مقالات قانونية

الرقابة على دستورية القوانين –المغرب و فرنسا نمودجا –

téléchargement

الرقابة على دستورية القوانين –المغرب و فرنسا نمودجا –

 

 

مدخل :

مما لا شك فيه أن الدستور في دولة القانون يعتبر أسمى قانون داخل هرمها التشريعي, فهو       من جهة يحدد التوجه السياسي للدولة , بحيث يضع الأسس السياسية و القانونية العامة التى تقوم عليها , و من جهة أخرى فانه يتضمن التوجه الحقوقي للمجتمع . و علاوة على هذا فان أهمية هده الوثيقة تنبع من كونها المأطر للحقوق و الحريات الأساسية للمواطنين .و انطلاقا من هده القيمة  الاجتماعية و الحقوقية على وجه الخصوص التى يحتلها القانون الأساسي , فان احترام أحكامه هي مسؤولية الجميع داخل المجتمع و على وجه الخصوص السلطة الحاكمة نظرا لأنها تملك الوسائل المادية و القانونية لذلك . كما أن المكانة التى تحضى بها هده الوثيقة , تنبع أيضا من المفهوم القانوني للتدرج التشريعى للقوانين , فطبقا لهذه النظرية الفقهية -التى أتى بها الفقيه هانس كلسن –  فان المنظمومة القانونية للدولة تحتوي على مجموعة من أشكال القوانين تختلف طرق وضعها من مدى سمو قاعدة عن الأخرى , بحيث نجد الدستور على رأس الهرم القانوني للدولة , كما تأتى بعدها القواعد التشريعية ثم تليها القوانين الفرعية تم القرارات التنظيمية و الفردية الصادرة عن السلطة الحكومية( 1)و هو ما كرسه الدستور المغربي لسنة 2011 في فصله 6 حيث اعتبر دستورية القوانين و وجوب تراتبيتها مبادئ ملزمة  . فانطلاقا من هذه المكانة الحقوقية و المجتمعية و القانونية التى يحضى بها الدستور كان لا بد و من الضروري خلق قواعد و مؤسسات تسهر على احترام أحكامه السامية , و حاجة المجتمع الحقوقية لحماية الدستور أدت بدورها الى خلق هيئات تسهر على احترام سائر التشريعات داخل الدولة للدستور . بحيث اتجهت مجموعة من الأنظمة السياسية الى تكريس طرق مختلفة في تحديد الجهة المختصة بمراقبة دستورية القوانين ,  فمنها ما أوكل ذات المهمة الى هيئة قضائية كالولايات المتحدة الأمريكية , و منها ما أوكلها الى هيئة سياسية كالمجلس الدستوري بفرنسا الدي يحتوي على تركيبة ذات طابع سياسي محض . و جذير بالذكر الى أنه هناك من الدول ما لم تأخد بهده الرقابة كالدستور البلجيكي لسنة 1831 و الدستور البلوني لسنة 1921 في المقابل نصت دساتير أخرى صراحة على بطلان القوانين التى تخالف أحكامه , كالدستور اليابانى في مادته  98  كما أنه لا بد من الاشارة في البداية إلى أنه الدساتير المرنة التى تكون في مصاف القوانين العادية من الناحية المسطرية فإنها لا تأخذ بالرقابة على دستورية القوانين. انطلاقا من هده التوطئة فما هو إذن مدلول الرقابة على دستورية القوانين ؟ و ما مدى ضرورة إقامتها ؟ و ما هي أبرز أشكالها ؟ و ما هو نموذج الرقابة الذي أخذ به كل من المغرب و فرنسا ؟

كل هده اللإشكاليات سنعمل على الإجابة عليها دراسة و تأصيلا في المقال القانوني التالى.

 

أولا : حول ضرورة و ماهية الرقابة على دستورية القوانين و أبرز أشكالها .

