الجريمة السيبرانية وتكاملية النص الوطني، الإقليمي و الدولي
- سيدي محمد الأمين الراظي
- طالب بمدرسة الدكتوراه، شعبة القانون الخاص، جامعة انواكشوط العصرية / موريتانيا
الجريمة السيبرانية وتكاملية النص الوطني، الإقليمي و الدولي
لم يخل ميدان من ميادين تطور البشرية لاسيما في المجال التقني مهما كانت المقاصد من وراء اكتشافه وتطويره خيِّرةً ومهما حمل من فوائد جمة، من إساءة الاستغلال والانحراف به عما وجد له.
و يتجلى ذلك اكثرَ ما يتجلى في مجال تقنيات الاتصال الحديثة التي حملت للبشرية من سرعة الاتصال والقدرة على تخزين المعلومات، و تسهيل أمور التجارة و البحث العلمي، و التسلية، و النفاذ من اقطار الحدود الوطنية الضيقة الى رحابة فضاء كوني لا يحده حد و لا يعترف بمسافة، و لم يعد التواصل فيه يتم بين الانسان و الانسان فقط كما هو الحال بالنسبة للاتصالات الهاتفية بل تجاوز ذلك ليصبح بين الانسان و الجهاز بل و حتى بين الجهاز و الجهاز، و مع ذلك فقد تم استغلال هذه التقنية في ما يضر بحسن أدائها لخدمتها و بالمصالح الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية و الأخلاقية للفرد و المجتمع و ذلك من خلال:
ـ الاعتداء المباشر على نظم شبكة المعلوماتية لإصابة حسن أدائها لوظائفها بالخلل
ـ استغلال الشبكة وسيلةً لارتكاب جرائم من قبيل النصب وسرقة البيانات البنكية والاعتداء على الملكية الفكرية وانتحال الهوية وغير ذلك.
ـ استغلال الفضاء الرقمي لنشر محتوى مجرمٍ كصور وأفلام الخلاعة التي يظهر فيها أطفال وكذا الأفكار العنصرية ومعاداة الأجانب ونحو ذلك. [1]
و قد حول مستغلو تقنية المعلومات لأغراض مجرَّمةٍ، نقاط قوة هذه التقنية، من توفيرها للوازم حماية هوية وبيانات الداخلين اليها و سرعة انتشارها و اتساع نطاقها، الى نقاطِ ضعفٍ تغريهم بإنتهاج هذا المسلك الاجرامي و الاستمرار فيه و ذلك لقلة المخاطر التي يتعرضون اليها بالقياس مع ما هو حاصلٌ في الجرائم العادية؛ فلا يكون هنالك تسلق يُخشى منه كسرٌ، و لا مداهمةٌ قد تعرض لإطلاق نار، و كذلك بساطة الجهد المطلوب في ارتكاب الجريمة و صعوبة اعتراض السلوك المجرَّم في غياب وجود حواجز جغرافية و لغموض و تعقد التقنيات المستخدمة في ارتكاب الجريمة و صعوبة التعرف على هويات مرتكبيها و سهولة إخفاء الطابع الجرمي لما يقوم به هؤلاء من عمل بالغ الخطورة على المصلحة المحمية التي يستهدفها، يضاف الى ذلك عدم وعي الضحية بأنها مستهدفة الى ان يتم الاعتداء عليها[2].
وبتطور تكنولوجيا الاتصال زاد تنوع وتعقد هذا النشاط الاجرامي وظهرت الحاجة الى إعطائه اسمًا ومضمونًا.
I ـ تعريف الجريمة السيبرانية :
يمكن الاصطلاح على تعريف الجريمة السيبرانية على انها هي تلك الجرائم الجنائية المرتكبة بواسطة شبكة المعلوماتية و المعلومات الالكترونية[3].
و هي بذلك تشمل طيفًا عريضًا من الجرائم ، منها الماسُ بالأموال؛ كالنصب و بيع و شراء البضائع المقلدة و الغش بواسطة وسائل الدفع و التجسس على الشركات و قرصنة أجهزة الحاسوب و مواقع الانترنت وسرقة البيانات الحساسة و المعلومات الشخصية كالبيانات البنكية و كذا التحميل غير المشروع و الدخول غير المرخص الى نظام معلوماتي ما، و منها الماسُ بالأفراد؛ كنشر الصور و الأفلام الإباحية لاسيما تلك التي يظهر فيها أطفالٌ، و التشجيع على الانتحار و التحريض على الكراهية العرقية و الارهاب و المساس بالحياة الخاصة و ما الى نحوه[4].
