الاوتانازيا عند العرب والغرب: انتهاك لحرمة الحياة أم جيل جديد لحقوق الإنسان؟ – الدكتورة : امينة حميدي دكتوراه في للقانون العام والعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط، المغرب
الاوتانازيا عند العرب والغرب: انتهاك لحرمة الحياة أم جيل جديد لحقوق الإنسان؟
Euthanasia among the Arabs and the West: a violation of the sanctity of life or a new generation of human rights?
الدكتورة : امينة حميدي
دكتوراه في للقانون العام والعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط، المغرب
الملخص:
يتطرق البحث إلى موضوع القتل الرحيم ومواقف كل من الشرع والقانون والطب والمجال الحقوقي منه داخل الدول الغربية والدول الإسلامية. وتثير الاوتانازيا الجدل بين تيارين متباينين في وجهات النظر لكل منهما مرجعيته التي يعتمد عليها لرفض أو قبول قتل الرحمة. فالأول يعتبر هذا الأخير ينتمي إلى الجيل الجديد لحقوق الإنسان ويدافع عنه بشراسة من زاوية رفع المعاناة عن المريض الذي يعيش مأساة حقيقية مع مرض مستحيل الشفاء منه وكذا للحفاظ على الكرامة والحرية في تقرير المصير المتعلق بالموت والحياة دون إكراه. في المقابل يدافع التيار الثاني عن الحق في الحياة كأسمى حق لحقوق الإنسان الوارد حمايته في جميع المواثيق الدولية والوطنية. ذلك أن هذا الحق ليس ملكا للإنسان وبالتالي لا يمكنه التصرف فيه أو التحكم في موعد الوفاة أو تحديد الوسيلة التي يتم بها.
كلمات مفتاحية: القتل الرحيم – حق الحياة – تقرير المصير-معاناة
Abstract:
The article discusses the subject of Euthanasia and the positions of religion, law, medicine and the human rights field in Western countries as well as in Islamic countries.
Euthanasia raises controversy between two different currents, each of which has its own reference to reject or accept it.
The first current considers Euthanasia one of the new generation of human rights because it aims to alleviate the suffering of a patient who is living a real tragedy with an incurable disease, as well as it preserves a person’s dignity and freedom to self-determination related to death and life without coercion.
On the other hand, the second current defends the right to life as the highest human right protected in all international and national conventions. This right does not belong to a person and therefore he cannot dispose of it, control the date of his death, or determine the method by which it is done.
Keys words: Euthanasia – The right to life – Self determination – Suffering
مقدمة:
أصبح الموت الرحيم في السنوات الأخيرة من بين المواضيع التي تثير نقاشا قويا داخل الأوساط الطبية والحقوقية داخل بعض الدول المتقدمة. خصوصا مع انتشار الحديث على ما يطلق عليه بالجيل الجديد لحقوق الإنسان بفعل العولمة والتكنولوجيا المتطورة[1]. وتطرح الإشكالية المتعلقة بهذا الموضوع في كون الاوتانازيا تصبو إلى تدخل طبي للتعجيل من وفاة مريض يعاني من أمراض مستعصية تصحبها آلام مبرحة وصعبة التحمل. فهل يمكن اعتبارها عملا إنسانيا وحقا من حقوق الإنسان أم أنها جريمة يجب المعاقبة عليها قانونيا على اعتبار أنها قتل وإنهاء لحياة شخص معلول؟
وإذا كان من السهولة الحديث عن الموت إشفاقا في الدول الغربية فان الأمر ليس كذلك في الدول العربية والإسلامية لأنه مرتبط بزوايا متعددة تتجلى فيما هو ديني وما هو طبي وما هو قانوني وحقوقي لا سيما أنه يمس واحدا من أهم حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة.
وبالتالي فلمناقشة هذه الإشكالية سنعرج عن موقف كل من الدين والقانون فضلا عن الجانبين الطبي والحقوقي.
المحور الأول: موقف الشرع والقانون من الموت الرحيم
بدأت المناداة بفكرة الموت الرحيم أو ما يسمى الأوثانازيا ( (Euthanasia في أوائل القرن العشرين. وهي كلمة إغريقية تتكون من شقين: EU بمعنى الرحيم وTATHANOS أي الموت[2]. وتهدف الاوثانازيا إلى وضع حل لمعاناة المرضى المفقود الشفاء منهم وما ينتج عنها من اثار نفسية وصحية ومادية مكلفة لهم ولعائلاتهم. ويتم اللجوء إلى هذا الإجراء حينما ييأس الطبيب من علاج شخص طال به المرض لا يستطيع مقاومة الآلام لدرجة أنه يلح بطلب الموت للتخلص من العذاب.
