أزمة التوظيف بالتعاقد بين نص القانون ولغة الواقع
أزمة التوظيف بالتعاقد بين نص القانون ولغة الواقع
-عزيز لعويــســـي
إذا كان اعتماد التوظيف بالتعاقد في قطاع التعليم قد مكن من التخفيف من حدة الاكتظاظ الذي استفحل خلال السنوات الأخيرة، فهو بالمقابل أدخل المدرسة العمومية في جو من عدم الاستقرار وعمق الإحساس بالهشاشة و انعدام الكرامة والتخوف من المستقبل لدى شريحة عريضة من الأساتذة الموظفين بموجب عقود، الذين تقوت لديهم الرغبة الجماعية في “إسقاط التعاقد” و”كسب رهان الترسيم” مما أدخل المشهد المدرسي في حالة من الاحتقــــان، وعمق النقاش حول هذا النمط من التوظيف الذي لا زال يثـــير الكثير من الجدل خاصة في ظل التعبئة الجماعية للأساتذة المتعاقدين وتكتلهم تحت لواء “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” وانخراطهم في مسلسل نضالي تتنوع وسائله وأساليبه بين الإضراب والوقفات الاحتجاجية والإنزال الجماعي بالعاصمة في محاولة منهم تحقيق مطالبهم المشروعة وفي طليعتها “الإدماج” في أسلاك الوظيفة العمومية،
وقد تواصل النضال بالانخراط الجماعي في إضراب وطني يوم الثاني والعشرين من الشهر الجاري دعت إليه “التنسيقية الوطنية” تخللته عدة وقفات احتجاجية أمام عدد من المديريات الإقليمية للتربية والتكوين، رفعت خلالها شعارات مختلفة على رأسها “المطالبة بإلغاء نظام التعاقد” و”الإدماج في سلك الوظيفية العمومية”، “عقدة الهشاشة والعبودية” بالإضافة إلى شعارات مطلبية أخرى كالمطالبة بإعادة جميع المطرودين والمرسبين إلى فصـول الدراسة وإجراء حوار مفتوح مع السلطات المختصة ينهي التعاقد،
وفي سياق نفس المسلسل النضالي، يرتقب أن تنظيم “مسيرة الوفـــــاء” للمرسبين والمطرودين بالدارالبيضاء بتاريخ 29 من شهر أكتوبر الجاري تحت شعــار”ضد التعاقد-دفاعا عن المدرسة العمومية”، وعليه وبعد أن تم رصد جوانب من الجدل الذي أثاره ويثيره هذا “التعاقد” في مقالات سابقـــة نشرت بعدد من المنابر الإعلامية (1)، فهي مناسبــــة أخرى لفتح “ملف التعاقد” الذي يثير “أزمة” في زمن تنزيل “الرؤية الإستراتيجية للإصــلاح”و وضع “قانون إطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي”، وهي أزمــة تبدو اليوم محاصرة بين نص القانون الذي كرس وأطر التعاقد، ولغــة الواقع التي يجسدها النضال والاحتجاج، ويمكن مقاربـــة هذه الأزمة من خلال وجهات النظر التاليــة :
قراءة نقدية في مشروع النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين
وجهة نظــر أولى تتبنى الطرح القانوني من منطلق أن “العقد شريعة المتعاقدين” وأن الأساتذة المتعاقدين أقبلوا على مباراة التوظيف بالتعاقد وهم على علم مسبق أنها لا تهم التوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية بل أكثر من ذلك أبرموا عقود شغل مع الجهات المشغلة بكامل الإرادة (الأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين) ذات بنود تتضمن حقوقا وواجبات أو التزامات ينص بعضها بشكل صريـــح على أن “هذه العقود لا تخول الادماج في أسلاك الوظيفة العمومية” ، مما يعني -قانونا- أن الأستاذ(ة) الموظف(ة) بموجب عقد لا يمكنه المطالبـــة بالإدماج المباشر في أســلاك الوظيفــــــة العموميــــة ، وهــو الشرط المضمن إلى جانب شروط أخــرى ، بالالتزام الذي تضعه الأكاديميات رهــن إشارة المتعاقدين.