1_ماهية الرقابة على دستورية القوانين و ضرورة إقامتها

لقد أصبحت الرقابة على دستورية القوانين ضرورة ملحة في صلب دولة الحق و القانون , و قد نوه أغلب الفقه الدستوري بضرورة إقامتها لما في ذلك من ضمان دسترة سائر القوانين , في هدا السياق يعرف الاستاد مصطفى قلوش في – كتابه النظرية العامة للقانون الدستوري- هذه الرقابة بكونها ( التحقق من مطابقة القوانين العادية لمقتضيات الدستور تمهيدا لعدم اصدارها إذا كانت لم تصدر أو لإلغائها أو الامتناع عن تطبيقها اذا كان قد تم إصدارها ) و بمعنى أخر هو انسجام و توافق سائر القوانين و القرارات الحكومية مع روح و فحوى الوثيقة الدستورية , و ذلك عن طريق التحقق من مطابقة القوانين العادية و الفرعية لأحكام الدستور , لأن القانون لا يكون معبرا عن إرادة الأمة إلا في ظل احترامه للدستور , و الأخذ بهذه التقنية القانونية التي تحمي الدستور من تعسف السلطات العامة , كان لعدة اعتبارات أساسية أبرزها : أن الدستور يتضمن مقتضيات مهمة بشأن حقوق و حريات الأفراد التى لا يجدر المساس بها , هذا إضافة إلى كون الدستور يعمل على تقرير الشكل السياسي و القانوني للدولة الذي يجب أن يحترم من طرف القوانين و القرارات الأقل درجة. و بالتالى كان القانون الاسمى داخل الكيان القانوني للدولة , فعلى هذا الأساس تم النظر للرقابة على دستورية القوانين على  أنها  أقوى وسيلة تقنية لحماية المقتضيات الدستورية من أي مخالفة و انتهاك من طرف أي جهة تقرر في الشأن العام .

و مما تجب الإشارة إليه في هذا السياق انه في سبيل تحقيق سيادة الدستور قد ظهرت مجموعة من التيارات الفكرية تنادي بضرورة إقامة هذه الرقابة  و تعد الدستورانية ( 2) من أبرز الإتجاهات الفكرية التي نادت بضرورة إقامتها , فطبقا للدستورانية  التي يمكن اعتبارها عنصرا من عناصر الليبرالية السياسية  , فإن الوثيقة الدستورية  تتكلف بتحديد تنظيم متجانس و عقلاني للدولة , حيث إنه من الوظائف الأساسية للدستور هو الحؤول دون التحكم  من خلال التحديد الواضح لقواعد اللعبة السياسية و منع التفسيرات و التأويلات التي تكرسها الدساتير العرفية و بالتالى وجب إقامة جهاز مكلف بالسهر على احترام هرمية و تراتبية النص الدستوري و سموه عن باقي أشكال القوانين و القرارات( 3) . و قد تمت ترجمة إقامة هدا الجهاز في ظل الجمهورية الخامسة طبقا للصياغة الشهيرة التي استعملها القاضي الدستوري الفرنسي ( إن القانون المصادق عليه لا يكون معبرا عن الإرادة العامة إلا في ظل احترامه للدستور ) . بعد هده التوضيحات بقي أن نشير إلى أن فكرة الرقابة على دستورية القوانين  رغم أنها لقت تأييد حافل من قبل مجموعة من رجال القانون , إلا أنها في المقابل كانت موضوع العديد من الانتقادات , ففي فرنسا مثلا اصطدمت فكرة الرقابة على دستورية القوانين لمدة طويلة بالإعتقاد الجازم سيادة القانون , و بوهم فكرة المشرع –المعصوم من الخطأ-  , و هي أطروحة تنظر في الشكل لا في الجوهر بحيث تقوم بتقديس القانون , باعتباره تعبير عن السيادة الشعبية فالقانون حسب هؤلاء لايمكن أن يتعسف على حقوق المواطن . و القاضي الذي لا يعين أو ينتخب بكيفية ديمقراطية  , لا يمكن له أن يملك سلطة الاعتراض على القانون الذي يعبر عن إرادة الشعب الذي يجد تأصيله عند جان جاك روسو , و الذي بناء عليه يعد القانون تعبيرا عن الارادة العامة , و تعليقا على هده الاطروحة من طرف الفقيه الدستوري د/ الحسن الجماعي ( فإن هدا الطرح يشوبه عيب بكونه يقدس القانون , و هو ما ينبغي أخد مسافة منه , لأن الدستور بدوره ليس فقط تعبيرا عن السيادة , بل هو في الحقيقة و الواقع تعبير مباشرعنها  نتيجة مصادقة الشعب –صاحب السيادة الأصلي – مباشرة عليه عن طريق الإستفتاء , و هو ما يميز الدستور عن القانون , هدا الأخير الدي يظل نتاجا لعمل ممثلي الشعب .)