أولا-الموت الرحيم من وجهة نظر الشريعة الإسلامية
نهت الأديان السماوية الثلاثة عن القتل الرحيم على أساس أن الموت والحياة أمران بيد الله. فمن أسماءه الحسنى عز وجل، الرحمان الرحيم ولا يوجد أرحم منه سبحانه وتعالى على عباده. وبالتالي لا يحق لأي شخص ادعاء الرحمة لقتل مريض أو التدخل في مشيئة الله. فهو الوحيد الذي يمنح الروح ويستردها متى شاء استنادا لما جاء في كتابه العزيز: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”[3] وقوله تعالى: “وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا”[4]. وبالتالي فللنفس حرمتها والله تعالى هو من يقرر موعد وفاة مخلوقاته كما لا يسمح سبحانه أن يعتدي الإنسان على نفسه طبقا لقوله تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما “.
مما سبق يتبين أن الإسلام يمنع الأوثانازيا ويعتبرها عملا غير شرعيا. فالمقاصد الأساسية للدين الإسلامي تتجلى في حفظ الدين من خلال عبادة الله وتوحيده وصون النفس بحمايتها والبقاء على قيد الحياة ما لم يحن موعد الموت وتحريم القتل وحفظ العقل والمال وعدم الاعتداء على العرض. ولذلك واحتراما لما جاء في القران والسنة فان اتحاد أطباء العرب أقروا عدم إجازة إنهاء حياة المريض حتى من باب الرحمة ورفع المعاناة ولو كان الأمر ذلك برغبة طوعية من المريض.[5] وعليه فلا الطبيب أو أسرة المريض أو المريض نفسه أرحم من الله سبحانه وتعالى على الناس. فكيف يمكن استباحة التدخل في تقرير مصير أمر بيد الله مهما كانت الظروف وقسوتها على الشخص؟
فالله هو المنجي والمميت. وأحكام الشريعة الإسلامية تدعو الإنسان إلى الصبر وتحمل الابتلاء والإيمان بالقدر خيره وشره لقوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”[6].كما أن الغاية من الحماية من منع القتل تكمن في حق الفرد في الوجود وحق المجتمع في الاستمرار لأن نهاية الفرد تؤدي إلى نهاية الجماعة[7].
كما أن حماية الحق في الحياة تجعل الشخص يعيش على أساس الأمل في قدرة الله على الشفاء مادام لم يصل أجله الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا الإيمان يجعله يكفر عن سيئاته ويجازى عن صبره. أما الدين الإسلامي فلا يحل إلا نوعا واحدا من القتل وهو الجهاد في سبيل الله. أما غير ذلك فهو استباق للموت لهدف غير معلن لا يعلمه إلا من له مصلحة في التخلص من الشخص المستهدف.
ثانيا-الموت الرحيم في القوانين الوضعية
تنص جل دساتير العالم على الحق في الحياة كحق من الحقوق الأساسية التي يجب حمايتها وبالتالي فهي ترفض القتل الرحيم. بيد أن موقف بعض الدول الغربية من الأوثانازيا بدأ يتغير مع مرور الزمن.
- موت الرحمة في النصوص القانونية الغربية
على الرغم من أن النقاش حول الموت الرحيم لم يبرز إلا في العصر الحالي، إلا أن هذا المصطلح ولد في القرن الثالث عشر مع المفكر الغربي فرنسيس بيكون الذي كان أول المدافعين على أسهل طريقة لموت الأشخاص غير الممكن علاجهم[8]. وقد استمد القس الإنجليزي أفكاره من الفلسفة اليونانية مع أفلاطون وسقراط اللذان طالبا بإصدار تشريع لعدم مساعدة المرضى حتى يلقوا حتفهم في إطار ما سموه” بالموت بشرف”[9].
أما في العصر الحديث فقليلة هي التشريعات الغربية المعاصرة التي تبنت إجراء موت الرحمة. ومن الدول التي شكلت سبقا بإصدار قوانين سمحت بتنظيم ممارسته نجد في الصدارة خمس دول أوروبية منها: هولندا وبلجيكا إضافة إلى ولاية أوريغون الأمريكية.