ومع ذلك فقد تباينت التعاريف المقدمة للجريمة السيبرانية تباين المقاربة المعتمدة في هذا المجال، ما بين:
أـ مقاربة لغوية دلالية تركز على العلاقة بين هذه الجرائم و فضاء المعلوماتية العابر للحدود المتسع لارتكاب الكثير من الجرائم.
ب ـ المقاربة الجنائية المهتمة بدراسة الظاهرة الاجرامية، و أساسُها أنَّ تقنيات المعلومات الحديثة تسهل وتوسع نطاق و تزيد من خطورة بعض الجرائم التقليدية السابقة على اكتشاف هذه التقنيات بالإضافة الى ظهور جرائم جديدة مرتبطة بظهور هذه التقنيات.
ج ـ المقاربة القانونية و مفادها أن الجرائم المرتكبة بواسطة تقنيات الاعلام و الاتصال تدخل في نطاق الاجرام المعلوماتي، و هي أساسا نوعان؛ جرائم تستهدف الشبكة أي هذه التقنية و جرائم تُرتكب بواسطتها[5].
و مما زاد من صعوبة تقديم تعريفٍ قارٍ للجريمة السيبرانية بالإضافة الى حداثتها، احجامُ اغلب التشريعات التي نظمت احكام هذه الجريمة عن إعطاء تعريف لها، فقلةٌ من هذه التشريعات هي التي أوردت عبارة (الجريمة السيبرانية) (la cybercriminalité) في عنوانها او بمناسبة تحديد مجال تطبيقها، إذ لجأت الغالبية منها الى عبارات من قبيل (جرائم المعلوماتية) ( (délits informatiquesو جرائم الاتصال الالكتروني (délits de communications électroniques) او جرائم تقنيات الاعلام (technologie de l’information) او الجرائم التي تستخدم في ارتكابها تقنيات متقدمة (criminalité utilisant les technologies avancées ) [6] على الرغم من اشتمال كل هذه النصوص على جرائم داخلة في مفهوم الجريمة السيبرانية من قبيل الولوج غير المرخص الى نظام معلوماتي ما، و ما الى نحو ذلك[7]، بل انه وحتى في الحال الذي تَستخدم فيه بعضُ التشريعات عبارة (الجريمة السيبرانية) عنوانًا لها او لمجال تطبيقها فإنها تكتفي بصياغة من قبيل : (يتعلق هذا القانون بالجنايات و الجنح المرتبطة باستخدام تفنيات الاعلام و الاتصال)[8]، كما لم تعرفها الاتفاقيات الموقعة بشأنها كاتفاقية مجلس أوربا و الجامعة العربية و الاتحاد الافريقي و هو ما يجعل من عبارة الجريمة السيبرانية تعبيرا لغويًا يشمل مجموعة من الأفعال المجَرَّمة اكثر منه مفهومًا قانونيًا[9].
II ـ جهود محاربة الجريمة السيبرانية :
مع تزايد الجرائم المرتكبة بواسطة تقنيات المعلومات و الاتصال، لاسيما عن طريق الانترنت، و جسامة الخسائر المادية و البشرية و تلك المتعلقة باستقرار الدول و أمن الشعوب التي تتسبب فيها، خاصة بعدما شهد الاقبال على استخدام هذه التقنيات من تزايد مع بداية عشرية 2000 م و ذلك بتزايد المشتركين لاسيما في دول الجنوب و تنوع الدعامات من أجهزة حاسوب و هواتف ذكية و الواح الالكترونية و غيرها، لاسيما في دول الشمال و هو ما يعني افتراض زيادة الضحايا المحتملين لهذه الجريمة بشكل كبير[10] ، كل ذلك أبْرزَ ضرورة مضاعفة الجهود، التقنية ، التشريعية و القضائية لمحاربة هذه الجرائم و هو ما برر الانفاق الهائل المقدر بستتين مليار دولار سنوياً على وسائل الحماية منها، من أنظمةٍ و تجهيزات و خدمات حماية[11].
و في الجانب المؤسسي عمدت بعض الدول الى انشاء اجهزة متخصصة في مجال مكافحة الجريمة السيبرانية، فأنشأت فرنسا مثلا مصالح في العديد من قطاعاتها و أحيانا في كل مديرية من مديريات بعض هذه القطاعات مختصة في مجال مكافحة الجريمة السيبرانية[12]
و كذلك الحال بالنسبة لكل من الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا و المانيا مع تفاوت في اعداد الموقوفين بسبب ارتكاب هذه الجرائم كما أنشأت الجزائر فرقة خاصة بمكافحة الجريمة السيبرانية و ذلك على مستوى القسم المكلف بالتحريات الجنائية بوزارة الداخلية و الأمن العام، ذاتَ اختصاص وطني[13] .