و انطلاقا من هذا التأصيل يمكن تكوين طرح يرد على منتقدي الرقابة , مفاده أن  القانون هو تعبير غير مباشر عن إرادة الأمة , لأن المصادقة عليه تتم عن طريق ممثلي الأمة و ليس الأمة ذاتها , في حين الدستور يتم المصادقة عليه بكيفية مباشرة عن طريق الشعب مما يضمن قبوله و توافقه أكثر مع القاعدة الشعبية , و من هذا الاعتبار يجب ضمان سموه و سيادته على جميع القوانين الأخرى و ذلك لايمكن تحقيقه إلاعن طريق جهاز رقابي يسهر على ضمان سيادة الدستور , و هدا التوجه هو الذي صارت عليه الديمقراطيات الحديثة , بحيث تم خلق جهاز دستوري يحمي الدستور من أي انتهاك تشريعي أيا كان مصدره , غير أن هده الرقابة اختلفت أشكالها  من نظام لأخر إذن فما هي أبرز أشكال الرقابة على دستورية القوانين في النظم الحديثة ؟

2-أبرز أشكال الرقابة على دستورية القوانين

إن أشكال الرقابة على دستورية القوانين القوانين تتجلى في شكلين أساسيين , يتمثل الأول في الرقابة السياسية و الثاني في الرقابة القضائية .

     أ/الرقابة السياسية :  

يغلب على هدا النوع من الرقابة الطابع السياسي , بحيث نجد الهيئة التي تقوم بهذا النوع من الرقابة في الغالب ما تتركب من تركيبة سياسية , يتولى الدستور التنصيص على تركيبتها , و جذير بالإشارة إلى أن الرقابة السياسية تتولى مهمة البت في دستورية القوانين قبل إصدار الأمر بتنفيذ القانون , و بهذا المعنى فإننا نكون أمام رقابة قبلية استباقية , بحيث تعمل على تصفية القانون من المقتضيات الغير الدستورية قبل إصداره . و تعتبر الرقابة التي يأخذ بها المجلس الدستوري بفرنسا أقرب مثال للرقابة السياسية. فتاريخيا فإن المحاولات الأولى لتقرير هذه التقنية ظهرت في فرنسا على شكل اقتراح من طرف الفقيه (سيس) وذلك سنة 1795, غير أن  هدا الاقتراح لم يحظى بموافقة و تأييد من طرف الجمعية التأسيسية آنذاك , و في عهد الامبراطورية الاولى (1799-1814)التي كانت تحت قيادة نابليون , بحيث استطاع هدا الفقيه إقناع الجمعية التأسيسية لسنة 1800 بضرورة الأخذ بهذه الرقابة و قد تم تفعيل ذلك عن طريق إنشاء المجلس المحافظ أو الحامي للدستور , الذي كان يتم تعيين أعضاءه مدى الحياة , لكن معظم الفقه يقر بأن هذا المجلس قد فشل فشلا ذريعا. و تتميز الرقابة السياسية بكونها وقائية , بحيث أنها سابقة على صدور القانون , لكن يذهب أغلب رجال الفقه القانوني أن هذه الرقابة لم تكن فعالة و ناجحة و ذلك راجع لعدة اعتبارات :

*- أنها ذات طابع سياسي محض مما يجعلها غير محايدة بحيث في غالب الأحيان تنحاز للسلطة التي ساهمت في تعيينها, و هدا ما يجعلها مفتقدة للمصداقية , فليس من المنطق أن نخول للهيئة تفتقد تصرفاتها للمصداقية و لأحكام الدستور و نجعلها تحمى الدستور , فكل من بني على باطل فهو باطل .

*- افتقادها  للحياد و الاستقلالية و النزاهة مما يساهم في سيادة انتهاك الأحكام الدستورية .

*-أن أعضائها ليس مشروط فيهم التكوين القانوني , و هذا ما له تأثيرات سلبية بطبيعة الحال على نمط الرقابة و منهاجيتها ذلك في غياب أسس قانونية علمية في النظر في مسألة دستورية القوانين.

إن الرقابة التي تقوم على أسس دستورية سليمة , لا يجب أن تجمع بين مهمتي التشريع و الرقابة , لأن ذلك يخالف ما هو متعارف عليه كونيا بشأن فصل السلط .فمثلا نجد الاتحاد السوفياتي و يوغسلافيا قد أناطوا بمهمة الرقابة للبرلمان , أو من مكتب كائن بالبرلمان , بحيث نص الدستور السوفياتي لسنة 1936 على أن من اختصاصات مجلس السوفييت الأعلى الإشراف على تنفيذ الدستور الاتحادي  و كذا اتخاذ التدابير الكفيلة لتوافق سائر القوانين مع الدستور(4)لذلك لم يحظى هذا النوع من الرقابة بالتأييد من طرف أغلب الفقه , و نظرا للانتقادات التي وجهت لهذه الرقابة من طرف البعض , فقد تم الأخذ بالرقابة القضائية باعتبارها أكثر فعالية في تحقيق الهدف من دستورية القوانين .