فهولندا تعتبر رائدة في هذا المجال وأول الدول التي عرفت تنفيذ قانون الموت بدافع الرحمة سنة 2002 [10].كما وضعت شروطا محددة تكمن في تقدم المريض بكامل إرادته بطلب إنهاء حياته حينما يعجز الطب عن إيجاد العلاج لحالته مع ضرورة استشارة طبيب آخر[11].
ومنذ إصدار هذا القانون وحالات الاوتانازيا في ارتفاع مخيف[12] حيث لم تتوقف هولندا عند هذا الحد، بل ذهبت بعيدا في تطبيق هذا الإجراء واعتبرته عملا إنسانيا سمحت به حتى للمسنين المتخلى عنهم من طرف أسرهم على أساس أنهم وحيدون ويحملون الدولة أعباء وتكاليف إضافية[13]. بل وخصصت دعما كبيرا للمراكز الاستشفائية التي تقوم بذلك.
ومن التشريعات التي سارت على نهج المشرع الهولندي نجد ولاية أوريغون التي تعد الولاية الامريكية الوحيدة[14] التي أجازت القتل الطوعي وقيدته بمجموعة من الإجراءات والمساطر الصارمة كموافقة خطية للمريض وإخبار مسبق لأسرته وتراوح المدة الفاصلة بين الإقرار والتنفيذ 15 يوما.
من جهة آخرى، تجيز بلجيكا وإسبانيا بموجب قانون خاص للطبيب المعالج إنهاء حياة مريضه في حالة استحالة علاجه وعدم وجود أي بديل آخر لتخليصه من عذابه وآلامه الشديدة.
على الرغم من أن هذه الدول سمحت بالموت الرحيم إلا أن الأمر يختلف تماما في الدول العربية إذ لا يوجد قانون خاص يرخص بشكل واضح للأوثانازيا.
- الموت الرحيم في التشريعات العربية
رفضت الدول العربية والإسلامية بشكل مطلق القتل الرحيم على اعتباره يتنافى مع الشرع والقانون. ومن بين النصوص القانونية التي نصت بشكل واضح على تجريم الأوثانازيا نجد منطوق المادة 552 من قانون العقوبات اللبناني الذي يحكم بالسجن لمدة عشر سنوات على كل من نفذ القتل الرحيم[15]. وهو نفس ما أكدت عليه المادة 538 من القانون السوري[16].
أما القتل إشفاقا في التشريع المغربي فهو من المواضيع المسكوت عنها فلا يوجد مقتضى صريح يخص هذا الإجراء أو شروطه. غير أنه بقراءة للأسانيد الدستورية نجد أن الفصل 22 يحمي السلامة الجسدية والمعنوية لأي شخص ويمنع على أي جهة المس بها مهما كانت الظروف. كما أن المسطرة الجنائية والقانون الجنائي المغربيين يجرمان القتل والانتحار وأي تقديم للمساعدة في هذا الاتجاه[17].
وسواء كان القتل ناتج عن فعل إجرامي أو بدافع الشفقة فالنتيجة واحدة والجزاء واحد فلا يهم في القاعدة القانونية الجنائية أن يكون الشخص مريضا أم لا طالما أن الجريمة قد تمت وأركانها متوفرة. كما لا يهم إن كان الهدف من التعجيل بالموت تخليص الإنسان من المعاناة والحفاظ على كرامته الإنسانية. وخير مثال على ذلك ما ذهب إليه قانون العقوبات الكويتي والقطري واللبناني الذين يعتبرون القتل إشفاقا والمساعدة على الانتحار جرائم يعاقب عليها القانون[18].
من جانب آخر، يجب التمييز بين القتل الرحيم والانتحار. فالأول يصبو إلى قتل المريض استجابة لطلبه كما لا يمكن الحديث عن الاوتانازيا في حالة التمتع بصحة جيدة[19]. في المقابل يتم الانتحار على يد الشخص نفسه[20]وقد تكون الأسباب والدوافع متعددة.