كما أنشأت موريتانيا مصلحة لمكافحة الجريمة السيبرانية تابعة لقيادة الدرك الوطني، تعمل تحت وصاية القضاء و بالتعاون مع الشرطة[14].
و على الرغم من ان مكافحة هذه الجريمة هي بالأساس مسؤولية الدولة بما لها من قدرة على سن التشريعات و العقاب على مخالفتها فإن لمنظمات المجتمع المدني اسهامٌ و جهدٌ موازٍ في هذا الصدد، من ذلك ما قام به الفرع الهولندي لمنظمة ارض الرجال غير الحكومية من جهد تقني و استدراجي من اجل الحصول على بيانات شخصية كافية لمتابعة متصفحي المواقع الإباحية التي يظهر فيها أطفال و تسليم ذلك للشرطة الدولية[15] .
و مع ذلك فإنه لا يكفي لمحاربة هذه الجريمة التوقف عند الأساليب التقنية و انما تجب مواجهتها بالتدابير القانونية.
III ـ الإطار القانوني لمحاربة الجريمة السيبرانية :
فرضت الجريمة السيبرانية لخطورتها و تنوع مجلات ارتكابها و سرعة انتشارها، على الدول عدم الاكتفاء في محاربتها بما يُتخذ في الجانب الفني من إجراءات الحيطة و التعقب بل تجاوزَ ذلك الى وضع الاطار القانوني للازم لمواجهتها.
أـ الإطار التشريعي الوطني:
في مسعى من المشرع الوطني للإحاطة بجميع جوانب الجريمة السيبرانية، من بيانٍ للمفاهيم المستخدمة في التعبير عن وقائعها، لاسيما انَّ منها المستحدَثَ الجديد الذي لم يثبت له بعد معنىً دلاليٌ فقهيٌ وقضائيٌ قار، و هو ما يفرضه ايضًا البعد الدولي لهذه الجريمة، الى تحديد مجالها و تنظيم الاحكام الموضوعية والإجرائية المتعلقة بها، الى تناول اطار التعاون الدولي في مجال مكافحتها و التحقيق بشأنها، صدر في موريتانيا القانون رقم 007/2016 بتاريخ 20 يناير 2016 المتعلق بالجريمة السيبرانية معرفًا إياها بأنها كل جناية او جنحة مرتبطة باستخدام تقنيات الاعلام و الاتصال مستبعدًا من ذلك الجرائم المرتكبة بواسطة البث الإذاعي و التلفزيوني[16] و مفصلًا لها من حيث تقسيمها الى جرائم ماسة بالبيانات المعلوماتية كالقرصنة؛ أي التنصت و رصد و مراقبة و اعتراض بيانات معلوماتية غير عمومية بواسطة الوسائل التقنية[17] و لا يُقصد بغير العمومية هنا فحوى و محتوى الاتصال كأن يكون ذا طبيعة خصوصية مثلاً وانما المقصود بذلك عملية الاتصال ذاتها، و كذلك الحاق الضرر بالإتلاف او المحو و التشويه والحذف و ما الى ذلك لبيانات معلوماتية ما[18] و قد عرف القانون المقصود بالبيانات المعلوماتية على انه (كل تمثيل لوقائع او معلومات او مفاهيم في شكل قابل للمعالجة المعلوماتية بما فيه كل برنامج من شأنه العمل على تنفيذ مهمة من طرف نظام معلوماتي)[19] كما تناول القانون جرائم المساس بالنظم المعلوماتية من خلال المساس بسريتها[20] و سلامتها و توفرها[21] مساويًا في ذلك بين ارتكاب الجريمة و الشروع فيها، كما تناول جرائم المعلوماتية، و هي بالأساس انتاج بيانات مزيفة و تقديمها على انها اصلية و ذلك بواسطة ادخال او تشويه او محو او حذف بيانات معلوماتية[22] و كذلك الحاق الضرر بأملاك الغير بإحدى هذه الوسائل او أي شكل من اشكال المساس بسير نظام معلوماتي ما[23]، كما تناول في الفصل الخاص بتجريم المحتوى، جرائم المساس بالملكية الفكرية و الحقوق المرتبطة بها[24] ، و الجرائم المتعلقة بالمادة الإباحية، عمومًا[25] وتلك خصوصية للنص الموريتاني بالنسبة للقوانين التي لم تنحُ هذا المنحى، و الجرائم المتعلقة بالمواد الإباحية التي يظهر فيها أطفال، على وجه الخصوص[26] و كذلك الجرائم الماسة بالقيم و الاخلاق الحسنة[27] و ذات البعد العنصري و تلك التي تحمل على الكراهية[28] او تمثل اعتداءً على الفرد في حياته الخاصة او بانتحال هويته[29] كما تناول الجرائم الخاصة بالممتلكات[30] و بالدفاع و الأمن الوطنيين[31].