ب/الرقابة القضائية :

و تتولى هذا النوع من الرقابة هيئة قضائية , ذلك باعتبار القضاء مبدئيا حامي القانون و الساعي إلى حسن تطبيقه و حماية حريات و حقوق المواطنين , و بالتالي كان من الأجدر أن تتولى الرقابة جهة قضائية نظرا لكون المهمة ذاتها تتمشى مع اختصاص القضاء و مهمته , و ذلك لاعتبارين أساسيين أولهما أنه يشكل ضمانة فعالة لتحقيق دستورية القوانين لتقديره معنى الحياد و الاستقلالية و ثانيهما أنه يتوفر على الخبرة القانونية المهنية و النظرية في النظر في مدى مطابقة القانون للدستور . فالقاضي رسالته في الحياة حماية الحقوق و الحريات و تحقيق العدل فهو بهذا المعنى كائن حقوقي بطبعه كما يقول الدكتور محمد الهيني .

و عموما فالرقابة القضائية تنقسم إلى شكلين :

_ رقابة الامتناع : و تكون بامتناع القضاء عن تطبيق القانون الغير الدستور و يجب التمييز بين ثلاث أنواع :

1* الدفع بعدم دستورية قانون : و يتم ذلك بناء على طلب الخصوم في دعوى مرفوعة أمام القضاء . بحيث يحق للمتقاضي أن يرفع دعوى فرعية تبت في مدى دستورية القانون إذا رأى بأن القانون الذي سيطبق عليه غير دستوري . و تجدر الاشارة في هدا الباب أنه يمكن لحكم المحكمة أن يكون له حجية مطلقة في حالة الأنظمة التي تأخذ بالرقابة المركزية على دستورية القوانين , فيكون الحكم ملزم لجميع المحاكم , في حين الأنظمة التي تأخذ بالرقابة اللامركزية , فإن أحكامها تكون غير ملزمة للمحاكم الأخرى فلا يكون لأحكامها إلا حجية نسبية (5).

2*إصدار أمر قضائي بعدم تطبيق القانون المخالف للدستور :و دلك حينما يخول الدستور صراحة للمحاكم حق إصدار لأمر قضائي للموظفين المختصين بالامتناع عن التطبيق النص المخالف للدستور , و قد كان القضاء الأمريكي السباق لهدا النوع من الرقابة , فنجده ينص في المادة 3 من الدستور الاتحادي الأمريكي على أن المحكمة الاتحادية العليا تختص في جميع الخصومات التى تنشأ في ظل هدا الدستور و التى تتعلق بالقانون و العدالة .

3*إصدار حكم تقريري :  بحيث خول المشرع الأمريكي في القانون الصادر سنة 1934, للمحاكم الاتحادية سلطة إصدار أحكام تقريرية في المسائل المتعلقة بدستورية قانون معين , و بموجب هدا المقتضى يحق للأفراد اللجوء إلى المحكمة المختصة لطلب النظر في مدى دستورية قانون ما و إعداد تقرير بشأنه (6).

رقابة الإلغاء :

و يقصد برقابة الإلغاء أنه يجوز للقضاء إبطال القانون المخالف للدستور بصفة تكتسي حجية الأمر المقضي به , بحيث يصبح القانون كأن لم يكن و يعد النموذج النمساوي أقرب مثال لرقابة الالغاء , حيث تم تأسيس المحكمة الدستورية العليا سنة 1920  ,و تتميز هده الرقابة بكونها حصرية و ممركزة على محكمة مختصة بذات المهمة . كما أن أحكام المحكمة تكون لها حجية الشيء المقضي به بحيث يتم إقبار القانون الغير الدستوري  و يصبح غير سار حاضرا و  مستقبلا. و ما تجب الاشارة إليه في هدا الصدد أن رقابة الالغاء تكون اما قبلية و سابقة على صدور القانون ففي هذه الحالة تكون حصرية على  السلطة التى تتكفل بإصدار القانون ذلك كما هو الشأن للمحكمة الدستورية بالمغرب  فطبقا لهذا النموذج فإن الرقابة تعد وجوبية بالنسبة للأنظمة الداخلية لمجلس البرلمان و كذا القوانين التنظيمية ,و اختيارية بالنسبة للقوانين العادية . و كذلك تكون رقابة الالغاء بعدية أي بعد صدور القانون ففي هده الحالة بإمكان المواطن أن يرفع دعوى فرعية عن دعواه الأصلية يطالب فيها بإلغاء القانون الغير الدستوري .

بقي أن نشير إلى أن النموذج الأمريكي يعد النموذج التقليدي و الاول من نوعه فيما يخص رقابة الامتناع , في حين يعد النموذج الأوربي أول قضاء دستوري يأخذ برقابة الالغاء و ذلك في النمسا سنة 1920. و ما يميز القضاء الدستوري الاوربي عن القضاء  الدستوري الامريكي هو أن الاول يقوم على أساس حماية التدرج الهرمي للنظام القانوني في الدولة في المقابل يقوم هدف الثانى على اساس حماية المواطن من تعسف انتهاك حقوقه الدستورية (7).