وعلى الرغم من أن العقوبة في الانتحار ليست مهمة مادام أن القتل قد نفذ، فان الجزاء المفروض في الاوتانازيا يطبق على كل من ساهم في هذا الاجراء حتى ولو كان ذلك بطلب من الشخص المعني بالأمر. ذلك أن المريض ليس له قانونيا حق التصرف في منح الحياة لنفسه أو أخذ القرار بإزهاقها. كما أن الشفقة ليست في الانصياع إلى طلب المريض الراغب في الوفاة بل تكمن في محاولة البحث عن طرق لعلاجه والتخفيف من الآمه وحثه على الصبر على الرغم من أن ذلك يبقى من الناحية العلمية صعبا لان لكل شخص قوة تحمل خاصة. وعليه، هناك من يستطيع مواصلة العيش رغم الألم وهناك من لا يستطيع ذلك. فحجم المعاناة لا يحس بها إلا المتألم مهما حاولنا أن نكون موضوعيين كما أن مقاومة الشخص تبقى رهينة بمدى إيمانه بقدره ومساندة أسرته له.
والأجدر بالذكر أن بعض التشريعات العربية كان لها وجهة نظر مغايرة، فاعتبرت أن مسألة التشدد أو التخفيف في العقوبة من اختصاص السلطة التقديرية للقاضي الذي يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف والهدف النبيل الذي من أجله ارتكبت الجريمة وكذا الوسائل المستعملة في ذلك. ويتضح ذلك جليا مثلا من خلال المادة 96 من قانون العقوبات الإماراتي التي اعتبرت أن الرحمة التي تدفع إلى قتل المريض تعد عذرا قانونيا يستوجب التخفيف من العقوبة حيث لا يمكن المساواة في التعامل بين قتل الانتقام وقتل الرأفة.
المحور الثاني: الرأي الطبي والحقوقي في الموت الرحيم
أولا-رأي الطب في الأوثانازيا
يقسم القتل الرحيم من الناحية الطبية إلى أشكال هي:
- إنهاء حياة المريض من خلال تزويده بجرعة قاتلة من الدواء.
- توفير الوسائل الضرورية للمريض لمساعدته على الانتحار.
- تعطى للمريض مهدئات للآلام تتسبب لاحقا في نقص الأكسجين وتوقيف ضربات القلب التي تفضي إلى الموت.
- قتل المريض بالكف عن تزويده بالعلاج الموصوف له للاستمرار في الحياة ومثل ذلك إزالة اشتغال أجهزة الإنعاش عن المتوفي إكلينيكيا.
ويعتبر رأي الأطباء في هذا الموضوع بالأهمية بمكان نظرا لأنهم على تواصل مباشر مع المرضى الذين يعانون من الآلام ويجدون أنفسهم أمام طلب هذا الإجراء سواء من قبل المعني بالأمر نفسه عبر طلب مباشر إذا كان واعيا أو وصية مكتوبة في حالة غيابه عن الوعي أو بطلب من عائلته. وبالتالي فالقرار الأخير حول ما يجب فعله يبقى للطبيب. وفي هذا السياق، أكد البروفيسور عادل الملحاوي أخصائي جراحة المخ والأعصاب بمؤسسة الحسن الثاني مستشفى الاختصاصات والمركز الوطني للعلوم العصبية السويسي بالرباط غياب قواعد قانونية طبية تنظم هذا الإجراء. وعليه، لا يمكن للطبيب المغربي أن يعطي أدوية أو جرعات للمرضى من أجل تنفيذ القتل الرحيم حتى ولو طلب منه ذلك لأنه لا ينسجم مع أخلاقيات مهنة الطب والقوانين المؤطرة لها. فمهمة الطبيب أن يقدم كل جهده لعلاج المريض والحد من معاناته وليس التخلص منه حتى ولو كان ذلك بحسن نية [21].
بالإضافة إلى ما سبق، ينبغي الإشارة إلى أن القتل إشفاقا لا يشمل الحالتين الآتيتين: أولا الحالة التي يتوقف فيها الطبيب عن تقديم العلاج حينما لا يؤدي إلى نتيجة تحسن من حالته. لأن الاستمرار في العلاج يؤدي فقط إلى إطالة العمر في وضع لا أمل فيه وهو ما يتناقض مع كرامة المريض[22]. أما الحالة الثانية فهو الوضع الذي لا يملك فيه الطبيب أي خيار آخر سوى تكثيف الدواء للتخفيف من ألم المريض مع علمه مسبقا أنه لن يشفى وأن العلاج يمكن أن يزهق حياته في أي لحظة.