و في الثمانية و العشرين مادة أي من المادة 4 الى المادة 32 المتعلقة بالجانب الموضوعي، من تجريمٍ للأفعال و العقاب عليها، وردت عبارة (عن قصد) ستة و عشرين مرة بما يعني ان الجريمة في هذا المجال هي بالأساس جريمة عمدية، كما اشترط المشرع توافر القصد الخاص في العقاب على بعض الوقائع و ذلك باستخدام عبارات من قبيل: (بغية)[32] ،(بهدف)[33] ،(بغرض)،(بنية) و(من اجل)[34] و في نفس سياق التجريم و العقاب استخدم المشرع عبارة (….. بدون حق) ثلاثة عشر مرة و ذلك في إشارة الى الحالات التي تُستبعد فيها المسؤولية الجنائية كإجازة القانون و موافقة المعني و الضرورة و الدفاع الشرعي وضرورات الأمن و حماية النظام العام و التحقيق و نحو ذلك.
ثم تطرق القانون لمسؤولية الأشخاص الاعتباريين، باستثناء الدولة و الجماعات المحلية و المؤسسات العمومية، عن ارتكاب احدى صور الجريمة السيبرانية[35] كما تطرق للعقوبات التكميلية الممكنة بمناسبة الإدانة عن جريمة مرتكبة بواسطة دعامة اتصال الكتروني[36]، و لأهمية الجانب الاجرائي الذي يعتبر اشمل من الجانب الموضوعي من حيث انطباقه على كل الجرائم المرتكبة بواسطة نظام معلوماتي، او تلك التي تكون الأدلة فيها الكترونية أي ذات صلة بتقنية المعلومات، فقد نظم القانون القواعد الإجرائية فيما يتعلق بالتحقيق و التقصي[37] و باختصاص المحاكم[38] كما لم يغفل أهمية التعاون الدولي في مجال مكافحة هذه الجريمة[39] و في الأخير ترك المشرع المجال مفتوحًا لإمكانية تكملة هذا القانون عند وجود الحاجة لذلك، بمراسيم و مقرراتٍ مواكَبةً للتطورات السريعة الحاصلة في هذا المجال[40] .
و لأن فضاء الانترنت يجب ان يبقى حرًا و لكن ايضًا مسؤولًا، فقد قضى هذا القانون بأن كل شك فيما يتعلق بتطبيق احكامه يجب ان يفسر لصالح حرية التعبير[41].
و قد هيأ المشرع لهذا القانون بقانون صادر في نفس تاريخ صدوره و هو القانون التوجيهي لمجتمع المعلومات رقم 006 بتاريخ 20 يناير 2016 الذي يمثل الاطار العام للأسس القانونية و المؤسسية والتوجهات الأساسية للمجتمع الموريتاني للمعلومات[42] الذي يجب ان يخدم اهداف الدولة في العصرنة ومحاربة الفقر و تطور الفرد و النهوض بالمجتمع و احترام المثل الأخلاقية و القيم الثقافية للمجتمع الموريتاني[43] ، و قد كفل هذا القانون حرية التعبير و التواصل ضمن ضابط احترام القانون و النظم المعمول بها[44] و عدم التعدي على حرية الآخرين او على النظام العام و الاخلاق الحميدة[45] و كذلك الحق في استخدام تقنيات الاعلام و الاتصال[46] و جعلها في متناول الجميع دون تمييز[47] و تشجيع التكوين على استخدام اجهزتها[48].
و في سياق محاربة الجريمة المرتكبة بواسطة تقنيات الاعلام و الاتصال اكد القانون التوجيهي لمجتمع المعلومات على واجب تكوين الأشخاص المكلفين بالأمن والقضاء لتأهيلهم لمحاربة الجريمة السيبرانية بالكفاءة المطلوبة لذلك[49] و على تطوير التعاون الأمني و القضائي على الصعيد الدولي لمحاربة هذه الجريمة[50].
و تعكس هذه التشريعات اهتمام مشرعنا الوطني المتزايد بتزايد اتساع نطاق تقنيات الاعلام و الاتصال اكتشافًا و استخدامًا، بتنظيم هذا الفضاء و ذلك من خلال اصدار قوانين من قبيل القانون رقم 22/2018 بتاريخ 12 يونيو 2018 المتعلق بالمبادلات الالكترونية، والقانون رقم 02/2017 بتاريخ 22 يوليو 2017 المتعلق بحماية البيانات ذات الطابع الشخصي، و القانون 25/2013 بتاريخ 15 يوليو 2013 المتعلق بالاتصالات الالكترونية.