 

ثانيا: حول بعض التجارب   لأشكال الرقابة على دستورية القوانين .

تختلف تجارب الدول بشأن الرقابة على دستورية القوانين , فبعض الدول أخذ بالرقابة السياسية كفرنسا نموذجا , و هناك من الدول من أخد بالرقابة القضائية كالمغرب نموذجا.

1/ النموذج الفرنسي (الرقابة السياسية ) :

طبقا للنموذج الفرنسي فإن من يتولى مهمة الرقابة على دستورية القوانين هو المجلس الدستوري , و قد نص عليه دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958 .

    أ-تشكيلة المجلس الدستوري :

يعتبر الدستور الفرنسي لسنة 1958 من الدساتير التي أسندت مهمة الرقابة إلى هيئة ذات تشكيلة سياسية محضة , بحيث يتم اختيار الأعضاء من قبل السلطتين التنفيذية و التشريعية دون اشتراط تكوين قضائي أو قانوني. و قد نصت المادة 56 من دستور 1958 على أن ذات المجلس يتشكل من  رؤساء الجمهورية السابقين بصفة دائمة (8) . و كدا من تسعة أعضاء بحيث يعين رئيس الجمهورية ثلاثة منهم و يعين رئيس الجمعية الوطنية ثلاثة منهم و يعين رئيس مجلس الشيوخ ثلاثة منهم الباقين , و تستمر مدة العضوية 9 سنوات غير قابلة للتجديد , و خلال هده المدة يتجدد الثلث كل ثلاث سنوات , و لا يجوز أعضاء المجلس أن يجمع بين عضويتهم في المجلس وفي الحكومة و البرلمان أو في المجلس الاقتصادي و الاجتماعي  (9) و يختص رئيس الجمهورية بمهمة تعيين رئيس المجلس الدستوري .

ب -طرق الاحالة إلى المجلس للنظر في دستورية القوانين :

بدئ دي بدئ تجب الاشارة إلى أن المجلس كان يأخد بنمط أحادي للرقابة و هي رقابة الالغاء السابق عن صدور القانون و التى كانت قاصرة على السلطة السياسية فقط , غير أنه  بفعل التعديل الدستوري لسنة 2008 أصبح من حق الشخص المتقاضي إثارة مسألة دستورية القوانين بشكل غير مباشر أمام المجلس الدستوري و بالتالي أصبحت الاحالة بعدية .

الرقابة القبلية :

يبت المجلس الدستوري في مسألة الرقابة داخل أجل شهر من تاريخ إحالة القوانين التنظيمية أو القانون عليه , و يمكن أن يخفض الأجل إلى ثمانية أيام في حالة الاستعجال , كما يجب الذكر إلى القوانين التنظيمية تحال وجوبا عل المجلس و القوانين العادية بصفة اختيارية , و إحالة القانون العادي قبل صدور الامر بتنفيذه  على المجلس يعد أمرا اختياريا و قاصرا على سلطات مختصة حددها الفصل 61 من دستور 1958 في رئيس الدولة و الوزير الاول و رئيسي مجلسي البرلمان من إحالة القوانين إلى المجلس لكي يبث في مطابقتها للدستور .و مند التعديل الدستوري لسنة 1974 أصبح من حق 60 عضو من أعضاء الجمعية الوطنية أو من مجلس الشيوخ إحالة القوانين على المجلس الدستوري من أجل إثارة مسألة الدستورية(11)

الرقابة البعدية :

لقد تم إغناء النظام القانوني الفرنسي بثورة قانونية حقيقية و دلك بموجب التعديل الدستوري لسنة 2008 الدي جاء بمفهوم *المسألة ذات الأولوية و الاسبقية الدستورية * حيث نصت على دلك الفقرة الأولى من الفصل 61 من الدستور الفرنسي حيث جاء فيها :

عندما تكون قضية معروضة على أنظار المحكمة , و يتم الدفع بأن المقتضى التشريعي يمس الحقوق و الحريات التى يضمنها الدستور , يمكن أن تحال القضية بواسطة مجلس الدولة أو محكمة النقض إلى المجلس الدستوري الدي يصدر حكمه بخصوص القضية المعروضة عليه داخل أجل محدد.

كما أن شروط تطبيق هدا الفصل جاء به التعديل الدستوري ليوليوز 2008 و تم توضيحها بواسطة القانون التنظيمي رقم 1523,2009 بتاريخ 10 دجنبر 2009.