وجهة نظر ثانية، تقول أن البعض من الأساتذة المتعاقدين قبل الانخراط في التوظيف التعاقدي، قضوا سنوات من الخدمة الفعلية كأساتذة بالتعليم الخصوصي، وكانوا يمارسون في ظل علاقات شغلية غير متوازنة تميل كلية لرب العمل/ صاحب المشروع، والبعض الآخر اشتغل في القطاع الخاص (شركات) أو بالتعليم الأولي أو ببرامج محو الأمية في ظل ظروف غير محفزة، والبعض الثالث كان في حالة عطالة، وبالتالي فالتعاقد مهما كانت المؤاخدات عليه، يبقى أكثر جاذبية مقارنة مع عقود شغلية أخرى، بالنظر إلى ما يتيحه للأستاذ(ة) من حقوق وضمانات وواجبات والتزامات -ماعدا الترسيم والإدماج-، والإقبال عليه خاصة من طرف أساتذة التعليم الخصوصي، معناه أن “المدرسة الخصوصية” سارت بالنسبة للكثير من الأساتذة الخصوصيين محطة للاحتكاك والتمرس في انتظار فرصة الخلاص (نحو التعاقد بالمدرسة العمومية أو نحو وظيفة أخرى).
قراءة نقدية في مشروع النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين
وجهة نظر ثالثة، يتبناها ”الأساتذة المتعاقدون” أنفسهم، بعد أن وحدوا الصفوف تحت لواء” التنسقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” ، وخاضوا عدة أشكال نضالية (إضراب، وقفات احتجاجية أمام المديريات الإقليمية، مسيرات بالرباط …) حاملين مطالب مختلفة في طليعتها “إلغاء التعاقد” و”المطالبة بالترسيم “و”الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية”، مندديـــــن بتعاقد لا يحفظ الكرامة ولا يضمن الاستقـــرار (مادي،اجتماعي،نفسي) حسب تصورهم، وهذه المطالب وإن كان لابد من الإقرار بمشروعيتها خاصة في ظل إقدام بعض الأكاديميات على فسخ بعض عقود التشغيل ورفع مطالب إرجاع المرسبين والمطرودين، فهي تطرح إشكالا قانونيا، من منطلق القبول بإجراء مباراة في ظل شروط معينة وتوقيع عقود شغلية مع الطرف المشغل (الأكاديميات)، وبعد النجاح النهائي وإبرام العقود والالتحاق بالشغل، تتقوى الرغبة الجماعية في الانقلاب على القانون من خلال المطالبة بإسقاط التعاقد والترسيم والإدماج، مما يعد ضربا للعقود المبرمة في الصميم بما في ذلك الإلتزامات الموقعة من طرف المتعاقدين والمصححة الإمضاء والتي يلتزمون فيهــا بعدم المطالبة بالإدماج في الوظيفة العمومية.
وجهة نظر رسمية، يستفاد منها أن الدولة (الوزارة الوصية) رفعت يدها عن التوظيف وأرمت به في مرمى الأكاديميات، في إطار “رؤية رسمية” تسير في اتجاه تجاوز المفهوم التقليدي للوظيفة (الوظيفة العمومية) وتوسيـــع دائرة التشغيل بالتعاقد في عدد من القطاعات، لكن هناك رؤية يتبناها مجموعة من متتبعي الشأن التربوي، تفيد أن المدرسة العمومية لها “خصوصيتها” مقارنة مع قطاعات أخرى، وقد كان على الجهات الرسمية استثناء الحقل التربوي من “التعاقد”، الذي وإن ساعد على التخفيف من حدة الاكتظاظ الذي وصل مداه في المواسم الأخيرة في ظل الإقبال المقلق على “التقاعد النسبي” ، فقد بعثر أوراق المشهد المدرسي وجعل المدرسة العمومية تعيش على وقع الاحتقان والاحتجاج والانقسام (أساتذة مرسمون، أساتذة متعاقدون، اضرابات، وقفات، احتجاجات …)، وكان من المفروض الحرص على تحسين وضعية الموارد البشرية وإحاطتها بما يضمن لها الكرامة والاستقرار باعتبارها قنوات لا محيدة عنها لتنزيل الرؤية الاستراتيجية للإصلاح وترجمة أفكار ومقاصد القانون الإطار على أرض الواقع.