و قد سبق المشرعَ الموريتاني مشرعو بعض الدول العربية و الافريقية الى تجريم الاعتداءات المكونة للجريمة السيبرانية، فقد أصدرت دولة الكويت قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2015 ، و في تقديرنا ان اختيار هذه التسمية؛ (جرائم تقنية المعلومات) من حيث الدلالة و الفصاحة، أنسبُ من تسمية (الجريمة السيبرانية) التي اختار مشرعنا عنوانًا لقانون 2016، كما تميز هذا القانون بأخذه بالظروف المشددة في حال كان مرتكب جريمة الدخول غير المرخص او المُسهِّل له، الى جهاز حاسب آلي او أنظمة او شبكة معلوماتية و ما شابهَ، قد قام بذلك اثناء او بمناسبة تأديته لوظيفته[51] و كذلك الحال بالنسبة للجرائم التي تستهدف سلامة الشبكة و حسن سير الخدمة فيها[52] ، و هو ما وددنا لو ان مشرعنا اخذ به لما يوفره من حماية للشبكة و لمستخدميها، ممن تغريهم وظائفهم و تسهل عليهم التعدي على حقوق الغير و المساس بحسن سير خدمات الشبكة.
و لأن التحدي الذي تطرحه مسألة انتشار و تطور تقنيات الاعلام و الاتصال و لتنوع الجرائم المرتكبة بها و ضدَّها، هو بالأساس نفسه بالنسبة لجميع الدول، فقد تقاربت الإجراءات و التدابير لاسيما التشريعية منها، المتخذة لمواجهته ، ففي جمهورية السينغال التي وصف رئيسها السيد ماكي صال، بمناسبة افتتاح اعمال النسخة الخامسة من المنتدى الدولي حول السلم و الأمن في افريقيا المنعقد يومي 5 و 6 دجمبر 2018 في داكار، الجريمة السيبرانية بأنها في طريقها لتصبح سلاح دمار شامل للمجتمعات و لقيمها[53] تناول المشرع فيها الجريمة السيبرانية من جانبيها الموضوعي و الاجرائي فتطرق في الأول للجرائم الماسة بأنظمة المعلوماتية[54] و الجرائم المتعلقة بالبيانات المعلوماتية[55] و تلك المتعلقة بالمحتوى كالصور و الأفلام الإباحية التي يظهر فيها الأطفال[56] و كذلك الجرائم المرتكبة من قِبل موردي خدمات الاتصال الى الجمهور بواسطة دعائم او نظم او شبكات تقنيات الاعلام والاتصال[57] و الجرائم المرتبطة بالإشهار بواسطة هذه التقنيات [58] و جرائم الاموال [59] و الجرائم الماسة بالدفاع الوطني[60] ثم خلُصَ بعد ذلك الى تناول الشق الاجرائي أي المتعلق بمسطرة الإجراءات فيما يتعلق بالجريمة السيبرانية، معطيًا للمحرَّر الالكتروني ذاتَ القيمة القانونية الاثباتية التي للمحرَّر الورقي[61] .
ب ـ الإطار التشريعي الاقليمي:
لأن الجريمة السيبرانية عابرة للحدود غير مكترثةٍ بالحواجز الطبيعية او الثقافية، ومن شواهد ذلك الكثيرة انتشار فيروسات الكومبيوتر بسرعة و على نطاق واسع، و لأن مرتكبيها غالبا ما يكونون متواجدين في أماكن غير تلك التي تُنتِج فيها الجريمة آثارها، فقد اقتضى الأمر من دول العالم التنسيق والتعاون في مجال محاربتها و وضع التصورات المشتركة بشأنها و ذلك من خلال اطر التعاون و التكتل الإقليمي و كذلك على الصعيد الدولي، و في هذا السياق جاء اتفاق الدول العربية على وضع آلية تعاون خاصة بها تتمثل في:
1ـ الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات الموقعة بتاريخ 21 دجمبر 2010 و التي تهدف بحسب مقتضيات مادتها الأولى الى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجال مكافحة جرائم تقنية المعلومات بما تمثله من خطر على أمن و مصالح الدول و المجتمعات و الأفراد[62] .
و يتضح من خلال بنية نص الاتفاقية و مضمون الترتيبات التي قضت بها انها الهمت النصوص العربية اللاحقة على توقيعها و قد جاء ذلك صريحًا في بعض هذه النصوص، من ذلك ما جاء في المذكرة الايضاحية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الكويتي، و الذي اخذ بنفس التسمية التي اعطتها الاتفاقية لهذه الجرائم، من أن اعداد هذا القانون يأتي التزامًا(بأحكام الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات التي صادقت عليها دولة الكويت بموجب القانون رقم 60 لسنة 2013) [63].