كما أن توقيف أجهزة الإنعاش عن المريض الميت إكلينيكيا فيه جدال وتعدد الرؤى. فالعديد من الدول ترى أنه لا مانع من التدخل للقتل الرحيم السلبي مادامت وظائف الدماغ قد توقفت لأنه يؤدي إلى غيبوبة مع فقدان الأمل في عودة اشتغال القلب والتنفس. كما أن الاستمرار في ترك المريض على هذا الوضع يهدر على مريض آخر فرصة الاستفادة من الإمكانات الطبية ويكلف أسرة المريض مبالغ باهظة بدون جدوى[23].
وفي خضم هذا النقاش، فغالبًا ما يكون طلب الموت الرحيم ناتج عن حالة انفعالية سببها فقدان الأمل في الشفاء يتلقى خبره من قبل الطبيب المعالج أو طاقمه الطبي. فهل الواجب الأخلاقي والإنساني يفرض إخفاء حقيقة وضع المريض عنه أو عن عائلته حتى يبقى امل الشفاء قائما ويواجه المرض بمعنويات مرتفعة؟ أم أن كشف الحقيقة في يوم من الأيام يمكن أن يؤدي إلى صدمته و انعكاسات أخطر اذا علم بحالته بعد مرور الزمن؟.
في الواقع لا يبدو الجواب على هذه التساؤلات سهلا لأن الطبيب المعالج هو الوحيد الذي يحس بحجم معاناة مريضه. فهو يبقى إنسانا ويصعب عليه أن يظهر مشاعر عدم التأثر والتعاطف مع مرضاه خصوصا حينما يعجز العلم والتقنية البيو طبية عن إيجاد حل لمأساة شخص ما. كما أن المريض سيفقد ثقته حينما يعلم فجأة من شخص غير طبيبه بعدم التعافي فيزداد ألمه. وبالتالي لا يبقى أمام المريض والطبيب غير تعجيل الموت إشفاقا وتعاطفا مع المريض. علما أن التعجيل ليس في حد ذاته كما يوصف لأن الأكيد أن الطبيب لن يتسرع في أخذ قرار القيام بالموت الرحيم بل سينتظر الكثير من الوقت على أمل أن يظهر حل للمشكلة. ثم إن مع كل هذه الظروف قد تسوء الحالة النفسية للمريض وقد يستسلم مع مرور الوقت للموت تلقائيا دون أن يطلب من طبيبه فعل ذلك بسبب الإحساس بالآلام والخوف من الإهانة وفقدان السيطرة والضعف الإدراكي.
من جهة أخرى، كيف ستكون الحالة النفسية للطبيب الذي قد يستجيب لطلب مريضه ثم يكتشف لاحقا العلاج؟ ألن يكون التعجيل في هذه الحالة سببا في معاناة الطبيب عوض المريض؟. ثم من يوفر الحماية القانونية لهذا الطبيب؟.
وبالتالي ونظرا لصعوبة اتخاذ تدبير الموت الرحيم وتنفيذه، فالقوانين المنظمة – إن وجدت – تشترط بعض الضوابط الصارمة من بينها:
- يجب أن يتم التفكير جيدا في قرار الموت الرحيم ويكون صاحب الطلب في حالة سيكولوجية مستقرة بعيدة عن أي ضغوطات خارجية،
- يأتي الإجراء نتيجة وضع مرضي يسفر عنه آلام مبرحة تسبب معاناة شديدة للمريض ليس لها حل آخر،
- يستدعي الموت الرحيم موافقة صريحة للطبيب المعالج ولا يتم التنفيذ إلا من قبله،
- ينبغي موافقة طبيب آخر يؤكد حجم الألم الذي يستدعي القيام بهذا التدبير،
- يختار الطبيب الوسيلة والمادة المناسبة لتنفيذ القتل إشفاقا [24].
ثانيا-الرأي الحقوقي في مسألة القتل الرحيم
لم يتطرق الإعلام والأبحاث الأكاديمية كثيرا لموضوع القتل الرحيم. وحتى على المستوى الحقوقي فان معظم الفاعلين في العالم يدافعون على حماية الحق في الحياة ويرفضون أي نوع من القتل متشبثين بأمل استرجاع المريض صحته يوما من الأيام أو إيجاد علاج خصوصا مع التقدم العلمي والطبي.