و عندما تحال المسألة ذات الأولوية الدستورية حسب الحالة إلى مجلس الدولة أو إلى محكمة النقض , فإن هده المحكمة العليا تتوفر على أجل ثلاثة أشهر لكي تقرر في مدى إحالة القضية إلى المجلس الدستوري . و تجدر الاشارة إلى أن رفض مجلس الدولة أو محكمة النقض إحالة المسألة إلى المجلس الدستوري غير قابل لأي طريقة من طرق  طعن . و عند الاحالة للمجلس فإن قرار المجلس غير قابل لأي طريق من طرق الطعن بحيث يكتسي قراره لحجية الشيء المقضي به  فور نشره في الجريدة الرسمية .(10)

2/النمودج المغربي (الرقابة القضائية ):

في إطار التجربة المغربية يجب التمييز بين ثلاثة مراحل مرت بها تجربة الرقابة على دستورية القوانين في المغرب :

المرحلة الأولى :  وتتمثل في الغرفة الدستورية التى جاءت بها الدساتير المغربية الثلاثة الأولى لسنوات 1962و 1970و 1972 و تجب الاشارة إلى أن الغرفة الدستورية لم تكن هيئة مستقلة , بل كانت تابعة للمجلس الاعلى – سابقا – هذا الاخير الدي يعتبر أعلى هيئة قضائية في البلاد , أما بالنسبة لاختصاص الغرفة الدستورية فيتمثل حسب الفصل 57 من الدستور الاحالة الاجبارية للقوانين التنظيمية قبل صدور الأمر بتنفيذها بقصد الموافقة عليها( الفصل 42 ) و كدا تعمل الغرفة على النظر في دستورية القانون الداخلي لمجلس النواب قبل العمل بمقتضياته , بالإضافة إلى مراقبة صحة عمليات الاستفتاء  ( الفصل 97 من دستور 1972 ). كما كانت تختص بصفة اختيارية بالنظر في دستورية النصوص ذات الطبيعة التشريعية , كما أنها تعمل على الفصل بين المجال التشريعي و المجال التنظيمي في نطاق أي خلاف بينهما . هذا و يجب التذكير إلى أنه كان يعود للغرفة الدستورية اختصاص البت في المنازعات المتعلقة بصحة انتخاب أعضاء البرلمان . أما بالنسبة للطابع التى كانت تكتسيه هده الغرفة , فالملاحظ من حيث طريقة التعيين و طبيعة أعضائها أنها كانت ذو طبيعة مختلطة تجمع بين السياسي و القضائي . فالصبغة السياسية تتمثل في كون أعضائها لا يشترط فيهم تكوين قضائي و قانوني أو فقهي كما أن تعيينهم يتم من طرف رئيس الدولة و رئيس مجلس النواب و بالنسبة للصبغة القضائية فتتمثل في كونها غرفة  تابعة لأعلى هيئة قضائية الدي يرأسها قاضي و بالتالي فإنها تخضع بحكم الواقع و القانون لأخلاقيات و أعراف القضاء مما يضفي عليها الصبغة القضائية .

المرحلة الثانية : و قد تولى فيها المجلس الدستوري البت في دستورية القوانين و ذلك في إطار الدساتير 1992و دستور 1996. و يعد هدا المجلس هيئة مستقلة له كيانه الخاص بحيث خصص له الباب السادس من دستور 1992 و على مستوى التركيبة فقد تم الرفع من عدد الأعضاء الدي صار عددهم 9 و تتكون من أربعة يعينهم الملك و أربعة يعينهم رئيس مجلس النواب . و على مستوى الاختصاصات فقد تم تمكين المجلس من مراقبة القوانين العادية و قد شمل حق الاحالة بالإضافة إلى الوزير الاول و رئيس البرلمان أيضا الاقلية البرلمانية . كما أن قرارات المجلس تلزم الجميع و غير قابلة لأي طريق من طرق الطعن . و في ظل دستور 1996 فقد تم الرفع من أعضاء المجلس أخدا بعين الاعتبار أن البرلمان أصبح يتكون من غرفتين و انعكس دلك بطبيعة الحال على تركيبة المجلس الدي أصبح يتكون من 12 عضوا بحيث أصبح ثلاثة منهم يعينهم رئيس مجلس المستشارين .