وقد حددت الاتفاقية مجال تطبيقها في اربع نقاط وردت على النحو التالي:
ـ إذا ارتكبت احدى هذه الجرائم في أكثر من دولة
ـ إذا كانت الجريمة المرتكبة في الدولة العضو قد تم التخطيط والاعداد لها او الاشراف والتوجيه بشأنها، في دولة او دول أخرى.
ـ إذا كانت الجهة الضالعة في ارتكاب الجريمة، جماعة إجرامية منظمة، لها أنشطة في أكثر من دولة.
ـ إذا كان للجريمة المرتكبة في احدى الدول آثار بالغة الخطورة و الضرر على دولة او دول أخرى[64].
و على الرغم من تأكيد الاتفاقية على احترام سيادة الدول الأعضاء، لاسيما في مجال الولاية القضائية وغيرها من وظائف السيادة، فإنها الزمت كل دولة في نطاق احترام تشريعاتها و أنظمتها الداخلية، بتجريم الدخول والبقاء غير المشروعين الى تقنية المعلومات او اعتراض سير بياناتها و اساءة استخدام وسائلها والاحتيال بواسطتها و كذا الاعتداء على الحياة الخاصة و الملكية الفكرية و الجرائم المتعلقة بالإرهاب والمواد الإباحية و بالاستخدام غير المشروع لأدوات الدفع الالكترونية[65] كما الزمت الاتفاقية في مادتها الحادية و العشرين، الدول الأطراف بتشديد العقوبات المقررة للجرائم التقليدية في حال ارتكابها بواسطة تقنية المعلومات.
و لأن الامر يتعلق باتفاقية بين عدة دول فقد تم تكريس فصل كامل للتعاون القانوني و القضائي شمل مسائل الاختصاص و تسليم المجرمين و المساعدة المتبادلة مع التوصية بإنشاء جهاز خاص بطاقم بشري مؤهل من اجل ضمان حسن سير هذا التعاون[66].
وعلى غرار الدول العربية وفي سياق الوعي المتنامي بخطورة الجريمة السيبرانية وضرورة مواجهتها بالوسائل التشريعية، الفنية والمؤسسية للازمة، نحت الدول الافريقية نفس المنحى وذلك من خلال:
2 ـ اتفاقية الاتحاد الافريقي حول الأمن السيبراني وحماية البيانات ذات الطابع الشخصي: وقد تم تبنيها من قِبل دول الاتحاد الافريقي بمناسبة انعقاد مؤتمره الثالث و العشرين في دورة عادية، بتاريخ 27 يونيو 2014 بمالابو.
نظمت هذه الاتفاقية بنص واحد من ثمانية وثلاثين مادة، أربعة مجالات تناولها المشرع الموريتاني بنصوص منفصلة على النحو الذي تقدم، وهذه المجالات هي:
ـ الجريمة السيبرانية بأبعادها المختلفة الموضوعية والإجرائية.
ـ حماية البيانات ذات الطابع الشخصي.
ـ تنظيم المبادلات الالكترونية.
ـ رسم اهداف و وضع ضوابط لتنظيم و ترقية مجتمع المعلوماتية في دول الاتحاد.
و نرى ان إفراد مشرعنا لكل من هذه الميادين الأربع بنص، مسلك موفق لا يحول دون تكامليتها من حيث الاهداف و التنظيم.
وعلى الصعيد شبه الإقليمي تبنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا المعروفة اختصارًا بـ (CEDEAO) في الدورة السادسة والستين لمجلس وزرائها المنعقد في أبوجا أيام 17،18 و19 أغسطس 2011 اتفاقية لمحاربة الجريمة السيبرانية في فضاء المجموعة اشتملت تقريبًا على نفس محاور و مضمون النصوص الوطنية ، الإقليمية و الدولية في هذا المجال[67].
ج ـ الإطار التشريعي الدولي:
في التدرج من الوطني للإقليمي للدولي نصل الى ما يمكن اعتباره أقدم واهم إطار قانوني للتعاون الدولي لمكافحة الجريمة السيبرانية والمتمثل في:
ـ اتفاقية مجلس أوروبا [68](Convention sur la cybercriminalité – Conseil de l’Europe)
التي اعتمدتها لجنة وزراء مجلس أوروبا في دورتها التاسعة بعد المائة المنعقدة بتاريخ الثامن من دجمبر 2001 و المعروفة باتفاقية بودابست؛ المدينة التي فُتح فيها باب التوقيع على الاتفاقية بتاريخ الثالث والعشرين من نفس الشهر و السنة، و ذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي حول الجريمة الالكترونية،
ولم تقتصر هذه الاتفاقية على الدول الأعضاء في مجلس أوربا بل انها قد سمحت بمقتضيات مادتها السادسة والثلاثين بالتوقيع عليها، حتى قبل دخولها حيز التنفيذ، من دول من خارج المجلس و هو ما حصل بالفعل مع كل من كندا و اليابان و جنوب افريقيا و الولايات المتحدة الامريكية[69]، ليستمر بعد ذلك الانضمام الى هذه الاتفاقية من قِبل المزيد من الدول، بما جعل منها آلية دولية لمكافحة الاجرام المرتكب بوسائل تقنيات المعلوماتية و ضدَّها.