فجل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والدساتير الوطنية نصت على حق الإنسان في العيش كأسمى حق في حقوق الإنسان الواجب حمايتها وفرضت الجزاءات اللازمة على من اعتدى على هذا الحق. كما لا يمكن التحدث عن أي حق من حقوق الإنسان دون أن يكون الشخص حيا. فقد نصت المادتين الثانية والثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن الحق في الحياة حق متأصل لكل إنسان وهو نفس ما جاءت به المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة الثانية للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
لقد فتحت الأوثانازيا جدالا عميقا يصعب حسمه والاصطفاف فيه[25] إما مع مؤيد يعترف بالقتل الرحيم كحق من حقوق الإنسان يصبو إلى التخلص من المعاناة والأسى الذي يسببه مرض مستعصي. وبالتالي يتنازل الشخص عن الحق في الحياة إذا كانت البواعث أقوى منه ولم يعد يعني له الاستمرار في العيش شيئا. أو مع معارض يستحضر أولوية حق الحياة بصفته حقا غير قابل للمساس.
وإذا كانت حماية الحق في الحياة تفرض فعلا إيجابيا، فإنها تلتزم أيضا بعمل سلبي يكمن في حرية التصرف في الجسد والموت بكرامة تجاوزا لأي وضع إنساني تيأس فيه الإرادة وتعيش فيه النفس العذاب والهوان والضعف.
في هذا السياق يمكننا التساؤل عن أهمية العلم في كل الإنجازات التي حققها الطب والعلوم البيولوجية الحديثة. فعلى الرغم من أنه مكن من تحسين جودة عيش الإنسان ورفاهيته وحل مشاكل كالإنجاب والعقم والهندسة الوراثية..، فان التقدم العلمي لم يستطع لحد اليوم – حل مشكلة الألم التي تتسبب فيها بعض الأمراض المستعصية[26]. أليس هذا الفشل دليل على أن العلم مهما تطور يبقى عاجزا أمام قدر الإنسان و مدة عيشه وموعد وفاته؟.
من زاوية أخرى، يبدو أن هذا الموضوع لا يشغل العديد من الحقوقيين والمجتمعات المحلية والدولية على الرغم من اتساع رقعة الدول الأوروبية التي قامت بتقنين القتل الرحيم. وذلك خوفا من أن يصبح إجراء عاديا ينفذ بكل سهولة مما يشكل إشكالية إنسانية كبيرة للبشرية جمعاء. ذلك أن فتح المجال أمام حرية الموت سيسمح بالممارسات اللاإنسانية والمشاكل غير القانونية فيصبح التشريع غطاء مشروعا لمسألة الانتحار والقتل العمد.
هكذا سيتم استخدام الأوثانازيا لأسباب غير تلك التي كانت محددة في البداية. بمعنى أن تنتقل من هدفها الرحيم الذي يسعى إلى التخلص من الآلام الشديدة إلى سلوك ممنهج يرمي إلى التدخل لإزهاق روح تعيش وضعية صعبة لا تطاق ناتجة عن التقدم في السن أو الإعاقة أو التخلف العقلي. وقد تخفي بواعث مضمرة تنبع عن أطماع عائلية في الإرث أو تكاليف مالية مرتفعة تثقل كاهل العائلة أو أهداف أخرى.
وربما ترجع الرغبة في التخلص من كبار السن والمعاقين الذين يعانون من المرض في الدول الغربية لخصوصية تركيبة هذه المجتمعات. ذلك أن العلاقات الإنسانية تكون غير وطيدة بين الأهل عكس الدول الإسلامية التي يصعب أخلاقيا على الابن التخلص من أبويه حتى وان وصلا لسن الشيخوخة والا سيكون في نظر الشريعة الإسلامية والمجتمع ابنا عاقا.
هكذا يبقى التقنين هو الوسيلة الوحيدة لاحتواء الظاهرة أخلاقيا وإنسانيا وطبيا واجتماعيا لتفادي العمل العشوائي سواء باستباحته أو برفضه والحد من انتشار الانحرافات والآثار السلبية للاوتانازيا لأنها لا تنعكس فقط على الفرد وعائلته بل على الدولة ومؤسساتها أيضا.