المرحلة الثالثة : بعد كل هده المراحل و التجارب في مجال الرقابة على دستورية القوانين , فقد اتجه المشرع الدستوري على ضوء دستور 2011 لتكريس قضاء دستوري مستقل دلك بإحداثه بموجب الفصل 129 من الدستور الجديد محكمة دستورية تتولى البت في الرقابة و قد خصص لها بابا مستقلا بعد السلطة القضائية و دلك في إطار الباب الثامن من الدستور . و تجب الاشارة في هدا الصدد إلى أن القانون الأساسي لسنة 2011 قد جاء بمجموعة من التجديدات تهم تكريس فعالية القضاء الدستوري من أجل حماية الحقوق و الحريات الدستورية و دلك على مجموعة من المستويات , سواء تعلق الأمر على المستوى تركيبة المحكمة أو على مستوى اختصاصاتها :

على مستوى تركيبة المحكمة : فمن حيث عدد الاعضاء فقد استقر عدد الأعضاء في 12 عضوا , و قد نص على دلك القانون التنظيمي رقم 066.13 و الصادر بتنفيذ الظهير الشريف رقم 1.14.139 بتاريخ 16 شوال 1435 و ( 13 أغسطس 2014). كما نص أيضا على أنه ( طبقا لأحكام الفصل 130 من الدستور فإن الاعضاء السابق دكر عددهم , يعينون لمدة 9 سنوات غير قابلة للتجديد من بين الشخصيات المتوفرة على تكوين عال في القانون و على كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية , و الدين مارسوا مهامهم لمدة تفوق 15 سنة  و المشهود لهم بالتجربة و النزاهة . و يتوزع هؤلاء الأعضاء كما يلي : * ستة أعضاء يعينون بظهير من بينهم عضو يقترحه الامين العام للمجلس العلمي الاعلى .

*ثلاثة أعضاء ينتخبون من قبل مجلس النواب .

*ثلاثة أعضاء ينتخبون من قبل مجلس المستشارين.

يعين الملك رئيس المحكمة الدستورية بظهير من بين الأعضاء الدين تتألف منهم .)

و قد حددت المادة 5 من القانون التنظيمي المهام التى لا يجوز الجمع بينها و بين العضوية في المحكمة (11).و الملاحظ من خلال المادة السابقة أن تشكيلة المحكمة رغم أنها تنتخب و تعين من طرف سلطة ذات طابع سياسي , إلا أنها اشترطت معايير واضحة للعضوية و المتمثلة في التكوين العال في الفقه أو القانون أو القضاء و هذا ما سيضفي على أحكامها الجودة القانونية بل سيجعل ذات المحكمة تتجه بالأخذ بالرقابة ذات الطابع القضائي و ما يؤيد هدا القول هو اسم المحكمة و طبيعة أعضائها .

أما على مستوى الاختصاصات : فقد نص الفصل 132 من الدستور على أن المحكمة الدستورية تمارس الاختصاصات المسندة إليها بفصول الدستور و بأحكام القوانين التنظيمية . و بالإضافة إلى دلك تبت في صحة انتخاب أعضاء البرلمان و عمليات الاستفتاء . أما من حيث إجبارية الإحالة  فتكون الاحالة وجوبية إدا تعلق الأمر بالقوانين التنظيمية و الانظمة الداخلية لكل من مجلس النواب و مجلس المستشارين و دلك قبل إصدار الأمر في تنفيذها . في حين تكون الإحالة اختيارية إدا كان الامر يتعلق بالقانون العادي و الاتفاقيات الدولية و دلك بصفة قبلية و سابقة على إصدار الأمر بتنفيذ القانون و هده الاحالة الاختيارية القبلية تكون في يد الملك أو رئيس الحكومة أو خمس أعضاء مجلس النواب , أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين . و طبقا للفقرة الرابعة من الفصل 132 من الدستور فإن المحكمة تبت في الحالات السابقة الذكر , داخل أجل شهر من تاريخ الإحالة . غير أن هذا الأجل يخفض في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام , بطلب من الحكومة .

و قد نصت الفقرة الأخيرة من ف.132 على أنه تبت المحكمة في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان داخل أجل سنة و يمكن لها أن تتجاوز المدة المقررة إدا استوجب الأمر دلك بموجب قرار معلل .

و يعد المستجد الأكثر أهمية في هدا الباب -المتعلق بالاختصاصات -هو البت في الدفع بعدم دستورية القانون بصفة بعدية و من طرف المواطن . فطبقا لما ينص عليه الفصل 133 من الدستور تختص المحكمة بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون , أثير النظر في قضية , و ذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون , الذي سيطبق في النزاع , يمس بالحقوق و الحريات التي يضمنها الدستور . و ذلك في انتظار القانون التنظيمي الذي سيحدد شروط و إجراءات تطبيق هذا الفصل , و جدير بالذكر أن القرارا الصادر عن المحكمة في مسالة الدفع من طرف المواطن ينسخ بصفة نهائية  القانون المخالف للدستور.

