام حقوق الفرد كإنسان، لتكون بذلك قد سبقت مختلف النظريات الوضعية المتطرقة لظاهرتي الجنوح والوصم الإجتماعي.
تأسيسا على ما سبق، نرى أنه وفي ظل الآثار السلبية للمقاربة السجنية التأهيلية الحالية، تبرز حظوظ نجاح المقاربة التصالحية المستحضرة لثلاثي الضحية والجاني والمجتمع والحالة هاته، فإن كانت الجريمة من منظور علم الإجتماع وليدة خلل في المجتمع، فلابد أن يكون لهذا الأخير الدور الفاعل في التصدي لها ومكافحتها، لأن المقاربة العقابية التشريعية وحدها غير كافية لكسب رهان الإصلاح والتقويم، وهو ما أثبته الواقع، لذلك نجد التجارب المقارنة سواء على المستوى التشريعي أو الواقعي بدأت تهتم حديثا بطرح العدالة البديلة بعد أن عجزت الأنظمة الجنائية عن مواجهة الظاهرة في ظل ما بات يعرف ب”أزمة العدالة الجنائية”.
إن كانت هذه أبرز آثار ظاهرة الوصم الإجتماعي على الحدث الجانح فللإحاطة العلمية أكثر ودائما في خضم الأبعاد الإجتماعية الملاحظة للحدث – الذي يفترض فيه أنه تائب ونادم- تطفو على السطح إشكالية أخرى تلاحق هذا الحدث الذي بعدما كان جانحا يصبح ضحية للمجتمع الذي يعرضه للحرمان من حقه في إعادة بناء حياة آمنة تتمثل في إشكالية السجل العدلي، لنتعرف في الآتي أبعادها هي الأخرى القانونية الإجتماعية على ذات الحدث محط الدراسة.
-
السجل العدلي للحدث الجانح وإشكالية إعادة الإدماج
يطرح السجل العدلي إشكالية إعادة تأهيل وإدماج الشخص المحكوم عليه وخاصة حين يكون حدثا، فصحيح أن مختلف التشريعات أحدثت هذه المنظومة خدمة للمؤسسة القضائية بحيث يتم فرز ذوي السوابق الجنائية عن غيرهم، إلا أن آلية السجل العدلي تتهم بعرقلتها للجهود الرامية لإعادة الإدماج الإجتماعي للمحكوم عليهم.
فهناك من يعتبر أن السجل العدلي يساهم في عملية تهميش المحكوم عليه ليتحول بذلك إلى أداة فعالة لمطاردته والتربص به، الشيء الذي يجعله أداة لعرقلة جهود ومساعي إعادة التأهيل عن طريق إفشاء السوابق الجنائية، ويعتبر الوصم الذي يتعرض له الشخص من أبرز مظاهر التهميش، بحيث يتحقق عندما يرتكب الشخص جريمة ما فيتخذ موقف ضده من طرف مكونات المجتمع كالوسط العائلي أو الوسط المهني أو الشرطة أو السلطة القضائية، كل حسب آلية محددة بدءا بالأحكام التي تصدر في حقهم ومرورا بالمؤسسة العقابية التي تتخذ نظاما للحراسة غاية في الشدة، وكذلك الوسط المهني عن طريق سلوك الحيطة والحذر، إلى جانب الوصم الذي تخلفه نظرة المجتمع تجاهه.
فاتجاه يرى السجل مجرد وثيقة إدارية تم ابتكارها من أجل ضمان حماية المجتمع والدفاع عن مصالحه في مواجهة طبقة المجرمين من خلال تعرف السطات القضائية على فئة المحكوم عليهم ذوي السوابق القضائية، وذلك لتتمكن من التطبيق المحكم لقواعد العود وتشديد العقوبات، بينما يرى اتجاه آخر أن السجل العدلي عقوبة إضافية، ذلك أن العقوبة التي تصدر بمقتضى حكم قضائي تؤثر سلبا على حياة الحدث الجانح، فتصيبه في حياته عن طريق تجريده من حريته.