ختاما يمكن القول أن نطاق الحديث عن الأوثانازيا بدأ يتسع حيث لم يعد يقتصر على النظام الطبي بل انتقل إلى ظاهرة جدلية داخل الإعلام والدين. مما يعني أن المواقف حول الموضوع ستصبح في المستقبل ضرورة حيوية قابلة للنقاش. فهل يمكن أن نتحدث يوما ما عن تشريع خاص بالأوثانازيا سواء بالرفض أو القبول؟ وتجاوز الممارسة اللاعقلانية والعشوائية بتجنب السقوط في فخ التعصب والدغمائية التي تستغل الدين لرفض مناقشة بعض الظواهر التي فرضت نفسها في عالم ما بعد الحداثة.
في اعتقادنا أنه يصعب الجمع بين مصطلحين متناقضان في إجراء واحد ” القتل” و”الرحيم” فالقتل يدل على فعل إجرامي يدل على الوحشية والانتقام فكيف سيجتمع مع الرحمة والرأفة تحت شعار الإنسانية؟.
المشكل أن الفرق بين النظري والعملي شاسع فانتشار الظاهرة في دولة ما يعني أنها يوما ما ستصل إلى باقي الدول مع تطور القضايا العابرة للحدود. وبالتالي فان الأمر يستدعي تحديد الحقوق والواجبات دون التفريط في الالتزامات والقيم التي جاء بها الدين الإسلامي. وعليه وجوب تكييف الظاهرة حسب ظروف ومستجدات المجتمعات الدول العربية والإسلامية دون السقوط في جدل وجود طابوهات طبية ممنوع خوض غمار التحدث فيها. كما ينبغي النظر إليها من زاوية مدى خدمتها لصالح البشر لان الأكيد هو أن الدين الإسلامي الحنيف رئيف بالعباد ولا يرضى إلا لما هو خير للناس.
المراجع:
- سورة الأنعام، الآية: 151.
- سورة النساء، الآية 93.
- سورة البقرة، الآية 155.
- سورة المائدة الآية 32
- إسماعيل آقابابائي بني، القتل الرحيم بين الفقه والقانون، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي السلسلة: الدراسات الحضارية، 2017
- جهاد محمود عبد المبدي، عمليات نقل وتأجير الأعضاء البشرية دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2014،
- محمد فتحي، محمود راشد الحريري، اعتداءات على الحياة بين المتحضرين والمحتضرين، مجلة الفيصل، العدد 192
- مرسوم اشتراعي رقم340-صادر في 1/3/1943.
- قانون العقوبات العام 148 لعام 1949المعدّل بــالمرسوم التشريعي 1 لعام 2011.
- قانون العقوبات الكويتي (المادة 241)
- قانون العقوبات القطري (المادتان 158 و159)
- قانون العقوبات اللبناني (المادة 553).
- مدونة أخلاقيات مهنة الطب المغربية المرفقة بالمرسوم رقم 2.21.225 الصادر في 6 ذي القعدة 1442 (17يونيو 2021).
- الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية منشور على موقع مكتبة حقوق الإنسان مينيسوتا على الرابط:
- http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Islamic-Code-Ethics-Cover-2004.html
- Houziaux, Comte-Sponville et autres, Doit-on légaliser l’euthanasie ?, Question de vie, les Éditions de l’Atelier, Paris, 2004
- Note d’analyse, BILAN DE l’EUTHANASIE AUX PAYS-BAS, Alliance VITA solidaires des plus fragiles, publiée sur le site : https://www.alliancevita.org/2021/04/bilan-de-leuthanasie-aux-pays-bas-de-2001-a-2020/
- Note d’analyse, BILAN DE l’EUTHANASIE AUX PAYS-BAS, Alliance VITA solidaires des plus fragiles
- Jacqueline Wautier, L’ouverture du débat sur l’euthanasie au Sénat, Cadre éthique, médical, juridique et politique, Courrier hebdomadaire du CRISP 2000/7-8 (n° 1672-1673)
Olivier Nkulu Kabamba, Pour ou contre l’euthanasie?: Mémoire d’un débat jamais soldé, L’Harmatan,2019
[1] الجيل الجديد لحقوق الإنسان: هي الحقوق التي ترتبط أساسا بالحماية من مخاطر التطور الرقمي كالحق في الحفاظ على الخصوصية وكذا الحماية من التقدم الحاصل في المجال الطبي أو البيولوجي ومن ذلك: الموت الرحيم والتغيير الجيني..الخ
[2] جهاد محمود عبد المبدي، عمليات نقل وتأجير الأعضاء البشرية دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون مكتبة القانون والاقتصاد، الرياض، 2014، ص 74.