بناء على وجهات النظر المشار إليها سلفا، ما هو واضح الآن هو أن دائرة التعاقد تتسع سنة بعد أخــرى، ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الأساتذة المتعاقدين عتبة “سبعون ألف” متعاقد(ة) بعد المباراة المتوقع إجراؤها غضون السنة الجارية، مما يعني أن “مطلب الترسيم” و”الإدماج” سيتقوى سنة بعد أخــرى فوجا بعد فوج، أما الدولة (الوزارة الوصية) فيبدو أنها لن تتخلى عن هذا النـــوع من التوظيف التعاقدي الذي تم تأطيره قانونيا ب “نظام أساسي خاص بأطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين”لم يتمكن من تطويق الأزمة، ولا يمكن تصــــور نوعا من التنازل أو الانصياع للغة الشـــارع (إضرابات،احتجاجات،وقفات…)، لكن في نفس الآن، لغة الشارع لا يمكن للدولة تجاهلها أو نكرانها أو إقصاؤها، و لابد من أخد هذه المطالب بعين الاعتبار من خلال إعادة النظر في طبيعة هذه العقــود المبرمة وتجويدها بإحاطتها بما يلزم من حقوق وضمانات قادرة على احتواء الأزمة بشكل يجعلها تحقق الاستقرار المادي والاجتماعي والنفسي لشريحة عريضة من الأساتذة الموظفين بموجب عقود الذين يتقاسمون جميعا الإحساس بعدم الاستقرار والتخوف من المستقبل في ظل صلاحيات الجهات المشغلة (الأكاديميات) في فسخ العقود.
أخيرا وتأسيسا على ماسبق، لا مناص من القول أن ملف “الأساتذة الموظفون بموجب عقود” لا يمكن مقاربته بمعزل عن الوضعية المقلقة لنساء ورجال التعليم (ضعف الأجور، غياب التحفيزات، محدودية وسائل العمل، استفحال العنف المدرسي، تراجع الوضع الاعتباري داخل المجتمع …إلخ)، ويكفي القول أن المدرسة العمومية سارت اليوم مقسمة بين : أساتذة “مرسمون” متذمرون يقبلون على التقاعد النسبي هروبا من واقع تغيب فيه شروط العمل والتحفيز، وأساتذة “متعاقدون” محبطون يناضلون من أجل كسب معركة “الترسيم” و”الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية”، مما قد يعكس حالة من الارتباك من جانب الدولة (الوزارة الوصية) ، فلاهي استطاعت أن توفر شروط التحفيز للأساتذة القدامى من أجل كبح جماح الإقبال على التقاعد النسبي (نزيف الأطر والخبرات) ولا هي استطاعت أن توفر للمتعاقدين عقودا متوازنة تضمن الكرامة والاستقرار وتحفز على الخلق والإبداع، ويمكن التساؤل هنا عن الجدوى من “رؤية إصلاحية” أو “قانون إطار” إذا لم يتم الارتقاء بوضعية رجل التربية والتكوين ماديا ومعنويا باعتباره “محركا” لكل عملية إصلاحية، وتجاهل ذلك سيجعل “الإصلاح” مقرونا بمفردات ” الإحباط”و”الارتباك”و “الاحتقان” ، وطريق “رد الاعتبار” يمر -أولا- عبر إيجاد تسوية مقنعة ومرضية لقضية الأساتذة المتعاقدين بشكل يحفظ سيادة “القانون” و يستجيب للغة “الواقع” ، مع الإشارة أخيرا، إلى أن إصلاح “المدرسة العمومية”و رد الاعتبار لرجل التربية والتكوين هما وجهان لعملة واحدة، ولايمكن قطعا أن النهوض والارتقاء بأحدهما بمعزل عن الآخر.
هوامش:
- ينظر في هذا الصدد مقالاتنا في الموضوع منشورة في عدد من المواقع الالكترونية والجرائد الورقية منهـــــــا :
- مقال حول موضوع “المدرسة العمومية بين جدل التعاقد و نزيف التقاعد ” منشور بموقع “بديل بريس”(22 نونبر 2017)، موقع” الإعلامي” (4 شتنبر 2018) …
- مقال حول موضوع ” الأستاذ(ة) المتعاقد(ة) بين مطلب الترسيم وهاجس فسخ العقد” منشور بجريدة “هسبريس” (بتاريخ 1 فبراير 2018)، موقع “الإعلامي”(6 فبراير 2018) ، جريدة “كفى بريس” (25 أكتوبر 2018)، موقع”بديل بريس” (25 يناير 2018)، موقع جريدة “القانونية”، موقع “عالم بريس” …
- مقال حول موضوع ” توظيف الأساتذة بموجب عقود: قراءة في عقد التدريب المفضي إلى التوظيـــف بموجب عقــــد” منشور بجريدة “هسبريس” (6 فبراير2018)، جريدة “أنفاس بريس” (3 فبراير 2018)، موقع” بديل بريس” (3 فبراير 2018)…
- مقال حول موضوع “الوجه الآخر للتوظيف بالتعاقد” منشور بجريدة “هسبريس” (14 فبراير 2018)، جريدة “السفير24” (18 فبراير 2018) …
– كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي بالمحمدية، باحث في القانون وقضايا التربية والتكوين.