أما تسجيل الأحكام الصادرة بالإدانة في بطائق السجل العدلي فإن أثرها يكون عميقا إذ يتجاوز مرحلة تنفيذ العقوبة، فيستحيل على المحكوم عليه التخلص منها ما دامت ستطارده في سمعته ومستقبله وستحرمه من ممارسة العديد من الحقوق الأساسية، فالسجل العدلي وفق هذا المنظور يكون أكثر خطورة من حالة الحرمان من الحرية، خاصة وأن حدة آثار السجل العدلي تتسع عند التمييز بين فئة الأشخاص النزهاء وفئة الأشخاص من الدرجة الدنيا الموصومين بسوابقهم الجنائية كيفما كانت طبيعة الجريمة المرتكبة، وقد ذهبت العديد من التشريعات المقارنة إلى منع التمييز بين أفراد المجتمع على أساس السوابق الجنائية خاصة فيما يتعلق بالإستفادة من الحق في العمل الذي يعد حسب اعتقادنا الثمرة الأساسية لإعادة التأهيل، وقد سارت كندا على هذا الإتجاه، حيث منع الفصل الثامن من القانون المنظم للسجل العدلي على الإدارات التابعة للدولة ومن في حكمها طلب نسخة للأفراد الذين يتقدمون بطلبات للحصول على عمل، حيث تتم هذه العملية دون اللجوء إلى بطاقات السجل العدلي، بالإضافة إلى ذلك يمنع المشرع الكندي تضمين ملفات التوظيف أية خانة تخصص للإشارة إلى السوابق الجنائية للفرد؛ والغريب في الأمر هو أن المجتمع يكون غير واع بعملية الوصم التي يلحقها بالمحكوم عليه حيث أن هذه العملية تتم بطريقة تلقائية لا سبيل له لأن يتحكم فيها، وهذا ما قد يفسر عدم قدرة المجتمعات على معرفة ما يجب اتباعه في مجال العقاب أو تبريره، وبالتالي فإن مصلحة المحكوم عليه وأحاسيسه ومشاعره لا تؤخذ بعين الإعتبار من طرف مكونات المجتمع.
ومما لاشك فيه، أن الوصم بمظاهره المختلفة التي تلاحق الجانح الحدث خصوصا من شأنها حرمانه من أحد الحقوق الإنسانية الهامة والمتمثلة في الحق في النسيان le droit à l’oublie ، فعملية الوصم التي تلاحق المحكوم عليه تحول دون إعادة الإدماج التي تسعى السياسة الجنائية لبلورتها، ذلك أن أهمية السجل العدلي تتضح أكثر في حالة الإجرام الخطير للرشداء بل لابد منه حماية للأمن المجتمعي، إلا أن الوضع يختلف حين يتعلق الأمر بجنوح الحدث الذي نرى حظوظه مرتفعة لإعادة الإدماج والتأهيل بدل معاناته من الوصم القضائي والإجتماعي الذي يلاحقه، والذي يتنافى في كلتا الحالتين سواء بالنسبة للرشداء أو الأحداث ومبادئ الأنسنة الجنائية.
خاتمة:
وبناء عليه، يبدو أن المقاربة العقابية التأهيلية للحدث عموما والجانح خصوصا لم تحقق النتائج المنتظرة، كما لم تكن بقدر طموحات وتطلعات المشرع المغربي الذي سعى إلى رسم سياسة جنائية تربوية إصلاحية حماية للحدث وتقويما لسلوكه، الأمر الذي يشكل أرضية تمهيدية لتطوير العدالة الجنائية للأحداث في اتجاه التركيز على العدالة البديلة للأحداث وتقويتها بإشراك الأسرة -الحاضن الأول والطبيعي للحدث، ليثار التساؤل عن مدى نجاعة هاته العدالة التي أسس لها المشرع المغربي ضمن السياسة الجنائية للأحداث، وإلى أي حد يمكن الرهان عليها ضمانا للمصلحة الفضلى للحدث -والذي يمكن القول بأنه يبقى ضحية في كل الأحوال لمجموعة من المحددات الفاعلة في ذلك وفي مقدمتها الدور المفصلي لوضع المنظومة الأسرية- جانحا كان أم في وضعية صعبة؟
المراجع والمصادر
-
باللغة العربية:
القرآن الكريم
-
المؤلفات والمقالات والتقارير:
– أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، ط:5، 1979، ج:2.
– القاموس المحيط، ج:2.
– القانون المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية وكذا المرسوم التطبيقي المتعلق به مجموعة من الضمانات التي تخص حماية الأحداث الذين يوضعون بمراكز الإصلاح التهذيبية، وفقا للظهير رقم 1.99.200 الصادر بتاريخ 25 غشت 1999 بشأن تنفيذ القانون رقم 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية، كما صدر بتاريخ 3 نونبر 2000 المرسوم التطبيقي رقم 2.000.485 المتعلق به.
– قواعد الأمم المتحدة الدنيا النموذجية لإدارة شؤون قضاء الأحداث (قواعد بكين).
– التهامي بنعزوز، السجون المغربية وتحديات الألفية الثالثة، جريدة الصحراء المغربية،ع:4064، 6 مارس،2000.
– السيد رمضان، الجريمة والإنحراف من المنظور الاجتماعي، الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 1985.
– الفاضل بلقاسم، السياسة الجنائية العقابية، الواقع والقانون، الأعمال التحضيرية للمناظرة الوطنية بعنوان: السياسة الجنائية بالمغرب: واقع وآفاق، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية ، سلسلة الندوات والأيام الدراسية ، ط:2،ع:3 المجلد الأول، 2004.