و قد نظمت الوزارة المكلفة بتقنيات الاعلام و الاتصال بالتعاون مع خبراء دوليين في هذا المجال ورشة تحت عنوان: اعداد مسار انضمام موريتانيا الى اتفاقية بودابست حول الجريمة السيبرانية، الأيام من 17 الى19 دجمبر 2018 و هو ما يمكن اعتباره خطوة في طريق الانضمام الفعلي لهذه الاتفاقية[70] .
و تستفيد الدول التي تنضم الى الاتفاقية من الخبرات و الإمكانات التي تتمتع بها الدول الأعضاء المتقدمة تكنلوجيًا كالدول الاوربية و الولايات المتحدة الامريكية و اليابان، كما تستفيد كذلك من تعاون الفاعلين الأساسيين في مجال تقنية المعلومات و الاتصال كـ: , Gmail, Gool Facebookو YouTube ، وذلك في التحريات و التصدي للجريمة كسحب فيديو من اليوتيب مثلاً، او الحصول على معلومات من شأنها المساعدة في التعرف على هوية صاحب حساب في Yahoo متورط في ارتكاب جريمة، او توقيف حساب على الفيسبوك ينشر محتوىً مجرمًا بالنصوص الوطنية او الدولية[71].
و لأن هذه الاتفاقية قد جاءت سابقة على الكثير من القوانين الوطنية و الاتفاقيات الإقليمية، فإن شكلها من حيث البنية النصية، و مضمونها من حيث وضع معانٍ للمصطلحات المستخدمة في هذا المجال و تعداد الأفعال المجرّمَة سواء منها ما تعلق بالاعتداء على شبكة تقنية المعلوماتية نفسها، او ما استخدمت له هذه التقنية من أغراض الاعتداء على حقوق الافراد و ثقافة المجتمعات و أمن الدول، و كذلك وضع القواعد الإجرائية و أسس التعاون الدولي في مجال مكافحة هذه الجريمة، كل ذلك قد عكسته النصوص اللاحقة على نفاذها و ذلك على النحو الذي سبق التطرق اليه في معرض تناول التدابير التشريعية في مجال محاربة الجريمة السيبرانية على الصعيد الوطني و الإقليمي.
من كل ما تقدم نخلص الى ان الثورة الرقمية، التي غيرت الشكل التقليدي للمجتمعات، وجعلت من سوق تقنيات الاتصال؛ من حواسيب وهواتف والواح الإلكترونية وغيرها، السوقَ الأكثر رواجًا، وعلى الرغم مما حملت معها من مزايا على صُعُد الحياة المختلفة، فإنها لم تسلم من سوء الاستعمال والاستغلال في ارتكاب جرائم تطال الفرد و المجتمع و الدولة.
لقد تجاوز تطور تكنلوجيا المعلوماتية من خلال شبكة الاتصال فائقة السرعة، المفاهيم القانونية السائدة لاسيما بالنسبة للقانون الجنائي الذي تم وضعه للتعامل مع واقع مادي لا افتراضي و ليطبق في نطاق حدود الدولة الواحدة لا على الصعيد العالمي.
لقد مثلت ضرورة تحديث و تطوير و مواءمة قواعد القانون الجنائي؛ الموضوعي منها و الشكلي، مع هذا الواقع الجديد تحديًا، إنْ اختلفت الدول في الترتيبات الفنية للتعامل معه، فقد اتحدت في الوعي بضرورة مواجهته.
[1]مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأمانة العامة، الجريمة الالكترونية في المجتمع الخليجي وكيفية مواجهتها، بحث من إعـداد مجمع البحوث والدراسات، أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة، 2016، ص:7.
[2] la Revue Lamy Droit des Affaires, novembre 2013, P :78
[3] ibid
[4] ibid
[5] Typhaine Bonnet, La crise de la sanction face à la cybercriminalité : l’exemple du droit d’auteur, Mémoire Maîtrise en droit, Université Laval Québec, Canada, 2017, P : 1 et 2.
[6] Office Des Nations Unies Contre La Drogue Et Le Crime, Étude détaillée sur la Cybercriminalité, New York, Février 2013, P :12.