[3] سورة الأنعام، الآية: 151.
[4] سورة النساء، الآية 93.
[5] الميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية منشور على موقع مكتبة حقوق الإنسان مينيسوتا على الرابط:
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Islamic-Code-Ethics-Cover-2004.html
[6] سورة البقرة، الآية 155.
[7] وفقا لقوله تعالى في سورة المائدة الآية 32:” مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا’.
[8] Houziaux, Comte-Sponville et autres, Doit-on légaliser l’euthanasie ?, Question de vie, les Éditions de l’Atelier, Paris, 2004, p.26.
[9] من التطبيقات العملية لتدبير الموت الرحيم في الفلسفة اليونانية انتحار سقراط في السجن للتخلص من مرضه على الرغم من محاولة انقاده من قبل طلابه. جهاد محمود عبد المبدي، مرجع سابق، ص 75.
[10] صدر هذا القانون بتاريخ 12 أبريل 2001 ودخل حيز التنفيذ في فاتح أبريل 2002.
[11] بعدما كان القانون الهولندي لا يسمح للقاصر بأخذ قرار طلب الموت الرحيم لوحده إلا بعد بلوغه 18 سنة، فقد قررت الحكومة الهولندية -ابتداء من منتصف أبريل 2023-أن يشمل هذا الإجراء الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنة واحدة و12 عاما.
[12] EN 2019, les Pays-Bas ont pratiqué 17 euthanasies par jour, sur une population de 17,3 millions d’habitants, voir : Note d’analyse, BILAN DE l’EUTHANASIE AUX PAYS-BAS, Alliance VITA solidaires des plus fragiles, publiée sur le site : https://www.alliancevita.org/2021/04/bilan-de-leuthanasie-aux-pays-bas-de-2001-a-2020/
[13] Note d’analyse, BILAN DE l’EUTHANASIE AUX PAYS-BAS, Alliance VITA solidaires des plus fragiles, op,cit.
[14] من أشهر قضايا القتل الرحيم، قضية الطبيب الأمريكي جاك كيفوركيان، الذي أدين بثمانية أعوام سجنا لإعطائه جرعات قاتلة لمرضى قصد مساعدتهم على الموت بالنظر إلى معاناتهم الطويلة مع مرض عضال. أنظر في هذا الصدد: محمد فتحي، محمود راشد الحريري، اعتداءات على الحياة بين المتحضرين والمحتضرين، مجلة الفيصل، العدد 192، ص 29.
[15] مرسوم اشتراعي رقم340-صادر في 1/3/1943.
[16] قانون العقوبات العام 148 لعام 1949المعدّل بــالمرسوم التشريعي 1 لعام 2011.
[17] حيث يعاقب الفصل 407 من هذا الأخير كل شخص ساعد أو سهل انتحار شخص ما بتزويده بالسلاح أو السم أو وسائل آخرى بالحبس من سنة إلى خمس سنوات.
[18] – قانون العقوبات الكويتي (المادة 241)
- قانون العقوبات القطري (المادتان 158 و159)
- قانون العقوبات اللبناني (المادة 553).
[19] Houziaux, Comte-Sponville et autres, op,cit, p.32.
[20] جهاد محمود عبد المبدي، مرجع سابق، ص 72
[21] المادة السادسة من مدونة أخلاقيات مهنة الطب المغربية المرفقة بالمرسوم رقم 2.21.225 الصادر في 6 ذي القعدة 1442 (17يونيو 2021).
[22] المادة 44 من الباب الثالث المعنون: ” علاجات غير مفيدة ومخاطر غير مبررة ” من مدونة أخلاقيات مهنة الطب المغربية.
[23] إسماعيل آقابابائي بني، القتل الرحيم بين الفقه والقانون، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي السلسلة: الدراسات الحضارية، 2017، ص46.
[24] Jacqueline Wautier, L’ouverture du débat sur l’euthanasie au Sénat, Cadre éthique, médical, juridique et politique, Courrier hebdomadaire du CRISP 2000/7-8 (n° 1672-1673), p.32.
[25] Olivier Nkulu Kabamba, Pour ou contre l’euthanasie?: Mémoire d’un débat jamais soldé, L’Harmatan,2019,p.13.
[26] جهاد محمود عبد المبدي، مرجع سابق، ص 71.