– المؤتمر العاشر للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين على استحداث آليات عمل دولية لدعم ضحايا الجريمة تتمثل في الوساطة التصالحية، كما تبنته العديد من التشريعات المقارنة.
– بنباصر يوسف، أزمة السياسة الجنائية (ظاهرة الجنوح البسيط نموذج) رصد ميداني لتمظهرات الأزمة والحلول المقترحة لمعالجتها، سلسلة بنباصر للدراسات القانونية والأبحاث القضائية، الدليل العملي والقضائي في مسطرة الإكراه البدني.
– تقرير الأنشطة لسنة 2018 الصادر عن المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج.
– جعفر علوي، دروس في علم الإجرام، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، فاس،2009.
– سميرة خزرون، الصلح الأسري بين واقع النص القانوني وسؤال الفعالية، مقال منشور بجريدة الأخبار المغربية، الملحق القانوني، ع: 1626 الصادر يوم الجمعة 2 مارس 2018.
– سميرة خزرون، العدالة التصالحية في جرائم الأسرة، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، مختبر القانون والفلسفة والمجتمع، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية –جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، المغرب، السنة الجامعية 2021-2022.
– سميرة خزرون، أي دور طلائعي للأسرة في التصدي للظاهرة، مجلة صدى التضامن، عدد خاص بأشغال الندوة الدولية التي نظمها: التضامن الجامعي المغربي بشراكة مع كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، جامعة محمد الأول بوجدة وبتعاون مع النقابة الوطنية للتعليم العالي وجمعية الشباب الباحث في موضوع:” الأمن التعليمي: الإكراهات والرهانات”، يومي 11 و 12 ماي 2018 بقاعة الندوات بكلية الحقوق وجدة.
– عبد الرحمن محمد العيسوي، علاج المجرمين، منشورات الحلبي الحقوقية، ط:1، 2005.
– عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، سلسلة الثقافة العامة، دار الكاتب العربي، بيروت ج:1.
– عبد الله بن عبد العزيز اليوسف، التدابير المجتمعية كبدائل للعقوبات السالبة للحرية، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض،2003.
– عبد الله بونيت، قضاء الأحداث على ضوء مستجدات قانون المسطرة الجنائية الجديد: أي دور في الإصلاح والتأهيل؟ منشور على الموقع الإلكتروني لهيئة المحامين بالرباط:www.barreaurabat.ma
– عبد الله درميش، مختلف بدائل العقوبات السالبة للحرية، مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، مطبعة مؤسسة النخلة للكتاب، ع:86، يناير-فبراير، 2001.
– عبد المجيد مصطفى كاره، السجن كمؤسسة اجتماعية، السجن كمؤسسة اجتماعية: دراسة في ظاهرة العود، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1987.
– عدنان الدوري، أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي، دار السلاسل للطباعة، 1984.
– علي محمد جعفر، الأحداث المنحرفون :عوامل الانحراف، المسؤولية الجزائية، التدابير، دراسة مقارنة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت،1984.
– مجلس حقوق الإنسان، الوصم وأعمال حقوق الإنسان بما في ذلك حق التنمية، الدورة 2، البند 3، الجمعية العامة للأمم المتحدة، 2012.
– محمد الغياط، السياسة الجنائية وحماية حقوق الحدث الجانح في المغرب- دراسة قانونية تربوية اجتماعية، ط:1، 2006.
– محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، مكتبة لبنان، 1986.
– محيي الدين أمزازي، ، العقوبة، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، مطبعة الأمنية، الرباط، 1993.
– هشام محمد فريد رستم، الحماية الجنائية لسرية السوابق الجنائية، الآلات الحديثة، أسيوط، 1995.
-سميرة خزرون، الوساطة الأسرية بين دواعي تكريسها في المنظومة التشريعية المغربية والشروط العامة لتفعيلها، مجلة محاكمة،ع:16 أبريل- يونيو 2019.
-
القرارات:
– قرار ع:402 منشور بمجلة القضاء والقانون،ع:102.
-
القوانين:
– القانون الجنائي المغربي
– القانون 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية المغربية
– ظهير شريف رقم 1.03.194 صادر في 14 من رجب 1424 (11 سبتمبر 2003)
بتنفيذ القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل
– الظهير الشريف رقم:1.99.200 الصادر في 3 جمادى الأولى ( 25 غشت 1999) بتنفيذ القانون رقم: 23.98 المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات السجنية.
-
In English language :
– P.Mussen,J.Conger and J.Kagon, Child Development and Sixth ,ed : New York, Haper and Row Publication, 1984.
-William Joseph , An Investigation of the Social Experiences Valuse and Human Needs of Male Juvenile Délinquants , in Dissertation Abstracts International ,Vol.45 , N° :3 , September,1984.
-
En langue francaise:(loi)