[7] Sylia BELATTAF, LA CYBERCRIMINALITÉ: L’Algérie est-elle suffisamment outillée, mémoire de master, Universite Abderrahmane Mira de Bejaia/Algerie,2014/2015, P:38.
[8] المادة 2 من القانون الموريتاني رقم 007/2016 بتاريخ 20 يناير 2016 المتعلق بالجريمة السيبرانية، و المادة الأولى من القانون السينغالي رقم 2008ـ11 بتاريخ 25 يناير 2008 المتعلق بالجريمة السيبرانية
[9]مؤتمر الأمم المتحدة الثالث عشر لمنع الجريمة و العدالة الاجتماعية، الدوحة 12ـ19 ابريل 2015 ، ورقة حول :تعزيز تدابير منع الجريمة و العدالة الجنائية للتصدي للأشكال المتطورة للجريمة مثل الجرائم الالكترونية (السيبرانية)، و الاتجار بالممتلكات الثقافية بما في ذلك الدروس المستفادة و التعاون الدولي.
[10]http://www.mf-ctrf.gov.dz/presse/Bulletin%2032%20Cyber.pdf
[11] la Revue Lamy Droit des Affaires, OP,cit, P :78
[12] « Rapport sur la cybercriminalité », Groupe de travail interministériel sur la lutte contre la cybercriminalité,op. cit., p. 145
[13] http://www.mf-ctrf.gov.dz/presse/Bulletin%2032%20Cyber.pdf
[14] www.ami.mr/Depeche-56028.html
[15] https://www.europe1.fr/…/Sweetie-la-fillette-virtuelle-qui-traque-les-pedophiles-59907...
[16] المادة 2
[17] المادة 4
[18] المادة 5
[19] المادة الأولى/1
[20] المادتان 6 و 7
[21] المواد من 8 الى 11
[22] المادة 12
[23] المادة 13
[24] المادة 14
[25] ا لمادتان 15 و 16
[26] المواد من 17 الى 20
[27] المادة 21
[28] المادتان 22 و 23
[29] المواد 24 ، 25 و 26
[30] المواد من 28 الى 31
[31] المادتان 32 و 33
[32] المادة 10 و 24
[33] المادة 13
[34] المادة 25
[35] المادتان 34 و 35
[36] المواد 37،36 و 38
[37] المواد من 39 الى 47
[38] المادة 48
[39] المادة 50
[40]المادة 51
[41] المادة 27
[42] المادة الأولى من القانون التوجيهي لمجتمع المعلومات رقم 006 بتاريخ 20 يناير 2016
[43] المادة 3 من نفس القانون
[44] المادة 7
[45] المادة 13
[46] المادة 6
[47] المادة 9
[48] المادة 10
[49] ibid
[50] المادة 14
[51] المادة 2 من قانون دولة الكويت، رقم 63 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة جرائم تقنية المعلومات.
[52] المادة 4 من نفس القانون
[53] www.gcsenegal.gouv.sn /Discours du Président de la République à l’occasion du Forum Paix et Sécurité Dakar 2018
[54] المواد من 431ـ8 الى 431ـ11 من القانون السينغالي رقم 2008ـ11 بتاريخ 25 يناير 2008 المتعلق بالجريمة السيبرانية.
[55] المواد من 431ـ12 الى 431ـ31
[56] المواد من 431ـ34 الى 431ـ42
[57] المواد من 431ـ43 الى 431ـ50
[58] المادتان 431ـ51 و 431ـ52
[59] المواد من 431ـ53 الى 431ـ57
[60] المادتان 431ـ60 و 431ـ61
[61] المادة 677ـ34 وما بعدها
[62] المادة الأولى من الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات
[63] المذكرة الايضاحية للقانون الكويتي رقم 63 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة جرائم تقنية المعلومات
[64] المادة 3 من الاتفاقية
[65] المواد من 5 الى 18 من الاتفاقية
[66] المواد من 30 الى 43 من الاتفاقية
[67] Directive C/DIR/1/08/11 portant lutte contre la cybercriminalité dans l’espace de la CEDEAO
[68] مجلس أوروبا هو منظمة دولية تأسست في عام 1949 و يتكون من 47 دولة أوروبية، يقع مقر للمجلس في مدينة ستراسبورغ الفرنسية و عضويته مفتوحة لكل دول اوربا الديمقراطية و هو ليس جزء من الاتحاد الأوروبي و يختلف عن مجلس الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي
[69] التقرير التفسيري لاتفاقية الجريمة الالكترونية https://rm.coe.int/explanatory-report…convention-in
[70] www.ami.mr/Depeche-56093.html
[71] http://www.mf-ctrf.gov.dz/presse/Bulletin%2032%20Cyber.pdf