و الملاحظ من خلال من سبق أن القضاء الدستوري المغربي بدأ يتجه في اتجاه القضاء الدستوري الأمريكي الدي يهدف أساسا إلى حماية حقوق المواطن من تعسف السلطة المشرعة و سيكون اختصاص الدفع في عدم دستورية قانون أهم اختصاص أصبح يمارسه القاضي الدستوري بالمغرب , لأن هذا الاختصاص سيجعل من النص الدستوري ملكية للمواطن , فحق الإحالة سوف لن يبقى قاصرا على الطبقة السياسية بل حتى المتقاضين أصبح من حقهم إحالة قوانين يرونها غير دستورية على المحكمة الدستورية (12).

و إجمالا فإن تقنية الرقابة أصبحت تحظى بأهمية بالغة في مختلف الديمقراطيات الحديثة التي تتبنى الدساتير الجامدة , و ذلك وعيا منها بمكانة الدستور القانونية و كذا بأهمية حماية الحقوق الدستورية للمواطن من جهة ثانية . و ما لذلك من أثر إيجابي في تكريس الأمن القانوني للدولة الذي يحمل في طياته أبعاد تنموية على سائر المستويات . كما أن مسألة الرقابة بعد كل هذه المراحل و التجارب التي خاضتها بدأت تتجه إلى المراد الحقيقي منها و هو حماية المواطن من أي تعسف من سلطة تشريع . كما وجب الذكر في هذا السياق إلى أن الرقابة القضائية التي أخذت بها أمريكا و الدول التي سارت في اتجاهها تظل الرقابة الاكثر حماية للحقوق الدستورية من تعسف المشرع . و في الأخير لابد من الاشارة إلى أن الرقابة على دستورية القوانين سيكون دورها  أكثر فعالية كلما زاد الوعي الحقوقي و القانوني للمواطن داخل المجتمع .

 

       لائحة الهوامش :

(1)- يعتبر هانس كلسن أحد أبرز منظري الوضعية , فطبقا لنظرية هذا الاخير فإن كل قانون مصدره الدولة و الدولة ليست إلا نسقا من المعايير و القواعد الهرمية , كل قاعدة فيه تستمد قوتها الملزمة من مطابقتها للقاعدة الأعلى درجة منها , صعودا للقاعدة الاعلى درجة و هي الدستور .

(2)- تعد الدستورانية تيار فكري ظهر في القرن الثامن عشر في أوربا و أمريكا الشمالية و كان يدعو إلى الأخذ بالدساتير الجامدة المكتوبة بغرض وضع حد للممارسة التحكمية للسلطة . للتوسع أكثر راجع كتاب المفاهيم الاساسية في القانون العام  طبعة 2013 للدكتور الحسن الجماعي ص144-145 ,

(3)- للتوسع أكثر راجع كتاب مدخل إلى القانون الدستوري للدكتور حسن الجماعي الطبعة الاولى لسنة 2014 مطبعة دعاية (ص53)

(5)- للتوسع أكثر راجع كتاب النظرية العامة للقانون الدستوري للدكتور محمد قلوش طبعة سنة 2004 رقم الايداع 0422/2004 : ص 119 و ما بعدها.

(6)- للتوسع أكثر راجع كتاب القانون الدستوري للدكتورة مليكة الصروخ طبعة 1998 ص130-131.

(7) –  راجع كتاب القانون الدستوري للدكتورة مليكة الصروخ طبعة 1998 نفس الصفحة السابقة .

(8)- للتوسع أكثر راجع كتاب مدخل إلى القانون الدستوري للدكتور حسن الجماعي الطبعة الاولى لسنة 2014 مطبعة دعاية ص 77.

(9)- راجع كتاب القانون الدستوري للدكتورة مليكة الصروخ طبعة 1998 الصفحة    123 .

(10)- للتوسع أكثر راجع كتاب مدخل إلى القانون الدستوري للدكتور حسن الجماعي الطبعة الاولى لسنة 2014 مطبعة دعاية ص95. فدور مجلس الدولة و محكمة النقض هو التصفية قبل الاحالة إلى المجلس ذلك تفاديا لتراكم القضايا على المجلس .

(11)- راجع في هذا الصدد الظهير الشريف رقم 1.14.139 الصادر في 16 من شوال 1435 (13 أغسطس 2014) بتنفيذ القانون التنظيمي 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية ( الجريدة الرسمية عدد6288 في 8 ذو القعدة 1435).

(12)- للتوسع أكثر راجع كتاب مدخل إلى القانون الدستوري للدكتور حسن الجماعي الطبعة الاولى لسنة 2014 مطبعة دعاية ص.113

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى